رواية الحبُ.. أَوْس
الفصل الرابع عشر
انتابتها فرحة لا توصف منذ أن علمت بحمل ابنتها، ها هي ستحظى بحفيدٍ آخر يتشاطر اهتمامها مع الرضيعة “حياة”، كانت تتواصل يوميًا مع “ليان” إما بالزيارات أو المكالمات الهاتفية لتملي عليها النصائح في تلك المرحلة الأولى من حملها، تحمست “تهاني” كثيرًا لرؤية شكل الجنين خلال المتابعة الدورية مع الطبيبة النسائية، كانت الأوامر المعتادة من الطبيبة بالحرص على تناول الطعام الصحي ومراعاة جرعات الأدوية الخاصة بتثبيت الحمل والفيتامينات، خرجت “ليان” من عيادة الطبيبة متأبطة ذراع زوجها الذي حرص هو الآخر على التواجد للتمتع بتلك اللحظة الخاصة جدًا، استطردت “تهاني” قائلة بابتسامة ودودة:
-ربنا يكملك على خير يا بنتي
ردت ابنتها بتوترٍ بدا من سماتها مؤخرًا:
-أنا خايفة
علقت عليها بنبرة مطمئنة لتخفف من حدة قلقها:
-معلش يا حبيبتي، الحمل في أوله متعب، بس بعد كده لما ابنك ولا بنتك تشيليهم كل حاجة هتهون
ضغطت على شفتيها مرددة بتنهيدة شبه مطولة:
-يا رب
أضافت “تهاني” قائلة بتشجيعٍ لتشد من أزرها:
-وبعدين احنا كلنا معاكي، المهم الفترة دي لازم تاخدي بالك من صحتك وتهتمي بأكلك كويس زي ما الدكتورة قالتلك جوا
عقب عليها “عدي” شاكيًا:
-قوليلها يا مدام “تهاني”، مدوخاني معاها
نظرت له “ليان” من طرف عينها ترمقه بنظرة مزعوجة من إلحاحه الدائم على تناولها الطعام في كل الأوقات رغم إحساس الغثيان الذي يصيبها، ردت عليه بوجهٍ ممتعض:
-ماليش نفس لحاجة
ربتت “تهاني” على ذراع ابنتها وهي تقول:
-فترة وهتعدي، اطمني!
هتف “عدي” مقترحًا وقد وصل ثلاثتهم إلى سيارته المصفوفة خارج العيادة:
-إيه رأيك يا لو جيتي أعدتي معاها؟
ورغم تكراره لذلك الاقتراح لأكثر من مرة –حتى من قبل ابنها “أوس”- إلا أنها كانت ترفض بشدة، لم تحبذ فكرة كونها عالة على أحدهم، يكفيها ما على عاتقها من مسئوليات دار رعاية المسنين، والاهتمام بأختها المريضة، ردت بحرجٍ لم تستطع إخفائه:
-صعب، أنا هابقى أجي عندكم من وقت للتاني
هز “عدي” رأسه متفهمًا:
-اللي يريحك
تساءلت “ليان” بجدية وهي تستقل المقعد الأمامي من السيارة:
-إنت عندك شغل؟
أجابها زوجها قائلاً:
-أها، بأظبط كام حاجة لـ “أوس” عشان عيد ميلاد “حياة”
هتفت “تهاني” من الخلف مرددة بحماسٍ:
-صحيح عاوزين نجيبلها كام حاجة حلوة
التفتت ابنتها نحوها لتؤيدها في الرأي:
-أوكي، هنتكلم سوا يا ماما ونختار المناسب
-تمام
قالتها “تهاني” وهي تسترخي في جلستها بالمقعد الخلفي آملة في نفسها أن تحظى عائلتها بسعادة لا تنضب أبدًا.
…………………….. ……………………..
لم تكن تمزح حينما قررت العودة إلى القاهرة وتحقيق انتقام والدها المزعوم من ابن عمها، سهل لها المحامي المنوط بمتابعة قضيته الإجراءات القانونية للقيام بتلك الزيارة الاستثنائية، تأففت “رغد” من الرائحة العطنة المكتومة التي تعبق المكان، وضعت منديلاً ورقيًا على أنفها لتمنع الرائحة المزعجة من النفاذ إلى رئتيها وتكديرها أكثر وهي تسير بخطوات ثابتة نحو إحدى الغرف المعزولة، اتخذت مقعدًا شاغرًا في المكان المخصص للزيارة، طالعت بنظرات متأففة الجدران الكئيبة الباعث لونها الباهت على الانقباض، كان تواجدها هناك خانقًا، لكنها مضطرة لفعل ذلك، لحظات وولجت إليها “ناريمان”.
تفاجأت بالتغيير الجذري الذي طرأ على ملامحها، لم تعد تلك هي سيدة المجتمع الراقي المتعالية الذي تُحدث الجميع بعبارات مختصرة من طرف أنفها، بدت أكثر شحوبًا، إرهاقًا، تجعيدًا، وأكبر عمرًا، وكأن وجودها في ذلك المكان المقيت ضاعف من قسوة ملامحها الباهتة، تركت نظراتها المصدومة تعبر عن حالتها دون أن تكلف نفسها عناء إخفاء ذلك، رمقتها “ناريمان” بنظرة متعجبة من زيارتها الغريبة لها، جلست في مواجهتها لتجوب بنظراتها المتفحصة كل تفصيلة في وجهها المزدان بمساحيق التجميل، كم كانت تفتقد لتلك اللمسات السحرية التي تخدع الزمن، أفاقت من تحديقها المطول بها لتقول باندهاشٍ:
-مكونتش متوقعة إني أشوفك هنا
استقامت “رغد” في جلستها لتبدو أكثر ثقة وشموخًا وهي ترد بجمودٍ:
-ولا أنا
شبكت “ناريمان” كفي يدها معًا لتسألها بزفير متعب:
-خير
أجابتها بخبثٍ وقد برقت حدقتاها بقوةٍ:
-تحبي تنتقمي من اللي سجنك هنا؟
تعقدت ملامح “ناريمان” من جملتها المريبة تلك، ثم علقت ببساطةٍ:
-ما هو مات!
التوى ثغرها بابتسامة لئيمة أظهرت خبثًا أكبر وهي تتابع بخفوت لتستفز نزعتها الانتقامية:
-بس ابنه عايش وبيتمتع بكل مليم، وإنتي هنا مرمية وسط أشكال قذرة!
مجرد تذكر وضعها البائس جعل الدماء تفور في عروقها، سألتها بحدة وقد استشاطت نظراتها:
-عاوزة إيه يا “رغد”؟
ثم صمتت للحظة قبل أن تكمل بلهجة متعصبة:
-بلاش لف ودوران!
تشنجت تعابيرها فبدت قاسية متصلبة وهي تستأنف بحرقةٍ:
-أحرق قلب “أوس”، أدفعه تمن اللي عمله في بابا
بالطبع نما إلى مسامعها حبس “سامي الجندي” بعد اكتشاف تورطه المباشر في محاولة اغتياله، رنت إليها بنظرة غير واضحة الغرض قبل أن تسألها مستفهمة:
-وأنا هافيدك بإيه؟
أجابتها دون ترددٍ:
-تقوليلي مفاتيحه، الحاجات اللي أقدر استخدمها ضده وأخلي بيها حياته جحيم
سكتت لتدرس تقاسيمها الجادة المتصلبة، فوجودها هنا تحديدًا لن يكون بلا مقابل، حركت شفتيها لتسألها بمكرٍ:
-طب وإيه المقابل؟
تيقنت “رغد” أنها استطاعت استمالة عقلها والعبث به لتجعلها دمية بين أصابعها تحركها كيفما تشاء فتنفذ مخططاتها الجهنمية، ولتبدو أكثر واقعية ومنطقية أجابتها قائلة:
-طبعًا صعب إني أخرجك من هنا، لكن أقدر أضمنلك تخدي وضعك وتتعاملي زي الملوك، تبقي ليدي هنا!
توهجت عينا “ناريمان” بلمعان مثير، فلماذا لا تنال مميزات بعينها خلال فترة حبسها الممتدة، فقد رأت بأم عينها كيف تعامل بعض السجينات على حساب أخريات، راقبت “رغد” ردة فعلها بتأنٍ، باتت شبه متيقنة من نجاح مهمتها الأولي، تابعت مضيفة ببسمة ماكرة تكونت على زاوية ثغرها:
-فكري واحسبيها كويس، في كل الأحوال إنتي مش خسارة حاجة، بس لو ساعدتيني على الأقل هترتاحي من مضايقات المشبوهات اللي هنا!
…………………….. …………………..
على مدار عدة أيــام انشغلت بالتفكير فيما ستحتاج إليه من أجل الترتيب لحفل عيد الميلاد العائلي، كانت الخيارات متاحة أمامها لتفعل ما يحلو لها، ومع ذلك بدت حائرة في انتقاء المميز لابنتها، ساعدتها “ليان” كثيرًا واستفادت من خبراتها في تلك النوعية من الترتيبات التي لم تقم بها مسبقًا، بقي لها أمر أخير؛ ألا وهو اختيار الثوب الذي سترتديه، لم تحبذ “تقى” ارتداء ثياب السهرة البراقة والمبهرجة، أرادت شيئًا بسيطًا، خاصة أن ضيوفها ليسوا بالغرباء، فأغلبهم أفراد عائلتها، جيرانها، ومعظم المقربين من زوجها “أوس”، تفقدت خزانة ثيابها ووجدت ما ظنت أنه مناسبًا، التفتت نحو زوجها الذي كان ينهي بعض أعماله العالقة على حاسوبه المحمول، سألته بجدية وهي مخفضة لأنظارها لتتأمل هيئة الثوب على ثناياها بعد أن ارتدته:
-إيه رأيك؟ ده حلو؟ أنا بصراحة محتارة مش عارفة ألبس إيه!
رفع عينيه لينظر لها مليًا متأملاً الثوب النبيذي اللون الذي ارتدته، تفحص ببطءٍ تفاصيله، كان ثوبها طويلاً محتشمًا يضيق قليلاً عند الخصر الذي تزين بحزام جلدي ذهبي اللون، أما أكمامه فكانت واسعة نسبيًا، هز رأسه في إعجاب وهو يبتسم معلقًا:
-كل حاجة عليكي بتخليكي أحلى من اللي قبلها
لم تكن بحاجة إلى مجاملة منمقة لتحصل على رد يرضيها، عبست ملامحها معترضة بتذمرٍ:
-بطل يا “أوس”، أنا عاوزة رأيك فيه، الفستان هيليق ولا لأ؟!
أبعد الأخير حاسوبه عن ركبتيه ثم نهض واقفًا ليتجه إلى خزانة الثياب، ألقى نظرة مطولة على ما في ضلفتها ليخرج شيئًا بعينه، تقوس فمه ببسمة متسلية –شبه ماكرة- وقد كان في حالة مزاجية رائعة، رفعه نصب عينيها ليتأمل ردة فعلها المصدومة قائلاً لها بعبثية:
-لو عاوزة رأيي يبقى تلبسي ده!
انفلت منها شهقة حرجة مصحوبة بوجه شبه مشتعل الحُمرة بعد أن رأت ما أخرجه، لم يكن ثوبًا ملائمًا لسهرة عائلية إطلاقًا، وإنما قميصًا حريريًا قصيرًا به عدد لا بأس به من الفتحات لتظهر مفاتن الأنثى بطريقة مغرية تلهب المشاعر وتهلك الأعصاب كإشارة صريحة لقضاء ليلة جامحة، جذبته منه لتطويه هاتفة بجدية مصطنعة ومتحاشية نظراته التي تلتهمها عن قربٍ:
-إنت بتهزر، ده ماينفعش طبعًا
علق عليها مراوغًا:
-ما هو ليا لي وبس!
وضعت يدها على خصرها راسمة على وجهها تعبيرات جادة وهي تسأله:
-والضيوف؟
سحبها من معصمها إليه مقلصًا المسافات بينهما بعد أن أججت فيه بقوة رغباته التي لا تفتر بالتمتع معها بلحظات رومانسية لا تُمحى من الذاكرة لمجرد تخيلها ترتدي تلك القطعة الشفافة التي لا تستر شيئًا، اصطدمت بكفها على صدره ليشعر بأنفاسها غير المنتظمة تلفح وجهه وتزيد من رغبته، همس لها بتنهيدة حارة ضاعفت من توتر الأجواء:
-ولا يفرقوا معايا، خلينا سوا
كانت “تقى” شبه محاصرة بين تأثيره الطاغي الذي يعرف باحترافية كيفية اللعب على أوتار القلب وتحفيز المشاعر لإشباع ما تشتاق له النفس التواقة لغرام مميز وعميق، ردت بخفوت خجل وقد أحست بتلك السخونة تنبعث من بشرتها التي اكتست كليًا بدموية نشطة:
-“أوس”.. عيب كده!
قرب رأسه منها لتزداد توترًا وهو يقول:
-مافيش عيب معايا
أغمضت عينيها مستسلمة لصوته الهامس الذي تغزل بها:
-بأحب اسمي وهو طالع من بين شفايفك
عزز موقفه الرومانسي بقبلة شاعرية أحست بعذوبتها وبقوة الحب المستمدة من قلبٍ عَرِف وتعلم قواعد العشق على يديها، استجاب وجدانها، وتفاعل كيانها مع تأثيرات خبراته العميقة في أساليب الهيام، أبعدت وجهها عنه لتلتقط أنفاسها التي اضطربت قائلة له بارتباكٍ ممتزجٍ بالخجل:
-أنا كده مش هالحق ألبس ولا أجهز الحاجة، الناس جاية كمان شوية
هز رأسه معترضًا دون أن تتبدل نبرته العذبة وهو يقول لها:
-أومال الخدامين بيعملوا إيه؟ إنتي هنا عشان ترتاحي وبس
حاولت الانسلال من بين أحضانه التي حاصرتها وأبقتها أسيرته هامسة بدلالٍ ناعم ورقيق:
-ماشي، بالليل نتكلم
رفض “أوس” إفلات رسغها لتظل حبيسته، ثبت عينيه العميقتين على وجهها المتورد محذرًا بلهجة تفهمها جيدًا جمعت بين اللين والحزم:
-خليكي فاكرة اتفاقك، لأني مابنساش!
أومأت برأسها مبتسمة في خنوع محبب إليه زاد من لهيب أشواقه، اضطر رغمًا عنه أن يؤجل خطته اللاهية معها إلى وقت لاحق مكتفيًا بقبلة أخرى أشد عمقًا وقوة.
…………………….. …………………….
أسرعت بلف حجاب رأسها بطريقة مبتكرة كما علمتها رفيقاتها بالمدرسة لتبدو تلك المرة مختلفة عما اعتادت أن تظهر عليه، ظهر عنق “هالة” إلى حد ما، حاولت رفع ياقة قميصها الأبيض الذي ارتدته أسفل كنزتها الزرقاء الواسعة لتخفي ذلك الجزء فلا تتعرض لتوبيخ من والدتها، تلفتت بجسدها للجانبين لتتأكد من تناسق ثيابها مع السروال الجينز الذي ارتدته، لمحة باهتة من مساحيق التجميل وضعتها على وجنتيها، وأحمر الشفاه الرقيق لتكتمل صورتها المتأنقة، حركت مقلتاها نحو انعكاس وجه أختها في المرآة المنكسرة من المنتصف إلى شقين غير متساوين حينما سألتها:
-ها لبستي؟
أومـأت برأسها إيجابًا وهي ترد:
-أيوه، أنا جاهزة
أبدت “بطة” إعجابها بأختها الأصغر التي كانت جميلة رغم بساطة مظهرها، اتسعت ابتسامتها المحفزة قائلة لها:
-ماشاء الله عليكي، حلوة يا “لول”
ردت بتوترٍ حرج:
-خايفة شكلي ميكونش حلو واحنا هناك
علقت بفتور غير مبالية برأي الآخرين:
-مش فارقة، المهم نعمل الواجب ونرجع
وقفت والدتهما عند عتبة الغرفة تتأمل انهماكهما فيما أسمته بالتأنق الزائد عن الحد بسبب ذلك الحفل المزعوم، كانت غير راضية عن ذهابهما إليه، ولم تهتم بإخفاء رفضها للأمر، كتفت ساعديها أمام صدرها لتقول بتنمر:
-عيد ميلادات إيه دي اللي هتحضروها على آخر الزمن؟
أجابتها “بطة” متصنعة الابتسام:
-“تقى” عزمتنا واحنا مش عاوزين نكسر بخاطرها
أرخت ذراعيها لكنها وضعت يدها أعلى منتصف خصرها متسائلة:
-ودي هتروحلها إزاي؟
ردت عليها “هالة” بنزقٍ:
-العربية هاتيجي تاخدنا مع أهلها
مصمصت شفتيها مرددة بتهكمٍ ساخط:
-هانقول إيه غير أرزاق، والله ما له لازمة الموضوع ده، ما تخليكوا أعدين وخلاص
كانت “هالة” على وشك الرد عليها لكن بادرت “بطة” بالغمز لها كي تتجنب الجدال مع والدتها أو حتى تعلق عليها لتقفل نهائيًا باب النقاش والاعتراض في مسألة ذهابهما، امتثلت أختها لنظراتها المفهومة بترحاب صدر، فلا حاجة بها لتنغيص ليلتها قبل أن تبدأ، هتفت “أم بطة” محذرة بجدية:
-خدي بالك من الواد، مش ناقصين بهدلة
ردت عليها ابنتها الكبرى بانصياعٍ:
-حاضر
ثم استدارت نحو أختها تأمرها:
-هاتي الهدية يا “هالة”
تأملت والدتهما الهدية المغلفة التي علمت مسبقًا أنها لعبة باهظة الثمن –من وجهة نظرها- ستقدمها الاثنتان لها، زمت شفتيها متمتمة بنبرة ممتعضة حملت في طياتها التلميح إلى فقرهم المعلوم للجميع:
-وهي هترضى ياختي باللعبة دي؟ ده بقت في العليوي!
ضغطت “بطة” على شفتيها مبررة:
-أهوو اللي قدرنا نجيبه يامه، وهي مش محتاجة أصلاً، بس احنا بنقوم بالواجب وخلاص
انتبهت “هالة” إلى بوق سيارة الدفع الرباعي التي احتلت المنطقة الشاغرة بجوار البناية، هللت بحماسٍ وقد أشرق وجهها:
-العربية واقفة تحت
رمقتها والدتها بنظرات ساخطة مزعوجة، طأطأت رأسها لتتجنب تحديقها المتأفف، هتفت أختها بجدية بعد أن حملت رضيعها إلى صدرها:
-بينا لأحسن نتأخر على الجماعة، هتبقى قلة ذوق مننا
صاحت بهما “أم بطة” بهتافٍ مرتفع:
-كلموني أما توصلوا
التفتت “هالة” برأسها نحوها قائلة:
-حاضر يا ماما
تابعت توصياتها المحذرة مكملة بنفس الصوت الجاد:
-وخدوا بالكو من بعض
ردت على الفور:
-ماشي، سلام بقى!
أسرعت في خطاها لتحلق بأختها الكبرى بعد أن ارتدت على عجالة حذائها الرياضي الأبيض الذي استغرقت بضعة ساعات لتنظيفه ليبدو جديدًا ولائقًا بالحفل، انعكست الحماسة على وجهها فزادته تلألئًا، تمنت “هالة” في نفسها بكل جوارحها أن تقضي سهرة لا تنسى تستعيد فيها بهجتها بعد أن ذبلت من كم التعاسة المحبط المحيط بها.
…………………….. …………………….. ………
استقرت بعد معاونة زوجها بالمعقد الخلفي في السيارة التي أُرسلت لاصطحابها مع زوجها، ورغم انعدام الرؤية لديها إلا من خيالات متداخلة مشوشة لا تجعلها قادرة على التمييز إلا أنها كانت ناقمة على تجاهل ابنتها وزوجها لوضعها وحرمانها من فرصة ربما ستمنحها الأمل في استعادة نظرها، أخرجت “فردوس” من صدرها زفيرًا مسموعًا مغلفًا بسخطٍ مضاعف قبل أن تستطرد ناطقة:
-ياما كان نفسي أشوف العز ده بدل ما أنا مش محصلة حاجة
نظر لها “عوض” من زاوية عينه محركًا رأسه باستنكار لأسلوبها التهكمي المتواصل، رد عليها بصوته الرخيم:
-احمدي ربنا، غيرك مش قادر يمشي على رجله
كانت شبه فاقدة لصبرها، لم تعد تتحمل عبارات الإشفاق، وجمل التعاطف المتملقة، نفخت هاتفة باستياءٍ:
-يووه يا “عوض”، معاهم القرش ومستخسرين يطلعوه لله
يئس من فشله في جعلها تكف عن التذمر والشكوى فرد بعبوسٍ:
-احنا مش مستنين صدقة من حد
علقت عليه باستفزازٍ:
-دي مش حد ياخويا، دي بنتك، ومعاها فلوس وتقدر
-لا حول ولا قوة إلا بها
لم تكتفِ بذلك بل هتفت قاصدة جعل الأمر إلزاميًا وليس نابعًا من رغبة الشخص في القيام بعمل يُثاب عليه:
-ميل إنت عليها وقولها الكلمتين دول، وهي النبي حارسها وصاينها تقول للمحروس اللي متجوزاه يطلع من معاه!
ضرب كفه بالآخر قائلاً بإحباطٍ:
-لله الأمر من قبل ومن بعد، ربنا يهديكي يا “فردوس”، ويبعد شيطانك عنك!
…………………….. ……………
تدلى فكها للأسفل في انبهار كبير حينما مرقت السيارة عبر المجمع السكني الشهير والذي ترى إعلاناته المصورة في تلفاز منزلها المتواضع، مررت “هالة” أنظارها على كل جزء فيه كي لا يفوتها شيء، أرادت أن تحفظ عن ظهر قلب معالم ذلك المكان الذي ربما لن تطأه من جديد، لم يختلف حال أختها عنها، بدت مبهورة هي الأخرى بما تراه عيناها، همست لأختها الصغرى بخفوتٍ:
-شوفتي العظمة يا بت
ردت عليها بصوتٍ خفيض:
-ماشاء الله، ده ولا في الأحلام
غمغمت هامسة بضحكة عابثة حاولت تخبئتها:
-حاجة زي اللي بنشوفها في التلافزيون، يا حلاوة يا ولاد!
رمشت “هالة” بعينيها البراقتين بوميض الإعجاب مرددة:
-ربنا يزيد ويبارك
استمرت في تأملها الدقيق حتى توقفت السيارة أمام مدخل إحدى الفيلل المضاءة من الخارج بإنارات باهتة لكنها أعطت سحرًا للمكان، شعرت بالرهبة المختلطة بالحماسة وهي تخطو نحو الباب الخشبي الكبير الذي يخفي ورائه ثراءً متوقعًا، تنفست بعمق حابسة للحظات ذلك الشهيق الذي استنشقته ليهدأ من الحالة الحماسية المسيطرة عليها، كانت ملامحها إلى حد ما قلقة مرتبكة وهي تدير رأسها في اتجاه أختها التي أردفت قائلة:
-تعالي أما نشوف “تقى” فين
خرج صوتها مكتومًا مهزوزًا حينما ردت:
-حاضر
تشجعت “هالة” للمضي قدمًا ممتعة نظراتها وعقلها بمظاهر الغنى والترف الذي يناقض حياتها في المنطقة الشعبية بمعالمها المتدنية، خشيت من نظرات الضيوف الذين ربما لن يروقهم حضور من هم أدنى منهم في المستوى الاجتماعي والطبقي، فأمثال هؤلاء لن يكفوا عن إشعار غيرهم بالفارق الواسع بينهم، تلاشت هواجسها للحظة مع تلك الرائحة الزكية التي داعبت أنفها وهي تلج إلى البهو المفضي إلى الصالة المزدانة بزينة أعياد الميلاد التقليدية، ارتسمت ابتسامة إعجاب صغيرة على شفتيها وهي تمعن النظر في البالونات المطاطية الملونة التي ترتشف السقف، خفف توترها السائد بداخلها عدم تواجد علية المجتمع المخملي، شعرت بالارتياح لكون الضيوف على شاكلتها من حيث البساطة والمستوى الاجتماعي المتوسط أو الأقل، فهمت الآن لماذا أصرت “تقى” على دعوتها مع أختها ولم تتقبل اعتذارهما.
…………………….. …………………….. ….
على الرغم من كون صلة القرابة المعروفة للجميع تعود لسنوات مضت منذ ميلاد أبناء العموم إلا أن أواصل الود بينهم لم تكن جيدة نوعًا ما، ومع ذلك قرر “أوس” دعوة القليل من أقربائه وخاصة ابن عمه “يامن” لحضور الاحتفال بالذكرى الأولى لميلاد رضيعته، ليس لأجل مشاركته فرحته وإنما لأمر آخر شغل باله مؤخرًا، عملاً بمبدأ إن كان أصدقاء قريبون منك فلتجعل أعدائك أقرب، وببدلته السوداء الكاملة وطلته المهيبة سار بين المتواجدين مبتسمًا ابتسامة صغيرة مجاملة كنوعٍ من الترحيب بضيوفه، كان هدفه محددًا وواضحًا، التقطته نظراته من على بعد فمشى صوبه، بهيبة معروفة وشموخ نافذ، دنا “أوس” من “يامن” الذي بدا مزعوجًا من تواجده في مثل تلك النوعيات السخيفة والمملة من الحفلات العائلية، لكنه اضطر للرضوخ لأمر ابن عمه الكبير بالحضور مساءً، وقف قبالته مركزًا نظراته الثاقبة على وجهه جامد التعبيرات، حافظ الأخير على ثبات تعابيره الغامضة فلم يستطع “يامن” أن يستشف ما الذي يستحوذ عليه تفكيره، فنظراته نحوه لم تكن مريحة على الإطلاق، توقف “أوس” عن السير ليستقيم في وقفته وينتصب بكتفيه العريضين مباغتًا ابن عمه بتساؤل ينم عن معرفة سابقة:
-أخبار “رغد” إيه؟ كانت نازلة من عندك مضايقة أوي!
صُدم “يامن” من خلفيته عن الأمر فردد مدهوشًا:
-إنت عرفت؟
تحدث من زاوية فمه قائلاً بعنجهية جلية:
-مافيش حاجة بتستخبى على “أوس الجندي”!
شعر ابن عمه الصغير بجفاف في حلقه، وبتوتر مضاعف يضرب في صدره حينما سأله بهدوءٍ غير مطمئن له:
-ها كانت عاوزاك تنقلها أخباري ولا تاخد صفقة من اللي عندي؟!
دافع عن نفسه بنزقٍ كي يقطع أي سبل للشك بشأنه:
-أنا ماليش دعوة باللي بتفكر فيه
رفع “أوس” يده ليضعها على كتف “يامن” قائلاً له بنبرة جافة وقد قست نظراته المخيفة:
-أبوك غلط معايا، وأنا سبت القانون ياخد مجراه، لكن لو كان عليا كنت خدت حقي بنفسي، وإنت أكيد فاهمني
عجز الأخير عن الرد، فرت الدماء من وجهه فبدا شاحبًا متوترًا، حذره “أوس” بلهجته النافذة:
-أحسنلك تكون بعيد عن المواضيع دي
لم يكن أمامه سوى الإذعان له، لذا رد باقتضابٍ
-طيب
أزاح يده عن كتفه ليدسها في جيب بنطاله الأسود، وباليد الأخرى داعب طرف ذقنه، تجمدت نظراته على وجه “يامن” القلق قبل أن يقول له بنبرة موحية:
-وخف المسخرة اللي بتحصل عندك!
اعتلت قسماته دهشة أكبر من التي قبلها، ردد مذهولاً:
-حتى دي كمان عارفها
رمقه بنظرة قوية احتوت على شراسة لا يحبذ الفرد اختبارها، ثم حذره مجددًا:
-خليك عاقل أحسن، أنا مش هتساهل معاك لو غلطت
ازدرد ريقه قائلاً من بين أسنانه وقد بدا كالتلميذ المخطئ الذي يؤنبه معلمه لتقصيره في أداء واجباته:
-أوكي
تركه “أوس” في مكانه في وضعٍ حرج، شعر “يامن” بالضيق وبحالة من الاضطراب تتخلله لم يكن في حالة طبيعية وهو يتلقى مثل تلك الأخبار الصادمة، فابن عمه لا يُستهان به، إنه داهية حرفيًا، كان بحاجة للتنفيس عما يكبته من توترات مضاعفة، لفافة سجائر ستكون الخيار الأنسب حاليًا، لكنه يعرف تبعات ما يفكر فيه، لذا سيكون من الأسلم الاختفاء ولو قليلاً عن أنظاره ريثما يحقق متعته اللحظية من حرق ذلك التبغ، تلفت حوله باحثًا عن الشرفة ليهرب إليها محدثًا نفسه:
-أحسن حاجة أعملها أطلع أدخن برا، بدل ما يعلقلي حبل المشنقة هنا!
…………………….. …………………..
تذكرت أنها لم تهاتف والدتها مثلما أخبرتها ريثما تصل كلتاهما إلى الفيلا التي تسكن بها “تقى”، خشيت من غضبتها فأسرعت بإخراج هاتفها المحمول من حقيبتها الجلدية، وضعت “هالة” يدها على ذراع أختها قائلة لها بصوتٍ شبه مرتفع لتتمكن الأخيرة من سماعها وسط الصخب الصادح حولهما:
-هاروح أكمل ماما برا اطمنها علينا
ردت عليها “بطة” بإيماءة موافقة:
-أيوه، بدل ما تقلب علينا وتعملها مشكلة
-بالظبط
ثم جابت بنظراتٍ مرتبكة الصالة الواسعة باحثة عن مكان أقل ضوضائية لتتمكن من الاتصال بها، لمحت الستائر التي يهزها الهواء عند أحد الأركان فاتجهت دون تفكيرٍ إلى هناك، أطلت برأسها من الفرجة الصغيرة المتروكة بين الستائر المتحركة لتجد ضالتها المنشودة، تنفست بارتياح لكونها قد وجدت الشرفة هادئة، خطت مسرعة للداخل واضعة هاتفها على أذنها دون أن تتأكد جيدًا من خلوها، سدت “هالة” بيدها الأخرى أذنها لتتمكن من سماع صوت والدتها بوضوح وهي تهتف عاليًا بنبرة تلفت الانتباه:
-ألوو، أيوه يا ماما!
تفاجأ “يامن” المنزوي في أقصى الشرفة الدائرية بتلك الفتاة بسيطة المظهر التي اقتحمت خلوته الخاصة دون سابق إنذار، اعتقد من مظهرها المحلي أنها ربما أحد الخدم ممن يعملون هنا، أسرع بإطفاء سيجارته المشتعلة خشية افتضاح أمره بالتدخين سرًا في فيلا “أوس الجندي” الذي لن يتهاون في تلك المسألة تحديدًا، وبخطواتٍ حذرة للغاية، تكاد لا تكون مسموعة، سار نحو الطاولة الزجاجية القصيرة ملتقطًا كأس مشروبه البارد مدعيًا ارتشاف ما فيه، وقف خلف الفتاة مصغيًا إليها وهي تردد بنبرة مضطربة وربما خائفة:
-ماشي، حاضر والله، طيب خلاص، على طول أهوو، سلام يا ماما!
أنهت “هالة” الاتصال معها مخرجة زفيرًا مزعوجًا من صدرها، ثم التفتت بغتة بجسدها للخلف لتصطدم بصدر ذلك الشاب الغريب عنها بكفيها جاعلة يده تهتز وتلقي بما في الكأس على سترته الرمادية الباهتة، كتمت شهقة مذعورة حينما أدركت ما فعلته دون قصدٍ منها، سيطر عليها في لحظة ارتباكًا مذعورًا، ضمت يديها إلى فمها متراجعة عنه بعد أن رأت عينيه اللاتين تحملان نظرة أرعبتها معتذرة بحرجٍ كبير:
-أنا أسفة جدًا، والله ما أعرف إن في حد هنا!
نفض “يامن” يده التي تلطخت بالمشروب في الهواء قائلاً بضيقٍ واضح:
-مش تاخدي بالك!
تحرجت للغاية من الضرر الكارثي الذي أحدثته في سترته، لذا كررت اعتذارها هامسة بارتجاف خجل:
-أنا أسفة
انحنى للأمام ليسند الكأس على الطاولة ثم انتزع سترته ليبرز جسده الرياضي المنضبط في تنسيق عضلاته هاتفًا بنبرة متذمرة:
-ناقص أنا البهدلة دي!
تضاعف ارتباكها من ذلك الموقف المخزي الذي وضعت نفسها فيه بسبب غبائها المتهور، فلو انتبهت لوجوده منذ البداية لما كانت ترتجف هكذا خزيًا، راقبته بعينين قلقتين وخائفتين في نفس الآن منتظرة ردة فعله التي ربما لن تكون سارة، رفع “يامن” عينيه ليحدق بها بجمود ثم أشار نحو كأس مشروبه البارد قائلاً بصيغة آمرة:
-هاتي حاجة فريش بداله
امتزج توترها المرتعد مع صدمتها من جملته الأخيرة فزوت ما بين حاجبيها مرددة باستغراب متعجب:
-نعم
رمقها بنظرة متعالية وقد عبس وجهه متابعًا:
-واضح إن فهمك بطيء، زي تصرفاتك، هاتي عصير فريش مكان اللي وقعتيه عليا وشوفيلي مناديل ولا ….
أدركت “هالة” ما الذي يرمي إليه بأمره الصارم وكلماته الحادة بفطنتها التي تميزت بها عن إخوتها، هو حكم عليها من مظهرها بأنها الخادمة المتواضعة التي أساءت التصرف مع أحد ضيوف المكان، أزعجها تفكيره فيها بذلك الشكل كثيرًا، بل إنه طغى على حرجها منه، كانت كمن ينازع شيئًا بداخله وهي تكبح نوبة بكاء وشيكة، رفعت رأسها للأعلى لترد بكبرياءٍ رغم اهتزاز نبرتها:
-أنا مش الشغالة هنا
رمقها بنظرة متعجبة، ابتلعت ريقها مستشعرة تلك الغصة المريرة التي علقت في حلقها ثم أضافت بعزةِ نفسٍ:
-وإن كنت غلطت ووقعت عليك حاجة، فأنا بجد أسفة، مكانش قصدي
رأى “يامن” بوضوح تلك العبرات التي تتقاتل للنزول سريعًا من حدقتيها المتوترتين، اختنق صوتها بدرجة كبيرة وهي تكمل:
-عن إذنك
أطرق رأسها متحاشية عينيه المتطلعتين إليها بغرابةٍ وفضول، اندفعت إلى خارج الشرفة كاتمة بصعوبة عبراتها وشهقاتها بعد أن شعرت بالمهانة والانتقاص من قدرها مع ذلك المتكبر الذي منحها بنظرة جامدة وعبارات لاذعة تعاسة جديدة أفسدت خططها البسيطة لتلك الليلة، شيعها “يامن” بأنظاره حتى اختفى طيفها، ضاقت حدقتاه متسائلاً مع نفسه بحيرةٍ:
-دي مين أصلاً …………………….. …………………… ؟!
…………………….. …………………….. ….يتبع >>>>>>
انتابتها فرحة لا توصف منذ أن علمت بحمل ابنتها، ها هي ستحظى بحفيدٍ آخر يتشاطر اهتمامها مع الرضيعة “حياة”، كانت تتواصل يوميًا مع “ليان” إما بالزيارات أو المكالمات الهاتفية لتملي عليها النصائح في تلك المرحلة الأولى من حملها، تحمست “تهاني” كثيرًا لرؤية شكل الجنين خلال المتابعة الدورية مع الطبيبة النسائية، كانت الأوامر المعتادة من الطبيبة بالحرص على تناول الطعام الصحي ومراعاة جرعات الأدوية الخاصة بتثبيت الحمل والفيتامينات، خرجت “ليان” من عيادة الطبيبة متأبطة ذراع زوجها الذي حرص هو الآخر على التواجد للتمتع بتلك اللحظة الخاصة جدًا، استطردت “تهاني” قائلة بابتسامة ودودة:
-ربنا يكملك على خير يا بنتي
ردت ابنتها بتوترٍ بدا من سماتها مؤخرًا:
-أنا خايفة
علقت عليها بنبرة مطمئنة لتخفف من حدة قلقها:
-معلش يا حبيبتي، الحمل في أوله متعب، بس بعد كده لما ابنك ولا بنتك تشيليهم كل حاجة هتهون
ضغطت على شفتيها مرددة بتنهيدة شبه مطولة:
-يا رب
أضافت “تهاني” قائلة بتشجيعٍ لتشد من أزرها:
-وبعدين احنا كلنا معاكي، المهم الفترة دي لازم تاخدي بالك من صحتك وتهتمي بأكلك كويس زي ما الدكتورة قالتلك جوا
عقب عليها “عدي” شاكيًا:
-قوليلها يا مدام “تهاني”، مدوخاني معاها
نظرت له “ليان” من طرف عينها ترمقه بنظرة مزعوجة من إلحاحه الدائم على تناولها الطعام في كل الأوقات رغم إحساس الغثيان الذي يصيبها، ردت عليه بوجهٍ ممتعض:
-ماليش نفس لحاجة
ربتت “تهاني” على ذراع ابنتها وهي تقول:
-فترة وهتعدي، اطمني!
هتف “عدي” مقترحًا وقد وصل ثلاثتهم إلى سيارته المصفوفة خارج العيادة:
-إيه رأيك يا لو جيتي أعدتي معاها؟
ورغم تكراره لذلك الاقتراح لأكثر من مرة –حتى من قبل ابنها “أوس”- إلا أنها كانت ترفض بشدة، لم تحبذ فكرة كونها عالة على أحدهم، يكفيها ما على عاتقها من مسئوليات دار رعاية المسنين، والاهتمام بأختها المريضة، ردت بحرجٍ لم تستطع إخفائه:
-صعب، أنا هابقى أجي عندكم من وقت للتاني
هز “عدي” رأسه متفهمًا:
-اللي يريحك
تساءلت “ليان” بجدية وهي تستقل المقعد الأمامي من السيارة:
-إنت عندك شغل؟
أجابها زوجها قائلاً:
-أها، بأظبط كام حاجة لـ “أوس” عشان عيد ميلاد “حياة”
هتفت “تهاني” من الخلف مرددة بحماسٍ:
-صحيح عاوزين نجيبلها كام حاجة حلوة
التفتت ابنتها نحوها لتؤيدها في الرأي:
-أوكي، هنتكلم سوا يا ماما ونختار المناسب
-تمام
قالتها “تهاني” وهي تسترخي في جلستها بالمقعد الخلفي آملة في نفسها أن تحظى عائلتها بسعادة لا تنضب أبدًا.
……………………..
لم تكن تمزح حينما قررت العودة إلى القاهرة وتحقيق انتقام والدها المزعوم من ابن عمها، سهل لها المحامي المنوط بمتابعة قضيته الإجراءات القانونية للقيام بتلك الزيارة الاستثنائية، تأففت “رغد” من الرائحة العطنة المكتومة التي تعبق المكان، وضعت منديلاً ورقيًا على أنفها لتمنع الرائحة المزعجة من النفاذ إلى رئتيها وتكديرها أكثر وهي تسير بخطوات ثابتة نحو إحدى الغرف المعزولة، اتخذت مقعدًا شاغرًا في المكان المخصص للزيارة، طالعت بنظرات متأففة الجدران الكئيبة الباعث لونها الباهت على الانقباض، كان تواجدها هناك خانقًا، لكنها مضطرة لفعل ذلك، لحظات وولجت إليها “ناريمان”.
تفاجأت بالتغيير الجذري الذي طرأ على ملامحها، لم تعد تلك هي سيدة المجتمع الراقي المتعالية الذي تُحدث الجميع بعبارات مختصرة من طرف أنفها، بدت أكثر شحوبًا، إرهاقًا، تجعيدًا، وأكبر عمرًا، وكأن وجودها في ذلك المكان المقيت ضاعف من قسوة ملامحها الباهتة، تركت نظراتها المصدومة تعبر عن حالتها دون أن تكلف نفسها عناء إخفاء ذلك، رمقتها “ناريمان” بنظرة متعجبة من زيارتها الغريبة لها، جلست في مواجهتها لتجوب بنظراتها المتفحصة كل تفصيلة في وجهها المزدان بمساحيق التجميل، كم كانت تفتقد لتلك اللمسات السحرية التي تخدع الزمن، أفاقت من تحديقها المطول بها لتقول باندهاشٍ:
-مكونتش متوقعة إني أشوفك هنا
استقامت “رغد” في جلستها لتبدو أكثر ثقة وشموخًا وهي ترد بجمودٍ:
-ولا أنا
شبكت “ناريمان” كفي يدها معًا لتسألها بزفير متعب:
-خير
أجابتها بخبثٍ وقد برقت حدقتاها بقوةٍ:
-تحبي تنتقمي من اللي سجنك هنا؟
تعقدت ملامح “ناريمان” من جملتها المريبة تلك، ثم علقت ببساطةٍ:
-ما هو مات!
التوى ثغرها بابتسامة لئيمة أظهرت خبثًا أكبر وهي تتابع بخفوت لتستفز نزعتها الانتقامية:
-بس ابنه عايش وبيتمتع بكل مليم، وإنتي هنا مرمية وسط أشكال قذرة!
مجرد تذكر وضعها البائس جعل الدماء تفور في عروقها، سألتها بحدة وقد استشاطت نظراتها:
-عاوزة إيه يا “رغد”؟
ثم صمتت للحظة قبل أن تكمل بلهجة متعصبة:
-بلاش لف ودوران!
تشنجت تعابيرها فبدت قاسية متصلبة وهي تستأنف بحرقةٍ:
-أحرق قلب “أوس”، أدفعه تمن اللي عمله في بابا
بالطبع نما إلى مسامعها حبس “سامي الجندي” بعد اكتشاف تورطه المباشر في محاولة اغتياله، رنت إليها بنظرة غير واضحة الغرض قبل أن تسألها مستفهمة:
-وأنا هافيدك بإيه؟
أجابتها دون ترددٍ:
-تقوليلي مفاتيحه، الحاجات اللي أقدر استخدمها ضده وأخلي بيها حياته جحيم
سكتت لتدرس تقاسيمها الجادة المتصلبة، فوجودها هنا تحديدًا لن يكون بلا مقابل، حركت شفتيها لتسألها بمكرٍ:
-طب وإيه المقابل؟
تيقنت “رغد” أنها استطاعت استمالة عقلها والعبث به لتجعلها دمية بين أصابعها تحركها كيفما تشاء فتنفذ مخططاتها الجهنمية، ولتبدو أكثر واقعية ومنطقية أجابتها قائلة:
-طبعًا صعب إني أخرجك من هنا، لكن أقدر أضمنلك تخدي وضعك وتتعاملي زي الملوك، تبقي ليدي هنا!
توهجت عينا “ناريمان” بلمعان مثير، فلماذا لا تنال مميزات بعينها خلال فترة حبسها الممتدة، فقد رأت بأم عينها كيف تعامل بعض السجينات على حساب أخريات، راقبت “رغد” ردة فعلها بتأنٍ، باتت شبه متيقنة من نجاح مهمتها الأولي، تابعت مضيفة ببسمة ماكرة تكونت على زاوية ثغرها:
-فكري واحسبيها كويس، في كل الأحوال إنتي مش خسارة حاجة، بس لو ساعدتيني على الأقل هترتاحي من مضايقات المشبوهات اللي هنا!
……………………..
على مدار عدة أيــام انشغلت بالتفكير فيما ستحتاج إليه من أجل الترتيب لحفل عيد الميلاد العائلي، كانت الخيارات متاحة أمامها لتفعل ما يحلو لها، ومع ذلك بدت حائرة في انتقاء المميز لابنتها، ساعدتها “ليان” كثيرًا واستفادت من خبراتها في تلك النوعية من الترتيبات التي لم تقم بها مسبقًا، بقي لها أمر أخير؛ ألا وهو اختيار الثوب الذي سترتديه، لم تحبذ “تقى” ارتداء ثياب السهرة البراقة والمبهرجة، أرادت شيئًا بسيطًا، خاصة أن ضيوفها ليسوا بالغرباء، فأغلبهم أفراد عائلتها، جيرانها، ومعظم المقربين من زوجها “أوس”، تفقدت خزانة ثيابها ووجدت ما ظنت أنه مناسبًا، التفتت نحو زوجها الذي كان ينهي بعض أعماله العالقة على حاسوبه المحمول، سألته بجدية وهي مخفضة لأنظارها لتتأمل هيئة الثوب على ثناياها بعد أن ارتدته:
-إيه رأيك؟ ده حلو؟ أنا بصراحة محتارة مش عارفة ألبس إيه!
رفع عينيه لينظر لها مليًا متأملاً الثوب النبيذي اللون الذي ارتدته، تفحص ببطءٍ تفاصيله، كان ثوبها طويلاً محتشمًا يضيق قليلاً عند الخصر الذي تزين بحزام جلدي ذهبي اللون، أما أكمامه فكانت واسعة نسبيًا، هز رأسه في إعجاب وهو يبتسم معلقًا:
-كل حاجة عليكي بتخليكي أحلى من اللي قبلها
لم تكن بحاجة إلى مجاملة منمقة لتحصل على رد يرضيها، عبست ملامحها معترضة بتذمرٍ:
-بطل يا “أوس”، أنا عاوزة رأيك فيه، الفستان هيليق ولا لأ؟!
أبعد الأخير حاسوبه عن ركبتيه ثم نهض واقفًا ليتجه إلى خزانة الثياب، ألقى نظرة مطولة على ما في ضلفتها ليخرج شيئًا بعينه، تقوس فمه ببسمة متسلية –شبه ماكرة- وقد كان في حالة مزاجية رائعة، رفعه نصب عينيها ليتأمل ردة فعلها المصدومة قائلاً لها بعبثية:
-لو عاوزة رأيي يبقى تلبسي ده!
انفلت منها شهقة حرجة مصحوبة بوجه شبه مشتعل الحُمرة بعد أن رأت ما أخرجه، لم يكن ثوبًا ملائمًا لسهرة عائلية إطلاقًا، وإنما قميصًا حريريًا قصيرًا به عدد لا بأس به من الفتحات لتظهر مفاتن الأنثى بطريقة مغرية تلهب المشاعر وتهلك الأعصاب كإشارة صريحة لقضاء ليلة جامحة، جذبته منه لتطويه هاتفة بجدية مصطنعة ومتحاشية نظراته التي تلتهمها عن قربٍ:
-إنت بتهزر، ده ماينفعش طبعًا
علق عليها مراوغًا:
-ما هو ليا لي وبس!
وضعت يدها على خصرها راسمة على وجهها تعبيرات جادة وهي تسأله:
-والضيوف؟
سحبها من معصمها إليه مقلصًا المسافات بينهما بعد أن أججت فيه بقوة رغباته التي لا تفتر بالتمتع معها بلحظات رومانسية لا تُمحى من الذاكرة لمجرد تخيلها ترتدي تلك القطعة الشفافة التي لا تستر شيئًا، اصطدمت بكفها على صدره ليشعر بأنفاسها غير المنتظمة تلفح وجهه وتزيد من رغبته، همس لها بتنهيدة حارة ضاعفت من توتر الأجواء:
-ولا يفرقوا معايا، خلينا سوا
كانت “تقى” شبه محاصرة بين تأثيره الطاغي الذي يعرف باحترافية كيفية اللعب على أوتار القلب وتحفيز المشاعر لإشباع ما تشتاق له النفس التواقة لغرام مميز وعميق، ردت بخفوت خجل وقد أحست بتلك السخونة تنبعث من بشرتها التي اكتست كليًا بدموية نشطة:
-“أوس”.. عيب كده!
قرب رأسه منها لتزداد توترًا وهو يقول:
-مافيش عيب معايا
أغمضت عينيها مستسلمة لصوته الهامس الذي تغزل بها:
-بأحب اسمي وهو طالع من بين شفايفك
عزز موقفه الرومانسي بقبلة شاعرية أحست بعذوبتها وبقوة الحب المستمدة من قلبٍ عَرِف وتعلم قواعد العشق على يديها، استجاب وجدانها، وتفاعل كيانها مع تأثيرات خبراته العميقة في أساليب الهيام، أبعدت وجهها عنه لتلتقط أنفاسها التي اضطربت قائلة له بارتباكٍ ممتزجٍ بالخجل:
-أنا كده مش هالحق ألبس ولا أجهز الحاجة، الناس جاية كمان شوية
هز رأسه معترضًا دون أن تتبدل نبرته العذبة وهو يقول لها:
-أومال الخدامين بيعملوا إيه؟ إنتي هنا عشان ترتاحي وبس
حاولت الانسلال من بين أحضانه التي حاصرتها وأبقتها أسيرته هامسة بدلالٍ ناعم ورقيق:
-ماشي، بالليل نتكلم
رفض “أوس” إفلات رسغها لتظل حبيسته، ثبت عينيه العميقتين على وجهها المتورد محذرًا بلهجة تفهمها جيدًا جمعت بين اللين والحزم:
-خليكي فاكرة اتفاقك، لأني مابنساش!
أومأت برأسها مبتسمة في خنوع محبب إليه زاد من لهيب أشواقه، اضطر رغمًا عنه أن يؤجل خطته اللاهية معها إلى وقت لاحق مكتفيًا بقبلة أخرى أشد عمقًا وقوة.
……………………..
أسرعت بلف حجاب رأسها بطريقة مبتكرة كما علمتها رفيقاتها بالمدرسة لتبدو تلك المرة مختلفة عما اعتادت أن تظهر عليه، ظهر عنق “هالة” إلى حد ما، حاولت رفع ياقة قميصها الأبيض الذي ارتدته أسفل كنزتها الزرقاء الواسعة لتخفي ذلك الجزء فلا تتعرض لتوبيخ من والدتها، تلفتت بجسدها للجانبين لتتأكد من تناسق ثيابها مع السروال الجينز الذي ارتدته، لمحة باهتة من مساحيق التجميل وضعتها على وجنتيها، وأحمر الشفاه الرقيق لتكتمل صورتها المتأنقة، حركت مقلتاها نحو انعكاس وجه أختها في المرآة المنكسرة من المنتصف إلى شقين غير متساوين حينما سألتها:
-ها لبستي؟
أومـأت برأسها إيجابًا وهي ترد:
-أيوه، أنا جاهزة
أبدت “بطة” إعجابها بأختها الأصغر التي كانت جميلة رغم بساطة مظهرها، اتسعت ابتسامتها المحفزة قائلة لها:
-ماشاء الله عليكي، حلوة يا “لول”
ردت بتوترٍ حرج:
-خايفة شكلي ميكونش حلو واحنا هناك
علقت بفتور غير مبالية برأي الآخرين:
-مش فارقة، المهم نعمل الواجب ونرجع
وقفت والدتهما عند عتبة الغرفة تتأمل انهماكهما فيما أسمته بالتأنق الزائد عن الحد بسبب ذلك الحفل المزعوم، كانت غير راضية عن ذهابهما إليه، ولم تهتم بإخفاء رفضها للأمر، كتفت ساعديها أمام صدرها لتقول بتنمر:
-عيد ميلادات إيه دي اللي هتحضروها على آخر الزمن؟
أجابتها “بطة” متصنعة الابتسام:
-“تقى” عزمتنا واحنا مش عاوزين نكسر بخاطرها
أرخت ذراعيها لكنها وضعت يدها أعلى منتصف خصرها متسائلة:
-ودي هتروحلها إزاي؟
ردت عليها “هالة” بنزقٍ:
-العربية هاتيجي تاخدنا مع أهلها
مصمصت شفتيها مرددة بتهكمٍ ساخط:
-هانقول إيه غير أرزاق، والله ما له لازمة الموضوع ده، ما تخليكوا أعدين وخلاص
كانت “هالة” على وشك الرد عليها لكن بادرت “بطة” بالغمز لها كي تتجنب الجدال مع والدتها أو حتى تعلق عليها لتقفل نهائيًا باب النقاش والاعتراض في مسألة ذهابهما، امتثلت أختها لنظراتها المفهومة بترحاب صدر، فلا حاجة بها لتنغيص ليلتها قبل أن تبدأ، هتفت “أم بطة” محذرة بجدية:
-خدي بالك من الواد، مش ناقصين بهدلة
ردت عليها ابنتها الكبرى بانصياعٍ:
-حاضر
ثم استدارت نحو أختها تأمرها:
-هاتي الهدية يا “هالة”
تأملت والدتهما الهدية المغلفة التي علمت مسبقًا أنها لعبة باهظة الثمن –من وجهة نظرها- ستقدمها الاثنتان لها، زمت شفتيها متمتمة بنبرة ممتعضة حملت في طياتها التلميح إلى فقرهم المعلوم للجميع:
-وهي هترضى ياختي باللعبة دي؟ ده بقت في العليوي!
ضغطت “بطة” على شفتيها مبررة:
-أهوو اللي قدرنا نجيبه يامه، وهي مش محتاجة أصلاً، بس احنا بنقوم بالواجب وخلاص
انتبهت “هالة” إلى بوق سيارة الدفع الرباعي التي احتلت المنطقة الشاغرة بجوار البناية، هللت بحماسٍ وقد أشرق وجهها:
-العربية واقفة تحت
رمقتها والدتها بنظرات ساخطة مزعوجة، طأطأت رأسها لتتجنب تحديقها المتأفف، هتفت أختها بجدية بعد أن حملت رضيعها إلى صدرها:
-بينا لأحسن نتأخر على الجماعة، هتبقى قلة ذوق مننا
صاحت بهما “أم بطة” بهتافٍ مرتفع:
-كلموني أما توصلوا
التفتت “هالة” برأسها نحوها قائلة:
-حاضر يا ماما
تابعت توصياتها المحذرة مكملة بنفس الصوت الجاد:
-وخدوا بالكو من بعض
ردت على الفور:
-ماشي، سلام بقى!
أسرعت في خطاها لتحلق بأختها الكبرى بعد أن ارتدت على عجالة حذائها الرياضي الأبيض الذي استغرقت بضعة ساعات لتنظيفه ليبدو جديدًا ولائقًا بالحفل، انعكست الحماسة على وجهها فزادته تلألئًا، تمنت “هالة” في نفسها بكل جوارحها أن تقضي سهرة لا تنسى تستعيد فيها بهجتها بعد أن ذبلت من كم التعاسة المحبط المحيط بها.
……………………..
استقرت بعد معاونة زوجها بالمعقد الخلفي في السيارة التي أُرسلت لاصطحابها مع زوجها، ورغم انعدام الرؤية لديها إلا من خيالات متداخلة مشوشة لا تجعلها قادرة على التمييز إلا أنها كانت ناقمة على تجاهل ابنتها وزوجها لوضعها وحرمانها من فرصة ربما ستمنحها الأمل في استعادة نظرها، أخرجت “فردوس” من صدرها زفيرًا مسموعًا مغلفًا بسخطٍ مضاعف قبل أن تستطرد ناطقة:
-ياما كان نفسي أشوف العز ده بدل ما أنا مش محصلة حاجة
نظر لها “عوض” من زاوية عينه محركًا رأسه باستنكار لأسلوبها التهكمي المتواصل، رد عليها بصوته الرخيم:
-احمدي ربنا، غيرك مش قادر يمشي على رجله
كانت شبه فاقدة لصبرها، لم تعد تتحمل عبارات الإشفاق، وجمل التعاطف المتملقة، نفخت هاتفة باستياءٍ:
-يووه يا “عوض”، معاهم القرش ومستخسرين يطلعوه لله
يئس من فشله في جعلها تكف عن التذمر والشكوى فرد بعبوسٍ:
-احنا مش مستنين صدقة من حد
علقت عليه باستفزازٍ:
-دي مش حد ياخويا، دي بنتك، ومعاها فلوس وتقدر
-لا حول ولا قوة إلا بها
لم تكتفِ بذلك بل هتفت قاصدة جعل الأمر إلزاميًا وليس نابعًا من رغبة الشخص في القيام بعمل يُثاب عليه:
-ميل إنت عليها وقولها الكلمتين دول، وهي النبي حارسها وصاينها تقول للمحروس اللي متجوزاه يطلع من معاه!
ضرب كفه بالآخر قائلاً بإحباطٍ:
-لله الأمر من قبل ومن بعد، ربنا يهديكي يا “فردوس”، ويبعد شيطانك عنك!
……………………..
تدلى فكها للأسفل في انبهار كبير حينما مرقت السيارة عبر المجمع السكني الشهير والذي ترى إعلاناته المصورة في تلفاز منزلها المتواضع، مررت “هالة” أنظارها على كل جزء فيه كي لا يفوتها شيء، أرادت أن تحفظ عن ظهر قلب معالم ذلك المكان الذي ربما لن تطأه من جديد، لم يختلف حال أختها عنها، بدت مبهورة هي الأخرى بما تراه عيناها، همست لأختها الصغرى بخفوتٍ:
-شوفتي العظمة يا بت
ردت عليها بصوتٍ خفيض:
-ماشاء الله، ده ولا في الأحلام
غمغمت هامسة بضحكة عابثة حاولت تخبئتها:
-حاجة زي اللي بنشوفها في التلافزيون، يا حلاوة يا ولاد!
رمشت “هالة” بعينيها البراقتين بوميض الإعجاب مرددة:
-ربنا يزيد ويبارك
استمرت في تأملها الدقيق حتى توقفت السيارة أمام مدخل إحدى الفيلل المضاءة من الخارج بإنارات باهتة لكنها أعطت سحرًا للمكان، شعرت بالرهبة المختلطة بالحماسة وهي تخطو نحو الباب الخشبي الكبير الذي يخفي ورائه ثراءً متوقعًا، تنفست بعمق حابسة للحظات ذلك الشهيق الذي استنشقته ليهدأ من الحالة الحماسية المسيطرة عليها، كانت ملامحها إلى حد ما قلقة مرتبكة وهي تدير رأسها في اتجاه أختها التي أردفت قائلة:
-تعالي أما نشوف “تقى” فين
خرج صوتها مكتومًا مهزوزًا حينما ردت:
-حاضر
تشجعت “هالة” للمضي قدمًا ممتعة نظراتها وعقلها بمظاهر الغنى والترف الذي يناقض حياتها في المنطقة الشعبية بمعالمها المتدنية، خشيت من نظرات الضيوف الذين ربما لن يروقهم حضور من هم أدنى منهم في المستوى الاجتماعي والطبقي، فأمثال هؤلاء لن يكفوا عن إشعار غيرهم بالفارق الواسع بينهم، تلاشت هواجسها للحظة مع تلك الرائحة الزكية التي داعبت أنفها وهي تلج إلى البهو المفضي إلى الصالة المزدانة بزينة أعياد الميلاد التقليدية، ارتسمت ابتسامة إعجاب صغيرة على شفتيها وهي تمعن النظر في البالونات المطاطية الملونة التي ترتشف السقف، خفف توترها السائد بداخلها عدم تواجد علية المجتمع المخملي، شعرت بالارتياح لكون الضيوف على شاكلتها من حيث البساطة والمستوى الاجتماعي المتوسط أو الأقل، فهمت الآن لماذا أصرت “تقى” على دعوتها مع أختها ولم تتقبل اعتذارهما.
……………………..
على الرغم من كون صلة القرابة المعروفة للجميع تعود لسنوات مضت منذ ميلاد أبناء العموم إلا أن أواصل الود بينهم لم تكن جيدة نوعًا ما، ومع ذلك قرر “أوس” دعوة القليل من أقربائه وخاصة ابن عمه “يامن” لحضور الاحتفال بالذكرى الأولى لميلاد رضيعته، ليس لأجل مشاركته فرحته وإنما لأمر آخر شغل باله مؤخرًا، عملاً بمبدأ إن كان أصدقاء قريبون منك فلتجعل أعدائك أقرب، وببدلته السوداء الكاملة وطلته المهيبة سار بين المتواجدين مبتسمًا ابتسامة صغيرة مجاملة كنوعٍ من الترحيب بضيوفه، كان هدفه محددًا وواضحًا، التقطته نظراته من على بعد فمشى صوبه، بهيبة معروفة وشموخ نافذ، دنا “أوس” من “يامن” الذي بدا مزعوجًا من تواجده في مثل تلك النوعيات السخيفة والمملة من الحفلات العائلية، لكنه اضطر للرضوخ لأمر ابن عمه الكبير بالحضور مساءً، وقف قبالته مركزًا نظراته الثاقبة على وجهه جامد التعبيرات، حافظ الأخير على ثبات تعابيره الغامضة فلم يستطع “يامن” أن يستشف ما الذي يستحوذ عليه تفكيره، فنظراته نحوه لم تكن مريحة على الإطلاق، توقف “أوس” عن السير ليستقيم في وقفته وينتصب بكتفيه العريضين مباغتًا ابن عمه بتساؤل ينم عن معرفة سابقة:
-أخبار “رغد” إيه؟ كانت نازلة من عندك مضايقة أوي!
صُدم “يامن” من خلفيته عن الأمر فردد مدهوشًا:
-إنت عرفت؟
تحدث من زاوية فمه قائلاً بعنجهية جلية:
-مافيش حاجة بتستخبى على “أوس الجندي”!
شعر ابن عمه الصغير بجفاف في حلقه، وبتوتر مضاعف يضرب في صدره حينما سأله بهدوءٍ غير مطمئن له:
-ها كانت عاوزاك تنقلها أخباري ولا تاخد صفقة من اللي عندي؟!
دافع عن نفسه بنزقٍ كي يقطع أي سبل للشك بشأنه:
-أنا ماليش دعوة باللي بتفكر فيه
رفع “أوس” يده ليضعها على كتف “يامن” قائلاً له بنبرة جافة وقد قست نظراته المخيفة:
-أبوك غلط معايا، وأنا سبت القانون ياخد مجراه، لكن لو كان عليا كنت خدت حقي بنفسي، وإنت أكيد فاهمني
عجز الأخير عن الرد، فرت الدماء من وجهه فبدا شاحبًا متوترًا، حذره “أوس” بلهجته النافذة:
-أحسنلك تكون بعيد عن المواضيع دي
لم يكن أمامه سوى الإذعان له، لذا رد باقتضابٍ
-طيب
أزاح يده عن كتفه ليدسها في جيب بنطاله الأسود، وباليد الأخرى داعب طرف ذقنه، تجمدت نظراته على وجه “يامن” القلق قبل أن يقول له بنبرة موحية:
-وخف المسخرة اللي بتحصل عندك!
اعتلت قسماته دهشة أكبر من التي قبلها، ردد مذهولاً:
-حتى دي كمان عارفها
رمقه بنظرة قوية احتوت على شراسة لا يحبذ الفرد اختبارها، ثم حذره مجددًا:
-خليك عاقل أحسن، أنا مش هتساهل معاك لو غلطت
ازدرد ريقه قائلاً من بين أسنانه وقد بدا كالتلميذ المخطئ الذي يؤنبه معلمه لتقصيره في أداء واجباته:
-أوكي
تركه “أوس” في مكانه في وضعٍ حرج، شعر “يامن” بالضيق وبحالة من الاضطراب تتخلله لم يكن في حالة طبيعية وهو يتلقى مثل تلك الأخبار الصادمة، فابن عمه لا يُستهان به، إنه داهية حرفيًا، كان بحاجة للتنفيس عما يكبته من توترات مضاعفة، لفافة سجائر ستكون الخيار الأنسب حاليًا، لكنه يعرف تبعات ما يفكر فيه، لذا سيكون من الأسلم الاختفاء ولو قليلاً عن أنظاره ريثما يحقق متعته اللحظية من حرق ذلك التبغ، تلفت حوله باحثًا عن الشرفة ليهرب إليها محدثًا نفسه:
-أحسن حاجة أعملها أطلع أدخن برا، بدل ما يعلقلي حبل المشنقة هنا!
……………………..
تذكرت أنها لم تهاتف والدتها مثلما أخبرتها ريثما تصل كلتاهما إلى الفيلا التي تسكن بها “تقى”، خشيت من غضبتها فأسرعت بإخراج هاتفها المحمول من حقيبتها الجلدية، وضعت “هالة” يدها على ذراع أختها قائلة لها بصوتٍ شبه مرتفع لتتمكن الأخيرة من سماعها وسط الصخب الصادح حولهما:
-هاروح أكمل ماما برا اطمنها علينا
ردت عليها “بطة” بإيماءة موافقة:
-أيوه، بدل ما تقلب علينا وتعملها مشكلة
-بالظبط
ثم جابت بنظراتٍ مرتبكة الصالة الواسعة باحثة عن مكان أقل ضوضائية لتتمكن من الاتصال بها، لمحت الستائر التي يهزها الهواء عند أحد الأركان فاتجهت دون تفكيرٍ إلى هناك، أطلت برأسها من الفرجة الصغيرة المتروكة بين الستائر المتحركة لتجد ضالتها المنشودة، تنفست بارتياح لكونها قد وجدت الشرفة هادئة، خطت مسرعة للداخل واضعة هاتفها على أذنها دون أن تتأكد جيدًا من خلوها، سدت “هالة” بيدها الأخرى أذنها لتتمكن من سماع صوت والدتها بوضوح وهي تهتف عاليًا بنبرة تلفت الانتباه:
-ألوو، أيوه يا ماما!
تفاجأ “يامن” المنزوي في أقصى الشرفة الدائرية بتلك الفتاة بسيطة المظهر التي اقتحمت خلوته الخاصة دون سابق إنذار، اعتقد من مظهرها المحلي أنها ربما أحد الخدم ممن يعملون هنا، أسرع بإطفاء سيجارته المشتعلة خشية افتضاح أمره بالتدخين سرًا في فيلا “أوس الجندي” الذي لن يتهاون في تلك المسألة تحديدًا، وبخطواتٍ حذرة للغاية، تكاد لا تكون مسموعة، سار نحو الطاولة الزجاجية القصيرة ملتقطًا كأس مشروبه البارد مدعيًا ارتشاف ما فيه، وقف خلف الفتاة مصغيًا إليها وهي تردد بنبرة مضطربة وربما خائفة:
-ماشي، حاضر والله، طيب خلاص، على طول أهوو، سلام يا ماما!
أنهت “هالة” الاتصال معها مخرجة زفيرًا مزعوجًا من صدرها، ثم التفتت بغتة بجسدها للخلف لتصطدم بصدر ذلك الشاب الغريب عنها بكفيها جاعلة يده تهتز وتلقي بما في الكأس على سترته الرمادية الباهتة، كتمت شهقة مذعورة حينما أدركت ما فعلته دون قصدٍ منها، سيطر عليها في لحظة ارتباكًا مذعورًا، ضمت يديها إلى فمها متراجعة عنه بعد أن رأت عينيه اللاتين تحملان نظرة أرعبتها معتذرة بحرجٍ كبير:
-أنا أسفة جدًا، والله ما أعرف إن في حد هنا!
نفض “يامن” يده التي تلطخت بالمشروب في الهواء قائلاً بضيقٍ واضح:
-مش تاخدي بالك!
تحرجت للغاية من الضرر الكارثي الذي أحدثته في سترته، لذا كررت اعتذارها هامسة بارتجاف خجل:
-أنا أسفة
انحنى للأمام ليسند الكأس على الطاولة ثم انتزع سترته ليبرز جسده الرياضي المنضبط في تنسيق عضلاته هاتفًا بنبرة متذمرة:
-ناقص أنا البهدلة دي!
تضاعف ارتباكها من ذلك الموقف المخزي الذي وضعت نفسها فيه بسبب غبائها المتهور، فلو انتبهت لوجوده منذ البداية لما كانت ترتجف هكذا خزيًا، راقبته بعينين قلقتين وخائفتين في نفس الآن منتظرة ردة فعله التي ربما لن تكون سارة، رفع “يامن” عينيه ليحدق بها بجمود ثم أشار نحو كأس مشروبه البارد قائلاً بصيغة آمرة:
-هاتي حاجة فريش بداله
امتزج توترها المرتعد مع صدمتها من جملته الأخيرة فزوت ما بين حاجبيها مرددة باستغراب متعجب:
-نعم
رمقها بنظرة متعالية وقد عبس وجهه متابعًا:
-واضح إن فهمك بطيء، زي تصرفاتك، هاتي عصير فريش مكان اللي وقعتيه عليا وشوفيلي مناديل ولا ….
أدركت “هالة” ما الذي يرمي إليه بأمره الصارم وكلماته الحادة بفطنتها التي تميزت بها عن إخوتها، هو حكم عليها من مظهرها بأنها الخادمة المتواضعة التي أساءت التصرف مع أحد ضيوف المكان، أزعجها تفكيره فيها بذلك الشكل كثيرًا، بل إنه طغى على حرجها منه، كانت كمن ينازع شيئًا بداخله وهي تكبح نوبة بكاء وشيكة، رفعت رأسها للأعلى لترد بكبرياءٍ رغم اهتزاز نبرتها:
-أنا مش الشغالة هنا
رمقها بنظرة متعجبة، ابتلعت ريقها مستشعرة تلك الغصة المريرة التي علقت في حلقها ثم أضافت بعزةِ نفسٍ:
-وإن كنت غلطت ووقعت عليك حاجة، فأنا بجد أسفة، مكانش قصدي
رأى “يامن” بوضوح تلك العبرات التي تتقاتل للنزول سريعًا من حدقتيها المتوترتين، اختنق صوتها بدرجة كبيرة وهي تكمل:
-عن إذنك
أطرق رأسها متحاشية عينيه المتطلعتين إليها بغرابةٍ وفضول، اندفعت إلى خارج الشرفة كاتمة بصعوبة عبراتها وشهقاتها بعد أن شعرت بالمهانة والانتقاص من قدرها مع ذلك المتكبر الذي منحها بنظرة جامدة وعبارات لاذعة تعاسة جديدة أفسدت خططها البسيطة لتلك الليلة، شيعها “يامن” بأنظاره حتى اختفى طيفها، ضاقت حدقتاه متسائلاً مع نفسه بحيرةٍ:
-دي مين أصلاً ……………………..
……………………..