رواية الحبُ.. أَوْس
الفصل الثالث والعشرون
ارتشفت القليل من عصير البرتقال الطازج الذي أعدته لها “عفاف” لتواصل بعدها مطالعة ذلك الكتاب الذي بيدها بحديقة الفيلا الخلفية، في البداية وجدت صعوبة في الاستذكار واستعادة المعلومات من بواطن عقلها إلى ذاكرتها القريبة، لكنها لن تستسلم وتتخلى عن أبسط طموحها، ستبذل قصارى جهدها لتحقق شيئًا إيجابيًا لنفسها أولاً قبل أسرتها، كانت بحاجة للشعور بذاتها، باكتساب الثقة في نفسها وتعزيز إحساسها بأهميتها، أدارت “تقى” رأسها للجانب حينما سمعت صوته المألوف يُناديها من على بعدٍ، أسندت الكتاب بجوارها لتنهض من مكانها متجهة إلى البهو، تعجبت من وجود “أوس” في تلك الساعة المبكرة من النهار، فعادةً هو يأتي متأخرًا بعد انتهاء أعماله بالمؤسسة، اعترتها دهشة أكبر حينما رأت “هالة” بصحبته، تجمدت نظراتها عليها ولاحظت بكائها وشحوبها المُربك، وزعت نظراتها الحائرة بين الاثنين وهي تتساءل باستغرابٍ:
-“هالة”، بتعملي إيه هنا؟
ثم التفتت نحو زوجها لتسأله بجدية وقد انزوى ما بين حاجبيها:
-حصل إيه يا “أوس”؟
وقبل أن يجيبها هرولت “هالة” نحوها لترتمي في أحضانها باكية بقهرٍ، تعالت شهقاتها وامتزجت مع نحيبها المتقطع، ضمتها “تقى” بحنوٍ وقد تضاعفت حيرتها من حالتها المثيرة للشكوك، نظرت إلى “أوس” في صمتٍ وكأنها تسأله عما تخفيه، أشار لها بعينيه كتعبير مباشر عن تأجيل الحديث في الأمر لوقت آخر، أومأت برأسها بتفهمٍ ثم ربتت على ظهرها برفقٍ وهي تسألها:
-إنتي كويسة يا حبيبتي؟
لم تجبها “هالة”، بل شعرت بأنها بحاجة ماسة لإراحة عقلها من كم الضغوطات العصبية التي تعرضت لها واستنزفت طاقتها بالكامل، هي تحملت في ساعات قلائل ما لا يمكن أن تتحمله فتاة صغيرة في مثل عمرها، وما إن تسرب إليها ذلك الإحساس المطمئن بوجود من يدعمها حتى تخلت مؤقتًا عن وعيها ليزداد ثقل جسدها على “تقى”، شعرت الأخيرة بتراخيها في أحضانها وبعدم قدرتها على الإمساك بها فهتفت بجزعٍ:
-“أوس”، الحقني!
أدرك سريعًا من نظرته الشاملة فقدان “هالة” لوعيها، اقترب منها هاتفًا بجدية:
-حاسبي، أنا ماسكها
بحذرٍ تام لف “أوس” ذراعه حول ظهرها وانحنى قليلاً ليتمكن من حملها ثم ســار بها بخطوات متعجلة نحو الدرج ليتجه للطابق العلوي، تبعته “تقى” بقلبٍ قلق على تلك الصغيرة التي أوحت ملامحها الذابلة بوجود خطب عظيم، رددت من ورائه:
-أنا هاكلم الدكتور يجي يشوفها
رد دون نقاشٍ:
-يكون أحسن!
……………………..
تولت رعايتها بعد انصــراف الطبيب وإبداء رأيه المبدئي في حالتها الصحية والنفسية، لم تكن “هالة” تعاني أمرًا خطيرًا في حالتها الجسدية سوى من بضعة كدمات وخدوش سطحية نتجت عن مقاومة غير مفهومة لأحدهم، لكن حالتها النفسية لم تبشر بخير، اقترح “مؤنس” عرضها على طبيب نفسي متخصص فما تعانيه يوحي ببوادر أزمة عصبية، أوصله “أوس” إلى خــارج غرفة الضيوف ليعود من جديد إلى “تقى”، مسحت الأخيرة برفق على جبينها ونظرت إليه بحزنٍ وهي تسأله:
-حصلها إيه؟
أجابها بحنقٍ من بين أسنانه المضغوطة:
-الكلب اللي اسمه “منسي” اتعرضلها
شهقت “تقى” عفويًا واضعة يدها على صدرها وهي تردد بصدمة مرتعدة:
-“منسي”!
تابع مكملاً بصوتٍ مزعوج:
-على حسب كلامها هي بتقول إنها ضربته واحتمال كبير تكون قتلته
شخصت أبصارها هاتفة بذهولٍ:
-مش معقول
دس “أوس” يديه في جيبي بنطاله ليقول بوجه جاد التعبيرات:
-أنا متابع بنفسي كل حاجة، والمحامي زمانته هناك عندكم بيسأل عن تفاصيل موضوعها وهايشوف إن كان في بلاغ ولا حاجة عن جريمة وقعت وهيعرفني بكل حاجة
نهضت “تقى” من على طرف الفراش لتسير نحوه، وقفت قبالته تطالعه بوجهها البرئ قبل أن تتوسله بنبرة راجية حملت الخوف في طياتها:
-“أوس” عشان خاطري ماتسيبهاش لوحدها، واحد زي ده ممكن يضيع مستقبلها، إنت مش عارفه أدي و…
اغتاظ الأخير من كلماتها المُشككة في قدراته على مواجهة أمثال ذلك الوضيع، احتدت نظراته وقست على الأخير وهو يرد مقاطعًا بخشونة:
-“تقى”، ماتخلقش لسه اللي يقف قصادي!
أدركت أنها أخطأت في مقارنتها به وردت معتذرة على الفور:
-مقصدش، بس هي غلبانة أوي ومغلوبة على أمرها
علق مؤكدًا بثقة تامة:
-أنا عارف كويس أتعامل إزاي مع الأشكال الضالة اللي زيه
استدارت “تقى” برأسها لتنظر بحزنٍ آسف إلى “هالة” الراقدة على الفراش متمتمة لنفسها بنبرة مواسية:
-عيني عليكي يا حبيبتي، واحد زي ده ضيعك!
أشار لها “أوس” بسبابته لتتوقف عن الهمهمة حينما رن هاتفه المحمول، تحرك مبتعدًا عنها ليجيب على الاتصــال الهام، بدا حديثه مبهمًا للحظات حتى أنهى المكالمة ليلتفت نحوها قائلاً بهدوءٍ جاد:
-اطمنى يا “تقى”، مافيش خوف عليها
ارتسمت علامات الارتياح على وجهها وهي تسأله بعدم تصديق:
-بجد؟
تابع موضحًا بامتعاضٍ:
-المحامي أكدلي إن مافيش أي بلاغ أتقدم عن وقوع جريمة قتل، والأغرب إن الكلب ده ماشي على رجليه
هللت متسائلة بابتسامة عريضة وقد لمعت نظراتها ببريقٍ من الأمل:
-يعني مامتش؟
أجابها بعبوسٍ مقتضب:
-لأ
وضعت “تقى” راحة يدها على صدرها مرددة بامتنان:
-الحمدلله يا رب، عدت على خير
وما لبث أن تحول وجهها للخوف من جديد لتهتف بارتباك مرتعد:
-بس أكيد “منسي” مش هايسيبها في حالها، هيحاول ينتقم منها أو…
قاطعها “أوس” بضيقٍ كبير:
-“تقى”
ردت على الفور:
-أيوه
سألها بنظرات جامدة ووجهٍ شبه متحجر:
-إنتي مش واثقة فيا ولا حاجة؟
فهمت ببساطة أن أسلوبها المسترسل في الحديث أزعج زوجها بشكلٍ أو بآخر، استندت بمرفقها على صدره لتمسح على كتفه بنعومة، رمقته بنظرة ناعمة ثم هزت رأسها بالنفي وهي ترد بدلالٍ:
-لأ طبعًا، إنت مافيش زيك، بس خوفي عليها مش مخليني عارفة أركز أنا بأقول إيه
تصنع الابتسام رغم ضيقه الداخلي من إعطاء قيمة لذلك الحقير وكأنه ذو شأن عظيم، تنفس بعمق ليزفر بعدها قائلاً بلهجة آمرة:
-عاوزك دلوقتي تكلمي حد من أهلها تكوني بتثقي فيه وتعرفيهم إنها موجودة معاكي، بدل ما الموضوع ياخد سكة تانية
رمشت بعينيها متسائلة:
-مش فاهمة، تقصد إيه؟
أجابها موضحًا بمنطقيةٍ:
-هي لو مرجعتش بيتها في ميعادها زي كل يوم أهلها مش هايسكتوا وهيعملوا محضر غياب، وده هيعمل مشاكل
أومأت برأسها معلقة:
-طيب، أنا معايا رقم “بطة” أختها
سألها على الفور:
-واثقة فيها؟
ردت مؤكدة بنبرة حملت المواساة:
-جدًا، هي غير أمها خالص بصراحة، واللي شافته خلاها تفكر أكبر من سنها
بدت كلماتها معبرة عن طبيعة التفكير السائد عند أغلب قاطني تلك المنطقة من النساء، غمغم “أوس” مع نفسه قائلاً بتهكمٍ وقد تشكل على وجهه علامات التأفف:
-الأمهات عندكو عينة واحدة!
انتهت “تقى” من التعليق ليضيف بعدها:
-خلاص فهميها بالعقل على اللي حصل، وعرفيها إني هاتصرف وأساعد أختها، الموضوع معايا!
ابتسمت له برقةٍ وهي تطالعه بنظرات مليئة بالثقة والمحبة:
-حاضر
……………………..
فعلت مثلما أمرها وهاتفت أخت “هالة” الكبرى لتقص عليها بإيجاز ما حدث من محاولة فعلية للاعتداء على تلك المراهقة للنيل من شرفها، بالإضافة إلى دفاع الأخيرة عن عرضها ثم لجوئها إليها لتساعدها في مصيبتها، صُدمت “بطة” من كم الكوارث الهابط على رأسها، وما زاد من فجيعة الأمر أن المتسبب في إيذاء أختها وتلويث سمعتها هو ذلك الحقير الوضيع “منسي” الذي أباح لنفسه ما لا يخصه أبدًا، احمر وجهها وانتفخت عروقها وهي تسبه بقسوةٍ وتتوعده بشراسةٍ:
-ابن الـ …….! والله ما هاسيبه
حاولت “تقى” تهدئتها قائلة بحذرٍ:
-اسمعيني بس
اهتاجت أكثر لتصرخ بانفعالٍ:
-أنا هانزل هافضحه في الحتة كلها، وأجيب حق أختى منه، هو مفكرها ملهاش أهل
ردت عليها “تقى” بتمهلٍ لتمنعها من التصرف بتهورٍ:
-متقلقيش، جوزي هايتعامل معاه، وهايبعده عن طريقها، وإنتي عارفاه أد كلامه!
لم تكن “بطة” بحاجة لمثل تلك العبارات المشيرة إلى نفوذ وسلطة شخص معروف في الأوساط الاجتماعية كـ “أوس الجندي” لتتأكد من قدرته على تنفيذ ما وعد به وردع من يتجرأ عليه بل والانتقام بقسوة ممن يتجاوز الخطوط الحمراء معه، حطت دمائها الثائرة قليلاً لترد بامتنانٍ شاكر:
-تعيشي ياختي، ده العشم بردك، كتر خيركم على اللي بتعملوه
-متقوليش كده
ساد صمت لحظي قبل أن تقطعه “بطة” متسائلة:
-بس كده البت “هالة” هتفضل معاكي؟
أجابتها “تقى” معللة سبب بقائها:
-أيوه، صعب أسيبها تمشي وهي في حالتها دي، “هالة” مرعوبة من اللي حصل، ده غير إنها مش عارفة إن كان لسه الزفت ده حي ولا ميت
كزت على أسنانها متمتمة بحنقٍ:
-عندك حق، الواطي الخسيس!
سألتها “تقى” بعتابٍ لطيف:
-وبعدين إنتي مش مطمنة عليها وهي معايا؟ والله أنا بأعتبرها أختي الصغيرة
نفت على الفور:
-لأ، ماتقوليش كده، ده احنا نتشرف ياختي بيكي، هي تطول أصلاً تفضل معاكي، أنا مش عاوزاها تتعبكم ولا تضايقكم
ردت مجاملة قبل أن تسألها بجدية:
-لا يا ستي، ولا تعب ولا حاجة، المهم إنتي هاتقولي لأمك إيه؟
حكت “بطة” مقدمة رأسها قائلة بحيرة:
-والله ما عارفة، هي هتقلب الدنيا ومش هتتفاهم، خدي مني، أنا مجرباها
تذكرت “تقى” معاملة جارتها لابنتها الجافة، خاصة فيما يتعلق بمسائل الزواج، فهي لا تعبأ بالصالح العام لبناتها، المهم عندها أن تجد من يزيح ذلك الثقل المتعب عن كاهليها حتى وإن كان يعني ذلك التعاسة والشقاء لفلذات أكبادها، تنهدت متسائلة بحزنٍ:
-طب والعمل؟
صمتت لتفكر مليًا ثم هتفت فجأة وكأن أمر ما قد طرأ في عقلها وأزال الغشاوة عنه:
-أنا ممكن أقولها إن البت “هالة” هتقعد معايا يومين كده تونسني
ردت متسائلة بتوجسٍ:
-وتفتكري هتصدق ده؟
أجابتها مبررة لتقتنع بخطتها البسيطة في إخفاء تلك المسألة عن والدتها:
-ما هو “عبده” جوزي مسافر يومين بيقضي كام مصلحة، دي فرصة حلوة، وبيتهيألي مش هتشك فينا
سألتها بتوترٍ لم تخفه:
-إنتي متأكدة من ده؟
زفرت قائلة بقلة حيلة:
-سبيها على الله، مقدميش غير كده
ردت باقتضابٍ:
-اتفقنا
لم تجد “بطة” من الكلمات المناسبة ما تعبر به عن امتنانها لمعروف جارتها الوفية وزوجها، فقالت بحرجٍ:
-أنا مش عارفة أقولك إيه ولا أشكرك إزاي إنتي وجوزك على معروفكم معانا
عاتبتها “تقى” بلباقةٍ:
-ده إنتو إخواتي، متقوليش كده
شكرتها قائلة:
-تعيشي يا غالية!
ثم أنهت معها المكالمة وهي تغلي من الغيظ، ازدادت بشرتها اشتعالاً كلما تخيلت الموقف وجسدت تفاصيله في عقلها متوهمة يديه النجستين تتلذذان بتلمس جسد أختها من أجل نزوة لحظية لكسرها، عادت دمائها لتثور من جديد وهي تضغط على شفتيها قائلة:
-والله لأدفعك تمن ده غالي!
بدأت بعدها في ترتيب أفكارها لتتمكن من إقناع والدتها بكذبتها حتى لا تحاصرها بأسئلتها فينكشف كل شيء قبل أن يلقى ذلك المجرم جزائه.
……………………..
-يا نصيبتي؟ وعملت إيه بعد كده؟
تساءلت “أم بطة” بتلك العبارة المرتعدة وهي تلطم على صدرها بعد أن ادعى “منسي” كذبًا توريطه في مشاجرة حامية بين بعض العاطلين والخارجين عن القانون ليبرر سبب تضميد رأسه بذلك الشاش الطبي، انطلت عليها أكذوبته، ودعمها بالمزيد من الأحداث الحماسية ليبدو كالبطل الهمام في أنظارها، شجعه على ذلك هو جهلها بمحاولته المشينة للاعتداء على ابنتها، فتوهم أن تلك الساذجة قد ارتعدت ولاذت بالفرار بعد أن ظنت أنها تخلصت منه، شعر بالارتياح وبتجاوزه مرحلة الخطر، بل وبإمكانية الابتزاز والمساومة لتحقيق مطامعه والظفر بها، ارتشف ما تبقى من شايه الساخن ليسند الكوب الزجاجي في الصينية الموضوعة أمامه متابعًا بغطرسةٍ مصطنعة:
-جبت اللي خلفوهم الأرض، هو في عاركة تستعصى عليا!
عادت الابتسامة لتلوح على ثغرها مبدية إعجابها برجولته التي يدعيها أمامها، مدت يدها لتربت على ذراعه قائلة بتفاخرٍ:
-أبو الرجولة كلها يا سي “منسي”
دار الأخير السمج بعينيه في أرجاء المنزل محاولاً اختلاس النظرات ليبحث عن ضحيته المختبئة، لم يرَ سوى أختيها الصغيرتين فتساءل بمكرٍ:
-أومال عروستنا فين؟
أجابته “أم بطة” عفويًا:
-راحت يومين عند أختها، أصل الواد ابنها بعافية شوية وهي قالت تراعيها معاها
فرك ذقنه النابتة بغير تهذيب معقبًا بوجه ممتعض التعبيرات:
-أه وماله، مش هي بخير
ردت مبتسمة بسخافة:
-الحمدلله، في فضل ونعمة
اعتدل “منسي” في جلسته ليبدو أكثر جدية وهو يقول:
-أنا كنت عاوز أخد رأيك يا ست الكل في مسألة تهمك
نظرت له “أم بطة” باهتمام مرددة:
-اتفضل ياخويا
تنحنح بحشرجة واضحة قبل أن يستطرد مضيفًا:
-أنا كنت كلمت “عبد الحق” في موضوع كده
ظهرت علامات الحيرة على قسماتها، حملقت فيه بنظرات فضولية وهي تسأله:
-خير؟
ارتسم على فمه بسمة باهتة قائلاً بغموضٍ:
-إن شاء الله خير
عبست “أم بطة” بملامحها قائلة:
-وغوشتني يا سي “منسي”، هي حاجة خطيرة و…
قاطعها مسترسلاً في الحديث وبثباتٍ واثق:
-بصي يا ست الكل، من غير لف ولا دوران، أنا عاوز أتجوز بنتك “هالة”
تصنعت الاندهاش لتبدو مقنعة رغم الظواهر البائنة منذ فترة لتشير نحو ميله نحوها، وضعت إصبعيها أسفل ثغرها هاتفة::
-“هالة”!
هز رأسه بالإيجاب متابعًا عرضه بالزواج:
-أيوه، بصراحة ملاقتكش أحسن منكم أناسبكم، وكلمت “عبده” وهو معندوش مانع
ضاقت نظراتها هامسة بغيظٍ من إخفاء زوج ابنتها لذلك الأمر المشوق عنها:
-شوف الواد، مقاليش، بس أما أشوفه
أضاف “منسي” قائلاً بمدحٍ ليستميل رأسها إن كانت تفكر في رفضه رغم يقينه بالعكس:
-أنا قولت أفاتحك طالما مخدتش رد منه، ما إنتي الخير والبركة، وفي النهاية دي كلمتك يا ست الكل
ردت بابتسامة متسعة وقد توهجت نظراتها:
-ده يحصلنا الشرف يا سيد الناس
ظهرت أسنانه الصفراء جراء ابتسامته الزائفة وهو يقول:
-تسلمي يا أم العروسة، وأنا مش هاكلفكم حاجة، هاجيبلها كافة شيء، وأحلى فرح هيتعملها، ده غير إن شقتي فركة كعب منكم!
نجح ببساطة في إغرائها بما يمتلكه لترد مرحبة:
-أه طبعًا، ده الباب في الباب، هو حد طايل بنته تتجوز جمبه
مال للأمام قليلاً مركزًا نظره على وجهها، ثم سألها بهدوء مريب:
-ها رأيك إيه؟
أجابته بحذرٍ وهي تضرب كفها على الآخر المسنود في حجرها:
-أنا معنديش مانع يا سي “منسي”، بس إنت عارف الأصول، لازم اخد رأي العروسة
تراجع في جلسته ليعلق بعدم اكتراث وكأنه فهم ما تحاول فعله من مماطلة زائفة:
-وماله، حقها طبعًا
غمزت له قائلة بثقة لتبدد أي شكوك قد تساوره:
-اطمن، بناتي تحت طوعي!
عادت ابتسامته لتطفو على ملامحه المقيتة وهو يقول بارتياحٍ كبير:
-على خيرة الله، نقرى الفاتحة بقى!
……………………..
حدقت بنظرات تائهة في سقفية الغرفة الغريبة التي مكثت بها ليومين، كانت تشعر بالحركة من حولها، ومع ذلك لم تبدِ “هالة” أي مؤشر على تجاوبها، ظلت قابعة في بئر مخاوفها، ترتجف من أقل صوت، وترتعد مع لمحها لأي طيفٍ يمر على مقربة منها، ضمت ركبتيها إلى صدرها متكومة على نفسها، منغمسة في إحساسها المذعور منه، حتى وإن كانت قد نجت من شره المستطير إلا أن خلايا ذاكرتها قد خزنت ما حدث لها لتستعيده بين لحظة وأخرى فتنهار باكية في صمتٍ.
راقبتها “تقى” من على بعد وهي تهز رأسها بحزنٍ واضح عليها، فما أصعب المرور بتجربة قاسية كتلك! هي اختبرتها من قبل وتعلم مدى صعوبتها وتأثيرها النفسي والسلبي على حياة من يعايشها بجوارحه قبل عقله، أخرجت زفيرًا مهمومًا من صدرها، ورسمت على شفتيها بسمة رقيقة لتخفي ملامح ضيقها، مرقت إلى داخل الغرفة، ثم جلست بجوارها على طرف الفراش، حاوطت كتفيها بذراعها فاستندت الأخيرة برأسها على كتفها، رددت على مسامعها من الكلمات المهدئة ما قد يريحها قليلاً، لكن ما جعل خوفها يخبو بدرجة كبيرة حينما أخبرتها بآخر المستجدات بشأن “منسي” وبقائه على قيد الحياة لتشعر أنها تخلصت من كارثة كادت تقضي عليها كليًا، تراجعت “هالة” للخلف لتنظر لها بعينين متسعتين في صدمة وهي تسألها بتلهفٍ:
-يعني هو مامتش؟
هزت “تقى” رأسها بالنفي موضحة:
-لأ، ومافيش أي ضرر عليكي، متخافيش
تنفست الصعداء واضعة كفيها على صدرها لتشعر بضربات قلبها المتلاحقة وهي تتراقص بداخلها، رددت بامتنانٍ سعيد:
-الحمدلله يا رب
أضافت “تقى” مؤكدة:
-أنا مش عاوزاكي تشيلي هم أي حاجة طالما “أوس” اتدخل في الموضوع
نظرت “هالة” إلى صديقتها بخزيٍ ممتزج بالحرج للزج بزوجها في مشكلة لا تخصه، أخفضت نظراتها لتحدق في أصابع يدها التي تفركها بتوترٍ قبل أن تقول بتلعثمٍ مرتبك:
-أنا أسفة مكانش لازم أشغلكم بمشاكلي، بس والله غصب عني، أنا معرفتش أعمل إيه لما ….
وضعت “تقى” يدها على كتفها لتشعر بحنو لمستها ورفقها عليها، ثم قاطعتها بجدية لتخفف من وطأة توترها:
-متفكريش في اللي حصل، وإن شاء الله هياخد جزائه قريب
تطلعت إليها “هالة” بنظرات متعشمة غير فاقدة للأمل وهي تهمس بتضرعٍ:
-يا رب يخلصني منه!
……………………..
تلقى اتصالاً هاتفيًا من أحد أتباعه والذي يعمل كمرشد سري لقسم الشرطة التابع لمنطقتهم الشعبية ليبلغه بضرورة الالتقاء به في أقرب وقت لأمر هام، تأكد “منسي” أن للمال مفعول السحر مع أمثال هؤلاء ممن يغدق عليهم به ليأتوا إليه بالهام من الأخبار ليتخذ حذره إن استرق أحدهم السمع وعرف أنه في وضع مريب، قابله بعيدًا عن أعين المتلصصين وفي مكان منزوٍ شبه مظلم ليسأله بقلقٍ:
-خير يا كبير؟
أجابه “شعبان” بصوته المتحشرج وبغموض ملبك للأبدان:
-معمول فيك مهموز إنما إيه محترم!
لم ينكر “منسي” شعوره بتلك الرعشة الخفية المرعبة التي تسربت إليه لينتابه إحساسًا كبيرًا بالقلق، ابتلع ريقه الجاف شاعرًا بمرارته اللاذعة ليسأله بتوترٍ وقد اضطربت نظراته:
-ليه كده؟ ده أنا حتى بقالي مدة ماشي جمب الحيط
بصق “شعبان” على جانبه ليلتفت نحوه قائلاً ببرودٍ:
-الظاهر متوصي عليك من جماعة كبرات أوي، حاجة عليوي
شرد “منسي” ليفكر بحيرة فيمن يقف وراء ذلك متسائلاً بتوجسٍ:
-مين ده يا ترى؟
بينما علق عليه “شعبان” بنبرة ذات مغزى ليشير إلى مجهوده الزائف في تقصي المعلومات:
-أنا حاولت أشمشم كده وأعرف مين، بس موصلتش لحاجة، وربنا المعبود الحكاية دي كلفتني كتير، بس كله بثوابه، وعشان خاطرك بس يا عمنا
تنحنح “منسي” قائلاً بابتسامة باهتة:
-تشكر يا أبو الكرم، جميلك ده مش هنساه
ثم دس يده في الجيب الخلفي لبنطاله الجينز ليخرج منه لفافة صغيرة من السلوفان، طواها في راحته قبل أن يضعها بالإجبار في يد “شعبان” قائلاً له بإصرار:
-النبي قبل الهدية، دي حاجة بسيطة لزوم الدماغ المظبوطة
لم يتردد الأخير في أخذها، بل بدا منتشيًا للغاية وهو يفكر كيف يستغل تلك المادة في إضفاء سعادة وهمية على عقله، رد بحرجٍ مفتعل:
-مكانش ليه لازمة، هو أنا عملت حاجة، ده واجب عليا
-يا سيدي خليها عليا المرادي
سار “شعبان” خطوتين للأمام ملقيًا نظرة عامة على المارة وكأنه يتأكد من عدم رؤية أحدهم لما تناوله في الخفاء، استدار برأسه نحو “منسي” ليحذره بجديةٍ:
-خد بالك من نفسك، ولو في حاجة كده ولا كده مدارية في الورشة ولا بيتك تاويها، سامعني؟
هز رأسه قائلاً بتجهمٍ مقتضب:
-ماشي
-سلام
قالها “شعبان” وهو يلوح بذراعه في الهواء ليسير بعدها نحو الزقاق ليختفي من أمام أنظاره، تجمد “منسي” في مكانه مشدوهًا لبعض الوقت، تحسس ذقنه بلزمة ثابتة متسائلاً مع نفسه:
-مين ده اللي حاططني في دماغه ……………………..
……………………..
يتبع