رواية الحبُ.. أَوْس
الفصل الحادي والعشرون
لا تعرف كيف سيطرت على انفلات أعصابها بعد التجربة المريعة التي مرت بها وانتهت بكارثة محطمة كل آمالها بسببه هو فقط، هرولت فارة من ورشته متلفتة حولها بنظرات مرتعدة، من يتطلع إلى وجهها عن قرب ويدقق النظر سيكتشف حجم الهول المعكوس على ملامحها الباهتة، استخدمت “هالة” حقيبتها المدرسية في تغطية قميصها من الأمام لتحجبه عن الأعين المتطفلة التي ربما ستكشف ما فعلته عن عمدٍ، مجرد التفكير في افتضاح جريمتها ألبكها على الأخير وجعلها تتخبط في مشيتها، وما إن وصلت للناصية حتى أشارت بيدها لأول حافلة صغيرة الحجم مرت أمامها، لم تكترث بوجهتها الحالية، المهم أن تبتعد عن المكان وعن الجميع، ارتجف بدنها وهي جالسة في المقعد الأخير بالخلف، كافحت لتبدو طبيعية فلا تثير الشكوك حولها، ولكن كيف تتمكن من ذلك وهي اقترفت جريمة بشعة للدفاع عن شرفها الذي كاد أن يدنس على يد شخص بغيض كـ “منسي”؟ بدأت بعد برهة في استعادة هدوئها لترتب أفكارها في رأسها، فالأولوية الآن هي البحث عن حل قانوني لمشكلتها.
لم تكن راغبة في إشراك “تقى” في مصيبتها، فمن المحتمل أن تعجز عن مساعدتها، ستتوجه إلى صاحب النفوذ والسلطة لترجوه مباشرة، لذا كان عليها الذهاب إلى مقر مؤسسته، وبعون بسيط من السائق أرشدها إلى كيفية التنقل بين وسائل المواصلات للوصول إلى عنوانه، توترت أنفاس “هالة” وهي تجوب بنظراتها المذعورة ذلك الصرح الضخم الذي برز اسم “الجندي” بوضوح على واجهته وكذلك على الجانبين، ابتلعت ريقها المرير في حلقها الجاف محفزة نفسها على مواصلة السير، مرت بخوفٍ بجوار حراس الآمن الذين رمقوها بنظراتٍ فضولية متفحصة، أوقفها أحدهم مشيرًا بيده ليسألها بجمودٍ:
-رايحة فين؟
ازدردت ريقها وهي تجيبه بتلعثمٍ محاولة أن تبدو كذبتها مقنعة:
-عاوزة أقابل “أوس الجندي”، أنا بنت خالة مراته وهو عارفني
رد متسائلاً بخشونةٍ:
-في ميعاد سابق؟
خشيت من قول الحقيقة فيمنعها من الدخول وبالتالي تتعقد الأمور أكثر معها، لذا دون تفكير أو تأخير ادعت كذبًا:
-أيوه، هو قالي أقابله هنا، وتقدر تكلمه وتتأكد من ده!
اضطر أن يتنحى للجانب ليسمح لها بالمرور، تصنعت “هالة” الابتسام وهي تكمل خطواتها المتباطئة نحو الداخل، رهبة عظيمة اعترتها وهي تطأ بقدميها البهو المفضي إلى الاستقبال، تجولت بعينيها سريعًا في أرجاء المكان لتبحث عمن يساعدها، اقتربت من أحد المكاتب الرخامية لتطلب من الموظف المرابط خلفه السماح لها برؤية صاحب المؤسسة، اعترض الأخير قائلاً بهدوء رغم صرامة نبرته:
-يا فندم ماينفعش!
شعرت أن فرصتها في لقائه قد باتت مهددة بالضياع، آمالها بالكامل معقودة على رؤيته، أدمعت عيناها وهي تتوسله بنبرة أقرب للبكاء:
-أنا واقعة في عرضك، الموضوع حياة أو موت
هز رأسه بإيماءة رافضة معلقًا عليها بعمليةٍ:
-صعب يا آنسة
توترت “هالة” من إصراره الرافض لتقول باستعطافٍ عله يتراجع عن رأيه ويرق قلبه نحوها:
-أرجوك يا أستاذ، أنا لازم أقابله ضروري
رد عليها بنبرة خالية من التعاطف:
-صدقيني لو كان ينفع كنت خليتك تقابليه، لازم يكون في ميعاد سابق، ده غير إن الباشا “أوس” لسه مجاش! وهو ….
قاطعته بإلحاح وقد باتت على وشك الانهيار:
-أنا محتاجاه جدًا، عشان خاطري خليني أشوفه
تحرج من طريقتها المتوسلة ليقول بدبلوماسية علها تتوقف عن استخدام ذلك الأسلوب المبتز عاطفيًا:
-إنتي تقدري تقابليه برا يا آنسة
هتفت بنبرتها المختنقة وهي تكفكف عبراتها التي خانتها وانسابت من طرفيها:
-صعب، الموضوع مايستناش، والله هو عارفني، أنا مش بأدعي ده
زفر قائلاً باستياءٍ:
-مش عارف أقولك إيه يا آنسة، الحكاية مش سهلة زي ما إنتي مفكرة
ردت عليه برجاءٍ أكبر وقد استشعرت وجود بارقة أمل في جملته الأخيرة:
-حضرتك بس عرفه بأن “هالة” صاحبة مراته عاوزاه في حاجة مستعجلة، ولو هو رفض يقابلني أنا هامشي على طول، مش هاعترض
فكر للحظات في طلبها الراجي، خاصة أن حالتها توحي فعليًا بوجود أزمة ما، تنحنح قائلاً بامتعاضٍ وهو يشير بذراعه نحو الأرائك الجلدية الموضوعة في الزاوية:
-هابلغ السكرتارية وهاشوف هيردوا يقولوا إيه، اتفضلي استني هناك يا آنسة
أثلجت عبارته صدرها وأشعرتها بالارتياح قليلاً، لاحت ابتسامة باهتة على ثغرها خففت من وطأة مُصابها لترد بامتنانٍ:
-أنا متشكرة جدًا
أولته ظهرها لتتجه إلى حيث أشــار، جلست “هالة” على الأريكة الفردية منكمشة على نفسها وفي نفس الوقت مراقبة بنظرات متوترة ولوج الموظفين لداخل المؤسسة، آملت أن تلمحه أو تراه فور وصوله لتذهب إليه دون انتظار الروتينية المملة التي قد تحول دون مقابلتها له.
…………………….. …………………….. ………..
منحها قبلة صادقة نابعة من قلب عرف الحب أضعافًا مضاعفة مع أول مرة حملها فيها بين ذراعيه، هدهد رضيعته بحنوٍ كبير وهو يسير بها بتؤدة من غرفتها إلى غرفته، داعبت الصغيرة “حياة” أذنه وأنفه وكأنها تتفحصه وتستكشفه بطريقتها الخاصة، ابتسم لها “أوس” وادعى محاولته التهام أناملها الضئيلة فضحكت غاليته بعبثٍ، همس لها قائلاً:
-قريب هايكون عندك بيبي صغير تلعبي معاه
غمغمت الرضيعة بكلمات مبهمة وهي تخدشه في صدغه، أحنى رأسه للخلف ليتجنب محاولاتها للعبث معه دون أن تختفي ابتسامته، توقف عند عتبة الغرفة ليلقي نظرة متأملة على زوجته النائمة، تحولت تعابيره المسترخية للجدية قليلاً وهو يتذكر نصائح طبيبه النفسي بشأن التعامل مع “تقى” خلال المرحلة القادمة، زفر بثقلٍ ثم خطا إلى الداخل مقتربًا من الفراش، وضع رضيعته عليه بجوار والدتها لتبدأ الصغيرة في اللعب مع وجه أمها لتجبرها على الاستيقاظ، فتحت “تقى” عينيها الناعستين ببطءٍ لترتسم ابتسامة صغيرة على محياها وهي تحدق في وجه طفلتها، شعرت بيدٍ تلامس كتفها فأدارت رأسها للجانب لتجد “أوس” جالسًا على طرف الفراش بجوارها، ألقت عليه التحية هامسة بنبرة لم تفق بعد:
-صباح الخير
رد مبتسمًا:
-صباح النور، عاملة إيه النهاردة؟
استندت على مرفقيها لترجع بجسدها للخلف، ثم اعتدلت في نومتها قبل أن تجيبه بنبرة شبه مرهقة:
-الحمدلله
سألها مهتمًا:
-عندك دوخة أو حاجة؟
هزت رأسها بالنفي وهي تجيبه:
-لأ، عادي، أنا كويسة
ابتسم لها بلطفٍ فسألته بجدية وهي تحمل صغيرتها لتضعها في حجرها:
-إنت رايح شغلك؟
أجابها “أوس” بزفير ممل:
-أيوه، في مصالح كتير لازم أعملها بنفسي
ثم صمت للحظة قبل أن يتابع بحماٍس:
-بس ده مايمنعش إني محضرلك مفاجأة حلوة هتعجبك، أو نقول أكتر من حاجة
نظرت له متسائلة باستغرابٍ طفيف:
-بمناسبة إيه؟
رد ببساطةٍ:
-من غير مناسبة يا حبيبتي
مد ذراعه ليمسك براحتها، خلل أصابعه بين أناملها ثم حدق في عينيها قائلاً بنبرة اتسمت بالجدية:
-“تقى” أنا عاوزك تكوني مبسوطة ومرتاحة في حياتك معايا، مش عاوز شيء يضايقك أو يحسسك بإنك مش مناسبة أو أقل مني، الفترة اللي فاتت كانت صعبة علينا احنا الاتنين، ومش حابب ده يتكرر تاني
نكست رأسها شاعرة بالحرج من عتابه المتواري، وضع “أوس” يده أسفل ذقنها ليرفع برفقٍ وجهها إليه، تنهد قائلاً بصيغة آمرة رغم هدوء نبرته:
-بصيلي يا “تقى”
رمشت بعينيها وقد اكتسى وجهها بحمرة طفيفة، لا تعرف إن كان سببها شعورها بالخزي لكونها المتسبب الرئيسي في أغلب الخلافات الفكرية بينهما والتي تنتهي بكارثة مؤلمة كليهما، أم لحاجتها إلى حنانه وعاطفته التي ملأت الكثير بداخلها وعوضتها عما تحاول تخطيه، استأنف “أوس” حديثه مرددًا برويةٍ:
-إنتي عمرك ما كنتي قليلة في نظري، بالعكس أنا كنت جمبك ولا حاجة
أراد أن يبث في كلماته المحفزة إحساسًا بدعمها، بتعزيز قدراتها وإن كانت بسيطة، لاح على شفتيه بسمة صغيرة وهو يكمل بتفاخرٍ:
-إنتي اللي عرفتي تطلعي أحسن حاجة فيا، خلتيني أكتشف نفسي من أول وجديد
لمعت حدقتاها بوهجٍ مشرق وعادت نضرة بشرتها لتسطع بدموية لطيفة، مسح على بشرتها بنعومة متابعًا بنبرة عازمة:
-وزي ما عملتي ده معايا، جه الدور عليا عشان أقف جمبك وأطلع أحسن حاجة فيكي
تخبطت أفكارها من أسلوبه الغامض في الإفصاح عما يريد، رمقته بنظرات حائرة وهي تسأله بعدم فهمٍ:
-قصدك إيه؟
سحب شهيقًا عميقًا لفظه دفعة واحدة قبل أن يجيبها بتريثٍ:
-أنا كنت قولتلك من فترة إن مافيش مانع عندي تكملي معهدك
علقت عليه مؤكدة:
-أيوه، وكنت بأفكر أجيب الكتب وأنظم وقتي وأذاكر
أضاف قائلاً بحماسٍ ملحوظٍ في صوته ولمحاته:
-مش بس كده، في كذا مكان كويس بيقدموا كورسات تنمية بشرية وبيعملوا لغات وحاجات مفيدة، أنا واثق إنه هيفرق معاكي كتير
شعرت “تقى” بالحرج لعدم قدرتها على فهم المصطلحات الأخيرة، ومع ذلك لم تتردد في سؤاله، فإن كان عليها أن تخرج من الحيز الضيق الموضوعة فيه ستفعل ذلك، ظهر الاهتمام على نظراتها نحوه وهي تقول:
-يعني إيه تنمية بشرية؟
ظلت ملامحه مسترخية عندما أوضح لها:
-ده طريقة علمية بتعرفك إزاي تطوري مهاراتك بشكل معين وتكتشفي ذاتك وقدراتك اللي مش عارفاها، وكمان تلاقي نقاط قوتك، وتشتغلي عليها وتبقي أفضل، فأنا شايف إن النوعية دي من الكورسات هتفيدك
صمتت “تقى” لتفكر بإمعان في حديثه الجاد، ربما هي بحاجة لتجربة ذلك لتتعرف أكثر على ما تمتلكه من قدرات هي ما زالت عاجزة عن تحديدها، أفاقت من شرودها السريع على قوله الجاد:
-ده غير إني كمان عاوز أطلب منك طلب
سألته بتوترٍ لم تنجح في إخفائه:
-إيه هو؟
جمد عيناه على وجهها ليقول بحذرٍ:
-يا ريت ترجعي تواظبي مع الدكتور بتاعك
بهتت ملامحها قليلاً من طلبه المريب، فقد انقطعت منذ برهة عن متابعة جلسات العلاج النفسي والتي شكلت فارقًا معها لتتجاوز أهم أزمة في حياتها وجعلتها ما هي عليه الآن، لاحظ “أوس” صمتها فاستشعر ترددها، لذا أردف محاولاً إقناعها بعقلانية:
-إنتي أكيد محتاجة تفضفضي مع حد غيري عن اللي بتحسي بيه وبيضايقك، تعبري عن مشاعرك من غير ما تكوني خايفة من ردة فعلي أو إن تحصل مشاكل بينا، وجود الدكتور ومتابعتك معاه هيساعدك زي ما ساعدني!
ردت معترضة:
-بس..
قاطعها بإصرارٍ واضح:
-صدقيني ده مهم عشانا يا “تقى” وعشان ولادنا، أنا حابب ننسى الماضي باللي فيه ومانفضلش نقف لبعض على الواحدة كل ما أزمة أو مشكلة تحصل بينا!
كان محقًا في ذلك، فحينما يطفو الماضي على السطح تتعقد الأمور بشكل مثير ومزعج، أومأت برأسها موافقة:
-حاضر
شعر “أوس” بالارتياح لاستجابتها له، مال نحوها ليحتضنها ويستشعر دفء جسدها، أسندت “تقى” رأسها على كتفه، مسح بقوة على ظهرها هامسًا لها بعذوبة:
-بأحبك
تراجع قليلاً ليتمكن من رؤية وجهها، قرأت في نظراتها المتطلعة إليها حبًا صافيًا لم ينتقص من قدره شيئًا، بل إنه يتضاعف مع مرور الأيام، احتضن وجهها بين كفيه، داعب بشرتها وأخفض نظراته على شفتيها ليبتسم بعبثية وهو يشعر بحاجتها إليه، اقترب منها ومنحها قبلة طويلة احتوت على مشاعره المتيمة بها، تجاوبت مع أحاسيسه العميقة وبادلته نفس المشاعر الوالهة، تجاهل الاثنان وجود الرضيعة للحظات حتى بدأت تئن بضجيج لتعلن عن تواجدها، توقفت “تقى” عن تقبيله لتقول بأنفاس لاهثة وقد أدركت حضورها:
-البنت يا “أوس”
علق بمكرٍ:
-هارجعها أوضتها، مافيش مشكلة عندي!
توردت أكثر مع تعبيره المتواري عن رغبته في بث بعض الأشواق المتأججة، والاستمتاع بتلاحم الوجدان مع لغة الجسد لتعويض الفترة الفائتة، دفعته برفق من كتفه مدعية الجدية وهي تقول:
-مش هاينفع، روح شغلك، كده هتتأخر
تصنع العبوس قائلاً بتوعد:
-براحتك، بس لينا كلام سوا!
زوت ما بين حاجبيها متسائلة:
-هو الكلام اللي من النوع ده مابيخلصش؟
ابتسم قائلاً بثقة:
-لأ، ده بيبتدي!
باغتها بقبلة أخرى على شفتيها لتروي القليل من ظمأه لأحضانها، ثم انحنى على جبين صغيرته ليقبلها بحبٍ قبل أن ينهض عن الفراش، وقبل أن يرتدي سترته ويخرج من الغرفة نادته “تقى” بنعومةٍ:
-“أوس”
استدار نحوها قائلاً:
-نعم
انعكس في نظراتها المحدقة به وميضًا مرحًا استطاع ترجمته قبل أن تبوح بنبرة ربما تجعله يغير من خططه الصباحية:
-وأنا كمان بأحبك!
…………………….. …………………….. ……..
انتفضت في جلستها مع كل من تلمحه يرتدي زيًا حكوميًا يمرق إلى الاستقبال متوهمة أن أفراد الشرطة قد عرفوا الطريق إليها وسيلقون القبض عليها بعد أن اكتُشفت جريمتها، مر الوقت بطيئًا عليها، تكاد دقات الساعة لا تسير وهي جالسة تنتظر ضالتها المنشودة، استنزفت أعصابها واحترقت عشرات المرات وهي تتخيل عشرات النهايات المأساوية لها، افتقرت “هالة” إلى الثبات الانفعالي وأوشكت على الانهيار بين لحظة وأخرى، تخللها هاجسًا عظيمًا أنها باتت مقروءة للجميع رغم صمتها، عادت لتشرد في تأمل الوجوه المغلفة بقناع العمل لتغفل عن متابعة ذلك القادم من الواجهة الأمامية، انتزع “يامن” نظارته الشمسية وهو يلج للداخل، طواها ليضعها في جيب سترته ملقيًا نظرة عابرة على المتواجدين بالمكان، توقف في مكانه مدهوشًا حينما لمح صاحبة الوجه المألوف تجلس في الزاوية بثيابها المدرسية، نظر لها في تركيز شديد ليتأكد من صحة ما رأى، لم يخطئ في معرفتها، استدار متجهًا نحو الموظف الواقف خلف مكتب الاستقبال، وما إن وجده الأخير مقبلاً عليه حتى استقام في وقفته الرسمية مرحبًا بابتسامة لبقة:
-صباح الخير يا فندم
رد “يامن” باقتضابٍ:
-صباح النور
ثم أشار بعينيه نحو “هالة” متسائلاُ بنبرة جافة:
-إيه اللي جاب البنت دي هنا؟!
استشعر الموظف مشكلة ما تلوح في الأفق ربما تهدد بفقدانه لوظيفته لذا برر على الفور سبب وجودها قبل أن يقع في مأزق خطير:
-كانت عايزة تقابل “أوس” باشا لمسألة مهمة وبتقول إنه عارفها، بس أنا منعتها وهاطلب الأمن يطردوها
حثه فضوله على معرفة سبب مجيئها لمقابلة ابن عمه تحديدًا، تذكر لقائه المثير معها ودفعه ذلك أكثر لتفسير تواجدها، خاصة أنه لم ينسَ مظهرها البسيط ولا المنطقة المتواضعة التي أوصلها إليه، رفع يده معترضًا بصوتٍ جاد:
-مافيش داعي، أنا هتعامل معاها
تنفس الموظف الصعداء لتجاوزه مرحلة الخطر، هز رأسه في امتثال وهو يرد:
-أوامر حضرتك
ســار “يامن” في اتجاهها مسلطًا أنظاره عليها، وقف قبالتها يطالعها بنظراتٍ دقيقة جمعت بين التسلية والفضول وهو يستطرد مرحبًا بها:
-أهلاً يا آنسة
تفاجأت “هالة” بوجود آخر من قد يأتي ببالها واقفًا أمامها، تدلى فكها في اندهاش غطى نسبيًا على رجفتها الملازمة لها، توقع أن ترد التحية لكن جمود تعابيرها ونظراتها المصدومة استفزه ليسألها بنبرة جافة دون أي مقدمات تمهيدية:
-خير كنتي عاوزة “أوس” في إيه؟
هبت واقفة على قدميها لتطالعه بنظرات متوترة خائفة قبل أن ترد على تساؤله بسؤال قلق:
-هو مش جاي؟
أجابها نافيًا بوجهٍ جامد التعبيرات:
-لأ، بس أنا موجود، في إيه؟
أصيبت “هالة” بالإحباط الشديد، شعرت بأن هلاكها قد أصبح وشيكًا، رغمًا عنها تسللت الدمعات إلى طرفيها لتلمع ببريق منكسر ومرتعد، اهتزت نبرتها وهي تقول:
-يعني مش هاينفع أقابله أبدًا
لاحظ التبدل المثير للريبة في ملامحها، شعورًا غريزيًا بداخله حفزه على الاهتمام بشكواها، تنحنح مُعقبًا عليها بجدية:
-أنا أقدر أساعدك، تعالي معايا مكتبي نتكلم هناك على راحتنا
تلفتت حولها معترضة بتوترٍ:
-بس.. أنا..
قاطعها ليقنعها بالمنطق وهو يشير بيده موضحًا:
-شوفي محدش من الموظفين هنا ممكن يساعدك، أخرهم هيسبوكي هنا لحد ما تزهقي وتمشي بنفسك، أو يبعتوا الأمن يمشوكي ودي شكلها مش لطيف، أنا زي ابن عمي، ممكن أساعدك، يعني بالنسبالك فرصة حلوة، تقدري تستفيدي من وجودي على الأقل
لم يكن أمامها بديلاً عن الموافقة، فبعد مدة لا بأس بها من الانتظار كانت مستعدة للقبول بأي مقترح يساعدها في مصيبتها، ابتلعت ريقها هامسة باستسلامٍ مرتبك:
-طـ.. طيب
لوح بذراعه ليشير لها بالتقدم أمامه وهو يبتسم قائلاً:
-اتفضلي
اضطربت “هالة” في مشيتها وزادت من ضمها لحقيبتها المدرسية، في حين خطا “يامن” خلفها ليتأمل تفاصيلها المشوقة باهتمامٍ سيطر على عقله.
…………………….. ………………
ولجت إلى داخل المصعد لتنزوي في أقصى ركن فيه، تعجب “يامن” من احترازها الملحوظ منه، وكأنه على وشك الاعتداء عليها، ربما الانطباع السابق لحملها قسرًا لتركب سيارته بالإجبار أثر عليها قليلاً، تجاهل ردة فعلها المذعورة والتي لم تكن بحاجة لمحنكٍ ليفهم ذلك ليعرف فقط سبب إصرارها على الالتقاء بابن عمه، أشار لها بيده لتتبعه نحو مكتبه، كانت “هالة” مع كل خطوة تتقدمها تشعر بالارتباك والحيرة، تخبطت في قراراتها وشعرت للحظة أنها تسرعت بالموافقة على إشراك ذلك الغريب في شئونها، خوفها جعلها تتراجع عن البوح بما تريد، تسمرت قدماها عند عتبة غرفة مكتبه ممتنعة عن الإبراح من مكانها، نظر لها “يامن” باستغراب متعجبًا من جمودها، حثها على الدخول قائلاً بلهجة جادة:
-اتفضلي جوا، أكيد مش هنتكلم على الباب!
شعرت بمرارة العلقم تسيطر على جوفها، بحاجتها لشرب جرعة كبيرة من الماء لتخفف من حدته القاسية، جلست باستحياء على المقعد المواجه لمكتبه ضاغطة بأصابعها بقوة على حقيبتها حتى ابيضت مفاصلها، التف “يامن” حول مكتبه الخشبي الكبير ليجلس على مقعده الذي يتوسطه، ركز بصره عليها متسائلاً دون مقدماتٍ:
-ها خير إيه الموضوع؟
بدت أعصابها هشة للغاية وهي تكافح لاختلاق أعذار واهية لتقولها له، خرج صوتها متعلثمًا حينما نطقت:
-آ.. كان.. أصل.. يعني …
حاول أن يبدو لطيفًا ولبقًا وهو يستدرجها لإفراغ ما في جعبتها قائلاً:
-قولي، أنا سامعك
تحرك بؤبؤاها بحركة عصبية، عقدت “هالة” العزم على إخباره بنصف الحقيقة فقط، وإخفاء الجزء السيء منها لتنأى بنفسها عن مصيبة أخرى، استجمعت جأشها لتضيف:
-أهلي كانوا عاوزين يجوزوني
أشار بعينيه إليها معلقًا بذكاءٍ ليعرف المزيد عن تفاصيلها الشخصية:
-بس إنتي شكلك صغيرة، لبسك بيقول كده، إنك في مدرسة، صح؟
أجابته عفويًا على ذلك يخفف من الضغوط العظيمة التي تنهش في بقايا أعصابها المتلفة مسبقًا:
-أيوه، أنا 17 سنة وفي تانية ثانوي
أضاف بوجه بارد التعبيرات:
-القانون على ما اعتقد بيمنع الجواز قبل 18 سنة، فتقدري تقولي لأ، والقانون في صفك
ردت بتهكمٍ:
-اللي زي أهلي مايفرقش معاهم قانون أو غيره، المهم عندهم يجوزوني النهاردة قبل بكرة
حاول استفزازها ليعرف إن كانت راغبة في الزواج حقًا أم أنها تدعي ذلك، فالمراهقات أمثالها يتعلقن بأنماط معينة من الشباب ممن يثرن إعجابهن، وربما كانت هي إحدى تلك الفتيات، استوى على مقعده ليبدو مسترخيًا في جلسته ثم أضاف ساخرًا:
-شكلك عاوزة تتجوزي، طريقتك بتقول إن في حد معين تعرفيه وبتتحججي بأي كلام وخلاص
تفاجأت من تصريحه غير الصحيح وحكمه المسبق على شخصيتها وكأنها فتاة تتسلى بمشاعرها مع من لا يستحق، هبت واقفة لتصيح به بعصبيةٍ:
-ماسمحلكش
وقف “يامن” هو الآخر لينظر لها ببرود معقبًا بلهجة غير نادمة على إصداره الأحكام:
-ماتخديش الأمور على أعصابك، أنا بأتكلم معاكي، وجايز أكون غلطان في رأيي، محصلش حاجة
ورغم حالة انفلات الأعصاب التي تعيشها منذ الصباح الباكر إلا أن أسلوبه المستفز والمستهين بشخصها جعل الدماء تثور وبقوة في عروقها، رمقته بنظرة حادة قائلة له بوجهٍ عابس ونبرة متجهمة:
-أنا اللي غلطانة، مكانش المفروض أقولك حاجة، عن إذنك
تحرك صوبها ليمنعها من الذهاب، أوقفها رغمًا عنها بالإمساك بها من ذراعها هاتفًا بها:
-استني بس!
شهقت “هالة” من قبضته التي جذبتها من ذراعها، ذكرتها على الفور بنفس القبضة التي سحبتها عنوة لبئر مظلم لن تخرج منه إلا بمعجزةٍ، انتفضت بتشنج مرتعد لتزيح يده وهي تقول له بعينين عكست رعبها الحقيقي:
-ابعد إيدك
وقبل أن يبدي اعتذاره عن تجاوزه معها أو حتى يبرر موقفه تجمد في مكانه متوترًا حينما سمع الصوت المألوف يقتحم غرفته ليناديه بقوةٍ وخشونة:
-“يامـــن”
التفت كالمسلوع نحو ابن عمه الذي أطل بجسده الشامخ قائلاً:
-“أوس”
استغلت “هالة” الموقف لتنتزع ذراعها من بين أصابعه القابضة عليها، استدارت هي الأخرى لتواجهه بنظرات حملت الرجاء والخوف، استغرب “أوس” من وجود تلك الفتاة في مؤسسته، هو لم يلتقِ بها إلا مرتين ولم يجرِ معها أي حوار، فقط كلمات مقتضبة حينما أنقذها من سخافة المقيت “منسي”، تعقدت ملامحه بدرجة كبيرة وهو يردد:
-إنتي …………………….. .. ؟!
…………………….. …………………….. ……………….يتبع >>>>>
لا تعرف كيف سيطرت على انفلات أعصابها بعد التجربة المريعة التي مرت بها وانتهت بكارثة محطمة كل آمالها بسببه هو فقط، هرولت فارة من ورشته متلفتة حولها بنظرات مرتعدة، من يتطلع إلى وجهها عن قرب ويدقق النظر سيكتشف حجم الهول المعكوس على ملامحها الباهتة، استخدمت “هالة” حقيبتها المدرسية في تغطية قميصها من الأمام لتحجبه عن الأعين المتطفلة التي ربما ستكشف ما فعلته عن عمدٍ، مجرد التفكير في افتضاح جريمتها ألبكها على الأخير وجعلها تتخبط في مشيتها، وما إن وصلت للناصية حتى أشارت بيدها لأول حافلة صغيرة الحجم مرت أمامها، لم تكترث بوجهتها الحالية، المهم أن تبتعد عن المكان وعن الجميع، ارتجف بدنها وهي جالسة في المقعد الأخير بالخلف، كافحت لتبدو طبيعية فلا تثير الشكوك حولها، ولكن كيف تتمكن من ذلك وهي اقترفت جريمة بشعة للدفاع عن شرفها الذي كاد أن يدنس على يد شخص بغيض كـ “منسي”؟ بدأت بعد برهة في استعادة هدوئها لترتب أفكارها في رأسها، فالأولوية الآن هي البحث عن حل قانوني لمشكلتها.
لم تكن راغبة في إشراك “تقى” في مصيبتها، فمن المحتمل أن تعجز عن مساعدتها، ستتوجه إلى صاحب النفوذ والسلطة لترجوه مباشرة، لذا كان عليها الذهاب إلى مقر مؤسسته، وبعون بسيط من السائق أرشدها إلى كيفية التنقل بين وسائل المواصلات للوصول إلى عنوانه، توترت أنفاس “هالة” وهي تجوب بنظراتها المذعورة ذلك الصرح الضخم الذي برز اسم “الجندي” بوضوح على واجهته وكذلك على الجانبين، ابتلعت ريقها المرير في حلقها الجاف محفزة نفسها على مواصلة السير، مرت بخوفٍ بجوار حراس الآمن الذين رمقوها بنظراتٍ فضولية متفحصة، أوقفها أحدهم مشيرًا بيده ليسألها بجمودٍ:
-رايحة فين؟
ازدردت ريقها وهي تجيبه بتلعثمٍ محاولة أن تبدو كذبتها مقنعة:
-عاوزة أقابل “أوس الجندي”، أنا بنت خالة مراته وهو عارفني
رد متسائلاً بخشونةٍ:
-في ميعاد سابق؟
خشيت من قول الحقيقة فيمنعها من الدخول وبالتالي تتعقد الأمور أكثر معها، لذا دون تفكير أو تأخير ادعت كذبًا:
-أيوه، هو قالي أقابله هنا، وتقدر تكلمه وتتأكد من ده!
اضطر أن يتنحى للجانب ليسمح لها بالمرور، تصنعت “هالة” الابتسام وهي تكمل خطواتها المتباطئة نحو الداخل، رهبة عظيمة اعترتها وهي تطأ بقدميها البهو المفضي إلى الاستقبال، تجولت بعينيها سريعًا في أرجاء المكان لتبحث عمن يساعدها، اقتربت من أحد المكاتب الرخامية لتطلب من الموظف المرابط خلفه السماح لها برؤية صاحب المؤسسة، اعترض الأخير قائلاً بهدوء رغم صرامة نبرته:
-يا فندم ماينفعش!
شعرت أن فرصتها في لقائه قد باتت مهددة بالضياع، آمالها بالكامل معقودة على رؤيته، أدمعت عيناها وهي تتوسله بنبرة أقرب للبكاء:
-أنا واقعة في عرضك، الموضوع حياة أو موت
هز رأسه بإيماءة رافضة معلقًا عليها بعمليةٍ:
-صعب يا آنسة
توترت “هالة” من إصراره الرافض لتقول باستعطافٍ عله يتراجع عن رأيه ويرق قلبه نحوها:
-أرجوك يا أستاذ، أنا لازم أقابله ضروري
رد عليها بنبرة خالية من التعاطف:
-صدقيني لو كان ينفع كنت خليتك تقابليه، لازم يكون في ميعاد سابق، ده غير إن الباشا “أوس” لسه مجاش! وهو ….
قاطعته بإلحاح وقد باتت على وشك الانهيار:
-أنا محتاجاه جدًا، عشان خاطري خليني أشوفه
تحرج من طريقتها المتوسلة ليقول بدبلوماسية علها تتوقف عن استخدام ذلك الأسلوب المبتز عاطفيًا:
-إنتي تقدري تقابليه برا يا آنسة
هتفت بنبرتها المختنقة وهي تكفكف عبراتها التي خانتها وانسابت من طرفيها:
-صعب، الموضوع مايستناش، والله هو عارفني، أنا مش بأدعي ده
زفر قائلاً باستياءٍ:
-مش عارف أقولك إيه يا آنسة، الحكاية مش سهلة زي ما إنتي مفكرة
ردت عليه برجاءٍ أكبر وقد استشعرت وجود بارقة أمل في جملته الأخيرة:
-حضرتك بس عرفه بأن “هالة” صاحبة مراته عاوزاه في حاجة مستعجلة، ولو هو رفض يقابلني أنا هامشي على طول، مش هاعترض
فكر للحظات في طلبها الراجي، خاصة أن حالتها توحي فعليًا بوجود أزمة ما، تنحنح قائلاً بامتعاضٍ وهو يشير بذراعه نحو الأرائك الجلدية الموضوعة في الزاوية:
-هابلغ السكرتارية وهاشوف هيردوا يقولوا إيه، اتفضلي استني هناك يا آنسة
أثلجت عبارته صدرها وأشعرتها بالارتياح قليلاً، لاحت ابتسامة باهتة على ثغرها خففت من وطأة مُصابها لترد بامتنانٍ:
-أنا متشكرة جدًا
أولته ظهرها لتتجه إلى حيث أشــار، جلست “هالة” على الأريكة الفردية منكمشة على نفسها وفي نفس الوقت مراقبة بنظرات متوترة ولوج الموظفين لداخل المؤسسة، آملت أن تلمحه أو تراه فور وصوله لتذهب إليه دون انتظار الروتينية المملة التي قد تحول دون مقابلتها له.
……………………..
منحها قبلة صادقة نابعة من قلب عرف الحب أضعافًا مضاعفة مع أول مرة حملها فيها بين ذراعيه، هدهد رضيعته بحنوٍ كبير وهو يسير بها بتؤدة من غرفتها إلى غرفته، داعبت الصغيرة “حياة” أذنه وأنفه وكأنها تتفحصه وتستكشفه بطريقتها الخاصة، ابتسم لها “أوس” وادعى محاولته التهام أناملها الضئيلة فضحكت غاليته بعبثٍ، همس لها قائلاً:
-قريب هايكون عندك بيبي صغير تلعبي معاه
غمغمت الرضيعة بكلمات مبهمة وهي تخدشه في صدغه، أحنى رأسه للخلف ليتجنب محاولاتها للعبث معه دون أن تختفي ابتسامته، توقف عند عتبة الغرفة ليلقي نظرة متأملة على زوجته النائمة، تحولت تعابيره المسترخية للجدية قليلاً وهو يتذكر نصائح طبيبه النفسي بشأن التعامل مع “تقى” خلال المرحلة القادمة، زفر بثقلٍ ثم خطا إلى الداخل مقتربًا من الفراش، وضع رضيعته عليه بجوار والدتها لتبدأ الصغيرة في اللعب مع وجه أمها لتجبرها على الاستيقاظ، فتحت “تقى” عينيها الناعستين ببطءٍ لترتسم ابتسامة صغيرة على محياها وهي تحدق في وجه طفلتها، شعرت بيدٍ تلامس كتفها فأدارت رأسها للجانب لتجد “أوس” جالسًا على طرف الفراش بجوارها، ألقت عليه التحية هامسة بنبرة لم تفق بعد:
-صباح الخير
رد مبتسمًا:
-صباح النور، عاملة إيه النهاردة؟
استندت على مرفقيها لترجع بجسدها للخلف، ثم اعتدلت في نومتها قبل أن تجيبه بنبرة شبه مرهقة:
-الحمدلله
سألها مهتمًا:
-عندك دوخة أو حاجة؟
هزت رأسها بالنفي وهي تجيبه:
-لأ، عادي، أنا كويسة
ابتسم لها بلطفٍ فسألته بجدية وهي تحمل صغيرتها لتضعها في حجرها:
-إنت رايح شغلك؟
أجابها “أوس” بزفير ممل:
-أيوه، في مصالح كتير لازم أعملها بنفسي
ثم صمت للحظة قبل أن يتابع بحماٍس:
-بس ده مايمنعش إني محضرلك مفاجأة حلوة هتعجبك، أو نقول أكتر من حاجة
نظرت له متسائلة باستغرابٍ طفيف:
-بمناسبة إيه؟
رد ببساطةٍ:
-من غير مناسبة يا حبيبتي
مد ذراعه ليمسك براحتها، خلل أصابعه بين أناملها ثم حدق في عينيها قائلاً بنبرة اتسمت بالجدية:
-“تقى” أنا عاوزك تكوني مبسوطة ومرتاحة في حياتك معايا، مش عاوز شيء يضايقك أو يحسسك بإنك مش مناسبة أو أقل مني، الفترة اللي فاتت كانت صعبة علينا احنا الاتنين، ومش حابب ده يتكرر تاني
نكست رأسها شاعرة بالحرج من عتابه المتواري، وضع “أوس” يده أسفل ذقنها ليرفع برفقٍ وجهها إليه، تنهد قائلاً بصيغة آمرة رغم هدوء نبرته:
-بصيلي يا “تقى”
رمشت بعينيها وقد اكتسى وجهها بحمرة طفيفة، لا تعرف إن كان سببها شعورها بالخزي لكونها المتسبب الرئيسي في أغلب الخلافات الفكرية بينهما والتي تنتهي بكارثة مؤلمة كليهما، أم لحاجتها إلى حنانه وعاطفته التي ملأت الكثير بداخلها وعوضتها عما تحاول تخطيه، استأنف “أوس” حديثه مرددًا برويةٍ:
-إنتي عمرك ما كنتي قليلة في نظري، بالعكس أنا كنت جمبك ولا حاجة
أراد أن يبث في كلماته المحفزة إحساسًا بدعمها، بتعزيز قدراتها وإن كانت بسيطة، لاح على شفتيه بسمة صغيرة وهو يكمل بتفاخرٍ:
-إنتي اللي عرفتي تطلعي أحسن حاجة فيا، خلتيني أكتشف نفسي من أول وجديد
لمعت حدقتاها بوهجٍ مشرق وعادت نضرة بشرتها لتسطع بدموية لطيفة، مسح على بشرتها بنعومة متابعًا بنبرة عازمة:
-وزي ما عملتي ده معايا، جه الدور عليا عشان أقف جمبك وأطلع أحسن حاجة فيكي
تخبطت أفكارها من أسلوبه الغامض في الإفصاح عما يريد، رمقته بنظرات حائرة وهي تسأله بعدم فهمٍ:
-قصدك إيه؟
سحب شهيقًا عميقًا لفظه دفعة واحدة قبل أن يجيبها بتريثٍ:
-أنا كنت قولتلك من فترة إن مافيش مانع عندي تكملي معهدك
علقت عليه مؤكدة:
-أيوه، وكنت بأفكر أجيب الكتب وأنظم وقتي وأذاكر
أضاف قائلاً بحماسٍ ملحوظٍ في صوته ولمحاته:
-مش بس كده، في كذا مكان كويس بيقدموا كورسات تنمية بشرية وبيعملوا لغات وحاجات مفيدة، أنا واثق إنه هيفرق معاكي كتير
شعرت “تقى” بالحرج لعدم قدرتها على فهم المصطلحات الأخيرة، ومع ذلك لم تتردد في سؤاله، فإن كان عليها أن تخرج من الحيز الضيق الموضوعة فيه ستفعل ذلك، ظهر الاهتمام على نظراتها نحوه وهي تقول:
-يعني إيه تنمية بشرية؟
ظلت ملامحه مسترخية عندما أوضح لها:
-ده طريقة علمية بتعرفك إزاي تطوري مهاراتك بشكل معين وتكتشفي ذاتك وقدراتك اللي مش عارفاها، وكمان تلاقي نقاط قوتك، وتشتغلي عليها وتبقي أفضل، فأنا شايف إن النوعية دي من الكورسات هتفيدك
صمتت “تقى” لتفكر بإمعان في حديثه الجاد، ربما هي بحاجة لتجربة ذلك لتتعرف أكثر على ما تمتلكه من قدرات هي ما زالت عاجزة عن تحديدها، أفاقت من شرودها السريع على قوله الجاد:
-ده غير إني كمان عاوز أطلب منك طلب
سألته بتوترٍ لم تنجح في إخفائه:
-إيه هو؟
جمد عيناه على وجهها ليقول بحذرٍ:
-يا ريت ترجعي تواظبي مع الدكتور بتاعك
بهتت ملامحها قليلاً من طلبه المريب، فقد انقطعت منذ برهة عن متابعة جلسات العلاج النفسي والتي شكلت فارقًا معها لتتجاوز أهم أزمة في حياتها وجعلتها ما هي عليه الآن، لاحظ “أوس” صمتها فاستشعر ترددها، لذا أردف محاولاً إقناعها بعقلانية:
-إنتي أكيد محتاجة تفضفضي مع حد غيري عن اللي بتحسي بيه وبيضايقك، تعبري عن مشاعرك من غير ما تكوني خايفة من ردة فعلي أو إن تحصل مشاكل بينا، وجود الدكتور ومتابعتك معاه هيساعدك زي ما ساعدني!
ردت معترضة:
-بس..
قاطعها بإصرارٍ واضح:
-صدقيني ده مهم عشانا يا “تقى” وعشان ولادنا، أنا حابب ننسى الماضي باللي فيه ومانفضلش نقف لبعض على الواحدة كل ما أزمة أو مشكلة تحصل بينا!
كان محقًا في ذلك، فحينما يطفو الماضي على السطح تتعقد الأمور بشكل مثير ومزعج، أومأت برأسها موافقة:
-حاضر
شعر “أوس” بالارتياح لاستجابتها له، مال نحوها ليحتضنها ويستشعر دفء جسدها، أسندت “تقى” رأسها على كتفه، مسح بقوة على ظهرها هامسًا لها بعذوبة:
-بأحبك
تراجع قليلاً ليتمكن من رؤية وجهها، قرأت في نظراتها المتطلعة إليها حبًا صافيًا لم ينتقص من قدره شيئًا، بل إنه يتضاعف مع مرور الأيام، احتضن وجهها بين كفيه، داعب بشرتها وأخفض نظراته على شفتيها ليبتسم بعبثية وهو يشعر بحاجتها إليه، اقترب منها ومنحها قبلة طويلة احتوت على مشاعره المتيمة بها، تجاوبت مع أحاسيسه العميقة وبادلته نفس المشاعر الوالهة، تجاهل الاثنان وجود الرضيعة للحظات حتى بدأت تئن بضجيج لتعلن عن تواجدها، توقفت “تقى” عن تقبيله لتقول بأنفاس لاهثة وقد أدركت حضورها:
-البنت يا “أوس”
علق بمكرٍ:
-هارجعها أوضتها، مافيش مشكلة عندي!
توردت أكثر مع تعبيره المتواري عن رغبته في بث بعض الأشواق المتأججة، والاستمتاع بتلاحم الوجدان مع لغة الجسد لتعويض الفترة الفائتة، دفعته برفق من كتفه مدعية الجدية وهي تقول:
-مش هاينفع، روح شغلك، كده هتتأخر
تصنع العبوس قائلاً بتوعد:
-براحتك، بس لينا كلام سوا!
زوت ما بين حاجبيها متسائلة:
-هو الكلام اللي من النوع ده مابيخلصش؟
ابتسم قائلاً بثقة:
-لأ، ده بيبتدي!
باغتها بقبلة أخرى على شفتيها لتروي القليل من ظمأه لأحضانها، ثم انحنى على جبين صغيرته ليقبلها بحبٍ قبل أن ينهض عن الفراش، وقبل أن يرتدي سترته ويخرج من الغرفة نادته “تقى” بنعومةٍ:
-“أوس”
استدار نحوها قائلاً:
-نعم
انعكس في نظراتها المحدقة به وميضًا مرحًا استطاع ترجمته قبل أن تبوح بنبرة ربما تجعله يغير من خططه الصباحية:
-وأنا كمان بأحبك!
……………………..
انتفضت في جلستها مع كل من تلمحه يرتدي زيًا حكوميًا يمرق إلى الاستقبال متوهمة أن أفراد الشرطة قد عرفوا الطريق إليها وسيلقون القبض عليها بعد أن اكتُشفت جريمتها، مر الوقت بطيئًا عليها، تكاد دقات الساعة لا تسير وهي جالسة تنتظر ضالتها المنشودة، استنزفت أعصابها واحترقت عشرات المرات وهي تتخيل عشرات النهايات المأساوية لها، افتقرت “هالة” إلى الثبات الانفعالي وأوشكت على الانهيار بين لحظة وأخرى، تخللها هاجسًا عظيمًا أنها باتت مقروءة للجميع رغم صمتها، عادت لتشرد في تأمل الوجوه المغلفة بقناع العمل لتغفل عن متابعة ذلك القادم من الواجهة الأمامية، انتزع “يامن” نظارته الشمسية وهو يلج للداخل، طواها ليضعها في جيب سترته ملقيًا نظرة عابرة على المتواجدين بالمكان، توقف في مكانه مدهوشًا حينما لمح صاحبة الوجه المألوف تجلس في الزاوية بثيابها المدرسية، نظر لها في تركيز شديد ليتأكد من صحة ما رأى، لم يخطئ في معرفتها، استدار متجهًا نحو الموظف الواقف خلف مكتب الاستقبال، وما إن وجده الأخير مقبلاً عليه حتى استقام في وقفته الرسمية مرحبًا بابتسامة لبقة:
-صباح الخير يا فندم
رد “يامن” باقتضابٍ:
-صباح النور
ثم أشار بعينيه نحو “هالة” متسائلاُ بنبرة جافة:
-إيه اللي جاب البنت دي هنا؟!
استشعر الموظف مشكلة ما تلوح في الأفق ربما تهدد بفقدانه لوظيفته لذا برر على الفور سبب وجودها قبل أن يقع في مأزق خطير:
-كانت عايزة تقابل “أوس” باشا لمسألة مهمة وبتقول إنه عارفها، بس أنا منعتها وهاطلب الأمن يطردوها
حثه فضوله على معرفة سبب مجيئها لمقابلة ابن عمه تحديدًا، تذكر لقائه المثير معها ودفعه ذلك أكثر لتفسير تواجدها، خاصة أنه لم ينسَ مظهرها البسيط ولا المنطقة المتواضعة التي أوصلها إليه، رفع يده معترضًا بصوتٍ جاد:
-مافيش داعي، أنا هتعامل معاها
تنفس الموظف الصعداء لتجاوزه مرحلة الخطر، هز رأسه في امتثال وهو يرد:
-أوامر حضرتك
ســار “يامن” في اتجاهها مسلطًا أنظاره عليها، وقف قبالتها يطالعها بنظراتٍ دقيقة جمعت بين التسلية والفضول وهو يستطرد مرحبًا بها:
-أهلاً يا آنسة
تفاجأت “هالة” بوجود آخر من قد يأتي ببالها واقفًا أمامها، تدلى فكها في اندهاش غطى نسبيًا على رجفتها الملازمة لها، توقع أن ترد التحية لكن جمود تعابيرها ونظراتها المصدومة استفزه ليسألها بنبرة جافة دون أي مقدمات تمهيدية:
-خير كنتي عاوزة “أوس” في إيه؟
هبت واقفة على قدميها لتطالعه بنظرات متوترة خائفة قبل أن ترد على تساؤله بسؤال قلق:
-هو مش جاي؟
أجابها نافيًا بوجهٍ جامد التعبيرات:
-لأ، بس أنا موجود، في إيه؟
أصيبت “هالة” بالإحباط الشديد، شعرت بأن هلاكها قد أصبح وشيكًا، رغمًا عنها تسللت الدمعات إلى طرفيها لتلمع ببريق منكسر ومرتعد، اهتزت نبرتها وهي تقول:
-يعني مش هاينفع أقابله أبدًا
لاحظ التبدل المثير للريبة في ملامحها، شعورًا غريزيًا بداخله حفزه على الاهتمام بشكواها، تنحنح مُعقبًا عليها بجدية:
-أنا أقدر أساعدك، تعالي معايا مكتبي نتكلم هناك على راحتنا
تلفتت حولها معترضة بتوترٍ:
-بس.. أنا..
قاطعها ليقنعها بالمنطق وهو يشير بيده موضحًا:
-شوفي محدش من الموظفين هنا ممكن يساعدك، أخرهم هيسبوكي هنا لحد ما تزهقي وتمشي بنفسك، أو يبعتوا الأمن يمشوكي ودي شكلها مش لطيف، أنا زي ابن عمي، ممكن أساعدك، يعني بالنسبالك فرصة حلوة، تقدري تستفيدي من وجودي على الأقل
لم يكن أمامها بديلاً عن الموافقة، فبعد مدة لا بأس بها من الانتظار كانت مستعدة للقبول بأي مقترح يساعدها في مصيبتها، ابتلعت ريقها هامسة باستسلامٍ مرتبك:
-طـ.. طيب
لوح بذراعه ليشير لها بالتقدم أمامه وهو يبتسم قائلاً:
-اتفضلي
اضطربت “هالة” في مشيتها وزادت من ضمها لحقيبتها المدرسية، في حين خطا “يامن” خلفها ليتأمل تفاصيلها المشوقة باهتمامٍ سيطر على عقله.
……………………..
ولجت إلى داخل المصعد لتنزوي في أقصى ركن فيه، تعجب “يامن” من احترازها الملحوظ منه، وكأنه على وشك الاعتداء عليها، ربما الانطباع السابق لحملها قسرًا لتركب سيارته بالإجبار أثر عليها قليلاً، تجاهل ردة فعلها المذعورة والتي لم تكن بحاجة لمحنكٍ ليفهم ذلك ليعرف فقط سبب إصرارها على الالتقاء بابن عمه، أشار لها بيده لتتبعه نحو مكتبه، كانت “هالة” مع كل خطوة تتقدمها تشعر بالارتباك والحيرة، تخبطت في قراراتها وشعرت للحظة أنها تسرعت بالموافقة على إشراك ذلك الغريب في شئونها، خوفها جعلها تتراجع عن البوح بما تريد، تسمرت قدماها عند عتبة غرفة مكتبه ممتنعة عن الإبراح من مكانها، نظر لها “يامن” باستغراب متعجبًا من جمودها، حثها على الدخول قائلاً بلهجة جادة:
-اتفضلي جوا، أكيد مش هنتكلم على الباب!
شعرت بمرارة العلقم تسيطر على جوفها، بحاجتها لشرب جرعة كبيرة من الماء لتخفف من حدته القاسية، جلست باستحياء على المقعد المواجه لمكتبه ضاغطة بأصابعها بقوة على حقيبتها حتى ابيضت مفاصلها، التف “يامن” حول مكتبه الخشبي الكبير ليجلس على مقعده الذي يتوسطه، ركز بصره عليها متسائلاً دون مقدماتٍ:
-ها خير إيه الموضوع؟
بدت أعصابها هشة للغاية وهي تكافح لاختلاق أعذار واهية لتقولها له، خرج صوتها متعلثمًا حينما نطقت:
-آ.. كان.. أصل.. يعني …
حاول أن يبدو لطيفًا ولبقًا وهو يستدرجها لإفراغ ما في جعبتها قائلاً:
-قولي، أنا سامعك
تحرك بؤبؤاها بحركة عصبية، عقدت “هالة” العزم على إخباره بنصف الحقيقة فقط، وإخفاء الجزء السيء منها لتنأى بنفسها عن مصيبة أخرى، استجمعت جأشها لتضيف:
-أهلي كانوا عاوزين يجوزوني
أشار بعينيه إليها معلقًا بذكاءٍ ليعرف المزيد عن تفاصيلها الشخصية:
-بس إنتي شكلك صغيرة، لبسك بيقول كده، إنك في مدرسة، صح؟
أجابته عفويًا على ذلك يخفف من الضغوط العظيمة التي تنهش في بقايا أعصابها المتلفة مسبقًا:
-أيوه، أنا 17 سنة وفي تانية ثانوي
أضاف بوجه بارد التعبيرات:
-القانون على ما اعتقد بيمنع الجواز قبل 18 سنة، فتقدري تقولي لأ، والقانون في صفك
ردت بتهكمٍ:
-اللي زي أهلي مايفرقش معاهم قانون أو غيره، المهم عندهم يجوزوني النهاردة قبل بكرة
حاول استفزازها ليعرف إن كانت راغبة في الزواج حقًا أم أنها تدعي ذلك، فالمراهقات أمثالها يتعلقن بأنماط معينة من الشباب ممن يثرن إعجابهن، وربما كانت هي إحدى تلك الفتيات، استوى على مقعده ليبدو مسترخيًا في جلسته ثم أضاف ساخرًا:
-شكلك عاوزة تتجوزي، طريقتك بتقول إن في حد معين تعرفيه وبتتحججي بأي كلام وخلاص
تفاجأت من تصريحه غير الصحيح وحكمه المسبق على شخصيتها وكأنها فتاة تتسلى بمشاعرها مع من لا يستحق، هبت واقفة لتصيح به بعصبيةٍ:
-ماسمحلكش
وقف “يامن” هو الآخر لينظر لها ببرود معقبًا بلهجة غير نادمة على إصداره الأحكام:
-ماتخديش الأمور على أعصابك، أنا بأتكلم معاكي، وجايز أكون غلطان في رأيي، محصلش حاجة
ورغم حالة انفلات الأعصاب التي تعيشها منذ الصباح الباكر إلا أن أسلوبه المستفز والمستهين بشخصها جعل الدماء تثور وبقوة في عروقها، رمقته بنظرة حادة قائلة له بوجهٍ عابس ونبرة متجهمة:
-أنا اللي غلطانة، مكانش المفروض أقولك حاجة، عن إذنك
تحرك صوبها ليمنعها من الذهاب، أوقفها رغمًا عنها بالإمساك بها من ذراعها هاتفًا بها:
-استني بس!
شهقت “هالة” من قبضته التي جذبتها من ذراعها، ذكرتها على الفور بنفس القبضة التي سحبتها عنوة لبئر مظلم لن تخرج منه إلا بمعجزةٍ، انتفضت بتشنج مرتعد لتزيح يده وهي تقول له بعينين عكست رعبها الحقيقي:
-ابعد إيدك
وقبل أن يبدي اعتذاره عن تجاوزه معها أو حتى يبرر موقفه تجمد في مكانه متوترًا حينما سمع الصوت المألوف يقتحم غرفته ليناديه بقوةٍ وخشونة:
-“يامـــن”
التفت كالمسلوع نحو ابن عمه الذي أطل بجسده الشامخ قائلاً:
-“أوس”
استغلت “هالة” الموقف لتنتزع ذراعها من بين أصابعه القابضة عليها، استدارت هي الأخرى لتواجهه بنظرات حملت الرجاء والخوف، استغرب “أوس” من وجود تلك الفتاة في مؤسسته، هو لم يلتقِ بها إلا مرتين ولم يجرِ معها أي حوار، فقط كلمات مقتضبة حينما أنقذها من سخافة المقيت “منسي”، تعقدت ملامحه بدرجة كبيرة وهو يردد:
-إنتي ……………………..
……………………..