رواية الحبُ.. أَوْس
الفصل السابع والعشرون
موجة من الغضب المحتدم عصفت بآخر ذرات عقلانيته مع تطاوله المسيء وكلماته المسيئة، كان “أوس” بحاجة لإفراغ ثورته العارمة التي انفجرت بداخله في شخص ذلك الوضيع من أجل الدفاع عن كرامة وكبرياء زوجته أولاً، واستعادة حق الضحية المظلومة التي لجأت إليه ليحميها من براثن ذئب كاد أن يفترس براءتها وتبرئة ساحتها، تحولت قبضته لأداة لكم متلاحقة تطيح بعظام وجه “منسي”، لم يتحمل الأخير قساوة ضرباته ولا شراسة ردود فعله، تحول وجهه لكتلة نازفة من الدماء، لم يعبأ “أوس” بالجراح التي أصابت مفاصل أصابعه، المهم ألا يترك هذا الدنيء يعيث في الأرض الفســاد، ورغم قسوة المشهد وعنفه إلا أن جموع المشاهدين من أهالي المنطقة لم يتحركوا للتدخل أو حتى الدفاع عن ابن حارتهم، ظلوا يتابعوا في جمود وصمت ما يحدث بينهما، وتركوا “منسي” لمصيره المحتوم مع خصم لا يُستهان به.
أفرغ “أوس” غضبه بالكامل فيه حتى خبت ثورته، تأكد من تلقينه درسًا قاسيًا على طريقته التي لا تُنسى، تركه كخرقة بالية ثم نهض عنه ليتمكن من الاعتدال في وقفته، نظر له مطولاً بنظرات نارية لا تقبل بالصفح أو الغفران، شعر بقبضة توضع على كتفه، نظر بطرف عينه إلى صاحب اليد فوجد “يامن” الذي استطرد قائلاً:
-إنت قضيت عليه!
تجمدت عينا “أوس” على ذلك الجسمان المسجي على الأرضية الأسفلتية، مسح عرقه المتصبب بغزارة من على جبينه ليرد بصوت أقرب للهاث وصدره ينهج بقوةٍ بسبب المجهود العنيف الذي بذله:
-ناري مابردتش لسه!
كلمات مقتضبة أثارت الريبة في نفس ابن عمه الذي طالعه بفضول غريب، فلأول مرة يختبر الحمية الذكورية والدفاع المستميت عن العرض والشرف، شعورًا لم يعايشه من قبل ولم يحاول حتى تجربة حماية أحدهم، نظر له بتفاخرٍ بالرغم من صعوبة الموقف، حاول زحزحة ابن عمه ليبعده عن “منسي” لكنه لم يستطع، فالأخير كان عاقد العزم، بل وحاسم أمره، على إنهاء ذلك الشخص نهائيًا ومسحه من الوجود، وكأنه لم يوجد هنا يومًا، لم يستطع أن يخمن بماذا يفكر أو بماذا يريد أن يفعل لاحقًا، تحرك “أوس” خطوتين للأمام متلفتًا حوله بنظرات شمولية وكأنه يبحث عن شيء ما، استدار عائدًا إلى “منسي” لينحني نحوه، أمسك به من قدمه ليبدأ بعدها في سحله بلا رحمةٍ وسط شهقات وهمهمات الجميع، جرجره حتى تلك البركة الراكدة من مياه الصرف الصحي عند إحدى الزوايا، والتي تركت هكذا لسوء الخدمات في المنطقة وعدم اهتمام أحدهم بأمر تراكم المياه ذات الرائحة الكريهة والعطنة، جذبه “أوس” من ذراعه وخاصرته ليلقي به فيها، توقع نظرات الاستنكار وغمغمات بالاعتراض على ما فعله، لكن يستحق أمثال ذلك الحقير أن يعاملوا هكذا دون إظهار أي شفقة أو تعاطف معهم.
أوقفه عن ممارسة المزيد من العنف معه تدخل الشيخ “أحمد” حيث رجاه قائلاً:
-كفاية يا ابني، هو خد جزاته، و…
قاطعه “أوس” قائلاً بتشنجٍ:
-اللي زي ده مايستهلش إلا كده وزيادة
ربت على جانب ذراعه متابعًا استعطافه ولكن بحذرٍ شديد:
-طب اهدى يا ابني، وتعالى معايا
رد رافضًا بإصرارٍ وقد أظلمت حدقتاه:
-لأ يا شيخ، مش قبل ما أنضف الحتة دي منه!
قطب الشيخ “أحمد” جبينه متسائلاً:
-مش فاهمك، تقصد إيه؟
تقوس فمه للجانب ليبرز بسمة باهتة متهكمة لكنها عكست نية رافضة للتسامح وهو يقول:
-هتعرف دلوقتي
تحرك بعدها عدة خطوات نحو سيارته حيث وصل محاميه الخاص إلى المنطقة، استقام الأخير في وقفته ليظهر استعداده لتلقي أوامر رب عمله الذي استدعاه على عجالة، وقف “أوس” قبالته يسأله بصرامةٍ:
-فين ورشة الكلب ده؟
أجابه دون تفكيرٍ وهو يشير بيده نحو إحدى المحال:
-هناك يا باشا
التف برأسه للجانب لتتجمد عيناه على باب ورشته المغلق والمليء بالصدأ، تحرك بثبات صوب المكان فتبعه “يامن” متسائلاً بجديةٍ:
-هتعمل إيه يا “أوس”؟
وكالعادة تركه دون إجابة شافية لفضوله المتزايد ليفرقع بإصبعيه كإشارة صريحة لرجال حراسته بالتحرك نحوه فورًا، رفع سبابته أمام وجوههم آمرًا بلهجة لا تقبل المراجعة:
-عاوزها تكون فاضية من اللي فيها في عشر دقايق
رد عليه أحدهم بامتثالٍ تام:
-أوامر معاليك
ثم وقف يتابع بعينين جامدتين تحطيم باب الورشة وإخراج ما بداخلها من أدوات، وعدة معدنية، ومفروشات قديمة عَمِد أفراد الحراسة إلى تخريبها حتى لا تصلح في شيء لتتكوم بعدها فوق بعضها البعض مُكونة كومة كبيرة، استدار “أوس” برأسه للجانب موجهًا حديثه للمحامي وهاتفًا بنبرة الناهي الآمر:
-والشقة اللي بيتمنظر بيها عقدها يتفسخ فورًا، سامع!
علق الأخير دون نقاشٍ:
-اعتبره حصل يا باشا!
التفت بعدها “أوس” مواجهًا الجموع المرابطة في أغلب الأماكن، هتف صائحًا بنبرة مسموعة للجميع:
-كلكم شوفتم اللي حصل مع الـ ….. ده، وأي حد نفسه تسوله إن بس يتكلم في اللي حصل ولا اللي اتقال يبقى بيعاديني شخصيًا، وأنا مش بأقبل بالغلط ولا بأسامح في اللي يخصني!
ارتفع ذراعه ليشير بإصبعه نحو “منسي” المبتل بالمياه النجسة مكملاً:
-والحشرة ده يتمسح من الذاكرة، ولا كأنه عاش بينكم في يوم، مفهوم!
ورغم الأوجه المتذمرة، والنظرات المتنمرة إلا أن الصمت والهمهمة الخافتة كانتا السمة السائدة بين المتواجدين، أخرج بعدها “أوس” منشفته القطنية من جيب سترته ليمسح بها بقايا الدماء وما علق في أصابعه، ضبط ياقته وجذب أكمام قميصه ليسير بعدها في اتجاه البناية المواجهة لبناية والدته، حيث تتواجد “هالة”، فقد أراد الاطمئنان على أوضاعها تنفيذًا لوعده الذي قطعه لزوجته “تقى”، تبعه “يامن” بفضول أكبر ليعرف ما سيقوم به، سأله بنزقٍ وكأنه للحظة يشك في قدراته:
-تفتكر الناس هنا هتسمع كلامك؟
توقف “أوس” عن السير فجأة ليستدير نحوه ونظراته مليئة بغضبٍ متعاظم، كز على أسنانه قائلاً بثقة تامة:
-محدش يجرؤ يعترض عليا
علق بتساؤلٍ آخر:
-ليه هو قانون؟
استشعر لمحة من السخرية المتهكمة في سؤاله فرد مؤكدًا دون أن يرتد له طرف:
-أيوه، قانون “أوس الجندي”!
…………………….. …………………….. ….
لطمات وولولة متواترة سيطرت عليها بعد تلك الفضيحة المدوية التي نهشت علنًا من سمعة ابنتها في ذلك المكان الذي يرفع شعار “الشرف أولاً”، حسرة ما بعدها حسرة تمكنت منها لتشعرها بأن عالمها البسيط قد انهار من حولها، فلم تكد تفيق مما حدث لابنتها البكرية لتلحق بها الثانية بمصيبة ستوصمها حتى القبر، توقفت “أم بطة” مؤقتًا عن عويلها حينما سمعت الدقات الثابتة على باب منزلها، استجمعت نفسها المنهارة لتنهض من جلستها متجهة إليه، اتسعت عيناها في صدمة مرعوبة وهي ترى آخر من تتوقع تواجده عند عتبة بيتها، شعرت بجفافٍ شديد في حلقها، أحست بدقات قلبها تتسابق في صدرها، حركت شفتيها لتنطق فخرج صوتها مصدومًا وهي تقول:
-إنت!
نظر لها “أوس” بجمودٍ وهو يتفحص تعبيرات وجهها المبهوتة لرؤيته، تابعت متسائلة بضيق بعد أن تداركت نفسها ولملمت شتات أمرها:
-جاي ليه يا بيه؟ ما خلاص اللي حصل حصل، والعار طالنا!
سألها بخشونة وقد بدت حدقتاه تعكسان وهجًا حانقًا:
-بنتك فين؟
ابتلعت ريقها لتجيبه بثباتٍ زائف:
-موجودة، بتسأل عليها ليه؟
رمقها بنظرة مطولة تحمل تحذيرًا صريحًا وهو يضيف بصرامةٍ:
-اسمعيني كويس، لأني مش هاعيد كلامي مرتين!
انفرجت شفتاها عن دهشة متوترة من أسلوبه الجاف الصارم الذي يلبك الجسد ويبث الرعب في القلوب، أكمل “أوس” قائلاً بلهجته الحادة:
-بنتك مسئولة مني لحد ما تخلص تعليمها، كل مصاريفها عليا
حاولت أن تدعي عدم حاجتها لمساعدته أو مساعدة غيره ليزيح عن كاهلها ذلك الثقل المهلك فردت بكبرياء مصطنع:
-إحنا مش بنشحت ولا عاوزين حاجة من حد
نظر لها شزرًا قبل أن ينطق:
-أنا مش باخد رأيك، ده كلام نهائي مافيش نقاش فيه
أبدى “يامن” الواقف خلفه إعجابه بطريقته التي تفرض سيطرته وهيمنته على الأمور، نظر له بتفاخرٍ لم ينكره وتابع حواره مع والدة “هالة” باهتمامٍ ليتعلم منه، تحولت قسمات وجه “أم بطة” للامتعاض والعبوس حينما قالت كذبًا:
-يا بيه إنت جاي غلط، أنا فقيرة بس عندي كرامة و..
قاطعها بتهكمٍ قاصدًا تعريتها أمام نفسها:
-بلاش الدخلة دي عليا، وخلينا نتكلم على المكشوف من غير لف ولا دوران، إنتي بتدوري على اللي يشيل عنك، وأنا موجود وهاشيل، ومهياش أول مرة، عملتيها قبل كده مع بنتك الكبيرة، بس المرادي أنا واقفلك!
بدت كالفرخ المبتل أمامه وهو يكشف نواياها هكذا ببساطة، فردت عليه بانكسارٍ زائف:
-بتستقوى علينا عشان احنا غلابة!
أشار لها بسبابته محذرًا بخشونة:
-الأسطوانة المشروخة دي مابتخلش عليا، سامعة
وقبل أن تضيف المزيد تحركت عيناها نحو الصوت المألوف الذي صرخ بهلع من الخلف:
-فين “هالة” يامه؟
استدار كلاً من “أوس” و”يامن” نحو “بطة” التي أتت مهرولة لنجدة أختها مما قد يصيبها من بطش والدتها الأهوج، زاد توتر أمها لرؤيتها، فمجيئها سيزيد من الطين بلة، وربما سيزيح الغطاء عن عنفها معها، اندفعت “بطة” بلا تفكير نحوها غير مكترثة بمن يسد عنها المدخل أو من يعوق طريقها لتسأل بتلهفٍ وأنفاسها شبه متقطعة:
-عملتي فيها إيه؟
أجابتها الأخيرة بارتباك وقد شحبت تعبيراتها:
-و.. ولا حاجة
صرخت “بطة” عاليًا:
-يا “هـــالة”
أمسكت بها والدتها من ذراعها لتوقفها قائلة بغيظ وهي تكز على أسنانها:
-أختك جوا، اسكتي بقى
نظرت لها بعينين حانقتين قبل أن تصيح بها بعصبيةٍ:
-هي فين؟ أنا عاوزة أشوفها يامه
هنا فتحت “هالة” باب غرفتها لتقف عند عتبته متسمرة في مكانها، وببقايا محطمة وقوى مستنزفة همست بقوة قليلة:
-أنا أهوو
فزعت “بطة” لرؤيتها متورمة، منتفخة الوجه، الكدمات تشكل لوحة صريحة على ملامحها الذابلة، ناهيك عن الخدوش والعلامات التي لم تكشف عنها ثيابها بعد، شهقت لاطمة على صدرها:
-إيه ده؟!
رغمًا عنها انسابت عبرات “هالة” المنكسرة على وجنتيها متأثرة بكل ما خاضته مؤخرًا، وما ضاعف من ذلك الإحساس بالخذلان والضعف بداخلها هو وجود “يامن” الذي لمحته مركزًا بصره عليها، خجلت منه وانهار ما ظنت أنه شجاعة متسلحة بها، ركضت “بطة” في اتجاه أختها لتضمها إلى أحضانها وشددت من قوة ضمها لتشعرها بدعمها لها، وما إن ارتمت الأخيرة في صدرها حتى انفجرت باكية بحرقة، لم تهتم بمن يشاهدها أو من يظنها ضعيفة، فما مرت به ليس بالهين، استشاط “أوس” غضبًا لرؤيتها على تلك الحالة السيئة، مشى خطوة للأمام ليقلص المسافة بينه وبين أمها القاسية هامسًا لها من بين أسنانه:
-لو إيدك اتمدت عليها تاني هزعلك، وأنا زعلي وحش أوي، فأحسنلك متجربيهوش!
كانت “أم بطة” متأكدة كليًا من شراسة تحذيره، فردت بتلعثمٍ خانع داعية الله في نفسها ألا يخرج عن طور هدوئه:
-طـ.. طيب!
وخزة قوية ونغصة مؤلمة أصابت صدره مع انسياب دمعاتها التي بدت كالمياه الحارقة لروحه، لا يعرف ما الذي أصابه ليشعر بذلك الاختناق والحنق، ربما الشعور بالذنب أو تأنيب الضمير، لكنه كان على يقين كامل بأن لتراجعه مضطرًا عن حمايتها السبب الرئيسي فيما أصابها لاحقًا من إهانات قاسية وإيذاء بدني، بل واستخفافه منذ البداية بفظاعة مشكلتها التي انتهت بما يراه الآن من نتائج مأساوية، بدأت الدماء الساخنة تتدفق في عروق “يامن” لتهيج من مشاعره الغاضبة، انعكس ذلك بصورة ملحوظة على بشرته التي اصطبغت بحمرة جلية، كور أصابعه ضاغطًا عليها بعصبية حتى ابيضت مفاصل يده، وجد صعوبة في الاستجابة لأمر “أوس” حينما هتف به:
-يالا بينا
تجمدت قدماه ورفضتا الانصياع له والتحرك، صاح به ابن عمه بصوته الأجش:
-“يامن”، تعالى ورايا!
وبزفير ثقيل وخطوات متباطئة اضطر أن يتحرك صاغرًا ليتبع “أوس”، وبقي ذلك الشعور المزعج الحانق متأججًا بقوة في صدره ليجعله يعيد النظر إلى الأمور التي تخص غيره من منظور اختلف كثيرًا عما اعتاد عليه …………….!!
…………………….. …………………….. ………….يتبع >>>>>
موجة من الغضب المحتدم عصفت بآخر ذرات عقلانيته مع تطاوله المسيء وكلماته المسيئة، كان “أوس” بحاجة لإفراغ ثورته العارمة التي انفجرت بداخله في شخص ذلك الوضيع من أجل الدفاع عن كرامة وكبرياء زوجته أولاً، واستعادة حق الضحية المظلومة التي لجأت إليه ليحميها من براثن ذئب كاد أن يفترس براءتها وتبرئة ساحتها، تحولت قبضته لأداة لكم متلاحقة تطيح بعظام وجه “منسي”، لم يتحمل الأخير قساوة ضرباته ولا شراسة ردود فعله، تحول وجهه لكتلة نازفة من الدماء، لم يعبأ “أوس” بالجراح التي أصابت مفاصل أصابعه، المهم ألا يترك هذا الدنيء يعيث في الأرض الفســاد، ورغم قسوة المشهد وعنفه إلا أن جموع المشاهدين من أهالي المنطقة لم يتحركوا للتدخل أو حتى الدفاع عن ابن حارتهم، ظلوا يتابعوا في جمود وصمت ما يحدث بينهما، وتركوا “منسي” لمصيره المحتوم مع خصم لا يُستهان به.
أفرغ “أوس” غضبه بالكامل فيه حتى خبت ثورته، تأكد من تلقينه درسًا قاسيًا على طريقته التي لا تُنسى، تركه كخرقة بالية ثم نهض عنه ليتمكن من الاعتدال في وقفته، نظر له مطولاً بنظرات نارية لا تقبل بالصفح أو الغفران، شعر بقبضة توضع على كتفه، نظر بطرف عينه إلى صاحب اليد فوجد “يامن” الذي استطرد قائلاً:
-إنت قضيت عليه!
تجمدت عينا “أوس” على ذلك الجسمان المسجي على الأرضية الأسفلتية، مسح عرقه المتصبب بغزارة من على جبينه ليرد بصوت أقرب للهاث وصدره ينهج بقوةٍ بسبب المجهود العنيف الذي بذله:
-ناري مابردتش لسه!
كلمات مقتضبة أثارت الريبة في نفس ابن عمه الذي طالعه بفضول غريب، فلأول مرة يختبر الحمية الذكورية والدفاع المستميت عن العرض والشرف، شعورًا لم يعايشه من قبل ولم يحاول حتى تجربة حماية أحدهم، نظر له بتفاخرٍ بالرغم من صعوبة الموقف، حاول زحزحة ابن عمه ليبعده عن “منسي” لكنه لم يستطع، فالأخير كان عاقد العزم، بل وحاسم أمره، على إنهاء ذلك الشخص نهائيًا ومسحه من الوجود، وكأنه لم يوجد هنا يومًا، لم يستطع أن يخمن بماذا يفكر أو بماذا يريد أن يفعل لاحقًا، تحرك “أوس” خطوتين للأمام متلفتًا حوله بنظرات شمولية وكأنه يبحث عن شيء ما، استدار عائدًا إلى “منسي” لينحني نحوه، أمسك به من قدمه ليبدأ بعدها في سحله بلا رحمةٍ وسط شهقات وهمهمات الجميع، جرجره حتى تلك البركة الراكدة من مياه الصرف الصحي عند إحدى الزوايا، والتي تركت هكذا لسوء الخدمات في المنطقة وعدم اهتمام أحدهم بأمر تراكم المياه ذات الرائحة الكريهة والعطنة، جذبه “أوس” من ذراعه وخاصرته ليلقي به فيها، توقع نظرات الاستنكار وغمغمات بالاعتراض على ما فعله، لكن يستحق أمثال ذلك الحقير أن يعاملوا هكذا دون إظهار أي شفقة أو تعاطف معهم.
أوقفه عن ممارسة المزيد من العنف معه تدخل الشيخ “أحمد” حيث رجاه قائلاً:
-كفاية يا ابني، هو خد جزاته، و…
قاطعه “أوس” قائلاً بتشنجٍ:
-اللي زي ده مايستهلش إلا كده وزيادة
ربت على جانب ذراعه متابعًا استعطافه ولكن بحذرٍ شديد:
-طب اهدى يا ابني، وتعالى معايا
رد رافضًا بإصرارٍ وقد أظلمت حدقتاه:
-لأ يا شيخ، مش قبل ما أنضف الحتة دي منه!
قطب الشيخ “أحمد” جبينه متسائلاً:
-مش فاهمك، تقصد إيه؟
تقوس فمه للجانب ليبرز بسمة باهتة متهكمة لكنها عكست نية رافضة للتسامح وهو يقول:
-هتعرف دلوقتي
تحرك بعدها عدة خطوات نحو سيارته حيث وصل محاميه الخاص إلى المنطقة، استقام الأخير في وقفته ليظهر استعداده لتلقي أوامر رب عمله الذي استدعاه على عجالة، وقف “أوس” قبالته يسأله بصرامةٍ:
-فين ورشة الكلب ده؟
أجابه دون تفكيرٍ وهو يشير بيده نحو إحدى المحال:
-هناك يا باشا
التف برأسه للجانب لتتجمد عيناه على باب ورشته المغلق والمليء بالصدأ، تحرك بثبات صوب المكان فتبعه “يامن” متسائلاً بجديةٍ:
-هتعمل إيه يا “أوس”؟
وكالعادة تركه دون إجابة شافية لفضوله المتزايد ليفرقع بإصبعيه كإشارة صريحة لرجال حراسته بالتحرك نحوه فورًا، رفع سبابته أمام وجوههم آمرًا بلهجة لا تقبل المراجعة:
-عاوزها تكون فاضية من اللي فيها في عشر دقايق
رد عليه أحدهم بامتثالٍ تام:
-أوامر معاليك
ثم وقف يتابع بعينين جامدتين تحطيم باب الورشة وإخراج ما بداخلها من أدوات، وعدة معدنية، ومفروشات قديمة عَمِد أفراد الحراسة إلى تخريبها حتى لا تصلح في شيء لتتكوم بعدها فوق بعضها البعض مُكونة كومة كبيرة، استدار “أوس” برأسه للجانب موجهًا حديثه للمحامي وهاتفًا بنبرة الناهي الآمر:
-والشقة اللي بيتمنظر بيها عقدها يتفسخ فورًا، سامع!
علق الأخير دون نقاشٍ:
-اعتبره حصل يا باشا!
التفت بعدها “أوس” مواجهًا الجموع المرابطة في أغلب الأماكن، هتف صائحًا بنبرة مسموعة للجميع:
-كلكم شوفتم اللي حصل مع الـ ….. ده، وأي حد نفسه تسوله إن بس يتكلم في اللي حصل ولا اللي اتقال يبقى بيعاديني شخصيًا، وأنا مش بأقبل بالغلط ولا بأسامح في اللي يخصني!
ارتفع ذراعه ليشير بإصبعه نحو “منسي” المبتل بالمياه النجسة مكملاً:
-والحشرة ده يتمسح من الذاكرة، ولا كأنه عاش بينكم في يوم، مفهوم!
ورغم الأوجه المتذمرة، والنظرات المتنمرة إلا أن الصمت والهمهمة الخافتة كانتا السمة السائدة بين المتواجدين، أخرج بعدها “أوس” منشفته القطنية من جيب سترته ليمسح بها بقايا الدماء وما علق في أصابعه، ضبط ياقته وجذب أكمام قميصه ليسير بعدها في اتجاه البناية المواجهة لبناية والدته، حيث تتواجد “هالة”، فقد أراد الاطمئنان على أوضاعها تنفيذًا لوعده الذي قطعه لزوجته “تقى”، تبعه “يامن” بفضول أكبر ليعرف ما سيقوم به، سأله بنزقٍ وكأنه للحظة يشك في قدراته:
-تفتكر الناس هنا هتسمع كلامك؟
توقف “أوس” عن السير فجأة ليستدير نحوه ونظراته مليئة بغضبٍ متعاظم، كز على أسنانه قائلاً بثقة تامة:
-محدش يجرؤ يعترض عليا
علق بتساؤلٍ آخر:
-ليه هو قانون؟
استشعر لمحة من السخرية المتهكمة في سؤاله فرد مؤكدًا دون أن يرتد له طرف:
-أيوه، قانون “أوس الجندي”!
……………………..
لطمات وولولة متواترة سيطرت عليها بعد تلك الفضيحة المدوية التي نهشت علنًا من سمعة ابنتها في ذلك المكان الذي يرفع شعار “الشرف أولاً”، حسرة ما بعدها حسرة تمكنت منها لتشعرها بأن عالمها البسيط قد انهار من حولها، فلم تكد تفيق مما حدث لابنتها البكرية لتلحق بها الثانية بمصيبة ستوصمها حتى القبر، توقفت “أم بطة” مؤقتًا عن عويلها حينما سمعت الدقات الثابتة على باب منزلها، استجمعت نفسها المنهارة لتنهض من جلستها متجهة إليه، اتسعت عيناها في صدمة مرعوبة وهي ترى آخر من تتوقع تواجده عند عتبة بيتها، شعرت بجفافٍ شديد في حلقها، أحست بدقات قلبها تتسابق في صدرها، حركت شفتيها لتنطق فخرج صوتها مصدومًا وهي تقول:
-إنت!
نظر لها “أوس” بجمودٍ وهو يتفحص تعبيرات وجهها المبهوتة لرؤيته، تابعت متسائلة بضيق بعد أن تداركت نفسها ولملمت شتات أمرها:
-جاي ليه يا بيه؟ ما خلاص اللي حصل حصل، والعار طالنا!
سألها بخشونة وقد بدت حدقتاه تعكسان وهجًا حانقًا:
-بنتك فين؟
ابتلعت ريقها لتجيبه بثباتٍ زائف:
-موجودة، بتسأل عليها ليه؟
رمقها بنظرة مطولة تحمل تحذيرًا صريحًا وهو يضيف بصرامةٍ:
-اسمعيني كويس، لأني مش هاعيد كلامي مرتين!
انفرجت شفتاها عن دهشة متوترة من أسلوبه الجاف الصارم الذي يلبك الجسد ويبث الرعب في القلوب، أكمل “أوس” قائلاً بلهجته الحادة:
-بنتك مسئولة مني لحد ما تخلص تعليمها، كل مصاريفها عليا
حاولت أن تدعي عدم حاجتها لمساعدته أو مساعدة غيره ليزيح عن كاهلها ذلك الثقل المهلك فردت بكبرياء مصطنع:
-إحنا مش بنشحت ولا عاوزين حاجة من حد
نظر لها شزرًا قبل أن ينطق:
-أنا مش باخد رأيك، ده كلام نهائي مافيش نقاش فيه
أبدى “يامن” الواقف خلفه إعجابه بطريقته التي تفرض سيطرته وهيمنته على الأمور، نظر له بتفاخرٍ لم ينكره وتابع حواره مع والدة “هالة” باهتمامٍ ليتعلم منه، تحولت قسمات وجه “أم بطة” للامتعاض والعبوس حينما قالت كذبًا:
-يا بيه إنت جاي غلط، أنا فقيرة بس عندي كرامة و..
قاطعها بتهكمٍ قاصدًا تعريتها أمام نفسها:
-بلاش الدخلة دي عليا، وخلينا نتكلم على المكشوف من غير لف ولا دوران، إنتي بتدوري على اللي يشيل عنك، وأنا موجود وهاشيل، ومهياش أول مرة، عملتيها قبل كده مع بنتك الكبيرة، بس المرادي أنا واقفلك!
بدت كالفرخ المبتل أمامه وهو يكشف نواياها هكذا ببساطة، فردت عليه بانكسارٍ زائف:
-بتستقوى علينا عشان احنا غلابة!
أشار لها بسبابته محذرًا بخشونة:
-الأسطوانة المشروخة دي مابتخلش عليا، سامعة
وقبل أن تضيف المزيد تحركت عيناها نحو الصوت المألوف الذي صرخ بهلع من الخلف:
-فين “هالة” يامه؟
استدار كلاً من “أوس” و”يامن” نحو “بطة” التي أتت مهرولة لنجدة أختها مما قد يصيبها من بطش والدتها الأهوج، زاد توتر أمها لرؤيتها، فمجيئها سيزيد من الطين بلة، وربما سيزيح الغطاء عن عنفها معها، اندفعت “بطة” بلا تفكير نحوها غير مكترثة بمن يسد عنها المدخل أو من يعوق طريقها لتسأل بتلهفٍ وأنفاسها شبه متقطعة:
-عملتي فيها إيه؟
أجابتها الأخيرة بارتباك وقد شحبت تعبيراتها:
-و.. ولا حاجة
صرخت “بطة” عاليًا:
-يا “هـــالة”
أمسكت بها والدتها من ذراعها لتوقفها قائلة بغيظ وهي تكز على أسنانها:
-أختك جوا، اسكتي بقى
نظرت لها بعينين حانقتين قبل أن تصيح بها بعصبيةٍ:
-هي فين؟ أنا عاوزة أشوفها يامه
هنا فتحت “هالة” باب غرفتها لتقف عند عتبته متسمرة في مكانها، وببقايا محطمة وقوى مستنزفة همست بقوة قليلة:
-أنا أهوو
فزعت “بطة” لرؤيتها متورمة، منتفخة الوجه، الكدمات تشكل لوحة صريحة على ملامحها الذابلة، ناهيك عن الخدوش والعلامات التي لم تكشف عنها ثيابها بعد، شهقت لاطمة على صدرها:
-إيه ده؟!
رغمًا عنها انسابت عبرات “هالة” المنكسرة على وجنتيها متأثرة بكل ما خاضته مؤخرًا، وما ضاعف من ذلك الإحساس بالخذلان والضعف بداخلها هو وجود “يامن” الذي لمحته مركزًا بصره عليها، خجلت منه وانهار ما ظنت أنه شجاعة متسلحة بها، ركضت “بطة” في اتجاه أختها لتضمها إلى أحضانها وشددت من قوة ضمها لتشعرها بدعمها لها، وما إن ارتمت الأخيرة في صدرها حتى انفجرت باكية بحرقة، لم تهتم بمن يشاهدها أو من يظنها ضعيفة، فما مرت به ليس بالهين، استشاط “أوس” غضبًا لرؤيتها على تلك الحالة السيئة، مشى خطوة للأمام ليقلص المسافة بينه وبين أمها القاسية هامسًا لها من بين أسنانه:
-لو إيدك اتمدت عليها تاني هزعلك، وأنا زعلي وحش أوي، فأحسنلك متجربيهوش!
كانت “أم بطة” متأكدة كليًا من شراسة تحذيره، فردت بتلعثمٍ خانع داعية الله في نفسها ألا يخرج عن طور هدوئه:
-طـ.. طيب!
وخزة قوية ونغصة مؤلمة أصابت صدره مع انسياب دمعاتها التي بدت كالمياه الحارقة لروحه، لا يعرف ما الذي أصابه ليشعر بذلك الاختناق والحنق، ربما الشعور بالذنب أو تأنيب الضمير، لكنه كان على يقين كامل بأن لتراجعه مضطرًا عن حمايتها السبب الرئيسي فيما أصابها لاحقًا من إهانات قاسية وإيذاء بدني، بل واستخفافه منذ البداية بفظاعة مشكلتها التي انتهت بما يراه الآن من نتائج مأساوية، بدأت الدماء الساخنة تتدفق في عروق “يامن” لتهيج من مشاعره الغاضبة، انعكس ذلك بصورة ملحوظة على بشرته التي اصطبغت بحمرة جلية، كور أصابعه ضاغطًا عليها بعصبية حتى ابيضت مفاصل يده، وجد صعوبة في الاستجابة لأمر “أوس” حينما هتف به:
-يالا بينا
تجمدت قدماه ورفضتا الانصياع له والتحرك، صاح به ابن عمه بصوته الأجش:
-“يامن”، تعالى ورايا!
وبزفير ثقيل وخطوات متباطئة اضطر أن يتحرك صاغرًا ليتبع “أوس”، وبقي ذلك الشعور المزعج الحانق متأججًا بقوة في صدره ليجعله يعيد النظر إلى الأمور التي تخص غيره من منظور اختلف كثيرًا عما اعتاد عليه …………….!!
……………………..