رواية الحبُ.. أَوْس
الفصل العاشر
هرول الأمن المسئول عن تأمين البناية والمجمع السكني لنجدة ذلك المنزل المشتعل والمتصاعد منه أدخنة كثيفة من أغلب نوافذه، دوت صافرات الإنذار بالحرائق في كامل المبنى مما أفزع السكان، وفي خلال دقائق شرع رجال الأمن في استخدام طفايات الحرائق لإخمادها قبل أن يتفاقم الأمر ويصل إلى المنازل الأخرى، خاصة أن المشهد كان مرعبًا ملبكًا للأبدان.
راقب بعينين محتقنتين من تأثير ألسنة اللهب ما يحدث كاتمًا بتحملٍ يفوق قدراته آلامه القاصمة للأظهر ليبدو أمام زوجته الخائفة صلبًا، قوي الشكيمة، لا يهزه شيء، خاصة أن نظراتها المرتاعة ووجهها المرعوب أكد له إن شعرت للحظة بأنه ليس على ما يرام لربما تفقد ما تبقى من تماسكها الزائف، اعتدل “أوس” في جلسته غير المريحة على الدرج مخرجًا هاتفه المحمول من جيبه، والذي كان لا يزال موضوعًا به، بحث سريعًا بالأرقام ليهاتف الأقرب إليه، من سينفذ أوامره حرفيًا دون جدالٍ، كز على أسنانه مانعًا آهة موجوعة من الخروج من صدره، وضع الهاتف على أذنه قائلاً بتشنج ملحوظ:
-أيوه يا “عدي”
بدا صوت الأخير متحمسًا لكنه قطعه متابعًا بصرامته الجادة:
-لو “ليان” جمبك متقولش حرف ليها
سأله رفيقه بتوجسٍ:
-بتقول إيه؟ في حاجة حصلت؟
رد عليه محذرًا:
-مش عاوز شوشرة، زي ما قوتلك، تسمع كويس وتنفذ اللي هاقوله من غير ما مراتك تحس
أتاه صوته متسائلاً بتلهفٍ:
-تمام، خير في إيه؟
-الشقة ولعت عندي، واحنا كويسين، بس طالعين على المستشفى لما يجي الإسعاف، حصلني على هناك
رد بقلقٍ متعجلٍ:
-حاضر، مسافة السكة وهاكون عندك
أنهى “أوس” معه المكالمة دون إضافة المزيد، فالحديث يؤلمه بقسوة، تهدل كتفاه وظهر الإعياء جليًا على قسماته، التصقت به “تقى” لتحتمي به وهي واضعة لرضيعتها على حجرها، شعر بتلك الرجفة التي تملكتها، ففــرد ذراعه رغم الألم الشديد من حركاته الزائدة وغير محسوبة العواقب ليضمها إليه لتشعر بالأمان والاحتواء، طمأنها قائلاً بخفوت:
-متخافيش، عدت على خير
ردت بصوتٍ باكٍ:
-الحمد لله يا رب
لحظات وامتلأ المكان برجال الشرطة ليحققوا فيما حدث، وتحولت البناية إلى حديث من يقطن في المجمع السكني، في تلك الأثناء، خرجت إحدى الجارات –من ذوي الشيبة- من داخل منزلها المواجهة لهما حاملة في يدها إسدالاً للصلاة، اقتربت من “تقى” هاتفة بجدية:
-إلبسي ده يا بنتي!
انخفضت نظرات “تقى” عفويًا إلى جسدها ليعتري وجهها نظرات مصدومة خجلة من ثيابها شبه الفاضحة التي ربما منحت البعض فرصة ذهبية لاختلاس الأنظار إليها رغم تغطيتها بالغطاء، ارتفعت يدها لتتلمس شعرها الذي ثار بتمردٍ فزادت هلعًا وتوترًا، بدا مجيء تلك الجارة الطيبة كطوق النجاة بالنسبة لها، نظر لها “أوس” بامتنان، فقلما تجد من يكون حريصًا على غيره في المواقف الحرجة، عاونتها الجارة في ارتدائه وحملت عنها الرضيعة ريثما تنتهي من ستر جسدها، التفتت “تقى” لتنظر إلى “أوس” بعينين نادمتين ودمعاتها تتسابق من جديد في الانهمار على وجنتيها، سألته بنحيبٍ:
-إنت كويس؟
نكس رأسه وقد نفذ مخزونه من القوى، زفر ببطءٍ قبل أن يجيبها بوهنٍ:
-أيوه، المهم إنتي و”حياة”
منحت “تقى” ابنتها قبلة عميقة حنونة أعلى جبينها قبل أن تقول له:
-احنا بخير الحمدلله
اقترب أحد رجال الأمن مرددًا بلهجة جادة:
-“أوس” باشا الإسعاف وصل تحت، وطالعين
أومأ برأسه دون تعقيب، ثم أشار له بيده ليعاونه على النهوض، فقد ثقل جسده ولم يعد قادرًا على الوقوف بمفرده، استند على كتف الحارس الأمني ليبلغ المصعد وتبعته “تقى” بتمهلٍ، فُتح الباب على مصراعيه فتوقف الجميع عن الحركة لتواجد المسعفون به، هرعوا في التعامل مع “أوس” بعناية فائقة، وما هي إلا لحظات وكان مع زوجته ورضيعته في عربة الإسعاف متجهين إلى مشفى “الجندي”.
…………………….. …………………….. ……
نظرت إليه بفضول حائر وهي ترى تلك التحولات العجيبة على ملامح وجهه وحتى نظراته، ركزت “ليان عينيها على “عدي” الذي طالعها بنظرات مرتبكة، ادعى الابتسام ليخفي القلق الذي ظهر عليه، سألته باهتمام وهي تراه متجهًا نحو خزانة الثياب ونازعًا ثيابه عنه:
-في حاجة حصلت؟ هو إنت نازل ولا إيه؟
التفت نحوها لينظر لها بحدقتين مضطربتين قبل أن يتنحنح مجيبًا إياها ببسمة متكلفة:
-حاجة تبع الشغل
سألته مجددًا وقد بدت غير مقتنعة بما يقول:
-في مشاكل يعني؟
أجابه بحذرٍ وهو يخرج ثيابه من ضلفته:
-بخصوص الاجتماع، شوية حاجات طالبها “أوس” مني، ما إنتي عارفاه لما يحط حاجة في دماغه
هزت رأسها بتفهم:
-طيب
أسند ثيابه على الفراش ثم انحنى عليها ليحتضن وجهها بين راحتيه قائلاً لها بنبرة مليئة بالدفء:
-حبيبتي، مش هتأخر عليكي برا
تشكل على صغرها ابتسامة مجاملة وهي ترد:
-براحتك
تابع مؤكدًا بجدية:
-المهم تخدي بالك من نفسك لحد ما أرجع، ماتعمليش أي حاجة تتعبي بيها نفسك والباشا اللي قاعد جوا
أخفض رأسها لتحدق نحو بطنها ثم عاودت النظر إليه مرددة:
-أوكي
طبع قبلة رومانسية على شفتيها هامسًا لها بمحبةٍ كبيرة:
-بأحبك يا “ليوو”
ثم تراجع عنها ليلتقط ثيابه وأسرع بالولوج إلى داخل الحمام ليبدلها، تبعته أنظار “ليان” التي رددت بين جنبات نفسها بفضولٍ:
-مش مستريحة، حاسة إن في حاجة غلط
…………………….. ……………………..
تشابكت الأصابع معًا فشعرت بذلك الدفء المطمئن يتسلل إليها ليخفف من وطأة ما عانته قبل لحظات حينما باتت على وشك الموت والتهديد بخسارة فلذة كبدها، حماها المولى وأنقذها زوجها من خطر محتوم غير مكترث بما يمكن أن يصيبه، توترت نظرات “تقى” مع اقترابها من ذلك المشفى الذي لم يكن غريبًا على ذاكرتها وشاهدًا على الكثير من الأحداث المؤسفة، انقبض قلبها بخوفٍ مبرر، فذلك المكان حمل بين جدرانه ذكرياتٍ مؤلمة وضعتها في اختيارات مصيرية، وشكلت الكثير مما أصبحت عليه حياتها الآن، قاومت بشدة سيل الذكريات الذي امتزج مع مخاوفها الطبيعية وحاولت ألا تنبش فيها أو تسترجعها، فلتركز الآن على زوجها الذي يتمدد على الحامل الطبي في وضع لا تعرف بعد خطورته، نظرت إليه بهلعٍ، كان مستكينًا، صامتًا، في وضع لا يبشر بخير، انقبض قلبها بقوة من تكرار المشاهد نصب عينيها وكأنه قد حكم عليها بالمعاناة، تمتمت هامسة:
-ماتسبناش يا “أوس”
شعرت بتلك الضغطة الخفيفة فتسارعت دقات قلبها، تجمدت نظراتها على يده لثوانٍ ثم رفعت رأسها لتحدق في عينيه الغافلتين، انسابت دمعاتها في صمت وهي بالكاد على شفا خطوة من الانهيار، توقفت عربة الإسعاف عند مدخل الطوارئ وتسابق العاملون بالمشفى وعلى رأسهم الطبيب “مؤنس” الذي هدر عاليًا بصرامة شديدة:
-بسرعة انقلوا الباشا على جوا
وبحيطة مدروسة تم دفع الحامل الطبي إلى الداخل ليقوم الأطباء بفحص “أوس” والوقوف على مدى إصاباته، كذلك تولت إحدى الطبيبات مهمة متابعة “تقى” والرضيعة، واصطحبتهما إلى قسم رعاية الأطفال، وهناك عمل الجميع على قدم وساق للتأكد من سلامة الصغيرة، راقبت “تقى” ما يحدث من تدقيق طبي فائق الاهتمام بتوترٍ، خرجت الكلمات من جوفها مهتزة وهي تسأل الطبيبة:
-“حياة” كويسة؟
نظرت لها الأخيرة بغموض قبل أن تجيبها باقتضاب عملي:
-اطمني يا هانم، أنا بأعمل اللي عليا وزيادة!
ثم أشارت لزميلتها بعينيها لتضيف بعدها بصيغة آمرة:
-خليكي مع الهانم برا شوية وأنا هاقوم باللازم هنا
شعرت “تقى” بتلك القبضة التي توضع على كتفها لتجبرها على الاستدارة برأسها للجانب، رأت شابة مبتسمة تطلب منها برقة واحترام:
-هستأذنك تيجي معايا يا فندم
ردت معترضة:
-أنا عاوزة أكون مع بنتي، مش هاسيبها لوحدها
تفهمت عنادها الواضح وأضافت بهدوءٍ متمرس لتثنيها عن رأيها العنيد:
-كلنا هنا موجودين عشانها، ماتقلقيش حضرتك، من فضلك تعالي معايا عشان نطمن عليكي، 5 دقايق وهانكون هنا
اضطرت “تقى” أن ترضخ لها واستدارت خارجة من غرفة الفحص لكن بقيت نظراتها وقلبها مع وحيدتها التي شرعت تبكي، وضعت يدها على صدرها مقاومة هي الأخرى رغبتها في البكاء وهي تتخلى عنها مجبرة، استمرت الطبيبة في دفعها برفق إلى الخارج، ومع ذلك رفضت “تقى” الذهاب معها لتفحصها، أصرت على الوقوف ملتصقة بالجدار الزجاجي الذي يظهر لها ما يحدث بالداخل، تغلغل بداخلها رهبة مفزعة من احتمالية تعرض تلك الضعيفة لمكروه ما بسبب لحظة غباء متهورة منها، اغرورقت عيناها بالعبرات وشوشت الرؤية لديها، وما زاد الطين بلة أنها بمفردها من جديد، عاجزة، لا تقدر على فعل شيء، وزوجها بمكان ما بنفس المشفى لكنها لا تعلم عنه شيئًا، خوف مضاعف تسرب إلى كيانها بالكامل، بدأت ترتجف وهي تستند بكفيها على الجدار لتشعر ببرودة أكبر تصيبها، طمأنها نسبيًا ذلك الصوت المألوف الذي أتى من خلفها مرددًا:
-“تقى”
التفتت كالملسوعة للجانب لتجد “عدي” مسرعًا في خطواته نحوها، توقف بجوارها ليتأمل حالتها الفوضوية بعينين حائرتين، ثم أردف متسائلاً بنبرة أقرب للهاث:
-حصل إيه؟
أجابته ببكاءٍ:
-أنا السبب
لم يفهم مقصدها، فسألها من جديد ليستشف ما حدث منها:
-يعني إيه؟
أجابته من بين بكائها المرير:
-لو كنت سمعته من الأول مكانش ده كله حصل، أنا غيرتي عمتني عن إني أفكر
زفر بعمقٍ مرددًا بحرجٍ:
-أنا مش فاهم حاجة منك يا “تقى”، اهدي كده وفهميني حصل إيه من الأول!
كفكفت عبارتها لتضيف بحنقٍ وقد عادت ذكرى تلك اللطخة التي أفسدت سهرتها الحالمة وحولت كل شيء إلى كابوس مفزع:
-كله بسبب واحدة اسمها “رغد”
انعقد ما بين حاجبيه باندهاشٍ عجيب، فكيف تكون “تقى” على صلة بها وهي لم تلتقِ بهامن قبل؟ لم يدع الأمر يحيره فعاد لسؤالها باندهاشٍ:
-“رغد”، وإنتي تعرفيها منين؟
تنفست بعمقٍ لتسيطر على بكائها حتى تخرج كلماتها واضحة، ثم علقت عليه بنبرة متقطعة:
-معرفهاش، “أوس” كان بيتكلم عنها، وأنا.. فكرته على علاقة بيها
رد “عدي” نافيًا بقوة:
-استحالة، أولاً هي بنت عمه، ثانيًا دي متجوزة وعندها عيال، ثالثًا وده الأهم هي بتاعة مشاكل وجاية تهد كل حاجة عملها “أوس”
شعرت مع كلماته المؤكدة لبراءة زوجها من فداحة غيرتها الحمقاء التي أودت بعائلتها لذلك المأزق الحرج، انخرطت في بكاءٍ جديد أشد ندمًا لتدفن بعدها وجهها بين يديها موبخة نفسها:
-أنا غبية
ضاقت نظرات “عدي” متابعًا بجدية:
-طب و”أوس” فين دلوقتي؟
هزت كتفيها قائلة بخزيٍ أكبر:
-مش عارفة، هما نقلوه هنا وأنا جيت مع “حياة” يشوفوها، أنا السبب، أنا المسئولة عن اللي حصلهم!
تضاعفت نوبة بكائها ليشعر “عدي” بالحيرة من أمره، تنحنح قائلاً بهدوء:
-أنا موجود معاكي، كل حاجة هتبقى تمام يا “تقى”
ردت عليه برجاءٍ وقد أبعدت يديها عن وجهها لتتفع بصرها للسماء:
-يا رب
ظل “عدي” واقفًا بجوارها لبضعة دقائق مستمعًا إلى صوت نحيبها، لم يجد ما يعبر به في ذلك الموقف، عليه أن يكون متماسكًا كرفيقه ليتعامل بحكمة مع ما قد يحدث من تطورات، خرجت الطبيبة من الداخل فاندفعت “تقى” نحوها لتسألها بتلهفٍ وقد زاغت نظراتها:
-بنتي عاملة إيه؟
ادعت الطبيبة الابتسام وهي تجيبها:
-اطمني، هي هتبقى كويسة بس محتاجين نسيبها تحت الملاحظة هنا 24 ساعة
شحب وجهها مع جملتها الأخيرة، اتسعت حدقتاها في رعبٍ مفهوم لأي أم في موقفها لتسألها بفزعٍ:
-يعني إيه الكلام ده؟
ردت بروتينية موضحة سبب إبقائها تحت الملاحظة والمتابعة الطبية:
-ده إجراء طبيعي عشان نطمن أكتر
صرخت بهيسترية وهي تحاول الاندفاع نحو الداخل:
-أكيد حصلها حاجة وإنتي مش عاوزة تقوليلي، أنا عاوزة أشوف بنتي
اعترض “عدي” طريقها ليمنعها من التصرف بحماقةٍ قائلاً لها:
-يا “تقى” اهدي، مش كده! خلي الدكاترة يشوفوا شغلهم
أضافت الطبيبة مدعمة موقفه:
-هاتشوفيها وتطمني يا هانم، بس احنا محتاجين برضوه نطمن على حضرتك كمان
هتفت بنبرة أقرب للصراخ العنيد:
-مش مهم أنا، بنتي عندي بالدنيا كلها
نظرت الطبيبة بحيرة إلى “عدي”، ما خفف من وطأة الموقف هو هتاف الأخير قائلاً:
-د. “مؤنس” هناك أهوو
عند ترديد اسمه عاد ضميرها لتأنيبها بشراسةٍ بسبب أذته عن عمدٍ، همس جوفها باسمه:
-“أوس”!
تحرك “عدي” في اتجاهه ليسأله دون تفكيرٍ:
-خير يا دكتور؟ “أوس” عامل إيه؟
حبست “تقى” أنفاسها بترقبٍ وقد عجزت قدماها عن التقدم نحوه، شعرت أن خنجرًا حاد النصل يضرب قلبها بقوة ليؤلمها، وضعت يدها على فمها لتكتم أي شهقة قد تباغتها وتخرج عفويًا منها إن سمعت ما قد يؤلمها، أجاب “مؤنس” بهدوءٍ عملي وهو يوزع نظراته بين الاثنين:
-الحمد لله، رغم إن الضربة عملت كدمة جامدة وكان ممكن تسبب كسور، لكن ربنا ستر وعدت على خير
تنفست “تقى” الصعداء وشعرت بأن روحها ردت إليها مع كلماته المثلجة لصدرها الملتاع، تمتمت حامدة المولى في نفسها لتجاوزه تلك المحنة، وإلا كانت ستعاني من تأنيب ضميرها لفترة طويلة، ومن عذابٍ جديد يُضاف إلى قائمة معاناتها، أصغى “عدي” بعناية لكل ما يقوله ليضيف متسائلاً باهتمامٍ:
-نقدر نشوفه؟
رد ببساطةٍ:
-أكيد
بدت الفرصة جيدة لـ “عدي” ليسحب “تقى” بعيدًا عن ابنتها بحجة الاطمئنان على زوجها فلا تفتعل أي مشكلة مع طاقم الرعاية الطبي المسئول عن متابعة الرضيعة، أشار لها بذراعه لتتبعه، امتثلت صاغرة له، وسارت بخطوات متخاذلة نحو الغرفة المتواجد حاليًا بها مرددة لنفسها بلومٍ شديد:
-يا ريتني سمعتله، مكانش ده كله حصل!
…………………….. …………………….. ..
ثقلت خطواتها مع اقترابها من الغرفة المتواجد بداخلها، أحست بتخلي قدماها عن مساعدتها لتزداد مهمتها صعوبة ومشقة، فهي الملامة الرئيسية على ما حدث، تهدجت أنفاس “تقى” وهي تلمح طيفه من خلف الزجاج الكاشف له، ألمها أن تراه على تلك الحالة موضوعًا على الأجهزة الطبية، والشاش الطبي يغطي صدره العاري، لم تظن أن حالته بذلك السوء، اعتقدت أن إصابته طفيفة، لكن ما رأته من خلف الزجاج زاد من إحساسها بالذنب، التقطت نظرات “أوس” عينيها المتورمتين من البكاء المتواصل، رفع يده ليشير لها بالدخول، شجعتها حركته تلك على المضي قدمًا، سبقها “عدي” في خطواته ليطمئن على رفيقه باهتمام كبير، استرسل هاتفًا:
-“أوس” باشا، ينفع كده تقلقنا عليك
لم يجبه الأخير بل كانت نبضاته الصادرة من جهاز قياس ضربات القلب تعبر عنه، بقيت “تقى” في الخلف مترددة في البوح بكلمة واحدة تعبر عن ندمها، انكسرت نظراتها واكتست بعلامات الخزي، اقتربت أكثر منه مطأطأة الرأس، تُقدم قدمًا وتُؤخر الأخرى، تجمدت نظرات “أوس” عليها، كان يحس بما يختلج صدرها من مشاعر نادمة آسفة، أزاح القناع الذي يغطي نصف وجهه مناديًا إياها بصوتٍ شبه متحشرجٍ:
-“تقى”
تلقائيًا ارتفعت عيناها نحوه لتحدق في عينيه العاشقتين لها، تسابقت عبراتها في التجمع عند طرفيها، مدت يدها لتتحسس كفه، ثم انحنت قليلاً بعد أن رفعته إلى فمها تقبلها هامسة له:
-أنا أسفة
سحب يده برفق من بين أناملها المرتجفة ليتلمس بشرتها المبتلة، أضاف بخفوتٍ:
-أنا كويس، متخافيش يا حبيبتي
انهارت باكية وهي تقول:
-حقك عليا، أنا السبب في اللي حصلك!
حاول أن يبتسم لكن بدت ابتسامته باهتة واهنة، سعل بتعبٍ لتزداد رعبًا من اختناقه، سألته بتلهفٍ مذعور:
-رد عليا يا “أوس”
التفتت برأسها نحو “عدي” لتصرخ فيه بهلعٍ وقد اتسعت مقلتاها:
-نادي الدكتور بسرعة
وقبل أن يركض رفيقه ليستدعي من يتفقد حالته، أشار “أوس” بيده قائلاً بجدية رغم انخفاض نبرة صوته:
-مافيش داعي، أنا كويس
احتضنت “تقى” كفه بين يديها، ألصقته بوجنتها رافضة إفلاته، ثم توسلته من بين بكائها الحارق:
-عشان خاطري متعملش فيا كده
نظر لها معقبًا:
-اهدي يا حبيبتي، أنا هابقى تمام
ظللت تتنحنح بنهيجٍ متتابع حتى خف بكائها، سألها من جديد:
-فين “حياة”؟
أجابه “عدي” تلك المرة قائلاً:
-اطمن، الدكاترة عملوا اللازم معاها، هي مافيهاش حاجة
ارتخت تعابير بعد عبارته الأخيرة، ابتلع ريقه في حلقه الجاف ليأمره بصرامة رغم الوهن البادي عليه:
-خد “تقى” و”حياة” على الفيلا عندك، وماتقولش لـ “ليان” على اللي حصل
ردت عليه معترضة بعنادٍ كبير:
-أنا مش هاسيبك يا “أوس”!
عاد ليحدق بها مضيفًا:
-أنا كويس يا حبيبتي، اسمعي بس الكلام و…
قاطعته بإصرارٍ أشد رافضة الإصغاء لأوامره:
-مش هامشي، أنا هافضل هنا جمبك
لم يجادلها كثيرًا، فرؤيتها متلهفة عليه، بل ومقاتلتها للبقاء معه أسعدته للغاية، وملأت قلبه سعادة وغمرته بالفرحة، تلمس بشرتها بأصابعه متمتمًا:
-ربنا ما يحرمني منك
همست له بوجه أشرق مع لمساته الحنون:
-بأحبك
رد عليها مبتسمًا ومقاومًا لتلك النغزة التي أصابته فجأة:
-وأنا أكتر يا “تقى”
تابع “عدي” المشهد الرومانسي الخاص بينهما بنظرات حرجة، تنحنح بصوت مرتفع ليتنبه كلاهما إلى وجوده، ثم استطرد معلقًا بمرحٍ:
-والله بوظتوا فرحتنا، وأنا اللي كنت عاوز أبشرك
رد “أوس” ممازحًا وقاصدًا إثبات حبه لواحدة فقط تربعت على عرش قلبه:
-خير؟ “رغد” ولعت؟
علق نافيًا:
-لأ لسه شوية، بس دي حاجة أحسن
سأله بتعبٍ:
-إيه؟
أخرج “عدي” نفسًا بطيئًا من صدره ليقول بعدها ببسمة عريضة ونظرات لامعة:
-“ليان” حامل يا باشا
اعتلت الدهشة تعابيره المرهقة ليرد متسائلاً:
-ده بجد؟
أجابه بثقة:
-طبعًا، هو احنا بنلعب!
سعل “أوس” مُباركًا:
-مبروك يا “عدي”، أنا أفوق من اللي حصل وهاتصل أباركلها
رفع كفيه معقبًا بحماسٍ:
-براحتك يا باشا، كأنه حصل، المهم سلامتك وتخرج من هنا، مش عاوزينك تطول
أضافت “تقى” قائلة بحرجٍ:
-ألف مبروك يا “عدي”، أنا أسفة بوظت كل حاجة و….
قاطعها “عدي” مبتسمًا:
-حصل خير، وحمدلله على سلامتك يا صديقي!
ثم فرك مؤخرة رأسه مكملاً بعد أن شعر بأن وجوده غير محبب في تلك اللحظات العائلية الخاصة:
-احم .. هاسيبكم شوية مع بعض وهاروح أشوف الدكتور “مؤنس”، ولو في حاجة يا “أوس” كلمني
نظر له رفيقه بامتنان لبديهته، وعلق عليه مرددًا:
-تمام
انتظرته “تقى” حتى خرج من الغرفة لتجلس على طرف الفراش هاتفة بندمٍ:
-أنا كان ممكن أموت لو جرالك حاجة، أنا أسفة، مش هايحصل ده تاني
صمت للحظة ليكتم آهة تعبر عن ألمه من وخزة أخرى قاسية أصابته في كتفه وهو يحاول التحرك على الفراش ليدنو من زوجته، احتقن وجهه وظهر انعكاس الألم في بريق حدقتيه، توجعت لرؤيته على تلك الحالة، مالت عليه لتحتضنه دون أي مقدمات هامسة له:
-سامحني
امتدت ذراعاه لتلتف حولها وتحاوطها، لم تكن ضمته بالقوة لكنها كانت كافية لتُذهب عنها أحزانها الملازمة لها، تراجعت عنه لتطالع وجهه بعينيها الدامعتين، تأملهما “أوس” مطولاً قائلاً لها بتأكيد:
-حبيبتي، لازم تبقي عارفة إنك إنتي و”حياة” أغلى حاجة في حياتي، عمري ما هاخونك، ولا هابعد عنك
انخفضت نظراتها على ذلك الشاش الطبي الملفوف حول صدره، تلمسته بيدٍ مرتجفة، اهتزت شفتاها برعشة خفيفة، شعرت بنغصة تؤلمها وقد أحست بوجعه، ابتلعت غصة مريرة مرددة:
-اوعى تتخلى عني في يوم
ثبت عينيه عليها مؤكدًا بنبرة لا تعرف المزاح أبدًا:
-مش هايحصل!
انحنت نحوه مجددًا لتحتضنه وهي تبكي على كتفه، مسح “أوس” على ظهرها برفق طالبًا منها:
-كفاية يا “تقى”
توقفت عن النحيب وظلت باقية في أحضانه، سمعت صوته يقول بجدية:
-عاوزك بكرة تروحي مع “عدي” عنده يومين
اشتد ضمها له وهي ترد محتجة:
-لأ، مش هامشي من غيرك
أصر على رأيه هاتفًا:
-أنا هابقى كويس، هتلاقيني على آخر النهار خارج من هنا، بس مش هاطمن عليكي وإنتي متبهدلة كده
لم تصغِ له وكابرت قائلة:
-مش عاوزة
يئس “أوس” من محاولة إقناعها بالانتقال ولو مؤقتًا عند “عدي” وأخته، فوجودها هنا لن يريحه بأي حال من الأحوال، سيبقى باله مشغولاً عليها وهو في وضع لا يسمح له بالقيام بأي حركات مفاجئة، لاح في عقله فكرة ما، ربما ستجعلها تتخلى عن عنادها وتلبي أوامره، زفر قائلاً بتمهلٍ جادٍ:
-طب خلاص روحي عند أهلك يومين، بالمرة تشوفي أبوكي وأمك، وأنا هاجيلك أخدك من هناك بس أكون ظبطت المكان اللي هانقعد فيه
ردت عليه رافضة:
-رجلي على رجلك، أنا ….
قاطعها بإصرار صارم:
-“تقى” اسمعي الكلام، أنا مش عاوز أجبرك على حاجة، بس ده في مصلحتك، وعشان بنتنا، مش لازم تتعبيني!
أبعدت جسدها الملتصق بصدره لتنظر إليه بتوترٍ، كانت عيناه جادتان للغاية، لم ترغب في إثارة غضبه بعد كارثتها الأخيرة، هزت رأسها مرددة باستسلام:
-حاضر يا حبيبي، هاعمل اللي إنت عاوزه
خفت حدة نظراته لتعبر عن ارتياحه بانصياعها له أخيرًا، تصنعت الابتسام متسائلة برقةٍ:
-ينفع أنام جمبك؟
لم يجبها بل أفسح لها قليلاً لتتمكن من الاستلقاء على ظهرها إلى جواره، حاولت “تقى” ألا تُثقل بجسدها عليه، واكتفت بمحاوطة صدره بذراعها، سألته بخوفٍ:
-كده بيوجعك؟
رد نافيًا:
-لأ
مال برأسه نحوها ليتأمل وجهها عن كثب، راقبها في صمتٍ حتى غفت بجواره ليستمع إلى انتظام أنفاسها، اعتلى ثغره بسمة راضية لقربها منه، تمنى لو ظل كلاهما هكذا للأبد رغم حدسه الداخلي بأن ما حدث اليوم ما هو إلا مقدمة بسيطة لكوارث أخرى ستضع عائلته على المحك وفي مواجهة مباشرة مع مخاطر جمة …………………….. ……………….. !!
…………………….. …………………….. ……….يتبع >>>>>>>
هرول الأمن المسئول عن تأمين البناية والمجمع السكني لنجدة ذلك المنزل المشتعل والمتصاعد منه أدخنة كثيفة من أغلب نوافذه، دوت صافرات الإنذار بالحرائق في كامل المبنى مما أفزع السكان، وفي خلال دقائق شرع رجال الأمن في استخدام طفايات الحرائق لإخمادها قبل أن يتفاقم الأمر ويصل إلى المنازل الأخرى، خاصة أن المشهد كان مرعبًا ملبكًا للأبدان.
راقب بعينين محتقنتين من تأثير ألسنة اللهب ما يحدث كاتمًا بتحملٍ يفوق قدراته آلامه القاصمة للأظهر ليبدو أمام زوجته الخائفة صلبًا، قوي الشكيمة، لا يهزه شيء، خاصة أن نظراتها المرتاعة ووجهها المرعوب أكد له إن شعرت للحظة بأنه ليس على ما يرام لربما تفقد ما تبقى من تماسكها الزائف، اعتدل “أوس” في جلسته غير المريحة على الدرج مخرجًا هاتفه المحمول من جيبه، والذي كان لا يزال موضوعًا به، بحث سريعًا بالأرقام ليهاتف الأقرب إليه، من سينفذ أوامره حرفيًا دون جدالٍ، كز على أسنانه مانعًا آهة موجوعة من الخروج من صدره، وضع الهاتف على أذنه قائلاً بتشنج ملحوظ:
-أيوه يا “عدي”
بدا صوت الأخير متحمسًا لكنه قطعه متابعًا بصرامته الجادة:
-لو “ليان” جمبك متقولش حرف ليها
سأله رفيقه بتوجسٍ:
-بتقول إيه؟ في حاجة حصلت؟
رد عليه محذرًا:
-مش عاوز شوشرة، زي ما قوتلك، تسمع كويس وتنفذ اللي هاقوله من غير ما مراتك تحس
أتاه صوته متسائلاً بتلهفٍ:
-تمام، خير في إيه؟
-الشقة ولعت عندي، واحنا كويسين، بس طالعين على المستشفى لما يجي الإسعاف، حصلني على هناك
رد بقلقٍ متعجلٍ:
-حاضر، مسافة السكة وهاكون عندك
أنهى “أوس” معه المكالمة دون إضافة المزيد، فالحديث يؤلمه بقسوة، تهدل كتفاه وظهر الإعياء جليًا على قسماته، التصقت به “تقى” لتحتمي به وهي واضعة لرضيعتها على حجرها، شعر بتلك الرجفة التي تملكتها، ففــرد ذراعه رغم الألم الشديد من حركاته الزائدة وغير محسوبة العواقب ليضمها إليه لتشعر بالأمان والاحتواء، طمأنها قائلاً بخفوت:
-متخافيش، عدت على خير
ردت بصوتٍ باكٍ:
-الحمد لله يا رب
لحظات وامتلأ المكان برجال الشرطة ليحققوا فيما حدث، وتحولت البناية إلى حديث من يقطن في المجمع السكني، في تلك الأثناء، خرجت إحدى الجارات –من ذوي الشيبة- من داخل منزلها المواجهة لهما حاملة في يدها إسدالاً للصلاة، اقتربت من “تقى” هاتفة بجدية:
-إلبسي ده يا بنتي!
انخفضت نظرات “تقى” عفويًا إلى جسدها ليعتري وجهها نظرات مصدومة خجلة من ثيابها شبه الفاضحة التي ربما منحت البعض فرصة ذهبية لاختلاس الأنظار إليها رغم تغطيتها بالغطاء، ارتفعت يدها لتتلمس شعرها الذي ثار بتمردٍ فزادت هلعًا وتوترًا، بدا مجيء تلك الجارة الطيبة كطوق النجاة بالنسبة لها، نظر لها “أوس” بامتنان، فقلما تجد من يكون حريصًا على غيره في المواقف الحرجة، عاونتها الجارة في ارتدائه وحملت عنها الرضيعة ريثما تنتهي من ستر جسدها، التفتت “تقى” لتنظر إلى “أوس” بعينين نادمتين ودمعاتها تتسابق من جديد في الانهمار على وجنتيها، سألته بنحيبٍ:
-إنت كويس؟
نكس رأسه وقد نفذ مخزونه من القوى، زفر ببطءٍ قبل أن يجيبها بوهنٍ:
-أيوه، المهم إنتي و”حياة”
منحت “تقى” ابنتها قبلة عميقة حنونة أعلى جبينها قبل أن تقول له:
-احنا بخير الحمدلله
اقترب أحد رجال الأمن مرددًا بلهجة جادة:
-“أوس” باشا الإسعاف وصل تحت، وطالعين
أومأ برأسه دون تعقيب، ثم أشار له بيده ليعاونه على النهوض، فقد ثقل جسده ولم يعد قادرًا على الوقوف بمفرده، استند على كتف الحارس الأمني ليبلغ المصعد وتبعته “تقى” بتمهلٍ، فُتح الباب على مصراعيه فتوقف الجميع عن الحركة لتواجد المسعفون به، هرعوا في التعامل مع “أوس” بعناية فائقة، وما هي إلا لحظات وكان مع زوجته ورضيعته في عربة الإسعاف متجهين إلى مشفى “الجندي”.
……………………..
نظرت إليه بفضول حائر وهي ترى تلك التحولات العجيبة على ملامح وجهه وحتى نظراته، ركزت “ليان عينيها على “عدي” الذي طالعها بنظرات مرتبكة، ادعى الابتسام ليخفي القلق الذي ظهر عليه، سألته باهتمام وهي تراه متجهًا نحو خزانة الثياب ونازعًا ثيابه عنه:
-في حاجة حصلت؟ هو إنت نازل ولا إيه؟
التفت نحوها لينظر لها بحدقتين مضطربتين قبل أن يتنحنح مجيبًا إياها ببسمة متكلفة:
-حاجة تبع الشغل
سألته مجددًا وقد بدت غير مقتنعة بما يقول:
-في مشاكل يعني؟
أجابه بحذرٍ وهو يخرج ثيابه من ضلفته:
-بخصوص الاجتماع، شوية حاجات طالبها “أوس” مني، ما إنتي عارفاه لما يحط حاجة في دماغه
هزت رأسها بتفهم:
-طيب
أسند ثيابه على الفراش ثم انحنى عليها ليحتضن وجهها بين راحتيه قائلاً لها بنبرة مليئة بالدفء:
-حبيبتي، مش هتأخر عليكي برا
تشكل على صغرها ابتسامة مجاملة وهي ترد:
-براحتك
تابع مؤكدًا بجدية:
-المهم تخدي بالك من نفسك لحد ما أرجع، ماتعمليش أي حاجة تتعبي بيها نفسك والباشا اللي قاعد جوا
أخفض رأسها لتحدق نحو بطنها ثم عاودت النظر إليه مرددة:
-أوكي
طبع قبلة رومانسية على شفتيها هامسًا لها بمحبةٍ كبيرة:
-بأحبك يا “ليوو”
ثم تراجع عنها ليلتقط ثيابه وأسرع بالولوج إلى داخل الحمام ليبدلها، تبعته أنظار “ليان” التي رددت بين جنبات نفسها بفضولٍ:
-مش مستريحة، حاسة إن في حاجة غلط
……………………..
تشابكت الأصابع معًا فشعرت بذلك الدفء المطمئن يتسلل إليها ليخفف من وطأة ما عانته قبل لحظات حينما باتت على وشك الموت والتهديد بخسارة فلذة كبدها، حماها المولى وأنقذها زوجها من خطر محتوم غير مكترث بما يمكن أن يصيبه، توترت نظرات “تقى” مع اقترابها من ذلك المشفى الذي لم يكن غريبًا على ذاكرتها وشاهدًا على الكثير من الأحداث المؤسفة، انقبض قلبها بخوفٍ مبرر، فذلك المكان حمل بين جدرانه ذكرياتٍ مؤلمة وضعتها في اختيارات مصيرية، وشكلت الكثير مما أصبحت عليه حياتها الآن، قاومت بشدة سيل الذكريات الذي امتزج مع مخاوفها الطبيعية وحاولت ألا تنبش فيها أو تسترجعها، فلتركز الآن على زوجها الذي يتمدد على الحامل الطبي في وضع لا تعرف بعد خطورته، نظرت إليه بهلعٍ، كان مستكينًا، صامتًا، في وضع لا يبشر بخير، انقبض قلبها بقوة من تكرار المشاهد نصب عينيها وكأنه قد حكم عليها بالمعاناة، تمتمت هامسة:
-ماتسبناش يا “أوس”
شعرت بتلك الضغطة الخفيفة فتسارعت دقات قلبها، تجمدت نظراتها على يده لثوانٍ ثم رفعت رأسها لتحدق في عينيه الغافلتين، انسابت دمعاتها في صمت وهي بالكاد على شفا خطوة من الانهيار، توقفت عربة الإسعاف عند مدخل الطوارئ وتسابق العاملون بالمشفى وعلى رأسهم الطبيب “مؤنس” الذي هدر عاليًا بصرامة شديدة:
-بسرعة انقلوا الباشا على جوا
وبحيطة مدروسة تم دفع الحامل الطبي إلى الداخل ليقوم الأطباء بفحص “أوس” والوقوف على مدى إصاباته، كذلك تولت إحدى الطبيبات مهمة متابعة “تقى” والرضيعة، واصطحبتهما إلى قسم رعاية الأطفال، وهناك عمل الجميع على قدم وساق للتأكد من سلامة الصغيرة، راقبت “تقى” ما يحدث من تدقيق طبي فائق الاهتمام بتوترٍ، خرجت الكلمات من جوفها مهتزة وهي تسأل الطبيبة:
-“حياة” كويسة؟
نظرت لها الأخيرة بغموض قبل أن تجيبها باقتضاب عملي:
-اطمني يا هانم، أنا بأعمل اللي عليا وزيادة!
ثم أشارت لزميلتها بعينيها لتضيف بعدها بصيغة آمرة:
-خليكي مع الهانم برا شوية وأنا هاقوم باللازم هنا
شعرت “تقى” بتلك القبضة التي توضع على كتفها لتجبرها على الاستدارة برأسها للجانب، رأت شابة مبتسمة تطلب منها برقة واحترام:
-هستأذنك تيجي معايا يا فندم
ردت معترضة:
-أنا عاوزة أكون مع بنتي، مش هاسيبها لوحدها
تفهمت عنادها الواضح وأضافت بهدوءٍ متمرس لتثنيها عن رأيها العنيد:
-كلنا هنا موجودين عشانها، ماتقلقيش حضرتك، من فضلك تعالي معايا عشان نطمن عليكي، 5 دقايق وهانكون هنا
اضطرت “تقى” أن ترضخ لها واستدارت خارجة من غرفة الفحص لكن بقيت نظراتها وقلبها مع وحيدتها التي شرعت تبكي، وضعت يدها على صدرها مقاومة هي الأخرى رغبتها في البكاء وهي تتخلى عنها مجبرة، استمرت الطبيبة في دفعها برفق إلى الخارج، ومع ذلك رفضت “تقى” الذهاب معها لتفحصها، أصرت على الوقوف ملتصقة بالجدار الزجاجي الذي يظهر لها ما يحدث بالداخل، تغلغل بداخلها رهبة مفزعة من احتمالية تعرض تلك الضعيفة لمكروه ما بسبب لحظة غباء متهورة منها، اغرورقت عيناها بالعبرات وشوشت الرؤية لديها، وما زاد الطين بلة أنها بمفردها من جديد، عاجزة، لا تقدر على فعل شيء، وزوجها بمكان ما بنفس المشفى لكنها لا تعلم عنه شيئًا، خوف مضاعف تسرب إلى كيانها بالكامل، بدأت ترتجف وهي تستند بكفيها على الجدار لتشعر ببرودة أكبر تصيبها، طمأنها نسبيًا ذلك الصوت المألوف الذي أتى من خلفها مرددًا:
-“تقى”
التفتت كالملسوعة للجانب لتجد “عدي” مسرعًا في خطواته نحوها، توقف بجوارها ليتأمل حالتها الفوضوية بعينين حائرتين، ثم أردف متسائلاً بنبرة أقرب للهاث:
-حصل إيه؟
أجابته ببكاءٍ:
-أنا السبب
لم يفهم مقصدها، فسألها من جديد ليستشف ما حدث منها:
-يعني إيه؟
أجابته من بين بكائها المرير:
-لو كنت سمعته من الأول مكانش ده كله حصل، أنا غيرتي عمتني عن إني أفكر
زفر بعمقٍ مرددًا بحرجٍ:
-أنا مش فاهم حاجة منك يا “تقى”، اهدي كده وفهميني حصل إيه من الأول!
كفكفت عبارتها لتضيف بحنقٍ وقد عادت ذكرى تلك اللطخة التي أفسدت سهرتها الحالمة وحولت كل شيء إلى كابوس مفزع:
-كله بسبب واحدة اسمها “رغد”
انعقد ما بين حاجبيه باندهاشٍ عجيب، فكيف تكون “تقى” على صلة بها وهي لم تلتقِ بهامن قبل؟ لم يدع الأمر يحيره فعاد لسؤالها باندهاشٍ:
-“رغد”، وإنتي تعرفيها منين؟
تنفست بعمقٍ لتسيطر على بكائها حتى تخرج كلماتها واضحة، ثم علقت عليه بنبرة متقطعة:
-معرفهاش، “أوس” كان بيتكلم عنها، وأنا.. فكرته على علاقة بيها
رد “عدي” نافيًا بقوة:
-استحالة، أولاً هي بنت عمه، ثانيًا دي متجوزة وعندها عيال، ثالثًا وده الأهم هي بتاعة مشاكل وجاية تهد كل حاجة عملها “أوس”
شعرت مع كلماته المؤكدة لبراءة زوجها من فداحة غيرتها الحمقاء التي أودت بعائلتها لذلك المأزق الحرج، انخرطت في بكاءٍ جديد أشد ندمًا لتدفن بعدها وجهها بين يديها موبخة نفسها:
-أنا غبية
ضاقت نظرات “عدي” متابعًا بجدية:
-طب و”أوس” فين دلوقتي؟
هزت كتفيها قائلة بخزيٍ أكبر:
-مش عارفة، هما نقلوه هنا وأنا جيت مع “حياة” يشوفوها، أنا السبب، أنا المسئولة عن اللي حصلهم!
تضاعفت نوبة بكائها ليشعر “عدي” بالحيرة من أمره، تنحنح قائلاً بهدوء:
-أنا موجود معاكي، كل حاجة هتبقى تمام يا “تقى”
ردت عليه برجاءٍ وقد أبعدت يديها عن وجهها لتتفع بصرها للسماء:
-يا رب
ظل “عدي” واقفًا بجوارها لبضعة دقائق مستمعًا إلى صوت نحيبها، لم يجد ما يعبر به في ذلك الموقف، عليه أن يكون متماسكًا كرفيقه ليتعامل بحكمة مع ما قد يحدث من تطورات، خرجت الطبيبة من الداخل فاندفعت “تقى” نحوها لتسألها بتلهفٍ وقد زاغت نظراتها:
-بنتي عاملة إيه؟
ادعت الطبيبة الابتسام وهي تجيبها:
-اطمني، هي هتبقى كويسة بس محتاجين نسيبها تحت الملاحظة هنا 24 ساعة
شحب وجهها مع جملتها الأخيرة، اتسعت حدقتاها في رعبٍ مفهوم لأي أم في موقفها لتسألها بفزعٍ:
-يعني إيه الكلام ده؟
ردت بروتينية موضحة سبب إبقائها تحت الملاحظة والمتابعة الطبية:
-ده إجراء طبيعي عشان نطمن أكتر
صرخت بهيسترية وهي تحاول الاندفاع نحو الداخل:
-أكيد حصلها حاجة وإنتي مش عاوزة تقوليلي، أنا عاوزة أشوف بنتي
اعترض “عدي” طريقها ليمنعها من التصرف بحماقةٍ قائلاً لها:
-يا “تقى” اهدي، مش كده! خلي الدكاترة يشوفوا شغلهم
أضافت الطبيبة مدعمة موقفه:
-هاتشوفيها وتطمني يا هانم، بس احنا محتاجين برضوه نطمن على حضرتك كمان
هتفت بنبرة أقرب للصراخ العنيد:
-مش مهم أنا، بنتي عندي بالدنيا كلها
نظرت الطبيبة بحيرة إلى “عدي”، ما خفف من وطأة الموقف هو هتاف الأخير قائلاً:
-د. “مؤنس” هناك أهوو
عند ترديد اسمه عاد ضميرها لتأنيبها بشراسةٍ بسبب أذته عن عمدٍ، همس جوفها باسمه:
-“أوس”!
تحرك “عدي” في اتجاهه ليسأله دون تفكيرٍ:
-خير يا دكتور؟ “أوس” عامل إيه؟
حبست “تقى” أنفاسها بترقبٍ وقد عجزت قدماها عن التقدم نحوه، شعرت أن خنجرًا حاد النصل يضرب قلبها بقوة ليؤلمها، وضعت يدها على فمها لتكتم أي شهقة قد تباغتها وتخرج عفويًا منها إن سمعت ما قد يؤلمها، أجاب “مؤنس” بهدوءٍ عملي وهو يوزع نظراته بين الاثنين:
-الحمد لله، رغم إن الضربة عملت كدمة جامدة وكان ممكن تسبب كسور، لكن ربنا ستر وعدت على خير
تنفست “تقى” الصعداء وشعرت بأن روحها ردت إليها مع كلماته المثلجة لصدرها الملتاع، تمتمت حامدة المولى في نفسها لتجاوزه تلك المحنة، وإلا كانت ستعاني من تأنيب ضميرها لفترة طويلة، ومن عذابٍ جديد يُضاف إلى قائمة معاناتها، أصغى “عدي” بعناية لكل ما يقوله ليضيف متسائلاً باهتمامٍ:
-نقدر نشوفه؟
رد ببساطةٍ:
-أكيد
بدت الفرصة جيدة لـ “عدي” ليسحب “تقى” بعيدًا عن ابنتها بحجة الاطمئنان على زوجها فلا تفتعل أي مشكلة مع طاقم الرعاية الطبي المسئول عن متابعة الرضيعة، أشار لها بذراعه لتتبعه، امتثلت صاغرة له، وسارت بخطوات متخاذلة نحو الغرفة المتواجد حاليًا بها مرددة لنفسها بلومٍ شديد:
-يا ريتني سمعتله، مكانش ده كله حصل!
……………………..
ثقلت خطواتها مع اقترابها من الغرفة المتواجد بداخلها، أحست بتخلي قدماها عن مساعدتها لتزداد مهمتها صعوبة ومشقة، فهي الملامة الرئيسية على ما حدث، تهدجت أنفاس “تقى” وهي تلمح طيفه من خلف الزجاج الكاشف له، ألمها أن تراه على تلك الحالة موضوعًا على الأجهزة الطبية، والشاش الطبي يغطي صدره العاري، لم تظن أن حالته بذلك السوء، اعتقدت أن إصابته طفيفة، لكن ما رأته من خلف الزجاج زاد من إحساسها بالذنب، التقطت نظرات “أوس” عينيها المتورمتين من البكاء المتواصل، رفع يده ليشير لها بالدخول، شجعتها حركته تلك على المضي قدمًا، سبقها “عدي” في خطواته ليطمئن على رفيقه باهتمام كبير، استرسل هاتفًا:
-“أوس” باشا، ينفع كده تقلقنا عليك
لم يجبه الأخير بل كانت نبضاته الصادرة من جهاز قياس ضربات القلب تعبر عنه، بقيت “تقى” في الخلف مترددة في البوح بكلمة واحدة تعبر عن ندمها، انكسرت نظراتها واكتست بعلامات الخزي، اقتربت أكثر منه مطأطأة الرأس، تُقدم قدمًا وتُؤخر الأخرى، تجمدت نظرات “أوس” عليها، كان يحس بما يختلج صدرها من مشاعر نادمة آسفة، أزاح القناع الذي يغطي نصف وجهه مناديًا إياها بصوتٍ شبه متحشرجٍ:
-“تقى”
تلقائيًا ارتفعت عيناها نحوه لتحدق في عينيه العاشقتين لها، تسابقت عبراتها في التجمع عند طرفيها، مدت يدها لتتحسس كفه، ثم انحنت قليلاً بعد أن رفعته إلى فمها تقبلها هامسة له:
-أنا أسفة
سحب يده برفق من بين أناملها المرتجفة ليتلمس بشرتها المبتلة، أضاف بخفوتٍ:
-أنا كويس، متخافيش يا حبيبتي
انهارت باكية وهي تقول:
-حقك عليا، أنا السبب في اللي حصلك!
حاول أن يبتسم لكن بدت ابتسامته باهتة واهنة، سعل بتعبٍ لتزداد رعبًا من اختناقه، سألته بتلهفٍ مذعور:
-رد عليا يا “أوس”
التفتت برأسها نحو “عدي” لتصرخ فيه بهلعٍ وقد اتسعت مقلتاها:
-نادي الدكتور بسرعة
وقبل أن يركض رفيقه ليستدعي من يتفقد حالته، أشار “أوس” بيده قائلاً بجدية رغم انخفاض نبرة صوته:
-مافيش داعي، أنا كويس
احتضنت “تقى” كفه بين يديها، ألصقته بوجنتها رافضة إفلاته، ثم توسلته من بين بكائها الحارق:
-عشان خاطري متعملش فيا كده
نظر لها معقبًا:
-اهدي يا حبيبتي، أنا هابقى تمام
ظللت تتنحنح بنهيجٍ متتابع حتى خف بكائها، سألها من جديد:
-فين “حياة”؟
أجابه “عدي” تلك المرة قائلاً:
-اطمن، الدكاترة عملوا اللازم معاها، هي مافيهاش حاجة
ارتخت تعابير بعد عبارته الأخيرة، ابتلع ريقه في حلقه الجاف ليأمره بصرامة رغم الوهن البادي عليه:
-خد “تقى” و”حياة” على الفيلا عندك، وماتقولش لـ “ليان” على اللي حصل
ردت عليه معترضة بعنادٍ كبير:
-أنا مش هاسيبك يا “أوس”!
عاد ليحدق بها مضيفًا:
-أنا كويس يا حبيبتي، اسمعي بس الكلام و…
قاطعته بإصرارٍ أشد رافضة الإصغاء لأوامره:
-مش هامشي، أنا هافضل هنا جمبك
لم يجادلها كثيرًا، فرؤيتها متلهفة عليه، بل ومقاتلتها للبقاء معه أسعدته للغاية، وملأت قلبه سعادة وغمرته بالفرحة، تلمس بشرتها بأصابعه متمتمًا:
-ربنا ما يحرمني منك
همست له بوجه أشرق مع لمساته الحنون:
-بأحبك
رد عليها مبتسمًا ومقاومًا لتلك النغزة التي أصابته فجأة:
-وأنا أكتر يا “تقى”
تابع “عدي” المشهد الرومانسي الخاص بينهما بنظرات حرجة، تنحنح بصوت مرتفع ليتنبه كلاهما إلى وجوده، ثم استطرد معلقًا بمرحٍ:
-والله بوظتوا فرحتنا، وأنا اللي كنت عاوز أبشرك
رد “أوس” ممازحًا وقاصدًا إثبات حبه لواحدة فقط تربعت على عرش قلبه:
-خير؟ “رغد” ولعت؟
علق نافيًا:
-لأ لسه شوية، بس دي حاجة أحسن
سأله بتعبٍ:
-إيه؟
أخرج “عدي” نفسًا بطيئًا من صدره ليقول بعدها ببسمة عريضة ونظرات لامعة:
-“ليان” حامل يا باشا
اعتلت الدهشة تعابيره المرهقة ليرد متسائلاً:
-ده بجد؟
أجابه بثقة:
-طبعًا، هو احنا بنلعب!
سعل “أوس” مُباركًا:
-مبروك يا “عدي”، أنا أفوق من اللي حصل وهاتصل أباركلها
رفع كفيه معقبًا بحماسٍ:
-براحتك يا باشا، كأنه حصل، المهم سلامتك وتخرج من هنا، مش عاوزينك تطول
أضافت “تقى” قائلة بحرجٍ:
-ألف مبروك يا “عدي”، أنا أسفة بوظت كل حاجة و….
قاطعها “عدي” مبتسمًا:
-حصل خير، وحمدلله على سلامتك يا صديقي!
ثم فرك مؤخرة رأسه مكملاً بعد أن شعر بأن وجوده غير محبب في تلك اللحظات العائلية الخاصة:
-احم .. هاسيبكم شوية مع بعض وهاروح أشوف الدكتور “مؤنس”، ولو في حاجة يا “أوس” كلمني
نظر له رفيقه بامتنان لبديهته، وعلق عليه مرددًا:
-تمام
انتظرته “تقى” حتى خرج من الغرفة لتجلس على طرف الفراش هاتفة بندمٍ:
-أنا كان ممكن أموت لو جرالك حاجة، أنا أسفة، مش هايحصل ده تاني
صمت للحظة ليكتم آهة تعبر عن ألمه من وخزة أخرى قاسية أصابته في كتفه وهو يحاول التحرك على الفراش ليدنو من زوجته، احتقن وجهه وظهر انعكاس الألم في بريق حدقتيه، توجعت لرؤيته على تلك الحالة، مالت عليه لتحتضنه دون أي مقدمات هامسة له:
-سامحني
امتدت ذراعاه لتلتف حولها وتحاوطها، لم تكن ضمته بالقوة لكنها كانت كافية لتُذهب عنها أحزانها الملازمة لها، تراجعت عنه لتطالع وجهه بعينيها الدامعتين، تأملهما “أوس” مطولاً قائلاً لها بتأكيد:
-حبيبتي، لازم تبقي عارفة إنك إنتي و”حياة” أغلى حاجة في حياتي، عمري ما هاخونك، ولا هابعد عنك
انخفضت نظراتها على ذلك الشاش الطبي الملفوف حول صدره، تلمسته بيدٍ مرتجفة، اهتزت شفتاها برعشة خفيفة، شعرت بنغصة تؤلمها وقد أحست بوجعه، ابتلعت غصة مريرة مرددة:
-اوعى تتخلى عني في يوم
ثبت عينيه عليها مؤكدًا بنبرة لا تعرف المزاح أبدًا:
-مش هايحصل!
انحنت نحوه مجددًا لتحتضنه وهي تبكي على كتفه، مسح “أوس” على ظهرها برفق طالبًا منها:
-كفاية يا “تقى”
توقفت عن النحيب وظلت باقية في أحضانه، سمعت صوته يقول بجدية:
-عاوزك بكرة تروحي مع “عدي” عنده يومين
اشتد ضمها له وهي ترد محتجة:
-لأ، مش هامشي من غيرك
أصر على رأيه هاتفًا:
-أنا هابقى كويس، هتلاقيني على آخر النهار خارج من هنا، بس مش هاطمن عليكي وإنتي متبهدلة كده
لم تصغِ له وكابرت قائلة:
-مش عاوزة
يئس “أوس” من محاولة إقناعها بالانتقال ولو مؤقتًا عند “عدي” وأخته، فوجودها هنا لن يريحه بأي حال من الأحوال، سيبقى باله مشغولاً عليها وهو في وضع لا يسمح له بالقيام بأي حركات مفاجئة، لاح في عقله فكرة ما، ربما ستجعلها تتخلى عن عنادها وتلبي أوامره، زفر قائلاً بتمهلٍ جادٍ:
-طب خلاص روحي عند أهلك يومين، بالمرة تشوفي أبوكي وأمك، وأنا هاجيلك أخدك من هناك بس أكون ظبطت المكان اللي هانقعد فيه
ردت عليه رافضة:
-رجلي على رجلك، أنا ….
قاطعها بإصرار صارم:
-“تقى” اسمعي الكلام، أنا مش عاوز أجبرك على حاجة، بس ده في مصلحتك، وعشان بنتنا، مش لازم تتعبيني!
أبعدت جسدها الملتصق بصدره لتنظر إليه بتوترٍ، كانت عيناه جادتان للغاية، لم ترغب في إثارة غضبه بعد كارثتها الأخيرة، هزت رأسها مرددة باستسلام:
-حاضر يا حبيبي، هاعمل اللي إنت عاوزه
خفت حدة نظراته لتعبر عن ارتياحه بانصياعها له أخيرًا، تصنعت الابتسام متسائلة برقةٍ:
-ينفع أنام جمبك؟
لم يجبها بل أفسح لها قليلاً لتتمكن من الاستلقاء على ظهرها إلى جواره، حاولت “تقى” ألا تُثقل بجسدها عليه، واكتفت بمحاوطة صدره بذراعها، سألته بخوفٍ:
-كده بيوجعك؟
رد نافيًا:
-لأ
مال برأسه نحوها ليتأمل وجهها عن كثب، راقبها في صمتٍ حتى غفت بجواره ليستمع إلى انتظام أنفاسها، اعتلى ثغره بسمة راضية لقربها منه، تمنى لو ظل كلاهما هكذا للأبد رغم حدسه الداخلي بأن ما حدث اليوم ما هو إلا مقدمة بسيطة لكوارث أخرى ستضع عائلته على المحك وفي مواجهة مباشرة مع مخاطر جمة ……………………..
……………………..