رواية “جواد بلا فارس”
ابتسم “آدم” وهو يمد يده الى والدته يبغى الهاتف .. أعطته اياه فوضعه على أذنه قائلاً برقه :
– أنا كويس يا حبيبتى متقلقيش عليا
تجمدت “آيات” فى مكانها ووضعت يدها على فمها وقد اتسعت عيناها فزعاً .. قال “آدم” بحنان :
– متتصوريش فرحان بإتصالك أد ايه .. لانه خلانى أتأكد ان أنا مهم بالنسبة لك .. كنت هتجنن امبارح من خوفى عليكي .. بس “كريم” طمنى انك كويسة .. لو كان جرالك حاجة كنت روحت فيها
أغلقت “آيات” هاتفها فوراً وهى تحاول السيطرة على دقات قلبها التى أخذت تتسارع بشدة .. لكن هيهــات .. القلــب الذى تسارعت دقاتــه يأبـى أن يعــود الى سباتــه !
مسحت وجهها بكفيها وهى تحاول ألا تفكر فى كلماته التى أسمعها اياها منذ قليل .. قامت وغسلت وجهها .. نظرت الى نفسها فى مرآة الحمام .. بعينيها الحائرتين .. وملامحها المضطربة .. بلعت ريقها بصعوبة وهى تشعر بقلبها وهو يعصيها ويرفض أن يستكين كما كان .. جففت وجهها بعصبيه وخرجت ترتدى ملابسها .. وتتوجه الى عملها عل انشغالها به ينسيها تلك الأفكار وتلك المشاعر التى تحاول مقاومتها .. وبشدة
**************************
توجه “على” الى مكتب “كريم” .. فوجده يتحدث الى الهاتف .. أشار له “كريم” بالجلوس وانتظاره حتى يُنهى مكالمته الهاتفيه .. بدا على “على” الضيق والتوتر .. انهى “كريم” مكالمته ونظر اليه وهو يقول :
– خلاص كاميرات المراقبة هتتركب فى القرية النهاردة .. والحراسه اللى على البوابه زودناها
أومأ “على” برأسه لكن عقله كان فى مكان آخر
ضاقت عينا “كريم” وهو يقول :
– مالك يا “على” فى حاجه
تنهد “على” قائلاً فى وجوم :
– بص يا “كريم” أنا بعتبرك صاحبى وأخويا .. عشان كده جيت أتكلم معاك .. أنا حاسس انى مخنوق أوى
نهض “كريم” والتف حول المكتب .. جلس على المقعد المواجه لـ “على” وسأله بإهتمام :
– خير يا “على” .. قول أنا سمعك
تنهد “على” بأسى وقال :
– “أسماء” صحبة أختى و أختك
قال “كريم” بإستغراب :
– مالها .. حصل منها حاجة ؟
قال “على” بضيق :
– اللى حصل ان انا وهى اتكلمنا كذا مرة مع بعض عن لبسها وعن شروط الحجاب وكانت بتسألنى فى حاجات وأنا أرد عليها زى التعدد والمصافحة
ظل “كريم” صامتاً .. فأكمل “على” وهو مطرق برأسه :
– اللى عرفته من “إيمان” انك حست بحاجه نحيتي .. وقالتها صراحة يعني مفيش مجال لسوء الفهم .. من ساعة معرفت وأنا حاسس انى مخنوق ومضايق جداً .. خاصة ان “إيمان” قالتلى ان ظروفها صعبة .. ومشاكلها كتير .. فمكنتش أحب أزود مشاكلها دى وأخليها تــ ….
توقف ولم يستطع ان يكمل .. ظل مطرقاً برأسه .. الى أن قال “كريم” وهو يسند مرفقة فوق المكتب :
– غلطان يا “على”
رفع “على” رأسه ينظر الى “كريم” الذى قال بحزم :
– غلطان انك تتكلم معاها فى حاجة شخصيه زى لبسها ولو حتى من باب انك تنصحها .. مينفعش يا “على” وأظن انك عارف الكلام ده كويس .. لان انت شاب ومعرض للفتنة .. زي ما هى بنوته صغيره ومعرضة للفتنه .. وده اللى حصل فعلاً البنت اتعلقت بيك وحبتك .. وأنا واثق انك أكيد انت كمان مشاعرك اتحركت نحيتها
أطرق “على” برأسه مرة أخرى وقد احتقنت الدماء فى وجهه .. أكمل “كريم” :
– لو كنت عايز تنصحها فكان ممكن تقول لأختك “إيمان” تتكلم معاها .. أو تقولى وأنا أقول لـ “آيات” لكن كلامك معاها كده ده باب فتنة كبير يا “على”
عقد “على” جبينه بضيق وهو يقول :
– طيب أعمل ايه دلوقتى
تنهد “كريم” وانحنى الى الأمام يسند مرفقيه الى قدميه وهو يقول :
– حاول متحتكش بيها خالص .. لا فى شغل ولا فى غير شغل .. وأنا هحاول أشوف طريقه بحيث ان تعاملها يكون مع “آيات” مباشرة من غير ما تضطر تتعامل معاك
ثم تنهد قائلاً وهو ينظر الى “على” بعتاب :
– طيب هى معذورة لجهلها .. لكن انت مش معذور يا “على”
تمتم “على” بضيق :
– استغفر الله العظيم .. انا فعلاً كنت حاسس ان مكنش المفروض أتكلم معاها كده وانها ممكن مشاعرها تتحرك نحيتي بس معرفش ايه اللى خلانى أستمر وأتكلم معاها عن لبسها
تنهد قائلاً :
– انت صح .. لو كنت عايز أنصحها فعلاً كنت خليت “إيمان” هى اللى تتكلم معاها مش أنا
قال “كريم” وهو يرجع ظهره للخلف :
– خلاص حصل خير .. وكويس ان الموضوع فى أوله .. ملحوقه يعني .. وانت راجل محترم يا “على” .. بس طبيعي انك تضعف بس أهم حاجة زى ما علمت كده تلوم نفسك على الغلط وتصححه
اومأ “على” برأسه وهو يقول :
– متشكر يا “كريم” .. مكنش فى غيرك أقدر أتكلم معاه ويفهمنى
ابتسم “كريم” قائلاً :
– أنا تحت أمرك فى أى وقت يا “على” .. انت مش أخو “إيمان” مراتى بس .. لأ انت أخويا أنا كمان
ابتسم “على” وهو يستأذن للإنصراف الى عمله
**************************
وقفت “أسماء” فى الشرفة بعدما اعتذرت هذا اليوم أيضاً عن الذهاب الى عملها .. كانت تشعر بأنها تحتاج الى ترتيب حياتها وأفكارها ومشاعرها .. تريد حسم صراعات كثيرة بداخلها .. وأهم هذه الصراعات وأكبرها هو أهلها .. الذين افتقدتهم بشدة .. التقطت هاتفها الموضوع فوق الطاوله بالشرفه .. وتأملت الشمس التى وسلت الى كبد السماء تشع نورها فى بهاء .. اتصلت بأنامل متردده برقم والدها .. اندفعت العبرات من عينيها بمجرد سماع صوته التى تسلل الذى أذنيها ليزيد من حنينها وشوقها اليه .. حاولت التحدث لكنها لم تستطع .. اضطر “مدحت” أن يغلق الخط بعدما لم يجد من يجيب
نظرت “مديحة” الى “مدحت” بشك وهى تقول :
– مين ؟
قال وهو يجلس على أحد المقعد فى غرفة المعيشة :
– معرفش محدش رد
قامت وأخذت الهاتف من يده وعاودت الإتصال بالرقم فصاح فيها :
– انتى اتجننتى يا “مديحة”
قالت بحده وهى تنظر اليه بإحتقار :
– أنا واثقة انها واحدة تيييييييييييييت من اللى تعرفهم
هب واقفاً وهو يصيح :
– قولتلك مليون ألف مرة أنا خلاص قطعت علاقتى بكل اللى أعرفهم .. اعقلى بأه ومتطلعيش روحى
اتسعت عيناه فى دهشة وهو يرى “مديحة” التى تجمدت فى مكانها ثم ما لبثت أن صاحت بلهفة :
– بنتى
قالت “أسماء” بصوت باكى :
– وحشتيني يا ماما
جلست “مديحة” على المقعد خلفها منهارة وهى تقول :
– “أسماء” .. وحشتيني يا حبيبتى .. وحشتيني أوى .. “أسماء” انتى كويسة
قالت “أسماء” وهى تحاول أن تتمالك نفسها :
– أيوة الحمد لله .. انتى كويسة .. وبابا كويس ؟
بكت “مديحة” بشدة وهى تقول :
– سمحيني يا بنتى . .سمحيني .. حقك عليا .. انا عارفه انى أم فاشلة .. ومستحقش أكون أم أصلاً
أجهشت “أسماء” فى البكاء فى الأخرى .. أخذ “مدحت” الهاتف من يد “مديحة” بلهفة وهو يقول بصوت مرتجف وأعين دامعة :
– “أسماء” حبيبتى .. انتى كويسة يا حبيبتى
قالت “أسماء” من بين شهقاتها وهى تمسح دموعها بظهر يدها :
– أيوة يا بابا كويسة .. بس انتوا وحشتونى أوى
قال لها بلهفة :
– انتى اللى وحشتيني أوى يا “أسماء” .. انتى فين يا حبيبتى قوليلنا مكانك وهنجيلك دلوقتى
قالت “اسماء” بلهفة :
– هو انت وماما رجعتوا رجعتوا تانى لبعض يا بابا
ألقى نظرة على “مديحة” الى وقفت أمامه ووجهها مبلل بالعبرات .. ثم قال :
– قوليلى انتى فين يا “اسماء”
تنهدت بعمق ثم قالت :
– أنا فى العين السخنة
قال بإستغراب :
– فى العين السخنة .. بتعملى ايه هناك
أخذت منه “مديحة” الهاتف وهتفت :
– حبيبتى قوليلى مكانك بالظبط وهنجيلك دلوقتى حالاً يا حبيبتى
أعطتهم “أسماء” العنوان .. فأسرعت “مديحة” بتبديل ملابسها .. وانطلقت مع “مدحت” فى طريقهم الى .. قرية المــاســة !
**************************
فى اليوم التالى زار “آدم” فى المستشفى كل من “كريم” و “زياد” و “على” .. كان سعيداً لرؤيتهم حوله .. ابتسمت والدته وهى تعدل من وضع الوسادة خلف ظهره .. وقالت للشباب :
– منورين والله .. اهو كده لازم تكونوا اخوات وتخافوا على بعض وتبقوا ايد واحدة .. الديب مبيقدرش الا على الغنمة اللى ماشيه لوحده .. لكن لو سط القطيع يخاف يقربلها
ابتسم “زياد” قائلاً بمرح :
– آه فعلاً هو “آدم” يدى على غنمة
ضحك “آدم” قائلاً :
– ماشى يا أبو دراع مكسور .. بأه مش مكسوف من نفسك بعد اللى حصلك ده .. شكلك بأه بايخ جداً بصراحة
قال “زياد” بمرح :
– متفكرنيش ده أن كل ما أفتكر أتغاظ .. أموت وأعرف ازاى هيا نطت سليمة وأنا اللى حصلى كده
التفت اليه “كريم” قائلاً بمزاح :
– أكيد الموضوع متعلق بالنية يا “زياد”
صاح قائلاً :
– والله نيتى بيضة وزى الفل
ثم التفت اليه والدة “ىدم” قائلاً :
– ولا ايه رأيك يا خالتى
قالت بحماس :
– “زياد” .. ده “زياد” ده زينة الرجالة .. ده ربنا يباركله ابن حلال مصفى .. ربنا يرزقه ببنت الحلال اللى تشيله جوه حبابى عنيها
قال “زياد” :
– والله انتى زى السكر يا خالتى .. والوحيدة اللى نصفانى فى الدنيا دى .. ربنا ميحرمنى منك
ثم قال بخبث :
– وبخصوص بنت الحلال .. فشكلك يا خالتى هتلبسى الحته اللى على الحبل قريب
اتسعت ابتسامته وهى تهتف :
– بجد يا “زياد”
أطلقت زغروته فصاح “آدم” :
– ماما احنا فى المستشفى
لم تلتفت اليه بل سألت “زياد” بحماس وابتسامة واسعة على شفتيها :
– مين يا “زياد” .. واحدة من هنا ولا من جيرانا فى القاهرة
قال مبتسماً :
– لا من هنا
نظر اليه “آدم” قائلاً :
– ده انت طلعت ندل آخر حاجه .. وأنا آخر من يعلم يعني .. ما قولتليش حاجه عن الموضوع ده
قال مبتسماً :
– أديني قولت أهو
التفت اليه “كريم” قائلاً :
– مين بأه تعيسة الحظ .. قصدى سعيدة الحظ
قال بثقه :
– الدكتورة “سمر”
التفت اليه “على” بإهتمام دون أن ينطق ببنت شفه .. فقالت أم “آدم” بإستغراب :
– مين دكتورة “سمر” دى .. أنا شوفتها قبل كده ؟
قال “آدم” ضاحكاً :
– دى الدكتورة اللى كانت جوه عيادة الأطفال .. و “زياد” أنقذها .. مش لاقى غير دى يا “زياد” دى هتفضل تزل فيك طول عمرك على اللى حصل ده
شرد “على” وهو يشعر بداخله بمشاعر شتى .. تتقاذفه يميناً ويساراً .. شرقاً وغرباً .. لكنه استغرب من شئ واحد .. وهو أن كل هذه المشاعر لم يكن من بينها .. الغضــب !
**************************
قام “عاصى” من فوره يستقبل “سراج” الذى دخل مكتبه قائلاً :
– أهلاً يا بابا اتفضل
جلس “سراج” مكان “عاصى” أام المكتب .. أغلق “عاصى” الباب جلس أمام والده الذى قال بحده :
– وبعدين يا “عاصى” .. هتبطل تتصرف من دماغك امتى
قال “عاصى” بتبرم :
– يا بابا أنا متصرفتش كده الا لما جبت أخرى مع الناس دى .. يعنى عجبك معدلات الشغل اللى بتقل يوم عن يوم .. محدش له سيره الا عن قريتهم .. حتى الصحفيين اللى بندفعلهم كل شهر أد كده ونازلين تشويه فى سمعة القرية وبرده لسه معدل شغلهم عالى زى ما هو
صاح “سراج” بغضب وهو يضرب بكفيه فوق المكتب :
– تقوم تبعت رجال تخطف “آيات” يا “عاصى” .. هتستفاد ايه يا غبى من كده
قال “عاصى” بحق :
– هستفاد انى هضغط بيها على اللى اسمه “كريم” ده
نظر اليه “سراج” بإحتقار وهو يقول :
– غبي وهتفضل طول عمرك غبى .. أهم مسكوا واحد من الرجلين اللى بعتهم .. هتعمل ايه دلوقتى يا فالح
نظر اليه “عاصى” بدهشة وقال :
– انت عرفت منين يا بابا
قال “سراج” بتهكم :
– انت فاكر ان انت بس اللى ليك عيون فى كل مكان .. انت نسيت ان أنا “سراج اليمانى” ولا ايه
قال “عاصى” بضجر :
– متقلقش الواد ميعرفش مين اللى مأجره ودافعله الفلوس .. يعنى أصلاً ميعرفش حاجه عشان يقولها .. خليهم يشبعوا بيه
ضم “سراج” قبضتيه معاً ووضعهما فوق المكتب قائلاً :
– وبعدين هنتصرف ازاى
قال “عاصى” فى شرود :
– متقلقش بفكر فى حاجه كدة هتجيب من الآخر
سأله “سراج” بحذر :
– حاجة ايه
نظر اليه “عاصى” وهو يرفع أحد حاجبيه ويقول بلؤم :
– هدية صغيره تتحط فى مكتب “كريم”
نظر اليه “سراج” وقد فهم ما يعنيه “عاصى” .. لاحت ابتسامه على شفتيه وهو يقول :
– أهو هو ده الشغل اللى من الآخر .. مش تقولى خطف “آيات”
ابتسم “عاصى” قائلاً :
– خلاص متقلقش يومين بالكتير والهدية توصله
قام ليغادر المكتب فأوقفه “سراج” قائلاً :
– ايه أخبار السكر ؟
التفت اليه “عاصى” وقال بخبث :
– متقلقش وصل المخازن
نظر اليه “سراج” وقال بلهجة ذات معنى :
– متسيبوش كتير فى المخازن عشان النمل ميحومش حوليه
ابتسم “عاصى” وهو يفتح الباب قائلاً :
– متقلقش
**************************
وقف “آدم” يصلى ويستخير الله عز وجل فى اقدامه على خطوة أجلها كثيراً .. دعا الله كثيراً فى سجوده أن ييسر له الخير .. وأن يجمع بينه وبين من يهواها قلبه .. أطال سجوده .. وأطال دعائه وتوسله لله وهو يقول :
– يارب أنا مبتمناش غيرها .. يارب خليها تسامحنى .. يارب اجعلها من نصيبى أنا مبتمناش زوجة غيرها .. يارب مش هقدر أتحمل جوازها من راجل غيرى .. يارب اجعلها من نصيبى .. يارب عيني مش شايفه غيرها وقلبى مش حاسس بغيرها .. نفسى تكون ليا وأكون ليها .. ونعين بعض وناخد بإيد بعض .. يارب أنا محتاجلها فى حياتى عشان تثبتنى على اللى أنا فيه .. محتاجلها يارب عشان تعينى على طاعتك .. يارب نفسى تكون مراتى فى الحلال .. نفسى أنسى معاها كل حاجة غلط كنت بعملها .. يارب اقبل دعائى .. يارب
أنهى “آدم” صلاته وخرج ليجد والدته فى غرفتها .. اقترب منها وجلس بجوارها فقامت وعتدلت فى فراشها وهى تضع يدها على رأسه التى لفها الشاش وهى تقول :
– مالك يا ابنى .. تعبان
هز رأيه نفياً وهو يقول :
– لا أبداً يا ماما .. الحمد لله أحسن كتير
نظرت اليه بأعين متفحصه وهى تشعر ببال ابنها المشغول :
– أمال مالك يا ابنى فى حاجة مضايقاك
التفت اليها قائلاً :
– ماما أنا عايز أخطب “آيات”
ابتسمت والدته وهى تقول بسعادة :
– يا حبيبى .. ياريت والله ده يوم المنى
قال “آدم” بحماس :
– طيب أنا فكرت أخد الخطوة دى فعلاً وأتكلم مع أخوها .. على الأقل أثبتلهم انى جد فعلاً .. ايه رأيك
أومأت برأسها وقالت بحماس :
– أيوة كده .. أبوك الله يرحمه كان يقولى الواحد يعيش يوم واحد زى الأسد أحسن من انه يعيش 100 يوم زى النعامة
ابتسم “آدم” وهو يقول :
– يعني رأيك أتقدم وأتكلم مع أخوها
قالت بنفس الحماس وهى تربت على ظهره :
– أيوة يا حبيبى اتقدم .. عشان يعرف انك شاريها بجد .. وان شاء الله ربا يحنن قلبها وتوافق
أومأ “آدم” برأسه .. بذت كلمات والدته الحماس بداخله حتى انه لم يستطع الإنتظار أكثر .. بدل ملابسه وتوجه الى الخارج تشيعه دعوت أمه وابتسامتها الحانيه المشجعة .. رفعت كفها الى السماء تسأل الله أن يسعد قلب ابنها .. وأن يرزقه بمن هواها قلبه
شعر “كريم” بالدهشة لإتصال “آدم” الذى طلب فيه زيارته لبعض الوقت .. عدل “كريم” من وضع المنزل واستعد لاستقباله .. دخل “آدم” وهو يحاول اخفاء التوتر الذى يشعر به بداخله .. قال “كريم” بترحاب :
– اتفضل يا دكتور .. اتفضل
جلس “آدم” على الأريكة وجلس “كريم” على المقعد الجاور له .. بعد عبارات التحية والمجاملة تنحنح “آدم” وقال :
– “كريم” .. أنا جايلك النهاردة عشان أتقدم لـ “آيات”
صمت “كريم” وبدا عليه الصدمة مما سمع .. فقال “آدم” بتوتر :
– أنا عرفت ان “أحمد” اتقدملها .. وأنا لحد دلوقتى معرفش هى كان ردها ايه عليه
نظر الى “كريم” بتوتر وقلبه يخفق بوجل .. لديه ثقه كبيره فى انها سترفض “أحمد” .. لكن على الرغم من ذلك لم يستطع ألا يشعر بالتوتر والخوف من أن يكون مخطئاً فى تفسير مشاعرها .. قال “كريم” :
– ولا أنا أعرف ايه ردها .. لسه مقالتليش ردها
أومأ “آدم” برأسه .. ران الصمت بينهما .. ثم قال :
– طيب ياريت تعرض عليها طلبى .. وهى تختار
نظر “كريم” الى “آدم” متفحصاً ثم أسند ظهره الى المقعد قائلاً :
– بصراحة يا دكتور .. مكدبش عليك أنا مقلق شوية من الموضوع ده
تنهد “آدم” قائلاً :
– أنا اتغيرت يا “كريم” .. عارف انك أكيد سمعت من “آيات” كل اللى عرفته عنى .. وعارف انك نظرتك ليا عامله ازاى دلوقتى .. بس أنا اتغيرت .. وانت أكتر واحد المفروض انه يقدر يعني ايه انسان تاب .. وبعد عن كل حاجة غلط فى حياته
باغته “كريم” قائلاً :
– عشان “آيات” ؟
قال “آدم” على الفور :
– لا مش عشان “آيات” .. عشان ربنا .. أنا سيبت جولدن بيتش وأنا فاكر ان “آيات” ماتت .. سيبتها بكل الأرف اللى فيها حتى من قبل ما أعرف انى ممكن اشتغل هنا فى الماسة .. أنا بعت عربيتي عشان أنفذ الشرط الأخير فى التوبة .. عشان أرد المظالم اللى مكنش حد منكوا هيعرف عنها حاجة .. بس أنا بعامل ربنا .. وتوبت عشانه هو .. عشان يبقى راضى عنى
نظر اليه “كريم” وقد ظهرت ابتسامه صغيره على زاوية قمه .. فأكمل “آدم” بثقة :
– أنا مش ممكن أبداً أجرح “آيات” يا “كريم” .. أنا بحبها .. والله بحبها .. وأوعدك وأوعدها انى هحافظ عليها .. انا دلوقتى عرفت قيمة “آيات” .. ونفسى بجد توافق انها تكون مراتى واننا نبتدى حياتنا سوا
ثم قال بأسى :
– “كريم” اللى عايزك تفهمه وتشرحهولها هو انى ما أملكش من الدنيا دى أى حاجة .. العربية بعتها زى ما قولتلك .. وما أملكش غير مرتبى اللى بقبضه من القرية .. واللى جزء منه بيطلع كل شهر لدين قديم فى رقبتى بسبب شغلى اللى خسرته مع “عاصى” وأبوه .. يعني أنا حتى مش هقدر دلوقتى أجيبلها شبكة .. ولا هقدر أوعدها ببيت كبير وعفش غالى .. مش فى امكانياتى دلوقتى
صمت وأطرق برأسه بأسى ثم نظر اليه قائلاً وهو يعقد جبينه بقوة :
– كان نفسى أأقدملها حاجة تليق بيها .. وبقيمتها .. بس للأسف أنا لسه هبتدى حياتى من أول وجديد .. كل اللى أقدر أقدمه دلوقتى .. دبلتين
ثم أشار الى قلبه قائلاً :
– وده
نظر اليه “كريم” قليلاً ثم قال :
– وأنا لامس صدق توبتك دى يا دكتور .. بس القرار فى ايد “آيات”
أومأ “آدم” برأسه قائلاً :
– وأنا هنتظر ردها
**************************
دلف “مدحت” بسيارته بوابة القرية .. أخذت “مديحة” تتطلع الى ما حولها تبحث عيناها بلهفة عن ابنتها “أسماء” .. اتصل “مدحت” بها ليعلمها بوصولهما فوصفت له الطريق الى البناية التى تقيم بها .. نظرت من الشرفة واتسعت ابتسامتها وهى ترى سيارة والدها مقبلة فى اتجاه البناية .. دخلت مسرعة وأخذت طرحة لفتها على شعرها كيفما اتفق ونزلت مسرعة وقلبها يخفق بقوه لا تتحمل تلك الثوانى التى تفصلها عن أحضانهما .. أوقف “مدحت” سيارته بمجرد أن لمحها تخرج من البوابه .. خرجت “مديحة” مسرعة من السيارة وأقبلت عليها تأخذها فى أحضانخا لتروى اشتياقها وحنينها اليها .. بكت “أسماء” فى أحضان والدتها .. ذاك الحضن الذى افتقدته طويلاً جداً حتى عندما كانت تعيش معها فى نفس المنزل .. لا تتذكر متى آخر مرة شعرت بذراعى أمها تلتفان حولها هكذا .. لا تتذكر متى آخر مرة أسندت وجنتها الى هذا الصدر الحانى .. لم تكن “أسماء” بعناقها تروى اشتياق الفترة الماضية فحسب .. بل كانت تروى اشتياق سنوات من الجفاف العاطفى .. أبعدتها أمها لتنظر اليها بأعينها الدامعة وهى تقول :
– “أسماء” .. وحشتيني أوى يا بنتى
قالت “أسماء” بصوتها المرتجف :
– وانتى كمان يا ماما وحشتيني أوى
التفتت الى “مدحت” الذى جذبها الى أحضانه باكياً كما لم تراه من قبل .. احاطته بذراعيها وهى تشعر بإنتفاض جسده لقوة بكاؤه .. كانت الدموع تتساقط من عينيها لكن البسمة مرتسمه على ثغرها فى ثبات .. فى تلك اللحظة شعرت بأن لها قيمة .. بأن وجودها له معنى .. بأن لها من يفتقدها ويشعر بإشتياق الى وجودها فى حياته .. لم تكن سعادتها بالغة لرؤيتهما فحسب .. بل لشعورها بأنها شخصاً مهماً فى حياتهما
أدخلتهما “أسماء” المنزل بترحاب شديد .. جلسا معاً على الأريكة كل منهما فى جهة .. يسمعان منها ما حدث لها منذ أن تركت البيت .. ظهرت تعبيرات الأسى والحزن على وجيهما .. وكل منهما يستشعر كم كان مقصراً فى حق تلك الفتاة التى رزقهم الله اياها
**************************
شعرت “آيات” بيداً تحيط بكتفيها فانتفضت والتفتت لتجد “كريم” مبتسماً .. وضعت يدها على صدرها قائله :
– خضتنى
ضحك ضحكة خافته وقال :
– هيكون مين يعني اللى يجرؤ انه يحط ايده على كتفك كده
ابتسمت قائله :
– معرفش اتخضيت وخلاص
نظر الى الكراتين التى كانت تتفحص محتوياتها وهو يقول :
– طالعة بكرة مع الفوج السياحى ؟
قالت “آيات” بحماس :
– أيوة ان شاء الله
أومأبرأسه قائلاً :
– ممكن تسيبي شغلك شويه
– أهااا
سارت معه فى اتجاه الشاطى وهو مازال لافاً كتفيها بذراعه .. نظرت اليه “آيات” قائله :
– عارفه انك عايز تتكلم فى ايه
نظرت اليها مبتسماً وقال دون أن يتوقفا عن السير :
– طيب عايزك فى ايه ؟
نظرت أمامها وقالت :
– هتسأنى عن رأيى فى طلب “أحمد”
– مممممم ايه رأيك فى طلب “أحمد”
توقفت “آيات” عن السير ونظرت اليه قائله :
– مش موافقة يا “كريم”
نظر اليها قائلاً دون أن يبدو مندهشاً لردها :
– توقعت كده .. بس أحب أسمع منك أسباب رفضك
نظرت حولها بضيق ثم قالت :
– “أحمد” من أيام من كنا فى الجامعة وأنا عارفه انه بيحبنى .. ووقتها كان الحب بالنسبة لى مهم .. مستحيل كنت أرتبط بإنسان مش بحبه .. وأنا مكنتش بحب “أحمد” عشان كده لما قالى زمان انه عايز يتجوزنى رفضت
ثم نظرت اليه قائله بحزم :
– بس دلوقتى فى حاجات تاينة أهم من الحب .. مش هتنازل عنها فى الإنسان اللى هتجوزه
– ايه هيا الحاجات دى ؟
قالت بحماس :
– اهم حاجة يكون انسان محترم ويعرف ربنا .. ياخد بإيدي وآخد بإيده .. نبقى احنا الاتنين طوق نجاة لبعض .. أحس انه بيحبنى وخايف عليا .. مقصدش الحب الرومانسي اللى كله كلام جميل .. لأ أقصد انه يحبنى بتصرفاته قبل ما يقولهالى بلسانه .. احس انه خايف عليا من النار .. وانه بيبعدنى عن كل حاجة غلط وبيصلح من تصرفاتى .. عايزه همنا يبقى واحد .. ازاى نرضى ربنا ونقرب منه .. عايزاه يخاف من ربنا ويخاف يغضبه مش واحد عايش فى الدنيا كده وخلاص مش عارف هو اتولد ليه ولا عارف هو عايش ليه
اتسعت ابتسامة “كريم” وهو ينظر اليها بإعجاب قائلاً :
– متتصوريش يا “آيات” أنا فرحان بيكي أد ايه .. ربنا يهديكي كمان وكمان
ابتسمت وهى تنظر اليه قائله :
– يعني معايا حق أرفض “أحمد”
– معاكى حق ترفضى كل اللى يخالف أحلامك دى .. لان اللى بتقوليه هو مواصفات الرجل الصالح اللى أتمناه لأختى
أطرقت “آيات” برأسها فباغتها “كريم” بقوله :
– دكتور “آدم” طلب ايدك منى
رفعت رأسها بحدة تنظر اليه وقد اتسعت عيناها دهشة وألجم لسانها .. ازداد ارتفاع وهبوط صدرها .. أكمل “كريم” :
– شرحلى ظروفه .. هو دلوقتى يعتبر هيبدأ حياته من السفر .. وعربيته باعها عشان يسدد دين فى رقبته .. وبيقول انه مش هيقدر يقدملك دلوقتى غير دبلتين
قالت بإقتضاب :
– وقولتله ايه
– قولتله هقولها وانتظر الرد مننا
انفلعت “آيات” قائله :
– انت ازاى يا “كريم” تقوله كده .. كان المفروض تقوله لأ مش هيحصل مش ممكن أختى ترتبط بيك
سألها “كريم” بهدوء :
– ليه ؟
قالت بإنفعال :
– ليه؟ .. مش عارف ليه .. عشان الدكتور الغير محترم .. زانى .. تقبل ان أختك تتجوز واحد كده .. أصلاً مينفعش أتجوزه لان ربنا بيقول “الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً” .. وأنا مش كده .. فمينفعش أنا وهو نتجوز
قال “كريم” بهدوء :
– الآية دى متنطبقش على “آدم”
نظرت اليه بدهشة وصاحت :
– ازاى يعني متنطبقش عليه .. ما انت عارف اللى عمله يا “كريم” وهو أكدلى الكلام ده بنفسه
قال “كريم” بحزم :
– “آدم” بمجرد ما تاب ورجع لربنا سقطت عنه صفة الزنا .. يعني خلاص خرج من الآية اللى اصلاً تفسيرها غير ما انتى فاهمة بس ده مش موضوعنا دلوقتى
قالت “آيات” بعناد :
– بس ربنا بيقول ” وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ” … انت تقبل انى أتجوز واحد كده
رفع “كريم” حاجبيه قائلاً بتحدى :
– كملى الآيات يا “آيات” .. كمليها
صمتت .. فأكمل عنها قائلاً :
– ” إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ” .. مش كده .. مش هى دى الآية اللى بعدها
صمتت “آيات” وقد أطرقت برأسها فى شرود .. فقال “كريم” :
– أنا لا بقولك وافقى عليه ولا بقولك ارفضيه .. بقولك استخيرى واللى انتى هتقرريه هيكون .. انا مستحيل أغضب عليكي واحد انتى مش عايزاه
نظرت اليه “آيات” بحيرة وقالت :
– انت رأيك فيه ايه ؟ .. تاب بجد ؟ .. اتغير بجد
قال “كريم” بثقه :
– “آيات” أنا بقدر أفهم اللى أدامى بسهولة .. لو مكنتش حسيت انه انسان كويس كنت رفضت فوراً من غير ما أرجعلك
تركها “كريم” وسط حيرتها وشرودها .. أكملت السير حتى وقفت أمام البحر الهادر .. تنظر الى علو أمواجه كعلو أمانيها .. لا تريد أن تخطئ الإختيار هذه المرة .. لا تنظر مشاعرها التى تحركت من سباتها .. لكنها لن تفعل كالمرة الأولى وتنساق خلف مشاعرها دون تحكيم عقلها .. تريد أن تتأكد من أنه لن يجرحها مرة أخرى .. تريد أن تتأكد من أنه فــارســهـــا المفقــود !
**************************
جلست الأربع فتيات فى غرفة “آيات” بينما نام أبوى “أسماء” فى غرفة “إيمان” .. والغرفة الثالثه بقيت بوالده “سمر” .. قالت “آيات” بسعادة :
– أنا فرحانه أوى عشان انتى فرحانه يا “أسماء”
قالت “أسماء” ببهجة لم تشعر بها منذ وقت طويل :
– فرحانه بس .. ده أنا حسه زى اللى كان ضايع منه حاجه مهمة وأخيراً لقاها .. بجد مكنتش متوقعة انى هفرح كده لما أشوف بابا و ماما .. بس بجد فرحت اوى أوى
ابتسمت لها “سمر” قائله :
– ربنا ما يحرمكوا من بعض أبداً
بادلتها “أسماء” الإبتسام وقالت :
– يارب
سألتها “إيمان” :
– وبعدين ناوية على ايه .. هتكملى شغل فى القرية ولا هترجعى معاهم
قالت “أسماء” بحيرة :
– بصراحة لسه مقررتش .. مش عارفه
قالت “آيات” بحنان :
– استخيرى ربنا .. وان شاء الله أى ان كان اختياره هيكون خير ليكي
أومأت “أسماء” برأسها وقالت :
– ماشى هستخير بس ابقى اكتبيلى دعاء الاستخاره فى ورقة عشان مش حفظاه
قالت لها “سمر” :
– يا بنتى سهل جداً .. ” اللّهم أني أستخيرُك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تَقْدِرُ ولا أَقَدِْر وتعلَمْ ولا أَعْلَمْ وأنت علاَّمُ الغيوب .
اللّهم إن كنت تعلمُ ( وتقولى الحاجة اللى بتستخيري ربنا عشانها ) خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقْدُرْه لي ويسِّرْه لي .
وإن كان هذا الأمرُ شراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفّهُ عني وأصرفني عنه واقْدِرْ لي الخير حيث كان ، ثم رَضّتَيِ به ”
سألتها “أسماء” :
– وأصليها ازاى ؟
قالت “سمر” :
– عادى زى الصلاة العادية ركعتين وبتقولى الدعاء ده بعد التشهد الأخير وقبل ما تسلمى .. أو ممكن تقوليه بعد ما تسلمى من الصلاة
أومأت “أسماء” برأسها .. قالت “إيمان” لـ “آيات” :
– طالعة بكرة مع الفوج السياحى ؟
أومأت “آيات” برأسها وقالت :
– أهاا
سألتها “سمر” :
– طالعين فين
قالت “آيات” :
– جبل عتاقة .. الفوج اللى طالع رجاله وستات .. فقولنا يكون فى 2 دليل .. راجل عشان يتعامل مع الرجالة .. وبنت عشان الستات يتعاملوا معاها برحتهم
ثم قامت قائله :
– فكرتونى .. هقوم أجهز شوية حاجات كده عشان أخدها معايا بكرة ان شاء الله
**************************
فى الغرفة المجاورة كانت تلك هى المرة الأولى منذ فترة طويلة يضطر فيها “مدحت” و “مديحة” الى المبيت معاً فى غرفة واحدة .. شعرت “مديحة” بالحرج كما لو كانت مع رجل غريب .. جلس “مدحت” فوق فراشه مستنداً ظهره الى احدى الوسائد شارداً .. خرجت “مديحة” الى الشرفة تستنشق هواء الليل العليل .. بعد دقائق تبعها “مدحت” ووقف بجوارها يتأمل الطبيعة الساحرة تحت ضوء القمر الذى صار بدراً يزين السماء ببهائه وروعته .. قالت مديحة قاطعة هذا الصمت :
– الحمد لله اننا لقيناها .. لما شوفتها مكنتش مصدقه نفسى
أطرق “مدحت” برأسه ينظر الى الأشجار التى تتحرق أوراقها بنعومه مع نسمات الليل :
– الحمد لله .. أنا كمان مصدقتش نفسى لما سمعت صوتها فى التليفون .. ومصدقتش انها سليمة وعايشة .. الحمد لله ان ربنا حفظها طول الفترة دى .. كان ممكن نلاقيها بس نلاقيها فى حال تانى وفى وضع تانى .. الحمد لله
دمعت عينا “مديحة” وهى تقول :
– قصرت كتير أوى فى حقها .. حسه بإحساس فظيع .. حسه بجد بإحساس بشع
نظر اليها “مدحت” قائلاً :
– أنا كمان قصرت معاها كتير .. محستش ان عندى بنت الا لما راحت منى
ثم قال :
– وقصرت معاكى انتى كمان
التفتت تنظر اليه .. كانت تلك هى المرة الأولى التى تجده معترفاً بتقصيره تجاهها .. فأكمل وهو مازال يتطلع اليها :
– عارف انى غلطت كتير .. وان أى مشكلة بتحصل كنت بكبر دماغى وأشوف مزاجى بره .. مفيش مرة أعدت معاكى وحاول أحل المشكلة بهدوء
قالت وهى على وشك البكاء :
– أنا كمان غلطت
صمتت والدموع تتساقط من عنييها .. فقال بحنان لم تألفه :
– غلطتى فى ايه
هزت كتفيها وتطلع أمامها قائله :
– فى حاجات كتير
ابتسم “مدحت” وقال :
– تعرفى ان دى المرة الأولى اللى تعترفى فيها انك غلطتى فى حقى
التفتت اليه بحده وقالت :
– ودى برده المرة الأولى اللى تعترف فيها انك غلطت فى حقى
اختفت ابتسامته وقال بجديه :
– بصى يا “مديحة” أكتر حاجة بيكرهها الراجل هو انه يلاقى مراته واقفاله الكلمة بالكلمة .. دى حاجة بتستفز أى راجل .. أى نعم أنا عصبي ولما بزعل ببقى غبي .. بس انتى برده بتنرفزيني يا “مديحة” وبتخرجيني عن شعورى .. فى مواقف كتير ممكن تحتويها بهدوء .. من غير ما تعندى معايا ومن غير ما تتحديني
قالت بعصبيه :
– بس انت لما بتتعب يا “مدحت” مش بس بتكون غبى انت بتكون عنيف جداً .. مفيش ست تقبل على نفسها وكرامتها انها تتضرب كل شوية والتانى وعلى حاجات تافهة
قال “مدحت” بحده :
– ما هو انتى بعنادك اللى بتنرفزيني لدرجة انك بتخليني أمد ايدي عليكى
صاحت بغضب :
– برده أنا اللى غلطانه .. حاجة حلوة أوى والله انت اللى بتضرب وأنا اللى غلطانه
تنهد “مدحت” بقوة وقال :
– اظاهر اننا مش هنعرف أبداً نبقى زى أى اتنين متجوزين بيتكلموا مع بعض بإسلوب محترم
قال ذلك ودخل الى الغرفة وترك “مديحة” وعيناها غارقه فى بحر دموعها
**************************
فى صباح اليوم التالى توجهت “آيات” الى الحافلة المنطلق بالفوج السياحى الى جبل عتاقة .. شعرت بالصدمة عندما صعدت الحافلة لتجد “آدم” جالساً على أحد المقاعد فى منتصف الحافلة .. نظرت اليه بدهشة شديدة .. فإبتسم لها بعذوبة .. أشاحت بوجهها وتحدثت مع زميلها فى الرحلة وتم التأكد من صعود جميع الركاب .. جلست فى مكانها فى المقعد الأول وهى لازالت تشعر بالدهشة لوجود “آدم” على متن الحافلة .. انطلق السائق بهم فى طريقهم الى جبل عتاقة حيث تقع احدى العيون الكبريتيه الطبيعية والتى تصل فيها درجة حرارة الماء الى 35 درجة والتى تقوم بعلاج العديد من الأمراض الجلدية والجهاز العضلي الهيكلي والأمراض الروماتيزمية .. توقفت الحافلة فى المكان المنشود .. قادت “آيات” النساء .. وقاد زميلها الرجال .. شعرت بنظرات “آدم” المصوبة تجاهها لكنها تجاهلته تماماً .. كانت الجولة رائعة استمتع به السائحين .. انتوا من أخذ الحمامات الكبريتيه فأمرتهم “آيات” بأخذ حماماً ساخناً حتى تتفتح المسام وتتبدد رائحة الكبريت .. ثم توجه الفوج الى الحافلة للعودة الى القرية وأخذ قسطاً من الراحة .. فبعد حمام الكبريت يكون الجسم متثاقلاً ويلزم فترة من الراحة بعدها للإجهاد الذى يصيب القلب والدورة الدموية بحمامات الكبريت
انطلقت الحافلة بهم عائدة الى القرية مرة أخرى .. وفى منتصف الطريق .. انفجرت أحد اطارات الحافلة .. فتوقف السائق لتبديل الإطار التالف .. نزلت “آيات” تنظر الى الجبل حولها .. والى المنطقة الصحراوية والرمال تحت أقدامها .. نظرت الى السماء بلونها الرمادى والى الشمس التى غربت فى الأفق والتى تعد بالعودة مرة أخرى مع فجر يوم جديد .. سارت قليلاً تتأمل صفحة السماء الصافية وهى تشعر بحيرة كبيرة بداخلها .. حيرة ما بين مشاعرها وبين تجربتها المريرة التى آلمتها أشد ايلام .. فجــأة .. تجمدت الدماء فى عروقها عندما سمعت من خلفها انطلاق الحافلة مكملة طريقها فى اتجارة القرية .. التفت جرت “آيات” مسرعة وهى تصرخ بأعلى صوتها :
– استنى .. استنى
لكن صوتها كان أضعف من أن يصل الى السائق أو لأحد الركاب .. نظرت بفزع الى الحافلة التى ابتعدت تماماً … توقفت على الجرى وهى تلهث .. نظرت حولها الى الليل الذى بدأ فى الهطول .. أخذت تلهث بشدة .. وهى تحاول تهدئه خفقات قلبها المضطرب
أطل “آدم” برأسه من الممر الفاصل بين جانبي الحافله .. لم يتمكن من رؤيتها فوق مقعدها .. ظنها نائمة ولربما تستند برأسها بزاوية مائلة لذلك لم يتمكن من رؤية رأسها أعلى المقعد .. عاد يسند ظهره الى مقعده .. كان يعلم بأن الفوج سنقيم الى رجال ونساء وأنه لن يتمكن من رؤيتها طويلاً .. لكنها أراد أن يكون معها .. فما كان يطيق البقاء فى القرية وهى ليست موجودة بها .. أخذ يحاول رؤيتها مرة أخرى دون جدوى .. تسرب اليه الشعور بالقلق .. على الرغم من ان الوضع يبدو طبيعياً .. قام من مقعده ليُصعق عندما وجد مقعدها فارغاً .. قال للمشرف الجالس فى الجهه الأخرى :
– فين الآنسة “آيات” ؟
التفت زميلها الذى كان يسند رأسه الى زجاج الحافله .. ونظر الى مقعدها الفارغ ثم قال بدهشة :
– معرفش
هتف “آدم” بالسائق :
– اوقف لو سمحت
التفت السائق ينظر الى “آدم” بدهشة .. فرخ به :
– بقولك اقف
نزل “آدم” من الحافلة وهو ينظر حوله .. قال المشرف على الرحلة بقلق :
– أكيد نزلت لما كنا بنغير العجلة ومخدناش بالنا انها مركبتش
صاح فيه “آدم” بغضب بالغ :
– ازاى يعنى مخدتش بالك .. هى مش مشرفة معاك على الرحلة .. ازاى مخدتش بالك انها مش أعده فى الكرسى بتاعها
أطرق الرجل برأسه ولم ينطق ببنت شفه .. أمره “آدم” وهو يبدو فى قمة قلقه :
– لازم نرجع ندور عليها
صعد “آدم” ليطلب من السائق العودة مرة أخرى لكن السائق فاجئه بإقتراب نفاذ الوقود .. فلن يكفى للعودة مرتين .. أخذ “آدم” يسب بخفوت وهو يشعر بالحنق الشديد .. نظر الى المشرف وقال :
– روح انت عشان السياح اللى معانا .. وابعتلى حد بأى عربية
قال ذلك ودون أن يعطيه فرصة للرد نزل من الحافلة وانطلق يعدو بأقصى سرعته فى عكس اتجاه سير الحافلة .. ظل يردد بلسانه :
– يارب .. يارب
شعر بخوفه يتصاعد خاصة بعدما أسدل الليل أستاره .. أخذ يفكر فى “آيات” التى حتماً هى خائفة الآن .. زاد من سرعة عدوه وكأنه يسابق الزمن !
نظرت “آيات” حولها بفزع وقد هبط الظلام ليسود المكان .. لولا القمر المضى فى السماء لما تمكنت من رؤية ما حولها .. سمعت أصوات الرياح تزأر وتزمجر فى غضب .. والرمال تتحرك لتلسع وجهها ويديها .. عقدت ذراعيها أمام صدرها وهى تردد بعض الأذكار حتى تطمئن قلبها الفزع
**************************
شعرت “آيات” بخوفها يتصاعد فأخذت تردد بعض الآيات بصوت عالى .. يتسرب صوتها المرتجف بالتلاوة الى أذيها لتشعر بشئ من الطمأنينه .. وكأن صوتها يونسها .. ظلت واقفة فى مكانها تلف حولها بين الحين والآخرة .. آملة أن ينتبهوا الى اختفائها .. بعد مضى ما يقرب من ساعة من العدو المتواصل .. تمكن “آدم” أخيراً من العثور عليها .. واقفة كالغزال الشارد فى عرض الطريق .. ابتسم قائلاً :
– الحمد لله .. الحمد لله
صاح قائلاً :
– “آيات”
التفتت تنظر اليه .. لمعت الدموع فى عينيها وهى تنظر اليه بلهفة .. كالغريق الذى وجد طوق نجاته .. ابتسمت وهى تشعر بالسعادة الشديدة لرؤيته .. اقترب منها بأنفائه المتقطعة وقف أم