رواية الحبُ.. أَوْس
الفصل الرابع والعشرون (الجزء الثاني)
فرت الدماء من بشرتها ليبدو وجهها باهتًا متوترًا بعد أن سألتها والدتها عن أختها الأصغر، اضطربت نظراتها وشعرت بدقات قلبها المتسارعة تتقاذف بداخل صدرها، شُل تفكير “بطة” مؤقتًا وتشتت ذهنها وهي تعتصر عقلها ليعمل بكامل طاقته لتجد الرد المناسب، تساءل “عبد الحق” باستغراب وهو يوزع نظراته بين الثلاثة:
-هي “هالة” مش معاكو؟
تضاعف ارتباك “بطة” وأدركت أنها باتت في مأزق كبير، بينما أكمل زوجها قائلاً بنبرة عادية:
-احنا مشوفنهاش أديلنا زمن!
وكأنه انتزع فتيل قنبلة موقوتة لتنفجر “أم بطة” ثائرة في وجه ابنتها:
-إيه الكلام اللي بيقوله جوزك ده يا “بطة”؟
لم تعرف بماذا تُجيبها، فالطاولة انقلبت رأسًا على عقب، هزتها أمها بعنف من ذراعها الذي قبضت عليه صارخة بها:
-ردي عليا، البت أختك فين؟
بدا “عبد الحق” كالأبله وهو ينظر بحيرة إلى زوجته المضطربة وإلى والدتها المتعصبة، تساءل باندهاش حائر:
-هو في حاجة إنتو مخبينها عليا؟
كورت “أم بطة” قبضتها لتلكزها بقسوةٍ في كتفها مكملة صياحها الغاضب وقد ازداد حنقها منها:
-انطقي يا مزغودة!
تأوهت “بطة” من الألم وحاولت على قدر المستطاع تحاشي ضرباتها الموجعة، اعتدلت في وقفتها مجيبة بأنين:
-متقلقيش عليها يامه، هي بخير!
صرخت بها:
-هي فين؟
بينما علق “منسي” بنبرة ذات مغزى وبكلمات ونظرات موحية ليزيد من الطين بلة:
-قلبي كان حاسس إن الحكاية فيها إن، شوفي يا ست “أم بطة”، أنا دخلت البيت من بابه وغرضي أستر بنتكم، مش أتجوز واحدة ماشية على حل شعرها!
هنا انفجرت فيه “بطة” لترد بهياج غير مفهومٍ لمن حولها وهي تشير بسبابتها أمام وجهه:
-إنت آخر واحد يتكلم عن الشرف
ثم رمقته بنظرة احتقارية قبل أن تضيف بإهانة قاسية:
-معدتش إلا واحد واطي زيك يتهم أختي في شرفها!
كبت “منسي” غضبه المندلع بداخله ليبدو كالملاك البريء في حضرة عائلتها معلقًا عليها بعتابٍ:
-أنا مش هارد عليكي!
نهرها “عبد الحق” بحرجٍ كبير:
-عيب كده يا “بطة”
وكأن والدتها تهيم في وادٍ خاصٍ بها، استثارت صائحة بتشنجٍ وهي تطاول باليد على ابنتها الكبرى:
-بصيلي هنا، أختك فين؟ أنا مش هاسيبك النهاردة إلا لما أعرف مكانها
أصرت “بطة” على موقفها الرافض قائلة بتحدٍ سافرٍ:
-لأ مش هاقول على مكانها حتى لو فيها موتي
تعجبت أمها من حالة الإصرار العنيدة المسيطرة عليها، في حين تابعت “بطة” مدافعة عن موقفها العدائي تجاه “منسي:
-إيه عاوزين تضيعوها وتجوزوها لواحد زي ده؟ مش هايحصل أبدًا
اختنقت نبرتها أكثر وبدت أكثر انفعالية وهي تكمل:
-يامه ده حاول يعتدي على شرف بنتك، إزاي تأمني عليه؟
هنا تدخل “منسي” في الحوار بعد أن بقي للحظات على الحياد ليصيح نافيًا بصوته الخشن:
-كدابة، محصلش، شايف الافتراء يا “عبده”؟ أنا مش عاوز أرد على مراتك عشان إنت موجود، اتصرف بقى معاها
نظرت له “بطة” شزرًا وباستنكارٍ معكوسٍ على تعبيراتها المتعصبة، فكيف يجرؤ ذلك النجس على ارتداء قناع البراءة وهو ذئب حقير؟ شعرت بألم قوي يضرب كتفها وبأظافرٍ حادة تغرز في لحمها لتخرج شهقة متألمة من جوفها، جمدت عينيها المحتقنتين على وجه والدتها التي صرخت تهددها بعنفٍ:
-قسمًا برب العزة لو مقولتيش البت فين لأجيب رقبتك تحت رجلي، هو أنا حيلتي حاجة غير الشرف، انطقى يا ….!
توسلها زوجها برجاءٍ وقد تدخل بجسده ليحول بينهما ليخفف من حدة الاشتباك بالأذرع:
-ماتقولي هي فين يا “بطة”؟
لم تعبأ بما تتلقاه من أذى وردت بوجعٍ:
-لأ مش هاقف أتفرج على أختي وهي بتضيع
استشاط “منسي” من حماية “بطة” لأختها باستماتة فأراد زعزعة ما تظن أنها تملكه بالتلميح عن عمدٍ:
-كفاية يا ست “أم بطة”، هي تلاقيها مسنودة على حد تقيل وواصل فمش هممها حد!
ارتعدت “بطة” قليلاً وتوترت نظراتها من احتمالية كشف مخبئها، التفتت أمها نحوه لتسأله:
-تقصد مين يعني؟
أجابها بغموض وهو يومئ بعينيه:
-شوفي إنتو تعرفوا مين من الأكابر!
علق “عبد الحق” متسائلاً بنزقٍ وكأنه يفكر بصوتٍ مسموع:
-تكونش راحت عند “تقى”؟
اتسعت حدقتا “بطة” في فزع بعد جملة زوجها الأخيرة والتي كشفت المستور، ردت عليه أمها مؤكدة وقد ضاقت نظراتها المحتدة:
-أيوه، مافيش إلا هي، ما إنتو متعرفوش حد غيرها برا الحتة الفقر دي يقدر يساعدكم
التوى ثغر “منسي” ببسمة ماكرة وهو يرد باقتضابٍ:
-وهو في غيرها!
أرادت “بطة” الفتك بذلك المخلوق الشيطاني الذي يزيد وجوده من احتقان النفوس وخراب البيوت، منعها عنه هجوم والدتها عليها بشراسة أكبر ممسكة بحجاب رأسها وبكومة من شعرها:
-انطقي بيت “تقى” فين؟!
قاومت قدر المستطاع وابل الشتائم والضربات الموجعة التي تلقاها جسدها لتحمي أختها الأصغر، أبت أن يكون مصيرها مثلها مع شخص تمقته ويحول حياتها إلى جحيم مستعر، هي تستحق الأفضل، أن تحظى بحياة طيبة سوية تحقق فيها تطلعاتها وأحلامها الفتية، تدخل زوجها لإنقاذها فتمتم بترددٍ:
-بيتهيألي أنا فاكر العنوان!
برقت عينا “بطة” بارتعاد حقيقي، فكل محاولاتها لإبعاد المخاطر عنها قد باءت بالفشل، توسلته بهلعٍ ظهر عليها:
-لأ يا “عبده”!
استدارت أمها نحوه لتسأله بعينين متوحشتين:
-قول يا جوز بنتي!
……………………..
تجددت مشاعره المتحمسة وتضاعف شوقه مع سماعه لتلك النبضات السريعة المتلاحقة عبر الجهاز الطبي الحديث، شعر “أوس” بكم الأدرينالين المنفعل يتدفق في عروقه ليزيد من حالته المتوترة والمترقبة لمولود جديد سيأتي للحياة بعد أشهر معدودة سيحمله بين ذراعيه ويختبر مجددًا الشعور الأبوي العظيم، التفت نحو زوجته ليطالعها بنظراته الحالمة رغم الإضاءة المحدودة، تسارعت دقات قلبه واختلجت مع أنفاسه المنتظمة لتزيد من تلاحقها، فقد رزقه الله بجنين آخر ينمو في أحشائها، عاد ليحدق بدقة في الشاشة الموضوعة أمامه ليتأمل الشكل المبهم للجنين النامي، ابتسمت الطبيبة “بارسينيا” معلقة:
-عظيم، النبض كويس، وحجم الكيس مناسب
سألتها “تقى” بفضول وقد تعلقت أنظارها بالشاشة المضيئة:
-يبان نوعه إيه يا دكتورة؟
أجابتها الأخيرة نافية وبنبرة علمية:
-لأ طبعًا، احنا لسه في البداية، الكلام ده على نهاية الشهر الرابع عشان نكون متأكدين من نوعه
رد عليها “أوس” بهدوءٍ ملحوظ في نبرته:
-أنا مش فارق معايا، المهم إنها والبيبي يكونوا بخير
أومأت “بارسينيا” برأسها بإيماءة خفيفة ثم أضافت محذرة بجديةٍ:
-ضروري الراحة الفترة الجاية بحيث يعدي أول 3 شهور على خير ونطمن إن المرحلة الخطرة عدت
هز رأسه قائلاً دون تردد في التفكير:
-شوفي المطلوب وأنا هنفذه
رسمت ابتسامة منمقة على شفتيها وهي تكمل بكلمات منتقاة بحذرٍ:
-ويا ريت يكون في تقنين للعلاقة الزوجية، وده لمصلحة الأم والجنين!
خجلت “تقى” من تلميحها المتواري وتورد وجهها بحمرة مشتعلة شعرت بها، في حين ابتسم “أوس” قائلاً باقتضاب وقد فهم مقصدها دون أن يبدو متأثرًا:
-تمام
نهضت الطبيبة “بارسينيا” من على مقعدها لتقول بلطفٍ وهي تعيد إضاءة الغرفة المعتمة:
-تقدري حضرتك تلبسي هدومك، وأنا هنتظرك في مكتبي برا
ردت بخفوت وهي تسحب الغطاء على بطنها المكشوف:
-شكرًا يا دكتورة
-العفو
قالتها الطبيبة قبل أن تترك الاثنين بمفردهما في الغرفة لتعتدل “تقى” في جلستها على الفراش، أخفضت كنزتها المطوية لتغطي ما كُشف من جسدها ثم نظرت بعينين متقدتين بوهج الحب إلى زوجها قبل أن تسأله:
-فرحان يا “أوس”؟
أجابها بتنهيدة عاشقة:
-أنا طاير من السعادة
ثم مد كفه ليمسك بأناملها، رفع يدها إلى فمه ليقبله بحنو، جلس إلى جوارها لينظر لها عن قرب، حملقت فيه متسائلة بتوترٍ:
-هتزعل لو جبت بنت تاني؟
قطب جبينه معلقًا باستغرابٍ مُعاتب:
-أزعل؟ يبقى إنتي مش عرفاني كويس يا “تقى”
ردت موضحة:
-أنا بس خايفة …..
وشع إصبعه على شفتيها ليمنعها من التبرير قائلاً:
-ربنا يراضينا بالأحسن
أشرق وجهها أكثر مع تلك الهالة السمحة التي غلفت ملامحه الجادة ليبدو شخصًا آخرًا استطاعت ببراءتها إيجاد بذرته الطيبة لتطفو على السطح، تنفست بعمق لترد بعدها بنبرة متفائلة خيرًا:
-يا رب أمين
سألها “أوس” بحماس ظهر في نظراته نحوها:
-إيه رأيك أنا عازمك على الأكل برا في أشيك مطعم هنا؟
لم تعارضه قائلة:
-معنديش مانع، بس إنت مش وراك شغل
رد بعدم مبالاة:
-أنا معاكي اليوم كله
تذكرت وجود ضيفتهما بالمنزل فتشدقت قائلة:
-احنا نسينا “هالة”، هي …..
قاطعها بهدوءٍ:
-ماتشغليش بالك بيها، “عفاف” معاها وواخدة بالها منها، وبعدين عاوز أكون معاكي لوحدنا شوية، مش من حقي ولا إيه؟
عادت الدموية الدافئة لتغزو بشرتها من جديد فهمست بنعومة:
-اللي تحبه يا حبيبي
رفع حاجبه للأعلى ممازحًا:
-إيه الرقة دي؟ مش واخد على كده منك!
سألته بعبوس مصطنع:
-هو أنا نكدية
رد مبتسمًا وهو يكبت ضحكة توشك على الانفلات منه:
-على حسب!
تحولت ملامحها للجدية وهي تدفعه برفق من كتفه لتقول له:
-طب يالا بينا لأحسن الدكتورة تفتكر إننا بنعمل حاجة كده ولا كده
غمز لها قائلاً بعبثية وقد بدت الفكرة مغرية:
-وماله، مش مراتي!
عضت على شفتها السفلى محذرة:
-عيب يا “أوس”!
قهقه ضاحكًا من خجلها المحبب له، فنكست رأسها بحرجٍ لطيف، رمقها بنظرة بشوشة ثم نهض من جوارها ليعتدل في وقفته قائلاً لها:
-حاضر، وكله عشان خاطر الباشا اللي جوا ……………………..
……………………..
يتبع >>>>>>