رواية الحبُ.. أَوْس
الفصل الرابع
لم يكن ليتركها بأي حالٍ من الأحوال تذهب إلى منطقتها الشعبية دون أن يرسل معها من يراقبها من على بعد ليؤمنها أو حتى يتواجد بنفسه، وخصوصًا في وجود صغيرته، استقل “أوس” سيارته متجهًا إلى هناك، أوقفها على مسافة قريبة من بنايتها ثم ترجل منها ليستند بظهره على مقدمتها، جاب بنظراته الثاقبة أوجه المارة من خلف نظارته القاتمة، لمحه الشيخ “أحمد” أثناء سيره في اتجاه المسجد القريب فتهللت أساريره لرؤيته، عبث بمسبحته بإصبعيه ودنا منها مرحبًا بودٍ كبير:
-نورت الحتة يا ابني
التفت “أوس” برأسه نحو صاحب الصوت المألوف مبتسمًا له وهو يرد بهدوءٍ:
-شكرًا يا شيخنا
سأله الأخير باهتمامٍ وهو ممسك بمسبحته من طرفيها:
-أخبارك إيه؟ والدنيا ماشية معاك إزاي؟!
أجابه باقتضابٍ:
-تمام
صحح له بلطفٍ:
-قول يا ابني الحمد لله دايمًا، دي أحسن من أي كلمة
رد مومئًا برأسه:
-حاضر
رفع الشيخ “أحمد” ذراعه في الهواء متابعًا:
-ما تيجي يا ابني تقعد معايا في الجامع شوية، وأهوو بالمرة تشوف التعديلات اللي عملناها بعد ما اتبرعتلنا بـ ….
قاطعه “أوس” بحذرٍ:
-مرة تانية يا شيخنا، ولو في أي حاجة نقصتك اطلب على طول، وأنا معاك
رد عليه بامتنان:
-ربنا يباركلك ويفتحها عليك ويحفظك، هستأذنك أنا، مايلزمش حاجة مني
هز رأسه نافيًا:
-شكرًا يا شيخ “أحمد”
ثم مد يده ليصافحه ولم يتوقف لسان الأخير عن الدعاء له بصلاح الحال، تابعه “أوس” بنظراته حتى اختفى بين المارة ليزفر بعدها بضيقٍ وهو يراقب ساعة يده، انتبه لصوت بوق إحدى السيارات التي ظهرت مقدمتها عند مقدمة الطريق فتحركت رأسه عفويًا نحو مصدر الإزعاج.
……………………..
في تلك الأثناء، انعطف السائق بسيارته الأجرة نحو الشارع الجانبي ليتمكن من الدخول إلى المنطقة الشعبية، وما إن أصبح عند بدايته حتى ضغط على البوق المزعج لسيارته ليجبر المارة المتزاحمين على الابتعاد من طريقه، دست “تقى” يدها في حقيبتها لتخرج النقود منها، لم يكن معها فكة كافية لإعطائه ما يريد، فمدت إصبعيها بمبلغ كبير وهي تحاذر من تلمس يده لها، لكن تعمد السائق تحسس يدها بخشونة فامتقع وجهها كليًا من وقاحته المقصودة، كذلك أشعرتها نظراته الجريئة نحو مفاتن جسدها غير البارزة بنوايا خبيثة تدور في عقله، رأت أيضًا تقوس فمه بابتسامته الصفراء المستفزة ليدير بعدها رأسه للأمام كي يأتي لها بالباقي، علقت “تقى” حقيبة صغيرتها واستعدت للنزول، وقبل أن تترجل من سيارته هتف بها:
-خدي الباقي
وبعفوية غير مشكوكة منها اضطرت أن تمد يدها لتأخذ نقودها فاستغل الفرصة ليتسلى معها ولكز إبهامها بالنقود المطوية وهو يكركر ضاحكًا، استنكرت جرأته الزائدة عن الحد قائلة له:
-لو سمحت عيب كده
رد بابتسامته السمجة:
-بأهزر معاكي شوية يا .. مدام
استشعرت من طريقة تلفظه للجملة تلميحًا خبيثًا، رمقته بنظرة حادة محتجة عليه:
-دي قلة أدب مش هزار
تجهمت ملامحه قائلاً بخشونة:
-يا ستي فكي شوية، بلاش وش الخشب ده!
نهرته بعصبيةٍ:
-الزم حدودك، إنت واحد مش محترم
استفزه ردها المهين له فعَمِد لإهانتها بفظاظة وهو ينظر لها بازدراءٍ:
-والله شكلك مدورها
شهقت مصدومة من كلماته الفجة، بينما تابع بنفس الأسلوب البذيء:
-ما هو مش معقول واحدة زيك تركب من الحتة الهاي لايف اللي كانت فيها وتيجي للمزبلة دي من غير ما تكون مقضياها؟ وجاية بس تعمل شريفة هنا!
لم تجد “تقى” من الردود ما تعلق به عليه، فطريقته النابية في التعبير أوضحت لها أن الصمت هو الخيار الأفضل حاليًا، ترجلت من السيارة دون أن تأخذ باق نقودها، فتعمد السائق إلقائها في وجهها هاتفًا بصوتٍ مرتفع:
-وابقي سلميلي على الشرف!
تجمدت قدماها في مكانها حينما وقعت أنظارها على “أوس” الذي بدت ملامحه الشرسة دليلاً قويًا ودامغًا على متابعته لما حدث بينهما، اهتزت شفتاها قائلة بتوترٍ مذعور:
-“أوس”!
ســار نحوها آمرًا بخشونة وقد قست تعبيراته بشدة:
-ولا كلمة! اطلعي فوق!
ارتعدت فرائصها وانتفض جسدها بالكامل من صياحه الهادر، أرعبتها نظراته المخيفة واستدارت مهرولة نحو مدخل البناية محتمية في وجود رضيعتها بأحضانها، اختبأت بالداخل لكنها لم تصعد الدرج، حثها فضولها على معرفة ما الذي سيفعله زوجها به، اقتربت بحذرٍ شديد من بقعة تمكنها من الرؤية دون أن يلاحظها، وقف “أوس” أمام نافذة سيارته الأجرة، رفع الأخير نظره قائلاً بتأفف:
-وسع يا أخ خليني أطلع من المخروبة دي!
حدجه “أوس” بنظرات نارية تعكس عنفًا على وشك الاندلاع، تدافعت دمائه المغلولة في أوردته لتعزز رغباته الشرسة في الفتك به، وفي لحظة مباغتة انقض عليه ليمسك به من تلابيبه، سأله السائق مذهولاً:
-في إيه يا جدع؟
لم يجبه الأخير بل سحبه بقوته الغاضبة المستثارة بداخله إلى خارج السيارة عبر جره من النافذة، صُدم السائق من ردة فعله العنيفة هاتفًا به:
-الله! الله! إنت فيك إيه يا عم؟!
طرحه “أوس” أرضًا بعد أن سدد له لكمة شرسة أصابت فكه، لم يفهم السائق سبب ثورته الهائجة فسأله مغتاظًا وهو يكافح لصد ضرباته المؤلمة على وجهه:
-مالك فارد عضلاتك عليا ليه؟
تجمهر بعض المارة ممن لفت أنظارهم بوادر الشجار، في حين جثا “أوس” فوقه ثم قبض على عنقه قاصدًا خنقه، ضغط بأصابعه بقوة على عروقه ليمنع عنه الهواء وهو يردد من بين أسنانه المضغوطة:
-مرات “أوس الجندي” خط أحمر!
انحبست أنفاس السائق في رئتيه وخرج صوته مكتومًا وهو يسأله:
-مين دي؟!
وقبل أن يحصل على جوابه منه كانت لكمة قاسية تضرب عينه فألمته بشدة، خرجت صرخاته الموجوعة متحشرجة من جوفه وهو يتلقى ضربًا مبرحًا جعل عظامه تئن، أرخى “أوس” قبضته عن عنقه ليضربه بشراسةٍ مضاعفة أنهكت الأخير وأوشكت على القضاء عليه، ارتفع صراخه المستغيث بمن حوله عله يجد من بين أهالي المنطقة ممن تجمعوا لمشاهدة المشاجرة الحامية من ينجده من براثن ذلك العدواني الغاضب، لم يتدخل أحد واكتفوا بالمتابعة بفضولٍ لما يدور، فرجل مثله من ذوي النفوذ والسلطة والجبروت لن يقدر أحد على إيقافه أو ردعه، نهض “أوس” عنه ليركله بعنفٍ أسفل معدته وفي ساقيه ليبكي الأخير بأنين متألم، ثم سحله بعيدًا عن سيارته باصقًا فوقه قبل أن يهدر به:
-ده يعرفك ما تقربش منها تاني
منحه ركلة أشد قسوة في صدره جعلته يسعل بدمائه النازفة من أسنانه، لهث “أوس” بصوت مسموع ولكن لم تحط دمائه الهائجة بعد، أراد إفراغ ما تبقى من شحنته فيه، عاد إلى سيارته ثم أدار محركها واندفع بها نحو سيارة الأجرة متعمدًا الارتطام بمقدمتها، هلل أهالي المنطقة بفزعٍ مع قوة التصادم العنيفة، تراجع “أوس” بسيارته للخلف وكرر فعلته مرة أخرى ليتسبب في حدوث تلفيات بالغة بها، نظر السائق بعجز من عينيه المتورمتين إلى سيارته التي أصيبت بأضرار جسيمة، لم يكن به من الطاقة ما يمكنه من النهوض حتى على قدميه، زحف رافعًا يده للهواء وهو يتوسله بنحيبٍ:
-حقك عليا يا بيه، كفاية كده، أنا بيتي اتخرب!
ترجل “أوس” من سيارته ففزع السائق من رؤيته يدنو منه، أحنى رأسه على صدره ليحميها من بطشه إن تهور عليه مجددًا، أطلت شرارات الغضب من حدقتي “أوس” واكتفى بتلقينه درسًا لن ينساه ما حيي، مسح بقايا الدماء التي علقت بأصابعه بمنشفته ثم سار في اتجاه مدخل البناية القديمة، وما إن رأته “تقى” يقترب منها حتى كتمت شهقتها العفوية، استدارت راكضة نحو الدرج لتهرب منه قبل أن يدرك أنها ظلت واقفة تتابعه، لم تسعفها قدماها بسبب خوفها الزائد من هول ما تطلعت إليه عيناها، اهتز جسدها وعجزت عن مواصلة الركض خاصة أنها تحمل رضيعتها بذراعٍ وحقيبتها بالذراع الآخر مما أبطأ من حركتها، وصلت بصعوبة وهي تلهث لالتقاط أنفاسها إلى الطابق المتواجد به منزلها، قرعت الجرس ودقت بكفها المرتعش على الباب، انتفض جسدها بقوة حينما سمعت صوته يناديها من خلفها:
-“تقى”
سرى الخوف تحت جلدها وتشعب في كامل خلاياها من نبرته التي أجفلتها بقوة، استدارت ببطء نحوه لتطالعه بحدقتين مرتاعتين، بالطبع لن يمرر الأمر على خير، خاصة أن ما حدث من تجاوز مسيء كان نصب عينيه، نهج صدرها برهبةٍ مضاعفة، أحست بتشوش الرؤية لديها وبأن ظلام مريب يزحف نحو عقلها ليتخلى بعد ذلك وعيها عنها من شدة التوتر النفسي، سقطت “تقى” مغشيًا عليها، وقبل أن يهوى جسدها ورضيعتها معها تلقاها “أوس” بذراعيه، وضمها إلى صدره كي يسندها ويمنع ابنته من السقوط، فتحت “تهاني” الباب لتتفاجأ بحالة الإغماء المسيطرة على ابنة أختها، هتفت متسائلة بهلعٍ:
-إيه اللي حصل؟!
……………………..
فرك كفيه معًا وتلفت حوله بنظرات قلقة تحوي حيرة كبيرة، طرق “يامن” بأصابع يده على الطاولة الخشبية القديمة منتظرًا بترقب مجيء والده ليلتقي معه بعد أن دبر له محاميه الخاص زيارة استثنائية، ظل يرتب الأفكار في رأسه ليعرف من أين يبدأ حديثه، خاصة أنه لم يتواجد معه طوال فترة محاكمته بسبب مشاكله المادية التي منعته من القدوم حتى تولت أخته تسديدها، وما إن انفرج الباب ومر “سامي” منه حتى هب ابنه واقفًا ليتجه نحوه محتضنًا إياه باشتياق، شدد من إحاطة ذراعيه حوله مرددًا:
-إزيك يا بابا؟ عامل إيه؟
تراجع “سامي” مبتعدًا عنه ليقول بانزعاج ووجهه ممتعض:
-مش كويس يا “يامن”
دفعه بعيدًا عنه ليتابع موبخًا:
-أخيرًا افتكرت إن ليك أب تسأل عليه
ابتلع “يامن” ريقه معتذرًا بندمٍ:
-أنا أسف يا بابا، بس الظروف كانت مش تمام معايا ومعرفتش أرجع و…
قاطعه مستنكرًا بحنقٍ:
-مش مبرر! طول عمرك طايش ومستهتر ومكبر دماغك، مش فارق معاك حد إلا نفسك
كتم ابنه ضيقه من توبيخه اللاذع، فهو محق في هجومه عليه، أشار له “سامي” بالجلوس وهو يكمل بنرفزةٍ:
-أكيد أنا مش قاعد في كمبوند خمس نجوم عشان إنت وأختك متسألوش عني، ده أنا عملت كل ده عشانكم!
رد بحذرٍ محاولاً التهوين عليه:
-وأنا رجعت يا بابا، وهاكون جمبك
نظر له شزرًا قبل أن يعلق بعدم اقتناعٍ:
-يا ريت، وتفلح وتعرف تاخدلي حقي من “أوس” وتخلي حياته جحيم
توترت نظرات “يامن” مما يلقيه على عاتقه من مصائب قد تودي به في نهاية المطاف للحبس مثل أبيه، انتشله من شروده السريع تذمر “سامي” القائل:
-ابن “مهاب” لعبها صح وجاب رجلي هنا عشان خدت حقي منه، عاوز يفضل مكوش على كل حاجة
راقبه ابنه بنظرات قوية مصغيًا لاسترساله الغاضب بانتباه تام، أضاف والده بوعيدٍ وهو يكور قبضة يده:
-ولو رجع بيا الزمن هاعمل المستحيل عشان أخد حقي وأخلص منه، آه لو كان حصل اللي في دماغي والأغبية نفذوا الخطة اللي كنت راسمها، فلت من الموت يا ابن “مهاب”
تأكد “يامن” بداخله من صدق ادعاءات “أوس” بتورط والده بصورة مباشرة في تلك القضايا التي أودعته السجن، علق عليه معترضًا عله يزيل الغشاوة من على عينيه ويرى ما آلت إليه الأمور معه:
-بس ده ابن أخوك، يعني كان في مصالح وشراكة بينكم، وأكيد هو …..
هدر مقاطعًا بعصبية وقد استشاطت عيناه:
-ابن أخويا مالوش إلا مصلحته وبس، بيدوس على أي حد يظهر قدامه ولا يعارضه، لولا اللي حصل كان زماني مكانه، امبراطور!
ثم تحولت نبرته للتهكم مشيرًا بيده:
-أنا عارف إنه ولا فارق معاك اللي حصلي، همك بس الفلوس ترجع زي زمان تملى جيبك، وتبعزقها يمين وشمال
هتف “يامن” معترضًا بغيظٍ ظاهر على ملامحه العابسة:
-إنت غلطان يا بابا، مش معنى إن حصلتلي أزمة أبقى فاشل
تحدث من زاوية فمه قائلاً بسخطٍ:
-أزمة، فكرك أخبارك مكانتش بتوصلني من “رغد”؟ الديون والقرف اللي كنت فيه، وفلوسي اللي عمال تبعترها بدون حساب، كل حاجة كنت عارفها عنك
طأطأ رأسه حرجًا منه وهو يرد بخزيٍ:
-أنا عقلت، وده مش هايحصل تاني
بدا صوته فاترًا وملامحه متجهمة قائلاً له
-أشك
ساد صمت متوتر للحظات بينهما تخلله نظراتهما المنزعجة، تفرس “سامي” في وجه ابنه بنظرة الخبير الذي يدرك الأمور من مجرد التطلع لوجهه المقروء، ساورته الشكوك بأن ابنه لن يلبي رغباته، بل لن يمتلك الشجاعة لمجابهة ذلك الخصم الشرس، لم يترك تفكيره يحيره حيث قطع السكوت متسائلاً:
-قولي إنت هاتقدر تقف لـ “أوس”؟
رد “يامن” بعد تفكير متأنٍ:
-أيوه
ضاقت نظرات “سامي” نحوه، بات حدسه باحتمالية خذلان ابنه له قويًا، لاحت ابتسامة متهكمة على زاوية فمه معلقًا:
-معتقدش، ده مش بعيد يفعصك تحت جزمته! لو كانت “رغد” هنا كنت اطمنت أكتر، هي غيرك، تقدر عليه!
هاجت دماء “يامن” في عروقه وانتفخ وجهه غضبًا من استهزائه الدائم به، ثم صاح محتجًا:
-ليه الكل مستقل بيا؟ أنا اتغيرت
رمقه بنفس النظرة المستخفة به قائلاً له:
-ابقى وريني شطارتك
ثم أتى من خلفهما صوتًا صادحًا يردد برسمية جادة:
-الزيارة خلصت
وقف “سامي” على قدميه زافرًا بتأفف وضيق، حاول “يامن” احتضانه مرددًا:
-خد بالك من نفسك يا بابا
رفع والده كفه ليمنعه من الاقتراب منه قائلاً بقسوةٍ:
-خلي أختك ترجع وتقابلني، أنا مش هرتاح غير لما أشوفها وأقولها على اللي عاوزه، هي الوحيدة اللي هاتنفذ كلامي بالحرف!
أوغرت كلماته القاسية صدر ابنه وأشعرته بالحنق من تهميشه المتعمد له واستهتاره به، اشتعلت حدقتاه بشراسة مغتاظة وردد من بين شفتيه بهمسٍ حاقد:
-أنا غير “رغد”!
……………………..
تحرك رأسها لا إراديًا مع تلك الرائحة القوية التي اخترقت أنفها، وارتجفت شفتاها مخرجة آهة خافتة التقطتها أذنه، استمر “أوس” في تقريب قطعة القطن المبتلة بالعطر من أنف “تقى” لتستنشقها بالإجبار حتى تفيق، وضعت “تهاني” يدها على كتفه هامسة له:
-متقلقش يا ابني، هاتبقى كويسة
صمت ولم يعلق عليها وواصل ما يفعل حتى تجاوبت معه وبدأت تستعيد وعيها، لم يرغب “أوس” في رؤيتها لتلهفه عليها، فما زال غضبه مسيطرًا عليه بسبب رفضها اتباع أوامره فيما يخص حمايتها، تراجع عنها ليترك لوالدته مهمة التأكد من عودتها لوعيها، أولاها ظهره ثم اتجه إلى النافذة ليهدئ من غضبته الوشيكة، أغمض عينيه مقاومًا تلك الرغبة التي تحثه للتطلع إليها فور أن سمعت همهماتها غير المفهومة، أراد أن يشعرها بضيقه مما حدث، تصلب جسده مع سؤالها:
-“أوس” فين؟
أجابتها خالتها بابتسامتها المطمئنة وعيناها اللاتين تفيضان حنانًا:
-بخير يا بنتي، هو واقف أهوو، “وحياة” مع “فردوس” برا، المهم إنتي كويسة يا “تقى”؟
حركت “تقى” رأسها لتنظر له بمقلتين تتسلل إليهما الدموع وهي ترد:
-أيوه
تابعت “تهاني” قائلة بنبرتها الأمومية الدافئة:
-طيب ارتاحي يا بنتي وأنا هاعملك عصير فيرش يرد الدموية في وشك، وبالمرة أطمن أمك عليكي
ردت عليها بخفوت مرتبك:
-ماشي
تتبعت خالتها بعينيها حتى خرجت من الغرفة ثم حركت رأسها في اتجاه زوجها الذي لازم الصمت لبعض الوقت، توقعت أن يثور في وجهها، أن يصب جام غضبه عليها، أن يسمعها من الكلام ما يؤنبها ويجعلها تدرك خطئها الفادح، لكنه ظل صامتًا ليعذبها أكثر بسكوته المريب، اغرورقت عيناها بالمزيد من العبرات، وبدأ صوت نحيبها يُسمع، قاوم “أوس” ما يعتريها ليركز أنظاره مع ذلك الطفل البائس الذي يطالعه من النافذة، فقد أمسك به الميكانيكي من كتفه وهزه بعنف وهو يوجعه بضربات عصاه الرفيعة كنوعٍ من التأديب له لمخالفته لأوامره، أبعد نظراته عنه ليحدق في رجال حراسته الذي تجمعوا عند مدخل البناية متأهبين لتنفيذ ما يأمر به توًا، برقت حدقتاه بقوة مع ندائها الرقيق:
-“أوس”
ورغم الصراع المحتدم بداخله الذي يحفزه للذهاب إليها واحتضانها إلا أنه حافظ على قناع البرود قائلاً بجفاءٍ:
-الحراسة واقفة تحت، وهترجعك البيت لما تخلصي زيارتك هنا
صدمت من ردة فعله الجليدية وتمتمت بتلعثم:
-أنا ..
لم يمهلها الفرصة للبوح بما تريد التعبير عنه حتى لو كان ندمها، تحرك مبتعدًا في اتجاه باب الغرفة وهو يقول باقتضابٍ:
-سلام!
فغرت “تقى” شفتيها مذهولة من تجاهله لها، كان الأمر غريبًا عليها بالمرة، لم يكن ليسمح بشوكة أن تؤذيها دون أن يهرع للاطمئنان عليها والتهوين من وجعها، لكنه بدا مختلفًا هذه المرة، لم يمنحها نظرة واحدة وإن كانت مليئة بالعتاب والتوبيخ، بل تركها هكذا لتشعر بقسوة من نوع جديد، انسابت عبراتها التي تجمعت بكثافة في طرفيها حرجًا وندمًا على ما حدث، لامت نفسها لعنادها غير المجدي، ربما لو أصغت له منذ البداية لما تعرضت لذلك الموقف المؤسف، ولما أجبرته على الاقتتال بشراسةٍ من أجل رد اعتبارها والحفاظ على كرامتها كحبيبته أولاً وزوجته ثانيًا ……………………..
……………………..