زوجتي طفلتي للكاتبة يارا الحلو
17
اقتربت بخطواطها المضطربة , تقدم قدمها اليمني تؤخر بالاخري لخلف , التربك و الذعر يتصارعان علي ملامح وجهها البريئة , وقفت امامه ..تلك العينين الحادة تنهش وجهها المذعور , قلقها و اضطرابات ملامحها تؤكد له ما رأي لتو..
همت بالحديث بلسان ثقيل تلفظ منه الكلمات اجباري :
-مازن انت واثق فيا و…
قاطعها صارخًا بأنفعال :
-انتي ليكي عين تكلمي كمان..
اشتد اقترابه منها و عينيه تتوعد لها بالعذاب المرير , عادت بخطوة الي الخلف و هي تحاول تبرير موقفها بتلك الشفاتين المرتجفتين :
-ايوة عشان انا مغلطش و انت عارف كدة صح..
و في لمحة البصر , كان كفه الضخم قد سكن علي وجهها بلا اي رحمة , تلك الصفعة القوية اللقت بجثتها علي الارض بقوة..من صدمة موقفها لم تستطع الصراخ او حتي طلب النجدة..
تأوهت بأنين صامت يصرخ بألم بداخلها , شعرت بيده تقبض علي شعرها بعنف و تديره ناحيتها لكي تقابل عينيه التي كانت يومًا موطن للأمان لها..
نظرت اليه , حاولت استنجاد نفسها منه بعينين متألمة , صرخ بها بالاهانات و السب اخذ يلعن بها ويتهمها انها خائنة..خائنة لقلب ادمن انفاسها..
حاولت تملص نفسها منه بين قبضتي يده و قد عاد صوتها الي الحياه مرة اخري لكي نتطلق تلك الصيحة المكتومة و تدفعه بعنف عنها..
لكن كيف لهذا العصفور الهروب من قبضة الاسد في وقت ثوره !
اسرع بصفعها باللكمات العديدة غير مراعي مدي تأثر جسدها بتلك الضربات العنيفة , انها حتي لا تجد وقت لدفاع عن نفسها و مصارعته كما يصارعها..اكتفيت بالصراخ المتواص..كان متمتع بصيحات طفلته المسكينة , كاد يكسر عظمها بكثرة ضرباته بقبضة يد..
جُن في التعانف معها كما جُن في عشقها..برئ العقل نفسه من تلك الجريمة في حقها فكان المعتدي الوحيد ذالك القلب المفكر بعاطفته..
لا يعرف كيف ارتكب تلك الجريمة ؟ فقد فاق من ضرباته علي صوت الهاتف يرن بتواصل , ابتعد عنها برفق لكي يجدها تحاوط جسدها بذراعيها و عينيها تدمع دماء من اثر كثرة الكدمات علي وجهها , ثغرها يتأوه و يطلق “آه” صغيرة تزعج اذنيه..احجبت عينيها عنه و اخفضتها للأرض لترك العنان لدموعها بالبكاء بِجد..
اطاح بيده كوب المياه و دفع الكرسي بقدمه ككرة القدم , لقد جن بالفعل , كيف بها بهدم حبهم و خيانته..خائنة كانت لا تفارق احضانه بعطر ذالك اللعين الاخر..ضرب بكلتا قبضتي يديه علي الطاولة و هو ينوح بألم..هذا الاسد ينهار تسحب روحه ببطء يشعر بطاقة رغم ضعف قلبه..
اخذ يمد خطواطه و هو يصيح بها بأعلي ما لديه :
-انتي متعرفيش انا عملت اية عشان اوصلك و تبقي معايا…متعرفيش حصلي ايه عشان تبقي في بيتي دلوقتي..انتي متعرفيش بالي عملتيه دة عملتي فيا اية..
اللقي علي وجهها صفعة عنيفة , لم تكن هناك اي وسيلة لتبرير نفسها , كانت تبكي بشجن و قلبها يحترق وجعًا..
اعاد ضرباته لها بعنف اكبر , لكماته لا تتوقف بل تتضاعف يخرج كل طاقته علي صغيرته , كانت ترجوه التوقف بصراخها المتواصل , تصرخ فقط بتلك الكلمة “كفاية” , شعر بأنه سيفقد السيطرة علي اعصابه و سيفقدها بلكماته القاسية..هدئ من روعه لثوانٍ معدودة , لينهض مرة اخري مقتربًا منها..حاصرت وجهها بذراعيها و الذعر يلتهم كلتا عينيها البارقتين دموعًا و ألمًا من كثرة الضربات المتتالية..فجأة جذبها من ذراعها بعنف لكي يجرها بقوة نحو غرفة صغيرة مظلمة , كانت ترجوه ان يتركها تصرخ تريد النجاه من ذالك المتعجرف العنيف لكن لا حياه لا تنادي..
اللقاها كالدمية القطنية علي الارض و خرج مسرعًا من الغرفة و هو يغلق الباب بالمفتاح , تركها وحيدة في تلك الغرفة المظلمة , يدرك جيدًا ان فوبيا الظلام تخيفها , هل يتعمد اخافتها بتلك الطريقة ما ان شعرت بالوحدة في تلك الصدمة..لتضع كفيها علي اذنها و تبكي بقوة وهي تغمض عينيها..شعرت بالجنون من تلك الظلمة التي ابتلعتها بصدر رحب , اسرعت الي الباب و اخذت تطرق بكل عنف و هي تصرخ بهستيرية :
-افتح الباب متسبنيش هنا..افتح لي الباب…افتحوا بقولك..متسبنيش ارجوك..صدقني محصلش حاجة…
و اخذت تطرق بعنف اقوي بكلتا كفيها :
-صدقني ونبي..افتح لي الباب يا مازن..
جلست بتعب علي الارض و هي تردف بضعف :
-متسبنيش لوحدي وحياتي عندك ما تسبني..انا خايفة..
استطاع التماسك , لقد كسو قلبه القسوة تجاهه , اصبحت في نظره الخائنة سمر , يشعر بـ..بأنه عاد مازن القديم مرة اخري , بذالك القلب الذي توعد بعد عودته مرة اخري..لكن تلك الفاتنة تحي الميت…لم يجد حل ينقذه الا الفرار من ذالك الصياح و تلك الضوضاء التي تصدرها بنواحها..نواحها يشبه نواح الطفل الذي سلب منه حلوته..
اللقت جسدها علي ذالك الفراش المملوء بالتراب و الحشرات الصغيرة , غرفة صغيرة توعدوا ان تصبح لأول طفل سيرزقهما الله به..
دفست رأسها بين الوسادة و هي تبكي بتألم , لم تؤلمها الالم الجسدية كألم قلبها تجاهه , كيف له بتصديق تلك الاكاذيب ؟ كيف له بتصديق بأنها تركت قلبها لرجل غيره ؟ كيف له بتصديق انها ستسعد بين احضان رجل اخر ؟
لقد شك في عشقها البرئ له , لقد شك في شرفها , لقد قتلها بـسُم الشك و الاتهامات و مع شديد الأسف هذا السم مفعوله سريع..
عاد الي المنزل مع شروق الشمس في كبد السماء , شعر بالراحة حينما سهر لساعات متواصلة متوجل في شوارع القاهرة المزدحمة و شفاهه تتمسك بسكيارة , يزفر انفاسه المتلوثة في الهواء الطلق , قلبه الرقيق قد اللتهمه ذالك الوحش المسمي بـالخيانة..
دلف الي المنزل و لم يسمع اي من صوتها , الا حينما مر بجانب الغرفة , ليسمع صوت بكاء و قطة تتألم و تموء برقتها المعتادة..تجاهل وجودها و قد ظهر الاقتطاب علي حاجبيه , دلف الي غرفتهما واسلتقي علي فراشه مستعد لسحر النوم..لكن المسكين كان مخطئ فما ان اغلق جفونه مستسلم لاحلامه الوردية كي تفر دمعة وحيدة سريعة , امتصتها خديه قبل ان تتوسد الوسادة..
اصر معاندتها حتي مات قلبه النابض بعشقها تركها ثلاثة ايام في غرفة الاطفال البائسة التي لا تنبض بروح الحياه , غرفة كئيبة كـحياتهما الآن..
كان صامت طوال تلك الايام لا يذهب لأعماله لا يجيب علي المكالمات , يتسكع في شوارع القاهرة ليلًا حتي نسي وجود سمر في المنزل معه..
و في احدي الايام..
بينما هو مستلقي علي فراشه , يتأمل سقف غرفته بصمت حتي سمع رنين جرس الباب يطرق بقوة , هم واقفًا بكسل ليري الطارق..
فتح الباب كي يجد والدته مني , قد عقدت حاجبيها بعبوس و هي تعتابه :
-كدة يا مازن تقلقني عليك كل دة..مبتردش علي التليفون لية كل دة..و لة انت و لة سمر بتردوا في اية..
ثم نظرت في انحاء المنزل باشمئزاز :
-هو مال البيت عامل كدة لية..
رفع كتفيه بعدم اهتمام قائلًا بصوت ضعيف من اثر الصراخ :
-اتفضلي يا ماما استني اجبلك مية تشربيها..
شعرت بهدوء غير معتاد اين تلك المشاغبة التي تركض اليها بقوة و ترتمي في احضانها , تلك الحركة الطفولية التي كانت تعتادها من مازن و هو في السادسة من عمره..كانت يعيدها عناق سمر لـايام الماضي..
-هي فين سمر..
صمتت لفترة قصير ليتنهد ببرود و هو يصنع عصير برتقال لضيافة والدته :
-سمر نايمة تعبانة من الدروس..ادخلي صحيها
ثم اشار بعينيه صوب الغرفة المسجونة بها سمر عدة ايام , ترك ما بيده و اتجه الي الغرفة لكي يفتح بابها بالمفتاح , استغربت من وجود سمر في غرفة ليست بغرفتها و اغلاق مازن لباب غرفتها بالمفتاح..تأكدت بأن بينهما نزاع لم تود التدخل بينهما..
دلفت الي الغرفة لتجدها مظلمة كظلام القبر , وجدت جسدها النحيل نائم علي فراش و منكمش بطريقة عجيبة , وضعت مني يدها علي ذراعها كي تيقظها لكنها لم تكن علي علم بالحقيقة المُرة..
صب عصير البرتقال في كأس يبدو عليه الفخامة , امسك بالكأس بين يديه لكي يجد والدته تهرول اليه بفزع :
-البت مبتردش عليا..
اختلج الكأس من بين يديه , لكي يقع من بين يديه متحطمًا علي الارض متناثر زجاجته في كل انحاء الارض..
ضربت بقبضة يدها القوية علي صدره غير مبالية بنظرات من في المشفي , صرخت به غاضبة :
-انت عملت في البت اية…البت بتموتت بسببك و انت واقف ساكت..انت هببت اية
ابعد والدته عنه بعنف و قد اقتضبت ملامحه بحدة و غضب , هو ايضًا يريد الصياح مثلها , يشعر بشور غريب , هل يخاف ذالك الجبار علي حياه صغيرته ام يخاف من ضميره اذا ماتت و كان هو السبب..
ابتلع لعابه بخوف و اخذ يردد دعوات كثيرة بداخله , يشعر بأنه يريدها بأي ثمن , يريدها بجاوره فقط..يريد الاطمئنان انها علي قيد الحياه فقط…
خرج الطبيب و تتابعه في خطواطه ممرضة طويلة القامة , نظر الطبيب لمازن شارذًا و قال بحنق :
-البنت في غيبوبة سكر الحمدلله انكم جبتوها في الوقت المناسب..
اتسعت حدقتيه بصدمة و ردد :
-غيبوبة سكر..
ضربت مني علي صدرها بقوة و اطلقت شهقة قوية..
التفت الطبيب لـ مازن و هتف بضيق :
-البنت جسمها مليان جروح و المفروض نعمل محضر تعدي ضروري..
تجاهل مازن ما قاله لتو و سأل باستفسار :
-هي هتخرج امتي..؟
اجاب الطبيب بحنق :
-مظنش انها هتطول لما تفوق هنعملها تصريح بالخروج..
زفر مازن بقوة و هو يحك مؤخرة رأسه لم يشغل نفسه بـ”المحضر” فهو يدرك جيدًا اذا عرف الطبيب من هو , لـفضل الصمت عن تلك الثرثرة عديمة الفائدة..
فجأة وجد والدته تقول بنبرة حادة :
-لينا كلام كتير يا مازن
نظرت اليه و همهت بصوت خافض :
-ساعدتها تقف يا مازن..
اتجه علي مضض و هو يجس علي اسنانه بغضب , فتح باب السيارة , ليمد يده مساعدًا اياها..لم تنظر ليديه و خرجت من السيارة بدون حاجة لمساعدته..
استطاعت السير امامه و كأنه سراب غير موجود , مزالت صامتة مذ خروجها من المشفي لا تجيب علي احد , تنظر الي لا شيء دومًا و تبرق عينيها بدموع..
سمعت مني و هي تزجر مازن لعدم استغلال فرصة اقترابهما..مسكينة تلك السيدة الطيبة لا تعرف ان ألالم المغزو لقلبها الضعيف , جعلت العلاقة بينهما مستحيلة…
دخلت الي الغرفة البائسة التي سجنت بها لعدة ايام , استلقت علي الفراش بصمت و سكينة..
اما في الخارج..
عقدت مني حاجبيها :
-يعني ايه محصلش حاجة..البت جسمها كله مضروب انت هتفضل طول عمرك عنيف كدة..والله يا مازن كنت عارفة ان في يوم هتعمل كدة..
ثم قالت بحدة :
-سمر هترجع معايا لغايط ما تهدي ما بينكم الاوضاع بعدين ارجعها..
صمت و لم يرد علي طلبها , تركها متجهًا الي غرفة سمر و فتح الباب بقوة علي مصاريعه , اعتدلت في جلستها و نظرت اليه خوفًا من ضربها مرة اخري..انحني بظهره صوبها و قال بعينين ترمقها باشمئزاز :
-انا هرجعك مع امي البيت و مش عاوز اشوف خلقتك ديه تاني..
تأملت عينيه الحادة و ابتسمت ابتسامة جانبيه لتدير وجهها و تنظر الي الامام قائلة بثقة لتتكلم صوتها المكسور :
-انا مش عاوزة ارجع مع ماما مني لبيتها..
لا يعرف ما السعادة التي قفزت في قلبه حينما رفضت الابتعاد عنه و فراقه , فمهما حدث ستظل هي سمر الغارقة في عشقه التي لا تستطيع الابتعاد عنه لثوانٍ , لكن فجأة سمع اجابة صادمة :
-رجعني القصر يا مازن..انا الي مش عاوزة اعيش معاك يا مازن..
*
*
*
*