رواية الحبُ.. أَوْس
رواية الحبُ.. أَوْس
جميع الحقوق محفوظة للكاتبة منال سالم
رواية الحب أوس
الفصل الأول
لهثت وهي تركض صعودًا على الدرج لتصل إلى الطابق المتواجد به منزلها، لم تحبذ مطلقًا الاختلاط بأمثاله من العاطلين عن العمل ومحدثي الشغب، كانت لها أحلامها، أطماعها البسيطة، وأمانيها، دقت “هالة” الباب بدقات ثابتة منتظرة فتح والدتها لها، تفاجأت بوجود أختها الكبرى “بطة” بالمنزل، ارتسم على شفتيها ابتسامة عريضة مرحبة بها:
-إنتي هنا، وحشاني يا “بطة” أوي
احتضنتها أختها عند عتبة المنزل قبل أن تفسح لها المجـال لتلج إلى الداخل، سألتها “هالة” بفضولٍ متحمس:
-أومال “سمسم” حبيبي فين؟
أجابتها بتعبٍ:
-نايم جوا على السرير، أنا مصدقت أرتاح شوية من دوشته
ردت بنفس الابتسامة الهادئة:
-ربنا يحفظهولك، ده جه بعد غلب
أخرجت “بطة” زفيرًا طويلاً حمل معه الكثير من التأوهات المؤلمة، للحظة تذكرت ما خاضته من معاناة شنيعة مع حماتها ونهاية كادت تقضي على أنوثتها، ردت بوجه متجهمٍ للغاية:
-ماتفكرنيش، هو اللي حصل فيا كان قليل، منها لله “إحسان”، ربنا يخلص منها و…
قاطعتها “هالة” بأسفٍ:
-مايجوزش عليها دلوقتي إلا الرحمة
اضطرت “بطة” أن تبتلع باقي كلماتها الحانقة في جوفها، فلو ترك لها العنان لصالت وجالت في مساوئها، سألتها أختها باهتمام:
-وفين “عبده”؟
أجابتها بعدم اكتراث:
-عنده كام شغلانة بيخلصها، أهو كل يوم بحال
سألتها مهتمة:
-يعني إنتي أعدة معانا؟
ردت مبتسمة:
-لحد آخر النهار
ربتت على كتفها مرددة بسعادة ظهرت في تعبيراتها:
-كويس والله
وقبل أن تثرثر بالمزيد خرجت “أم بطة” من داخل المطبخ وهي تحمل فيها قطعة قماشية بالية، جففت بها يديها المبتلة وهي تهتف بامتعاضٍ:
-ما بتصدقوا تتلموا إنتو الجوز على بعض وهاتك يا رغي
ردت عليها “بطة” بضيقٍ:
-في إيه يامه، مش بأطمن على البت “هالة”؟!
لوحت بذراعها صائحة بتهكمٍ:
-ما هي زي القردة قصادك
أخفت “هالة” ضيقها من أسلوب والدتها التهكمي الدائم على شخصها، فهي دومًا تثبط من أقل شيء تفعله، وكأنها تتمنى لها الفشل لتثبت صحة وجهة نظرها، على عكس ابنتها التي تسعى للخروج من القالب الفكري المتدني والسائد في عائلتها وأغلب قاطني منطقتها الشعبية لتثبت أنها أكثر نضجًا وعقلانية وتستحق الأفضل والأرقى، أخرجت من حقيبتها المدرسية ورقة فاخرة، برقت نظراتها وهي ترفعها في وجه والدتها قائلة بتفاخرٍ:
-على فكرة أنا خدت شهادة تقدير النهاردة من المديرة عشان ….
قاطعتها بعبوس محبطٍ لها:
-وهما اللي فلحوا في العلام خدوا إيه، شيلي القرف ده
اختفت تلك الإشراقة السعيدة من على ملامحها لتنظر بيأس حزين إلى أختها التي استشعرت حالة الضيق التي تمكنت منها، صاحت “بطة” محتجة بقوةٍ:
-ماتسبيها يامه تفرح بنجاحها، ولا عاوزاها تخيب خيبتي
ردت عليها والدتها ببرود قاسٍ:
-إنتو كوم لحم في رقبتي، هاخد إيه أنا من حتة ورقة زي ده، هاتدفع مصاريف إخواتك؟
لطمت على صدرها متابعة عويلها:
-ما أنا لوحدي في الهم ده كله، محدش فيكوا حاسس بيا، أنا اللي بأشقى وبأطفح الكوتة وإنتو ولا هنا
ترقرقت العبرات بقوة في حدقتي “هالة”، لم تعرف بماذا تجيب أمها، أرادت فقط أن تشعرها بالفخر وبقدرتها على تحقيق النجاح دون أن تحملها أعباءً إضافية، لكنها بكلماتها الموجعة قتلت فرحتها ونغصت عليها سعادتها المؤقتة، انسحبت من المكان مانعة نفسها بصعوبة من البكاء أمامها لتختفي بالداخل، شعرت “بطة” بما اختلج صدر أختها وخنقها على الأخير، صاحت بتذمرٍ وقد احتدت نظراتها:
-خلاص يامه، مكانتش كلمة قولتلها، كده تكسري بخاطرها
ردت غير مبالية:
-هو أنا ناقصة
ثم تركتها وانصرفت لتكمل باقي عملها بالمطبخ، لحقت “بطة” بأختها لتطيب خاطرها، وجدتها منزوية على الفراش تضم ركبتيها إلى صدرها وتبكي في صمتٍ، جلست إلى جوارها ثم مسحت بودٍ على كتفيها قائلة بها بتشجيع:
-متزعليش نفسك، أمك وده طبعها، هنعمل فيها إيه
ردت بنحيبٍ:
-بس أنا مغلطتش، أنا كان غرضي أفرحها
دلكت “بطة” ذراعها لتقول بجدية قاصدة الشد من أزرها:
-“هالة” ركزي في دراستك وملكيش دعوة باللي أمك تقوله
ثم مدت يدها لتمسح دمعاتها متابعة بتأكيد وبحسمٍ:
-خليكي أحسن مني، إنتي مخك نضيف، ومستقبلك قدامك، متدفنيش نفسك في الوحل عشان أي راجل، بصي لنفسك وبس، سمعاني
وكأن في كلماتها المحفزة لها البلسم الذي أطرب صدرها وأثلجه، ردت وهي تهز رأسها بالإيجاب:
-حاضر
احتضنتها “بطة” من الجديد ماسحة على ظهرها برفق وكأنها ترى في نفسها تجربة أخرى كارثية على وشك أن تتكرر إن لم تكافح بشراسة للحول دون حدوثها.
……………………..
نظراته الحانقة ملأت حدقتيه وتشعب غضبه في عروقه فجلس في المقعد الخلفي بالسيارة مشدودًا متأهبًا للتشابك مع من قد يتفوه بكلمة قد تنزع فتيل غضبته، فوالده “سامي الجندى” قد زج به في السجن بعد إيقاع ابن عمه به، وانتزعت أملاكه منه في الوقت الذي تعذر عليه العودة إلى القاهرة حتى حكم عليه وفقد الأمل كليًا في خروجه، ركز “يامن” عينيه على الطريق الذي اختلف إلى حد ما عن آخر مرة تواجد بها هنا، حدق أمامه ليطالع السائق بنظرات صارمة قبل أن يسأله بتشنجٍ ظاهر في نبرته:
-إنت رايح فين؟ ده مش طريق الفيلا
أجابه السائق برسميةٍ حذرة:
-معايا أوامر من “أوس” باشا إني أودي سيادتك فندق 7 نجوم
رد متسائلاً بحدة أكبر:
-وليه مش الفيلا؟
حافظ السائق على هدوئه معلقًا:
-معنديش معلومات يا فندم
ضغط “يامن” على أصابع يده المتكورة بغيظٍ، استدار ليحدق في الطريق من جديد محدثًا نفسه:
-ماشي يا “أوس”، أنا رجعت خلاص ولازم كل واحد ياخد حقه!
فرك طرف ذقنه بيده المضغوطة عاقدًا العزم على استعادة ما يخصه، فرغم سنه الذي لا يتجاوز الثالثة والعشرون إلا أنه يحظى بالسمة الرئيسية لعائلة “الجندي” القسوة والصرامة لتحقيق ما يريد مع امتزاج عناده المخيف بالهيبة والتمرد، لوح له “يامن” بيده آمرًا:
-اطلع على شركة “الجندي”
اعترض السائق بلباقةٍ:
-بس يا فندم آ…….
صاح به بصرامةٍ:
-اللي قولته يتنفذ، مش واحد زيك هايقولي أعمل إيه
رد معتذرًا:
-أسف يا فندم، اللي تؤمر به
……………………..
حركت رأسها بصورة فجائية لتمنعه من تقبيلها وكأنها تتدلل عليه لتزيد من لهيب اشتياقه، ابتسم لها قبل أن يكرر المحاولة وينحني على شفتيها فأدارت رأسها للجانب الآخر وهي تكتم ضحكة متسلية عابثة، أغاظه الأمر فعمد إلى تثبيت ذراعيها أعلى رأسها، رفع “أوس” حاجبه للأعلى ليرمقها بنظرة ذات مغزى، تراجع برأسه مسافة قصيرة لتتمكن “تقى” من التطلع إلى عينيه بحدقتيها الزرقاوتين، نهج صدرها علوًا وهبوطًا من التوتر الخجل، كانت مدركة أن نظراته لا تحمل المزاح ولن تقبل به، همست له بوجه متوردٍ من حمرة الحب:
-“عفاف” موجودة، تقول علينا إيه؟ المفروض …
قاطعها “أوس” بصرامة لا تليق إلا به:
-وإيه يعني؟ في لحظة يكون كل اللي في البيت بــرا، أنا مبهزرش!
عضت على شفتها السفلى هامسة بتردد مرتبك:
-“أوس”، بلاش
سألها بوجهٍ جامد الملامح:
-قولتي إيه؟
توجست خيفة أن يكون تمنعها الخجل في ذلك الوقت تحديدًا قد أغضبه بشكل أو بآخر، ردت عليه بحذرٍ وقد ظهر الارتباك في نبرتها:
-أقصد .. مافيش داعي
بدا صوته عميقًا وهو يسألها بنفس الجدية:
-اللي قبلها!
ابتلعت ريقها قائلة بنظرات متوترة ووجه قد شحبت حمرته قليلاً:
-“أوس”
اعتلت ملامحه ابتسامة عذباء تذيب القلوب متوددًا لها:
-قوليها كمان مرة
بادلته ابتسامة ارتياح، للحظة ظنت أنها أحزنته، لكنها كانت مخطئة، فهو يعشقها حد الجنون، تسرب حبها في خلاياه حتى باتت أنفاسه تنطق باسمها، سألتها بوجهها الذي عاد لتورده:
-للدرجادي بتحب تسمع اسمك؟
أجابها بثباتٍ قبل أن يحني رأسه على شفتيها لينهل منهما قبلة عميقة:
-منك إنتي وبس
زاد من تعميق قبلته لتشعر بعضلة قلبها تتراقص، وبحواسها تنتفض، وباستجابتها وجدانيًا بتلهفٍ ورغبة لما يمنحه لها من مشاعره الصادقة، استسلمت للحظات لتيار حبه الجارف حتى تأهبت حواسها واستيقظت مع شيء ما التقطته أذنيها، قالت بصوتٍ يكاد يكون مسموعًا:
-باين “حياة” بتعيط
رد بهدوءٍ:
-أنا مش سامع حاجة
دفعته “تقى” من صدره بكفي يدها لتتمكن من الهروب من تأثيره المحفز لجوارحها، انسلت من بين أحضانه لتتراجع على الفراش مرددة بتأكيد وعينيها تشعان بريقًا مثيرًا لتقول له بدلالٍ:
-بس أنا سامعاها
رمقها “أوس” بنظرة متوعدة وهو يعتدل في نومته موسدًا ساعديه خلف رأسه:
-تمام، أنا سايبك بمزاجي دلوقتي، عشان “حياة” نقطة ضعفي
كتمت ضحكتها العابثة بصعوبة فتابع بتأكيد وبلهجة تعرفها جيدًا:
-بعد كده مش هاتعرفي تهربي مني، وإنتي فهماني كويس
أومأت برأسها في خنوع:
-ماشي يا “أوس” باشا
ضبطت من هندامها قبل أن تخرج من الغرفة ليلتفت بعدها أوس إلى الجانب حيث هاتفه الموضوع على الكومود، تفحصه سريعًا ثم ضغط على أحد الأزرار ليهاتف أحدهم متسائلاً:
-ألوو، إيه الأخبار؟
بدا وجهه غير مقروء التعبيرات لدقيقة وهو يصغي بانتباه لكل كلمة يسمعها من الطرف الآخر قبل أن يرد بجدية:
-أنا جاي الشركة
نهض عن الفراش متجهًا إلى الحمام ليغتسل قبل أن يبدل ثيابه، ففي مقر مؤسسته ينتظره من توقع مجيئه منذ وقت طويل.
……………………..
حك ذقنه النابتة بغير تهذيب وهو يجوب أروقة المنزل متفقدًا كل غرفة فيها على حدا، ورغم كون الأثاث قديمًا به ولم يباع مثل أي شيء آخر إلا أنه لم يبدِ اعتراضه عليه، التفت “منسي” نحو مالك البناية واضعًا قناع التأفف على تعابيره ليخفي عن عمدٍ إعجابه بمنزل “حكمت”، فقد دار في خلده فكرة تأجير المنزل بعد انتقال والدة عشيقته القتيلة للسكن في منزل آخر، بقي المكان مهجورًا، وصاحبه لم يهتم بتأجيره طوال الفترة الماضية حتى أشعل “منسي” الفكرة في رأسه، مدح مالكه المنزل مرددًا:
-أديك شايف أهوو، البيت حالته كويسة و….
قاطعه “منسي” محتجًا:
-حالة إيه دي يا عمنا، إنت مش شايف الشقوق اللي ناطة من العماويد ولا الرطوبة اللي كلت الحيطان
رد عليه ببساطةٍ:
-فرشة معجون وكل ده يتحل
اعترض بازدراءٍ:
-وهو أنا معايا أكلف وأوضب في حاجة بايظة، دي ماتنفعش خالص، أنا هاروح أشوف غيرها
أولاه “منسي” ظهره ليتجه نحو باب المنزل لكن استوقفه مالك البناية يرجوه بشدة عله يتمكن من إقناعه بتأجير ذلك المكان الخرب:
-الكلام أخد وعطا
أزاح قبضته من على ذراعه مرددًا بنبرة جافة:
-مايكلش معايا
سأله المالك مستسلمًا:
-طيب إنت عاوز إيه يا “منسي”؟ قولي على اللي في دماغك
أجابه بعد تفكيرٍ متأنٍ ليضمن وقوعه في مصيدته:
-لو هاخدها يبقى على قديمه
ضاقت نظراته متسائلاً:
-قصدك إيه؟
أجابه موضحًا:
-زي ما كانت “حكمت” بتدفعلك يا حاج
اعترض عليه بحذرٍ:
-بس الإيجارات علت و….
قاطعه بجدية وهو يسرع في خطواته:
-بين البايع والشاري يفتح الله، سلام
لحق به المالك متوسلاً برجاء أكبر كي لا تفسد البيعة:
-استنى بس، احنا لسه بنتكلم
التفت نحوه ليضيف ببرودٍ:
-ده آخر ما عندي، بس مش هتلاقي زبون للمخروبة دي، وخليها في عبك!
نكس الأخير رأسه ليحسم أمره سريعًا، فقد مرت أشهر على رحيل ساكنة المنزل دون أن يتقدم أحد لتأجيره بسبب حالة البناية المتهالكة، وقدم المنطقة الشعبية وتدني الخدمات بها، تنهد قائلاً بتخاذل:
-اللي تشوفوه يا “منسي”
تقوس فمه بابتسامة انتصار صغيرة، شعر بالانتشاء لكونه قد ظفر بالمنزل دون مجهود يذكر، عليه فقط أن يعيد توضيب ما فيه ليغدو منزلاً ملائمًا للزوجية، خاصة أنه قد وجد ضالته بين فتيات المنطقة ممن لن يستطيع أهلها رفضه.
……………………..
تأمل بنظرات متهكمة ما تم إضافته من تعديلات بداخل مكتبه الفاخر ليتحول إلى ما يشبه روضة الأطفال، تلمس “يامن” بيده الألعاب الطفولية التي تغطي مساحة معينة من زاوية غرفة اجتماعات ابن عمه وهو يفكر في كيفية تحوله بتلك الطريقة ليصبح أكثر سخافة وأكثر تراخيًا عن ذي قبل، “أوس الجندي” الذي عرف عنه بهيبته المرعبة، وطلته التي تلبد الأبدان وتوقف القلوب لمجرد سماع اسمه، ببساطة تبدل هكذا ليكون ما عليه الآن، يمكنه تصديق أي شيء إلا هذا، زفر “يامن” مطولاً وهو يستدير بجسده ليعود إلى مقعده ليجلس عليه منتظرًا قدومه، أخرج من جيبه علبة سجائره ليشعل واحدة، بحث عن منفضة للسجائر فلم يجد، وتعجب لذلك، فابن عمه معروف عنه بشراهته للتدخين، اهتز هاتفه الموضوع على سطح المكتب، أمسكه بأطراف أصابعه ليحدث بوجه ممتعض في اسم المتصلة، تنهد بزفير ثقيل قبل أن يضغط على زر الإيجاب ليقول بنبرة مزعوجة:
-أيوه يا “رغد”!
أتاه صوتها الحاد مخترقًا أذنه وهي تصرخ به:
-عملت إيه مع ابن عمك؟
رد باقتضابٍ:
-لسه ماقبلتوش
صرخت به منفعلة متعمدة الإشارة لاقتراضه منها:
-أومال بتعمل إيه كل ده؟ أنا مدفعتلكش تمن تذاكر الطيران وسددت ديونك عشان اسمع منك الكلام ده، لازم تشوف حل معاه، مش هاتسيبه يفلت باللي عمله في بابا
لم تكن أخته الكبرى في مزاج قابل للتراخي أو التريث فيما أرادت فعله، كانت بحاجة لحسم جميع الأمور العالقة، فكلاهما انتقل للعيش في الخارج قبل فترة طويلة ليعودا في العطلات إلى فيلا والدهما “سامي”، لم يدخر الأخير وسعه وأنفق أغلب ما بحوزته على رفاهية الاثنين، بغض النظر عن تبعات جرائره الخارجة عن القانون في كثير من الأحيان مما لا يعرفها أحدهما، رد بعبوسٍ كبير بعد أن نغصه حديثها اللاذع:
-حاضر يا “رغد”، مش لازم تفكريني، وقولتلك هاسددلك كل ديونك
صاحت به بنفس الحدة:
-إنت بتاع كلام وبس، مش سائل في حاجة و…
مل من صراخها غير المنتهي فتحجج ببرودٍ:
-مش سامعك يا “رغد”، الصوت بيقطع، هاخلص وهاكلمك، سلام
أغلق هاتفه ليلقيه بعصبيةٍ على المكتب وهو يتمتم بتبرمٍ:
-أنا ناقصك إنتي كمان!
ظل يحرك ساقه بعصبية متلفتًا حوله بنظرات متوترة ومرددًا لنفسه:
-أما نشوف هترسى معاك على إيه يا “أوس”!
……………………..
في تلك الأثناء، توقفت سيارته الفارهة أمام مدخل مقر مؤسسته ليترجل منها أحد حراسه متوليًا فتح الباب لرب عمله، ترجل “أوس” أولاً متابعًا بنظراته “تقى” التي أتت معه وبصحبتهما رضيعتهما “حياة”، أرادت زوجته الاطمئنان على صحة ابنتهما والقيام بالكشف الشهري عند طبيب الأطفال المتخصص، لم يرغب زوجها في ذهابها بمفردها، كان حريصًا على الاهتمام بتفاصيل قطعة غالية من قلبه، لذا أصر على إحضار الاثنتين معه لتجلسا بانتظاره في مكتب السكرتارية ريثما ينتهي من أعماله العالقة، اصطحب أيضًا الخادمة “ماريا” والتي أتت في سيارة الحارسة لتعاون زوجته في رعاية الصغيرة، سار الجميع باتجاه الاستقبال تأهب الموظفون للقاء صاحب المؤسسة الذي لا يسمح أبدًا بالمزاح أو يتهاون فيما يخصه، وطأت “تقى” بقدميها المكان، مازالت تشعر بنفس الرهبة تعتريها وهي تمر عبر بواباته وأروقته، ظلت ذكرياتها هنا تراودها بين الفنية والأخرى، استجمعت جأشها لتتغلب على رجفتها الطفيفة وضمت طفلتها إلى صدرها مستجمعة قوتها منها، هبت السكرتيرة واقفة من مكانها لترحب به قائلة برسمية حذرة:
-اتفضل يا فندم، كل حاجة جاهزة زي ما أمرت، والـ …
قاطعها مشيرًا بكف يده وبنظراته الصارمة فابتلعت باقي جملتها في جوفها، التفت “أوس” نحو “تقى” ليقول لها بصيغة آمرة:
-استني هنا، هاخلص شغلي وأجيلك
أومأت برأسها إيجابًا ثم مررت نظراتها سريعًا على المقاعد الشاغرة لتنتقي الأبعد والأكثر عزلة لتجلس عليه، اندفع “أوس” نحو غرفة مكتبه ليقابل ابن عمه الذي ينتظره قبل برهة بالداخل، اشتمت أنفه تلك الرائحة التي حرمها على نفسه قبل أشهرٍ حينما كاد دخان سجائره أن يصيب زوجته بالاختناق في أشهر حملها الأخيرة، تحفز للغاية ومع ذلك حافظ على جمود تعابيره وثباته، رمق ذلك الشاب الحانق بنظرة مطولة شملته من رأسه لأخمص قدميه قبل أن يسأله بنبرة شبه ساخرة:
-والمرادي جاي بأوامر مين يا “يامن” بيه؟ متقولش من نفسك!
رد عليه ابن عمه بغيظٍ:
-ماتستقلش بيا يا “أوس”
رمقه بنظرة باردة خالية من العطف، استدار نحو مكتبه ليجلس عليه متسائلاً بجمودٍ وكأن مشاعره الإنسانية تم إزالتها مؤقتًا:
-مقولتش جاي ليه؟
صاح به صارخًا بانفعال وقد استشاطت نظراته وبرزت عروقه الملتهبة:
-فين حقي؟
رد متسائلاً بهدوءٍ مستفز يشعل الأجساد حنقًا:
-في إيه بالظبط؟
أجابه هادرًا:
-في كل حاجة تخص بابا
جلس “أوس” باسترخاءٍ على مقعده دون يرفع نظراته التي عادت لقسوتها من جديد عن “يامن”، رد بهدوء يستثير الأعصاب:
-اللي أعرفه إن عمي “سامي الجندي” مايملكش حاجة
ضرب “يامن” بكفيه بعصبية على السطح الزجاجي لمكتبه صائحًا بتشنجٍ وقد تطاير الشرر من حدقتيه:
-إنت هتورثه بالحيا؟!
هنا اعتدل “أوس” في جلسته ليبدو أكثر صلابة وهيبة حتى في جلوسه، تجمدت عيناه الصارمتين على وجهه ليقول بلهجته القوية:
-عندك، أبوك مكانش أكتر من مجرد شريك فاشل سرقني، ده غير طبعًا نيته إنه يقتلني
ورغم الصدمة التي حلت على رأسه من كلماته الأخيرة –والتي تضمن حقائق لم يعرف عنها شيئًا- إلا أنه رد بانفعالٍ كمحاولة بائسة لحفظ ماء وجهه:
-كل ده مايدكش الحق تستولى على حاجاتنا، يعني إيه معرفش أروح بيتي، ولا إنت نسيت نفسك يا “أوس”؟ إنت ولا حاجة من غيرنا!
هب الأخير واقفًا من مكانه راكلاً مقعده للخلف ليتبدل إلى الشخص الذي كان عليه منذ زمنٍ، فهناك خط فاصل بين الهدوء والصرامة، بين اللين والشدة، بين المسامحة والانتقام، التوى ثغر “أوس” للجانب ليتحدث بخشونةٍ تدب الرعب في القلوب:
-ماتخلقش لسه اللي يقول كده عني ……………………..
……………………..
يتبع >>>>>>>