رواية الحبُ.. أَوْس
الفصل السادس عشر
أُهدرت كرامتها وكبريائها في لحظة فألقيت عند الأقدام كالذليلة لتطاولها المتعمد على زوجة ابن عمها البائسة، كانت كمن يغلي على موقد مشتعل وهي ترى الخدوش النازفة في ركبتيها، ناهيك عن فضحها علنًا أمام حثالة القوم، هبت واقفة على قدميها نافضة يديها مما علق بهما، جذبت ثوبها القصير للأسفل، استقامت واقفة لتسير بتكبرٍ وخيلاء وكأن شيئًا لم يحدث لها، تجمدت “رغد” في مكانها مصدومة حينما رأت أخيها مستندًا على جانب سيارته يصفق لها بيديه وهو يقول بسخرية:
-برافو، ده اللي كنت متوقعه من “أوس” معاكي!
كانت بحاجة للتنفيس عن غضبها المكبوت بداخلها، وربما وجوده بالخارج وفي ذلك التوقيت الحرج قد يزيد الوضع تأزمًا، احتقنت نظراتها وهاجت دمائها من كلماته المستفزة لها، رمقته بنظراتٍ نارية هادرةً به وهي تشيح بسبابتها في وجهه:
-اسكت خالص
اعتدل في وقفته مطالعًا إياه بعينين جامدتين لا يبدو عليه التأثر بالمهانة التي تعرضت إليها، تحدث من زاوية فمه معلقًا:
-أنا مرضتش أتدخل من الأول، وسيبتك تتعاملي معاه
لاح شبح ابتسامة متهكمة وهو يكمل:
-ودي كانت النتيجة
صرخت فيه بانفعالٍ:
-ده بدل ما تدافع عن أختك!
هز كتفيه في عدم مبالاة مبررًا حياديته التامة:
-إنتي اللي طلبتي أبعد، شكل الوقعة نستك!
لكزته في كتفه بقوة لتندفع للأمام هاتفة به بنبرة متعصبة:
-حاسب من وشي
شيعها بنظراته وهي تتجه نحو سيارتها محذرًا إياها بجدية واضحة:
-“رغد” افتكري إن “أوس” مش أي حد يقدر عليه
التفتت نحوه لترمقه بنظرات تحمل كرهًا مضاعفًا، ثم ردت عليه قائلة من بين أسنانها المضغوطة:
-اللي بتكلم عنه ده هاعرف أجيبه تحت رجلي مذلول
بدا حديثها فارغًا فرد بفتورٍ ليزيد من حالة الغليان الواضحة عليها:
-صدقيني مش هايحصل
استشاطت “رغد” من بروده اللا متناهي فهدرت به متعمدة إيذائه بكلماتها الجارحة:
-كفاية إنك واحد جبان شايف أختك بتتبهدل وواقف تتفرج
ورغم إهانتها القوية له إلا أنه رد ببرود وبوجه جليدي خالي من أي تعبيرات مزعوجة كاتمًا في نفسه ثورة تقاتل لتندلع:
-إنتي اللي أحرجتي نفسك معاه، ماتلوميش غيرك على أخطائك
رمقته بنظرة نارية تود الفتك به ثم فتحت باب سيارتها متمتمة بغلٍ:
-كلامي معاك زي قلته
انطلقت بسيارتها محدثة صوتًا مزعجًا وهي تستدير بها مبتعدة عنه، تابعها “يامن” بعينيه مرددًا بسخطٍ:
-غبية، هاتضيع نفسها عشان ولا حاجة!
…………………….. …………………….. ….
كانت خطواتهما أقرب للركض عن السير الطبيعي، فأختها كانت على عجلة من أمرها، وبصعوبة واضحة لم تستطع رؤية سيارة أجرة تمر من ذلك المكان الحديث الإنشاء، تلفتت “بطة” حولها بنظرات مزعوجة محاولة تدقيق النظر في السيارات المارة بجوارها، غمغمت بضيقٍ وهي ترفع رضيعها للأعلى قليلاً:
-إيه الهِو (مكان خالي) ده!
ردت عليها “هالة” متسائلة بصوت شبه لاهث:
-مافيش مكروباصات بتعدي من هنا ولا إيه؟
علقت عليها بوجهٍ لا يخلو من علامات الامتعاض:
-بتاع الأمن قال في قدام، بس أنا مش شايفة حاجة
استمرت كلتاهما في المشي بهرولةٍ حتى ظهر في الأفق عدة حافلات متوسطة الحجم للأجرة، تنفست “بطة” الصعداء لكون الحارس الأمني قد أصدقها القول حينما سألته، هتفت بلهجة آمرة ظهرت في صوتها:
-مدي رجلك شوية
انصاعت “هالة” قائلة باختصارٍ:
-ماشي
توقفت الاثنتان عند إحدى الحافلات، سألت “بطة” السائق عن وجهته فأخبرها بإيجاز عن طريق السير المعتاد، انتقت الأقرب للمشفى الحكومي الذي تقصده، وقبل أن تستقل المقعد الخلفي تأكدت من ركوب أختها في العربة الأخرى التي ستوصلها إلى أقرب نقطة يمكنها اتخاذ وسيلة مواصلات أخرى تقلها إلى منطقتها الشعبية، لوحت لها بيدها مؤكدة بشدة:
-خدي بالك من نفسك، وأما توصلي كلميني، وطمني أمك عليا، ماشي
أومأت “هالة” برأسها قائلة:
-حاضر، وإنتي طمنينا على عمة “عبده”
زمت شفتيها لتقول بيأس:
-ماشي، وربنا يستر ومانسمعش حاجة وحشة!
انطلقت بعد لحظات الحافلات التي امتلأت بالركاب إلى وجهتها المعروفة مسبقًا، دون أن تدري “هالة” أي حظ عاثر ينتظرها.
…………………….. …………………….. ..
لم تكن مجرد عبارات مهينة أرادت بها استفزازه فقط، بل كانت أيضًا كلمات جارحة موجهة إلى شخص زوجته تحديدًا لتشعرها بالدونية والنقص مزعزعة المحبة والثقة التي غلفت قصة حبهما غير التقليدية، من يتطلع إليها خلال تلك المشادة الحامية يظن أنها سلبية، عديمة الشخصية، لا تتمتع بالشجاعة الكافية للكيل بنفس المكيال الذي ذاقت منه تلك الجمل اللاذعة، لكن بداخلها كانت تتقد حنقًا وغضبًا، ورغم هذا خانتها الكلمات وتجمدت على طرف لسانها ليتضاعف بداخلها إحساسها بالعجز وقلة الحيلة، لم تكن قد أفاقت بعد من صدمة تبعات انفعالها السابق على “أوس” لتتجرع مجددًا من نفس الكأس ولكن بمرارة أشــد.
بالفعل نجحت “رغد” في إحداث شرخًا عميقًا في نفس “تقى” المهتزة، أوحت لها على الملأ أن علاقتها بزوجها علاقة غير متكافئة بالرغم من الروابط والصلات العائلية التي تجمع بينهما وغفلت عنها ابنة عمه، انهارت باكية تذرف الدمعات الساخنة على جرحها بتلك الصورة المهينة التي أوضحت بجدارة عن مدى الفارق الطبقي والاجتماعي بين الاثنين، ركضت هاربة من الأعين التي تتابعها باندهاش مصدوم، لحق بها “أوس” قاصدًا إيقافها وهو يناديها بصوته المتشنج:
-“تقـــى”!
وكأنه يحدث نفسه، لم تستجب لندائه المتكرر وهرولت صعودًا على الدرج لتفر منه ومن الجميع قاصدة الاختباء في غرفتها، أوصدت الباب خلفها بالمفتاح، وخارت مع رضيعتها التي بكت هي الأخرى بدون سبب على الأرضية، دقت “أوس” الباب بقبضته المتكورة هاتفًا بهدوءٍ زائف وبصيغة آمرة:
-افتحي يا “تقى”
صاحت من بين بكائها المرير الذي يقطع نياط القلوب:
-سيبني لوحدي يا “أوس”، مش عاوزة أتكلم مع حد
دق الباب مجددًا وهو يقول بإصرار:
-ماشي هاسيبك، بس لما تسمعيني الأول!
هزت رأسها نافية وقد ارتفع نواحها:
-كفاية اللي سمعته، عشان خاطري ابعد عني دلوقتي، مش عاوزة أشوف حد!
لم يرغب في الضغط أكثر من ذلك على أعصابها المحطمة جراء المواجهة غير المنصفة مع حقيرة مثل ابنة عمه التي لن تتوانى للحظة عن مضايقته وإلحاق الأذى بعائلته، انخفضت نبرته وهو يتوعدها بشراسةٍ:
-هتندمي على كل حرف قولتيه في حق مراتي يا “رغد”، مش هارحمك!
…………………….. …………………….. ………..
لم يكن المدعون إلى الحفل بحاجة إلى إعلانٍ صريحٍ بالانصراف بعد الموقف الحرج الذي دار نصب أعينهم، انسحبوا واحدًا تلو الآخر من المكان، وتولى “عدي” مهمة توديع الضيوف –ومن ضمنهم عائلة تقى- حتى لم يعد باقيًا سوى زوجته التي بدت واجمة للغاية، حدقت “ليان” في الفراغ بشرودٍ، كان كل شيء مثاليًا حتى أتت “رغد” وأفسدت بحضورها الأجواء لينتهي الحفل المبهج نهاية مزعجة للجميع، حزنت لرؤية “تقى” في وضع مخزٍ كذاك الذي واجهته، استندت برأسها على راحة يدها حتى جاء إليها زوجها، اعتدلت في جلستها هاتفة بضيقٍ لم تستطع كبحه أكثر من هذا:
-“رغد” دي مجنونة، مش إنسانة طبيعية!
هز “عدي” رأسه موافقًا وهو يرد:
-ما هي جاية عشان تبوظ السهرة
ردت بنبرة شبه منفعلة:
-كان باين عليها، عمرها ما هتتغير، لما حد يضايقها لازم تعمل أي حاجة عشان تفضحه وتقلل منه قصاد الناس، طبع مش غريب عليها
تكونت تكشيرة جانبية ساخرة على زاوية فم “عدي” حينما قال:
-بس “أوس” علمها الأدب
زفرت “ليان” مضيفة بتوترٍ وقد بدأت في هز ساقها بعصبيةٍ:
-وهي مش هاتعدي اللي حصل ده على خير
جلس زوجها على طرف المقعد ليحاوطها من كتفيها، تنهد موضحًا بنبرة عقلانية
-هي اللي بدأت، فلازم تستحمل نتيجة عمايلها
ردت بإرهاقٍ:
-أيوه
تأمل “عدي” ملامحها المتعبة فشدد قليلاً من ضمه لها وهو يطلب منها برفقٍ:
-خلينا نروح، إنتي شكلك تعبان
تمطت بكتفيها محاولة إزاحة ذلك الثقل المؤلم على فقرات عنقها وظهرها قائلة بتنهيدة مطولة:
-أه أوي، عاوزة أنام، دماغي مصدعة، وكمان اللي حصل وترني
-تمام
قالها “عدي” وهو ينهض من مكانه جاذبًا إياها بتريث من مقعدها لتتأبط ذراعه، سار الاثنان بتمهل نحو الخــارج وهما يثرثران عما يمكن أن يحدث من تبعات خطيرة نتيجة هذا الصدام المريب.
…………………….. …………………….. ..
مالت برأسها على النافذة الملاصقة لها لتشرد في تأمل الطريق الطويل شبه المعتم إلا من بعض الإنارات المبعثرة على الجانبين، ضمت “هالة” حقيبتها الجلدية إلى صدرها وكأنها درع يحميها ويمنحها الدفء، شعرت برجرجة خفيفة في حركة الحافلة، اعتدلت في جلستها وراقبت بعينين قلقتين ما يحدث، قفز قلبها في قدميها خوفًا حينما صدح السائق صائحًا بخشونة من الأمام:
-معلش يا إخوانا، الفردة شكلها عملتها
لم تفهم ما الذي يقوله وتابعت بنظراتها المتوترة ردات فعل الركاب، ما استشفته من همهماتهم الساخطة أن إطار السيارة أفرغ ما به من هواءٍ مما قد يسبب مشكلة كبيرة إن استمر السائق في قيادة حافلته، أوقف الأخير حافلته هاتفًا بجمود:
-هي كده جابت أخرها، هتنزلوا هنا يا إخوانا، وأنا مسامح في الأجرة
تذمر أحدهم مرددًا:
-يا عم كمل بينا لقدام شوية، قرب من حتة عمار بدل المكان المقطوع ده
رد عليه السائق بصوته الأجش الجاف:
-ده اللي عندي، العربية هاشحططها لحد أقرب ميكانيكي!
بالطبع اضطر الركاب على الترجل من الحافلة بعد أن استحال تحركها، وجدت “هالة” نفسها في ورطة جديدة دون داعٍ، انتابتها حالة من الخوف القلق وهي تفكر فيما ستفعله في ذلك المكان المُوحش بالنسبة لها، حتى من كانوا معها في لحظات بدوا وكأنهم قد تبخروا، أصبحت بمفردها تبحث بذعر عن وسيلة أخرى تنقلها إلى مكان عامر بالسكان، سارت بحذرٍ على أقصى جانب الطريق هامسة لنفسها بنبرة مرتاعة:
-يا رب استر، عديها على خير
ارتجفت قدماها وكادت أن تتعثر لأكثر من مرة أثناء سيرها المرتعد، تلفتت كل ثانية للخلف لتتأكد من وجود ما يشير إلى وجود حياة بتلك المنطقة النائية، جزعت وشحب وجهها كليًا حينما سمعت أحدهم يغازلها:
-ماشي لوحدك ليه يا جميل؟
أسرعت في خطاها وقد انكمشت على نفسها أكثر، بدا الصوت قريبًا للغاية منها وهو يقترح بخبثٍ:
-عاوزة توصيلة؟
شعرت بجفاف عارم يجتاح حلقها، بخفقان قوي في دقات قلبها، بالدماء قد هربت من عروقها، لم تكن الظروف في صالحها أبدًا، تضاعفت رجفتها وازداد هلعها مما تتعرض له، انفلتت منها شهقة خائفة حينما توقفت أمامها السيارة لتسد عليها الطريق، تسمرت ساقاها في المكان ونظرت بجحوظ لها، اتسعت حدقتاها أكثر في رعب بعد أن انخفض الزجاج الجانبي للسيارة ليظهر أحدهم من خلف عجلة القيادة، طالعها ذلك المريب بنظرات جريئة من عينيه الحمراوتين واللاتين تشيران إلى تجرعه لمادة ما مُذهبة للعقل، التوى ثغره متسائلاً بعبثية جلية:
-شكله نفضلك، صح؟ أنا موجود يا حلوة، مش عاوزة تركبي معايا؟!
بحثت “هالة” عن شجاعتها الغائبة لتتمكن من الفرار قبل أن يحدث ما لا يُحمد عقباه، أجبرت نفسها على الركض من جديد بعيدًا عن شبحه المرعب، لحقها ذلك الشخص بسيارته هاتفًا بنبرة عالية:
-عيب تقضيها كعابي
صمت دقات قلبها المتلاحقة أذنيها، شعرت أنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الهلاك الحتمي، فلا مهرب لها منه، وهي بالكاد قادرة على الدفاع عن نفسها، تدفق في عقلها الكثير من الذكريات المزعجة والتي تُشابه ما مرت به من قبل مع المقيت “منسي”، ارتعبت أكثر وأدركت أنها على وشك الوقوع في بئر مظلم لا نهاية له، فلم تختبر أبدًا ذلك القدر الهائل من الذعر المتواصل، انهمرت دمعاتها بكثافة وشوشت الرؤية لديها، حاولت أن تصرخ لكن انحشر صوتها وبدا كنواحٍ أكثر منه صرخات استغاثة.
في تلك الأثناء، كان “يامن” يقود سيارته على مقربة منها، فالطريق هو نفسه الذي تستقله جميع السيارات للعودة إلى قلب العاصمة، لمح بنظرات دقيقة فتاة ما تركض وسيارة تلاحقها ببطءٍ وكأنها تتسلى معها، لم يكن مهتمًا في البداية بالأمر حتى تقلصت المسافات واتضحت معالم الفتاة، ارتفع حاجباه للأعلى مرددًا لنفسه باستغرابٍ:
-مش دي البنت إياها اللي كانت في الحفلة!
أبطأ من سرعته ليتأكد من هويتها ومحاولاً تفسير الموقف المثير للارتياب، ارتفع صوت الشاب العابث هادرًا:
-ليلتنا زي الفل يا قمر!
صرخت “هالة” مستغيثة بمن ينجدها، وما سارع من وتيرة الموقف هو التفات قدميها وتعثرها، هامت على وجهها وتغبر جسدها بالتراب المتراكم على الإسفلت، أطلق الشاب ضحكة عابثة جلجل صداها وملأ سكون المكان، أدرك “يامن” على الفور ما يسعى إليه ذلك الحقير دون حاجته للتخمين أو للتفكير مرتين، ضغط على دواسة البنزين ليزيد من سرعة سيارته متجاوزًا سيارة ذلك الشاب، ثم التف حولها قبل أن يوقفها فجأة معترضًا بمقدمتها طريقه، صرخت “هالة” بارتياع من الموقف برمته، انزوت متجمدة في مكانها وهي تراقب بنظرات زائغة حصار السيارتين لها، فمن الممكن أن تكون الضحية التالية تحت إطار إحداهما، هدر الشاب العابث ملوحًا بذراعه بوجومٍ:
-بالراحة يا كابتن!
كان “يامن” على دراية بما يمكن أن تفعله المواد المخدرة برؤوس مُدمنيها، لذا لم يكن خيار الحديث السلمي والنقاش مع أمثالهم مطروحًا لديه، بدون تردد مد “يامن” يده نحو تابلوه السيارة ليفتح الدرج السفلي، أخرج منه سلاحه المرخص الذي لم يكن يستعمله إلا نادرًا وعند الطوارئ، ترجل على الفور من السيارة مشهرًا إياه في وجهه وهو يصيح بنبرة واثقة لكنها مهددة:
-بتقول إيه كده سمعني؟!
ارتسمت علامات الرعب على وجه الشاب، تراجع في مقعده معيدًا تشغيل محركه ليفر هاربًا كالفأر من المكان قبل أن يلقى مصرعه على يد مخبولٍ مجهول، ورغم شعور “هالة” بالارتياح لكونها تألف “يامن” الذي التقته مرتين في الحفل، إلا أنها ذعرت من تصرفه المباغت والمرعب في نفس التوقيت، تركزت حدقتاها على فوهة السلاح، بمجهود مضاعفٍ تمكنت من السيطرة على أطرافها مجبرة إياهم على مساعدتها على النهوض والتراجع للخلف، اكتسى وجهها بلمحات جمعت بين الخوف والرهبة، لم تفارق نظراتها عينيه المتطلعتين إليها بجمود، دنا منها قائلاً بنبرة جافة:
-تعالي أوصلك؟
هزت رأسها بإيماءات نافية متلاحقة وهي ترد بتلعثمٍ فزع:
-لأ
تعجب من ردة فعلها الخائفة منه رغم عدم إيذائه لها، بل على العكس شرع في حمايتها من شر ربما عجزت فيه عن الدفاع عن نفسها، وما إن اقترب منها خطوة أخرى حتى انفلتت منها صرخة مذعورة، توقف عن السير رافعًا يده في وجهها قائلاً بجفاءٍ:
-خلاص براحتك، إنتي حرة!
اختبأت “هالة” خلف حقيبتها الجلدية متوهمة أنها ستحميها من رعونته إن عبث شيطان رأسه به وأوهمه أنها فريسة مباحة للصيد، تدفقت الدموع في عينيها بغزارة لتشوش الرؤية، لم تعرف لانسيابهم سببًا، لكنها كانت خائفة، مذعورة، عاجزة عن اتخاذ القرار الصائب، تأملها مليًا محاولاً سبر أغوار عقلها، أزعجه رؤيتها باكية وهي تكبح شهقاتها قبل أن تصدر عنها، أعاد تكرار طلبه بصيغة أكثر هدوءًا علها تتوقف عن الارتجاف والنحيب:
-هاوصلك، متخافيش
صرخت فيه بهيسترية وكأن طاقتها على التحمل قد نفذت بالكامل:
-ابعد عني!
اندهش من تصرفها فتراجع للخلف دون أن ينبس بكلمة، تبعته “هالة” بعينيها المرتجفتين وهو يسير عائدًا في اتجاه سيارته، ظلت متسمرة في مكانها رغم تحركه بالسيارة لبضعة أمتار، ضرب “يامن” بيده على المقود مستشعرًا حالة من الحنق تجتاحه، وكأن مصائب الدنيا قد اختارت تلك الليلة تحديدًا لتنهال على رأسه، دس سلاحه في مكانه، ثم ضغط على المكابح ليوقف سيارته وهو يكز على أسنانه مرددًا بغيظٍ:
-أووف، غبية!
لم يعرف ما الذي دفعه وحثه هكذا بقوة على إرغامها على اتباع أوامره بالإجبار، ترجل من السيارة من جديد ليندفع بخطوات متعصبة في اتجاهها، حدقت فيه بهلعٍ عندما أمسك بها من ذراعها، تدلى فكها للأسفل في فزعٍ وقد بدأ في جرها معه وهو يقول بلهجة غير قابلة للنقاش:
-تعالي معايا
ظهرت مقاومتها من العدم لتصعب الأمر عليه قليلاً، صاحت بهيسترية وهي تقاتل للتخلص من قبضته المتشبثة بإحكامٍ على لحم ذراعها:
-إنت بتعمل إيه، سيب دراعي!
شحذت قواها الضائعة لتفلت منه رافضة تسهيل الأمر عليه، فبدت مسألة سحبه لها عويصةً إلى حد ما، ناهيك عن كون الأمر مثيرًا للشكوك إن مر أحدهم بجوارهما ورأى ما يحدث من شد وجذب، استدار “يامن” نحوها ليتمكن من الإمساك بها من ذراعيها ثم انحنى ليرفعها دون صعوبة على كتفه مكملاً ما تبقى من المسافة وهي يسير بها نحو سيارته، ضربته “هالة” بقبضتيها في ظهره، وركلت بقدميها في الهواء صارخة به:
-نزلني، سيبني!
رد محتجًا بجمودٍ:
-مش هاينفع، أنا مش في المود أصلاً، وكفاية كوارث النهاردة
توقف عند سيارته ثم أنزلها على قدميها دون أن يفلتها، حاولت دفعه من صدره لتتخلص من حصاره صارخة بيأس من بين بكائها:
-ابعد عني!
ثبتها من كتفيها وألصقها بجانب السيارة قائلاً بنبرة عميقة:
-متخافيش، مش هاعملك حاجة!
حملقت فيه بعينيها الباكيتين، شعر بغصة ما عالقة في جوفه وهو يرها على تلك الحالة، بشيء ما يحثه على تعويض تلك المسكينة عن إساءته السابقة لها، برر إصراره على عدم تركها قائلاً بهدوءٍ علها تقتنع:
-إنتي لو فضلتي هنا جايز حد تاني يتعرضلك ولا يحاول يعتدي عليكي
مجرد تخيل الأمر أفزعها أكثر وأجبر دمعاتها على التحجر في مقلتيها، أرخى “يامن” قبضتيه عن كتفيها ولكنه ظل محاصرًا إياها فباتت محتجزة بين ذراعيه دون أن يلمسها، خفف من وطأة الأمر مدعيًا الابتسام وهو يرجوها:
-ممكن تركبي!
كان رفضها أمرًا مستبعدًا، لذلك عدلت عن عنادها واضطرت أن تمتثل لطلبه وركبت إلى جواره في السيارة، تنفس الصعداء لاستمالتها بعد ليلة عصيبة، دار حول السيارة بعد أن أوصد بابها ثم ركب خلف الموقد ليشرع بعدها في القيادة.
…………………….. …………………….. ……
ذرع الرواق جيئة وذهابًا وقد باتت أعصابه على المحك، لم يضع “أوس” في حسبانه استغلال تلك الحقيرة لحفله العائلي وإفساد فرحته بحديثها الشنيع، بالطبع شدد على حراسه وأعطى أوامره للأمن الخارجي بعدم السماح لتلك المرأة بالدخول إلى المجمع السكني تحت أي ظرف، مرر أصابعه في خصلات شعره وهو يزفر بضيقٍ وتعصبٍ، التفت برأسه كالملسوع حينما سمع المفتاح يُدار في قفله بالباب، هرول نحوه وأمسك بالمقبض ليفتحه، كانت “تقى” تسير شاحبة واجمة عبراتها قد شقت طريقها عبر صدغيها ببراعة، احتضنها من الخلف ممررًا ذراعيه حول خصرها ليلصق ظهرها بصدره، همس لها على مقربة من أذنها:
-اهدي يا “تقى”، محصلش حاجة!
وضعت يديها على قبضتيها لتنتزعهما بعيدًا عنها، تحررت منه لتستدير نحوه بشحوبٍ مقلق، سألته دون مقدماتٍ وقد تجمدت عيناها المتورمتان على تعابيره المزعوجة:
-هي دي بنت عمك.. “رغد”
وجدت صعوبة في التلفظ باسمها، اقترب منها “أوس” خطوة فأشارت له بالتوقف، أمعن النظر في هيئتها المريبة، كانت كمن يخوض صراعًا عويصًا ظهرت نتائجه على تعبيراتها، بالطبع تلك الدنيئة قد وجدت الثغرة المناسبة لتلعب بها ببراعة مستغلة ذلة واحدة ارتكبها في الماضي لتشعل بها فتيل الحرب بضراوة، تنفس بتمهلٍ ليضبط أعصابه المستثارة، ثم هتف بها يرجوها:
-“تقى”، اسمعيني، إنتي أكتر واحدة عارفة أنا أد إيه بأحبك، متخليش بني آدمة قذرة زي دي تهز ثقتك في حبنا
بدت يائسة حد الموت وهي تستعيد في ذاكرتها كلمات “رغد” الجارحة لها، ناهيك عن التلميح الصريح لماضي “أوس” المشين والذي أيقظ فيها أحاسيس الماضي بكونها كانت فريسة استلذ بتعذيبها قبل أن يتحول وينبذ طباعه السيئة، ارتجفت شفتاها وهي تقول بلا وعيٍ:
-أنا كنت بالنسبالك ولا حاجة! أنا …
قاطعها صائحًا بنبرة متصلبة قبل أن تتمادى في السقوط في هوية أوجاعها مذكرة كلاهما بما ظنا أنهما تجاوزاه:
-بس، مش عاوز أسمع حاجة بعد كده!
أغمضت عينيها لتنساب عبراتها في صمتٍ، لم تكن على قدر من الوعي النفسي لتدرك ما تتفوه به من حماقاتٍ مشككة، احتضنها “أوس” بقوةٍ ماسحًا على ظهرها برفق، همس لها مؤكدًا عن ثقة ووعيد:
-انسي يا حبيبتي اللي حصل، أنا هاجيب حقك!
…………………….. ……………….
كانت خائفة، ضائعة، في حالة تخبط ذهني واضحة، لكن لم يمنع ذلك الشعور الدافئ بالاطمئنان من التسلل إليها ليخفف من حدة تسارع دقات قلبها، انزوت “هالة” في أقصى المقعد ملاصقة جسدها بالباب وكأن هناك شبحًا خفيًا يجلس إلى جوارها، نظر لها “يامن” من طرف عينه متعجبًا من ابتعادها بتلك الطريقة، ومع ذلك لم يتطفل عليها، تركها لبرهة حتى تعتاد عليه وتطمئن لوجودها معه، ران الصمت بينهما لبعض الوقت حتى ضجر منه، فقاطعه مُعرفًا بنفسه:
-أنا “يامن”، أهلاً يا …
تعمد عدم ذكر اسمها رغم استحضار ذاكرته له ليمنحها الفرصة لترد عليه، أطبقت “هالة” على شفتيها بقوة رافضة الحديث معه، لاحظ تلك الرجفة الخفيفة الظاهرة على أناملها القابضة على حقيبتها، ادعى الابتسام كاسرًا من جديد حاجز الصمت:
-إنتي “هالة”، مظبوط؟!
قرأ نظرات الدهشة في حدقتيها، اتسعت ابتسامته قليلاً وهو يوضح لها:
-أكيد من الحفلة، ماتستغربيش
أشاحت بوجهها بعيدًا عنه متجنبة نظراته التي تحاصرها، صدرت عنها شهقة شبه مكتومة حينما أوقف السيارة فجأة، التفتت نحوه لتسأله بجزعٍ:
-في إيه؟
أدار جسده للجانب ليتمكن من رؤية وجهها كاملاً وبوضوح، ركز بصره على تفاصيلها المثيرة لفضوله رافضًا تلك المرة منحها الجواب الذي يرضيها، سألته من جديد بتوترٍ مُضاعف فخرج صوتها مبحوحًا مرتعشًا:
-وقفت العربية ليه؟
رد ممازحًا:
-أكيد مش هانزلك هنا
حدقت أمامها متأملة بخوفٍ سرى حتى في بدنها الظلام الحالك بالمكان، وقبل أن تدور برأسها الهواجس بادر موضحًا:
-متخافيش، أنا كنت عاوز أعرف إنتي دلوقتي كويسة
أومأت برأسها بخفة، فشعر بالارتيــاح، انطلق بالسيارة مجددًا مفضلاً تلك المرة أن يشغل المذياع ليصغي كلاهما إلى الأغنيات الرومانسية الصادرة منه لبعض الوقت، نظرت له بغرابة من طرف عينها، والتقط هو نظراتها المختلسة نحوه، قاوم ابتسامة مغرية تقاتل للظهور على محياه، ظل “يامن” يدندن مع الكلمات التي يعرفها ليذيب الجليد بينهما، بعد برهة همست له بخجلٍ وبصوتٍ يكاد يُسمع:
-وقف العربية لو سمحت
توقعت أن يمتثل لطلبها لكنه تجاهلها، هتفت مجددًا بنبرة أعلى نسبيًا:
-عاوزة أنزل هنا
التفت ناحيتها يسألها باهتمامٍ:
-بيتك هنا؟
أجابته نافية:
-لأ، بس أنا هاعرف اتصرف، المكان مش غريب عليا
أومأ برأسه متفهمًا:
-تمام
وبحذرٍ واضح في قيادته اصطف بالسيارة على الجانب، ولكن قبل أن تضع “هالة” يدها على المقبض لتترجل منها أمسك بها من رسغها ليمنعها من النزول قائلاً:
-لحظة
ارتجفت من لمسته المباغتة وتصلب جسدها بالكامل، رأى “يامن” نظرات الخوف في عينيها فأرخى أصابعه معتذرًا:
-سوري، أنا بأطمن عليكي
ترجلت سريعًا من السيارة وقبل أن توصد الباب صاح عاليًا كنوعٍ من العتاب الرقيق:
-مافيش شكرًا، أو ميرسي حتى!
ردت باقتضاب رغم ارتجافة نبرتها:
-متشكرة
ابتسم قائلاً وقد برقت عيناه بوميض غريب:
-العفو
صفقت الباب دون أن تنظر نحوه ثم هرولت مسرعة في اتجاه موقف السيارات القريب لتختفي وسط الزحام المرابط هناك، ودعها بنظراته مرددًا لنفسه بفضولٍ مهتم:
-حالة غريبة أول مرة أصادفها!
ظلت ابتسامته العفوية ملازمة له لتبدد كوارث اليوم المتراكمة على كتفيه، حرك عنقه للجانبين في لزمة معتادة منه ليخفف التيبس الذي اعترى فقراته، سخر من نفسه حينما تذكر إقدامه على فعل متهور لم يرتكبه حتى في مراهقته، لكنه منحه شعورًا ذكوريًا بالقوة والانتشاء …………………….. ………. !!
…………………….. …………………….. …يتبع >>>>>>>
أُهدرت كرامتها وكبريائها في لحظة فألقيت عند الأقدام كالذليلة لتطاولها المتعمد على زوجة ابن عمها البائسة، كانت كمن يغلي على موقد مشتعل وهي ترى الخدوش النازفة في ركبتيها، ناهيك عن فضحها علنًا أمام حثالة القوم، هبت واقفة على قدميها نافضة يديها مما علق بهما، جذبت ثوبها القصير للأسفل، استقامت واقفة لتسير بتكبرٍ وخيلاء وكأن شيئًا لم يحدث لها، تجمدت “رغد” في مكانها مصدومة حينما رأت أخيها مستندًا على جانب سيارته يصفق لها بيديه وهو يقول بسخرية:
-برافو، ده اللي كنت متوقعه من “أوس” معاكي!
كانت بحاجة للتنفيس عن غضبها المكبوت بداخلها، وربما وجوده بالخارج وفي ذلك التوقيت الحرج قد يزيد الوضع تأزمًا، احتقنت نظراتها وهاجت دمائها من كلماته المستفزة لها، رمقته بنظراتٍ نارية هادرةً به وهي تشيح بسبابتها في وجهه:
-اسكت خالص
اعتدل في وقفته مطالعًا إياه بعينين جامدتين لا يبدو عليه التأثر بالمهانة التي تعرضت إليها، تحدث من زاوية فمه معلقًا:
-أنا مرضتش أتدخل من الأول، وسيبتك تتعاملي معاه
لاح شبح ابتسامة متهكمة وهو يكمل:
-ودي كانت النتيجة
صرخت فيه بانفعالٍ:
-ده بدل ما تدافع عن أختك!
هز كتفيه في عدم مبالاة مبررًا حياديته التامة:
-إنتي اللي طلبتي أبعد، شكل الوقعة نستك!
لكزته في كتفه بقوة لتندفع للأمام هاتفة به بنبرة متعصبة:
-حاسب من وشي
شيعها بنظراته وهي تتجه نحو سيارتها محذرًا إياها بجدية واضحة:
-“رغد” افتكري إن “أوس” مش أي حد يقدر عليه
التفتت نحوه لترمقه بنظرات تحمل كرهًا مضاعفًا، ثم ردت عليه قائلة من بين أسنانها المضغوطة:
-اللي بتكلم عنه ده هاعرف أجيبه تحت رجلي مذلول
بدا حديثها فارغًا فرد بفتورٍ ليزيد من حالة الغليان الواضحة عليها:
-صدقيني مش هايحصل
استشاطت “رغد” من بروده اللا متناهي فهدرت به متعمدة إيذائه بكلماتها الجارحة:
-كفاية إنك واحد جبان شايف أختك بتتبهدل وواقف تتفرج
ورغم إهانتها القوية له إلا أنه رد ببرود وبوجه جليدي خالي من أي تعبيرات مزعوجة كاتمًا في نفسه ثورة تقاتل لتندلع:
-إنتي اللي أحرجتي نفسك معاه، ماتلوميش غيرك على أخطائك
رمقته بنظرة نارية تود الفتك به ثم فتحت باب سيارتها متمتمة بغلٍ:
-كلامي معاك زي قلته
انطلقت بسيارتها محدثة صوتًا مزعجًا وهي تستدير بها مبتعدة عنه، تابعها “يامن” بعينيه مرددًا بسخطٍ:
-غبية، هاتضيع نفسها عشان ولا حاجة!
……………………..
كانت خطواتهما أقرب للركض عن السير الطبيعي، فأختها كانت على عجلة من أمرها، وبصعوبة واضحة لم تستطع رؤية سيارة أجرة تمر من ذلك المكان الحديث الإنشاء، تلفتت “بطة” حولها بنظرات مزعوجة محاولة تدقيق النظر في السيارات المارة بجوارها، غمغمت بضيقٍ وهي ترفع رضيعها للأعلى قليلاً:
-إيه الهِو (مكان خالي) ده!
ردت عليها “هالة” متسائلة بصوت شبه لاهث:
-مافيش مكروباصات بتعدي من هنا ولا إيه؟
علقت عليها بوجهٍ لا يخلو من علامات الامتعاض:
-بتاع الأمن قال في قدام، بس أنا مش شايفة حاجة
استمرت كلتاهما في المشي بهرولةٍ حتى ظهر في الأفق عدة حافلات متوسطة الحجم للأجرة، تنفست “بطة” الصعداء لكون الحارس الأمني قد أصدقها القول حينما سألته، هتفت بلهجة آمرة ظهرت في صوتها:
-مدي رجلك شوية
انصاعت “هالة” قائلة باختصارٍ:
-ماشي
توقفت الاثنتان عند إحدى الحافلات، سألت “بطة” السائق عن وجهته فأخبرها بإيجاز عن طريق السير المعتاد، انتقت الأقرب للمشفى الحكومي الذي تقصده، وقبل أن تستقل المقعد الخلفي تأكدت من ركوب أختها في العربة الأخرى التي ستوصلها إلى أقرب نقطة يمكنها اتخاذ وسيلة مواصلات أخرى تقلها إلى منطقتها الشعبية، لوحت لها بيدها مؤكدة بشدة:
-خدي بالك من نفسك، وأما توصلي كلميني، وطمني أمك عليا، ماشي
أومأت “هالة” برأسها قائلة:
-حاضر، وإنتي طمنينا على عمة “عبده”
زمت شفتيها لتقول بيأس:
-ماشي، وربنا يستر ومانسمعش حاجة وحشة!
انطلقت بعد لحظات الحافلات التي امتلأت بالركاب إلى وجهتها المعروفة مسبقًا، دون أن تدري “هالة” أي حظ عاثر ينتظرها.
……………………..
لم تكن مجرد عبارات مهينة أرادت بها استفزازه فقط، بل كانت أيضًا كلمات جارحة موجهة إلى شخص زوجته تحديدًا لتشعرها بالدونية والنقص مزعزعة المحبة والثقة التي غلفت قصة حبهما غير التقليدية، من يتطلع إليها خلال تلك المشادة الحامية يظن أنها سلبية، عديمة الشخصية، لا تتمتع بالشجاعة الكافية للكيل بنفس المكيال الذي ذاقت منه تلك الجمل اللاذعة، لكن بداخلها كانت تتقد حنقًا وغضبًا، ورغم هذا خانتها الكلمات وتجمدت على طرف لسانها ليتضاعف بداخلها إحساسها بالعجز وقلة الحيلة، لم تكن قد أفاقت بعد من صدمة تبعات انفعالها السابق على “أوس” لتتجرع مجددًا من نفس الكأس ولكن بمرارة أشــد.
بالفعل نجحت “رغد” في إحداث شرخًا عميقًا في نفس “تقى” المهتزة، أوحت لها على الملأ أن علاقتها بزوجها علاقة غير متكافئة بالرغم من الروابط والصلات العائلية التي تجمع بينهما وغفلت عنها ابنة عمه، انهارت باكية تذرف الدمعات الساخنة على جرحها بتلك الصورة المهينة التي أوضحت بجدارة عن مدى الفارق الطبقي والاجتماعي بين الاثنين، ركضت هاربة من الأعين التي تتابعها باندهاش مصدوم، لحق بها “أوس” قاصدًا إيقافها وهو يناديها بصوته المتشنج:
-“تقـــى”!
وكأنه يحدث نفسه، لم تستجب لندائه المتكرر وهرولت صعودًا على الدرج لتفر منه ومن الجميع قاصدة الاختباء في غرفتها، أوصدت الباب خلفها بالمفتاح، وخارت مع رضيعتها التي بكت هي الأخرى بدون سبب على الأرضية، دقت “أوس” الباب بقبضته المتكورة هاتفًا بهدوءٍ زائف وبصيغة آمرة:
-افتحي يا “تقى”
صاحت من بين بكائها المرير الذي يقطع نياط القلوب:
-سيبني لوحدي يا “أوس”، مش عاوزة أتكلم مع حد
دق الباب مجددًا وهو يقول بإصرار:
-ماشي هاسيبك، بس لما تسمعيني الأول!
هزت رأسها نافية وقد ارتفع نواحها:
-كفاية اللي سمعته، عشان خاطري ابعد عني دلوقتي، مش عاوزة أشوف حد!
لم يرغب في الضغط أكثر من ذلك على أعصابها المحطمة جراء المواجهة غير المنصفة مع حقيرة مثل ابنة عمه التي لن تتوانى للحظة عن مضايقته وإلحاق الأذى بعائلته، انخفضت نبرته وهو يتوعدها بشراسةٍ:
-هتندمي على كل حرف قولتيه في حق مراتي يا “رغد”، مش هارحمك!
……………………..
لم يكن المدعون إلى الحفل بحاجة إلى إعلانٍ صريحٍ بالانصراف بعد الموقف الحرج الذي دار نصب أعينهم، انسحبوا واحدًا تلو الآخر من المكان، وتولى “عدي” مهمة توديع الضيوف –ومن ضمنهم عائلة تقى- حتى لم يعد باقيًا سوى زوجته التي بدت واجمة للغاية، حدقت “ليان” في الفراغ بشرودٍ، كان كل شيء مثاليًا حتى أتت “رغد” وأفسدت بحضورها الأجواء لينتهي الحفل المبهج نهاية مزعجة للجميع، حزنت لرؤية “تقى” في وضع مخزٍ كذاك الذي واجهته، استندت برأسها على راحة يدها حتى جاء إليها زوجها، اعتدلت في جلستها هاتفة بضيقٍ لم تستطع كبحه أكثر من هذا:
-“رغد” دي مجنونة، مش إنسانة طبيعية!
هز “عدي” رأسه موافقًا وهو يرد:
-ما هي جاية عشان تبوظ السهرة
ردت بنبرة شبه منفعلة:
-كان باين عليها، عمرها ما هتتغير، لما حد يضايقها لازم تعمل أي حاجة عشان تفضحه وتقلل منه قصاد الناس، طبع مش غريب عليها
تكونت تكشيرة جانبية ساخرة على زاوية فم “عدي” حينما قال:
-بس “أوس” علمها الأدب
زفرت “ليان” مضيفة بتوترٍ وقد بدأت في هز ساقها بعصبيةٍ:
-وهي مش هاتعدي اللي حصل ده على خير
جلس زوجها على طرف المقعد ليحاوطها من كتفيها، تنهد موضحًا بنبرة عقلانية
-هي اللي بدأت، فلازم تستحمل نتيجة عمايلها
ردت بإرهاقٍ:
-أيوه
تأمل “عدي” ملامحها المتعبة فشدد قليلاً من ضمه لها وهو يطلب منها برفقٍ:
-خلينا نروح، إنتي شكلك تعبان
تمطت بكتفيها محاولة إزاحة ذلك الثقل المؤلم على فقرات عنقها وظهرها قائلة بتنهيدة مطولة:
-أه أوي، عاوزة أنام، دماغي مصدعة، وكمان اللي حصل وترني
-تمام
قالها “عدي” وهو ينهض من مكانه جاذبًا إياها بتريث من مقعدها لتتأبط ذراعه، سار الاثنان بتمهل نحو الخــارج وهما يثرثران عما يمكن أن يحدث من تبعات خطيرة نتيجة هذا الصدام المريب.
……………………..
مالت برأسها على النافذة الملاصقة لها لتشرد في تأمل الطريق الطويل شبه المعتم إلا من بعض الإنارات المبعثرة على الجانبين، ضمت “هالة” حقيبتها الجلدية إلى صدرها وكأنها درع يحميها ويمنحها الدفء، شعرت برجرجة خفيفة في حركة الحافلة، اعتدلت في جلستها وراقبت بعينين قلقتين ما يحدث، قفز قلبها في قدميها خوفًا حينما صدح السائق صائحًا بخشونة من الأمام:
-معلش يا إخوانا، الفردة شكلها عملتها
لم تفهم ما الذي يقوله وتابعت بنظراتها المتوترة ردات فعل الركاب، ما استشفته من همهماتهم الساخطة أن إطار السيارة أفرغ ما به من هواءٍ مما قد يسبب مشكلة كبيرة إن استمر السائق في قيادة حافلته، أوقف الأخير حافلته هاتفًا بجمود:
-هي كده جابت أخرها، هتنزلوا هنا يا إخوانا، وأنا مسامح في الأجرة
تذمر أحدهم مرددًا:
-يا عم كمل بينا لقدام شوية، قرب من حتة عمار بدل المكان المقطوع ده
رد عليه السائق بصوته الأجش الجاف:
-ده اللي عندي، العربية هاشحططها لحد أقرب ميكانيكي!
بالطبع اضطر الركاب على الترجل من الحافلة بعد أن استحال تحركها، وجدت “هالة” نفسها في ورطة جديدة دون داعٍ، انتابتها حالة من الخوف القلق وهي تفكر فيما ستفعله في ذلك المكان المُوحش بالنسبة لها، حتى من كانوا معها في لحظات بدوا وكأنهم قد تبخروا، أصبحت بمفردها تبحث بذعر عن وسيلة أخرى تنقلها إلى مكان عامر بالسكان، سارت بحذرٍ على أقصى جانب الطريق هامسة لنفسها بنبرة مرتاعة:
-يا رب استر، عديها على خير
ارتجفت قدماها وكادت أن تتعثر لأكثر من مرة أثناء سيرها المرتعد، تلفتت كل ثانية للخلف لتتأكد من وجود ما يشير إلى وجود حياة بتلك المنطقة النائية، جزعت وشحب وجهها كليًا حينما سمعت أحدهم يغازلها:
-ماشي لوحدك ليه يا جميل؟
أسرعت في خطاها وقد انكمشت على نفسها أكثر، بدا الصوت قريبًا للغاية منها وهو يقترح بخبثٍ:
-عاوزة توصيلة؟
شعرت بجفاف عارم يجتاح حلقها، بخفقان قوي في دقات قلبها، بالدماء قد هربت من عروقها، لم تكن الظروف في صالحها أبدًا، تضاعفت رجفتها وازداد هلعها مما تتعرض له، انفلتت منها شهقة خائفة حينما توقفت أمامها السيارة لتسد عليها الطريق، تسمرت ساقاها في المكان ونظرت بجحوظ لها، اتسعت حدقتاها أكثر في رعب بعد أن انخفض الزجاج الجانبي للسيارة ليظهر أحدهم من خلف عجلة القيادة، طالعها ذلك المريب بنظرات جريئة من عينيه الحمراوتين واللاتين تشيران إلى تجرعه لمادة ما مُذهبة للعقل، التوى ثغره متسائلاً بعبثية جلية:
-شكله نفضلك، صح؟ أنا موجود يا حلوة، مش عاوزة تركبي معايا؟!
بحثت “هالة” عن شجاعتها الغائبة لتتمكن من الفرار قبل أن يحدث ما لا يُحمد عقباه، أجبرت نفسها على الركض من جديد بعيدًا عن شبحه المرعب، لحقها ذلك الشخص بسيارته هاتفًا بنبرة عالية:
-عيب تقضيها كعابي
صمت دقات قلبها المتلاحقة أذنيها، شعرت أنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الهلاك الحتمي، فلا مهرب لها منه، وهي بالكاد قادرة على الدفاع عن نفسها، تدفق في عقلها الكثير من الذكريات المزعجة والتي تُشابه ما مرت به من قبل مع المقيت “منسي”، ارتعبت أكثر وأدركت أنها على وشك الوقوع في بئر مظلم لا نهاية له، فلم تختبر أبدًا ذلك القدر الهائل من الذعر المتواصل، انهمرت دمعاتها بكثافة وشوشت الرؤية لديها، حاولت أن تصرخ لكن انحشر صوتها وبدا كنواحٍ أكثر منه صرخات استغاثة.
في تلك الأثناء، كان “يامن” يقود سيارته على مقربة منها، فالطريق هو نفسه الذي تستقله جميع السيارات للعودة إلى قلب العاصمة، لمح بنظرات دقيقة فتاة ما تركض وسيارة تلاحقها ببطءٍ وكأنها تتسلى معها، لم يكن مهتمًا في البداية بالأمر حتى تقلصت المسافات واتضحت معالم الفتاة، ارتفع حاجباه للأعلى مرددًا لنفسه باستغرابٍ:
-مش دي البنت إياها اللي كانت في الحفلة!
أبطأ من سرعته ليتأكد من هويتها ومحاولاً تفسير الموقف المثير للارتياب، ارتفع صوت الشاب العابث هادرًا:
-ليلتنا زي الفل يا قمر!
صرخت “هالة” مستغيثة بمن ينجدها، وما سارع من وتيرة الموقف هو التفات قدميها وتعثرها، هامت على وجهها وتغبر جسدها بالتراب المتراكم على الإسفلت، أطلق الشاب ضحكة عابثة جلجل صداها وملأ سكون المكان، أدرك “يامن” على الفور ما يسعى إليه ذلك الحقير دون حاجته للتخمين أو للتفكير مرتين، ضغط على دواسة البنزين ليزيد من سرعة سيارته متجاوزًا سيارة ذلك الشاب، ثم التف حولها قبل أن يوقفها فجأة معترضًا بمقدمتها طريقه، صرخت “هالة” بارتياع من الموقف برمته، انزوت متجمدة في مكانها وهي تراقب بنظرات زائغة حصار السيارتين لها، فمن الممكن أن تكون الضحية التالية تحت إطار إحداهما، هدر الشاب العابث ملوحًا بذراعه بوجومٍ:
-بالراحة يا كابتن!
كان “يامن” على دراية بما يمكن أن تفعله المواد المخدرة برؤوس مُدمنيها، لذا لم يكن خيار الحديث السلمي والنقاش مع أمثالهم مطروحًا لديه، بدون تردد مد “يامن” يده نحو تابلوه السيارة ليفتح الدرج السفلي، أخرج منه سلاحه المرخص الذي لم يكن يستعمله إلا نادرًا وعند الطوارئ، ترجل على الفور من السيارة مشهرًا إياه في وجهه وهو يصيح بنبرة واثقة لكنها مهددة:
-بتقول إيه كده سمعني؟!
ارتسمت علامات الرعب على وجه الشاب، تراجع في مقعده معيدًا تشغيل محركه ليفر هاربًا كالفأر من المكان قبل أن يلقى مصرعه على يد مخبولٍ مجهول، ورغم شعور “هالة” بالارتياح لكونها تألف “يامن” الذي التقته مرتين في الحفل، إلا أنها ذعرت من تصرفه المباغت والمرعب في نفس التوقيت، تركزت حدقتاها على فوهة السلاح، بمجهود مضاعفٍ تمكنت من السيطرة على أطرافها مجبرة إياهم على مساعدتها على النهوض والتراجع للخلف، اكتسى وجهها بلمحات جمعت بين الخوف والرهبة، لم تفارق نظراتها عينيه المتطلعتين إليها بجمود، دنا منها قائلاً بنبرة جافة:
-تعالي أوصلك؟
هزت رأسها بإيماءات نافية متلاحقة وهي ترد بتلعثمٍ فزع:
-لأ
تعجب من ردة فعلها الخائفة منه رغم عدم إيذائه لها، بل على العكس شرع في حمايتها من شر ربما عجزت فيه عن الدفاع عن نفسها، وما إن اقترب منها خطوة أخرى حتى انفلتت منها صرخة مذعورة، توقف عن السير رافعًا يده في وجهها قائلاً بجفاءٍ:
-خلاص براحتك، إنتي حرة!
اختبأت “هالة” خلف حقيبتها الجلدية متوهمة أنها ستحميها من رعونته إن عبث شيطان رأسه به وأوهمه أنها فريسة مباحة للصيد، تدفقت الدموع في عينيها بغزارة لتشوش الرؤية، لم تعرف لانسيابهم سببًا، لكنها كانت خائفة، مذعورة، عاجزة عن اتخاذ القرار الصائب، تأملها مليًا محاولاً سبر أغوار عقلها، أزعجه رؤيتها باكية وهي تكبح شهقاتها قبل أن تصدر عنها، أعاد تكرار طلبه بصيغة أكثر هدوءًا علها تتوقف عن الارتجاف والنحيب:
-هاوصلك، متخافيش
صرخت فيه بهيسترية وكأن طاقتها على التحمل قد نفذت بالكامل:
-ابعد عني!
اندهش من تصرفها فتراجع للخلف دون أن ينبس بكلمة، تبعته “هالة” بعينيها المرتجفتين وهو يسير عائدًا في اتجاه سيارته، ظلت متسمرة في مكانها رغم تحركه بالسيارة لبضعة أمتار، ضرب “يامن” بيده على المقود مستشعرًا حالة من الحنق تجتاحه، وكأن مصائب الدنيا قد اختارت تلك الليلة تحديدًا لتنهال على رأسه، دس سلاحه في مكانه، ثم ضغط على المكابح ليوقف سيارته وهو يكز على أسنانه مرددًا بغيظٍ:
-أووف، غبية!
لم يعرف ما الذي دفعه وحثه هكذا بقوة على إرغامها على اتباع أوامره بالإجبار، ترجل من السيارة من جديد ليندفع بخطوات متعصبة في اتجاهها، حدقت فيه بهلعٍ عندما أمسك بها من ذراعها، تدلى فكها للأسفل في فزعٍ وقد بدأ في جرها معه وهو يقول بلهجة غير قابلة للنقاش:
-تعالي معايا
ظهرت مقاومتها من العدم لتصعب الأمر عليه قليلاً، صاحت بهيسترية وهي تقاتل للتخلص من قبضته المتشبثة بإحكامٍ على لحم ذراعها:
-إنت بتعمل إيه، سيب دراعي!
شحذت قواها الضائعة لتفلت منه رافضة تسهيل الأمر عليه، فبدت مسألة سحبه لها عويصةً إلى حد ما، ناهيك عن كون الأمر مثيرًا للشكوك إن مر أحدهم بجوارهما ورأى ما يحدث من شد وجذب، استدار “يامن” نحوها ليتمكن من الإمساك بها من ذراعيها ثم انحنى ليرفعها دون صعوبة على كتفه مكملاً ما تبقى من المسافة وهي يسير بها نحو سيارته، ضربته “هالة” بقبضتيها في ظهره، وركلت بقدميها في الهواء صارخة به:
-نزلني، سيبني!
رد محتجًا بجمودٍ:
-مش هاينفع، أنا مش في المود أصلاً، وكفاية كوارث النهاردة
توقف عند سيارته ثم أنزلها على قدميها دون أن يفلتها، حاولت دفعه من صدره لتتخلص من حصاره صارخة بيأس من بين بكائها:
-ابعد عني!
ثبتها من كتفيها وألصقها بجانب السيارة قائلاً بنبرة عميقة:
-متخافيش، مش هاعملك حاجة!
حملقت فيه بعينيها الباكيتين، شعر بغصة ما عالقة في جوفه وهو يرها على تلك الحالة، بشيء ما يحثه على تعويض تلك المسكينة عن إساءته السابقة لها، برر إصراره على عدم تركها قائلاً بهدوءٍ علها تقتنع:
-إنتي لو فضلتي هنا جايز حد تاني يتعرضلك ولا يحاول يعتدي عليكي
مجرد تخيل الأمر أفزعها أكثر وأجبر دمعاتها على التحجر في مقلتيها، أرخى “يامن” قبضتيه عن كتفيها ولكنه ظل محاصرًا إياها فباتت محتجزة بين ذراعيه دون أن يلمسها، خفف من وطأة الأمر مدعيًا الابتسام وهو يرجوها:
-ممكن تركبي!
كان رفضها أمرًا مستبعدًا، لذلك عدلت عن عنادها واضطرت أن تمتثل لطلبه وركبت إلى جواره في السيارة، تنفس الصعداء لاستمالتها بعد ليلة عصيبة، دار حول السيارة بعد أن أوصد بابها ثم ركب خلف الموقد ليشرع بعدها في القيادة.
……………………..
ذرع الرواق جيئة وذهابًا وقد باتت أعصابه على المحك، لم يضع “أوس” في حسبانه استغلال تلك الحقيرة لحفله العائلي وإفساد فرحته بحديثها الشنيع، بالطبع شدد على حراسه وأعطى أوامره للأمن الخارجي بعدم السماح لتلك المرأة بالدخول إلى المجمع السكني تحت أي ظرف، مرر أصابعه في خصلات شعره وهو يزفر بضيقٍ وتعصبٍ، التفت برأسه كالملسوع حينما سمع المفتاح يُدار في قفله بالباب، هرول نحوه وأمسك بالمقبض ليفتحه، كانت “تقى” تسير شاحبة واجمة عبراتها قد شقت طريقها عبر صدغيها ببراعة، احتضنها من الخلف ممررًا ذراعيه حول خصرها ليلصق ظهرها بصدره، همس لها على مقربة من أذنها:
-اهدي يا “تقى”، محصلش حاجة!
وضعت يديها على قبضتيها لتنتزعهما بعيدًا عنها، تحررت منه لتستدير نحوه بشحوبٍ مقلق، سألته دون مقدماتٍ وقد تجمدت عيناها المتورمتان على تعابيره المزعوجة:
-هي دي بنت عمك.. “رغد”
وجدت صعوبة في التلفظ باسمها، اقترب منها “أوس” خطوة فأشارت له بالتوقف، أمعن النظر في هيئتها المريبة، كانت كمن يخوض صراعًا عويصًا ظهرت نتائجه على تعبيراتها، بالطبع تلك الدنيئة قد وجدت الثغرة المناسبة لتلعب بها ببراعة مستغلة ذلة واحدة ارتكبها في الماضي لتشعل بها فتيل الحرب بضراوة، تنفس بتمهلٍ ليضبط أعصابه المستثارة، ثم هتف بها يرجوها:
-“تقى”، اسمعيني، إنتي أكتر واحدة عارفة أنا أد إيه بأحبك، متخليش بني آدمة قذرة زي دي تهز ثقتك في حبنا
بدت يائسة حد الموت وهي تستعيد في ذاكرتها كلمات “رغد” الجارحة لها، ناهيك عن التلميح الصريح لماضي “أوس” المشين والذي أيقظ فيها أحاسيس الماضي بكونها كانت فريسة استلذ بتعذيبها قبل أن يتحول وينبذ طباعه السيئة، ارتجفت شفتاها وهي تقول بلا وعيٍ:
-أنا كنت بالنسبالك ولا حاجة! أنا …
قاطعها صائحًا بنبرة متصلبة قبل أن تتمادى في السقوط في هوية أوجاعها مذكرة كلاهما بما ظنا أنهما تجاوزاه:
-بس، مش عاوز أسمع حاجة بعد كده!
أغمضت عينيها لتنساب عبراتها في صمتٍ، لم تكن على قدر من الوعي النفسي لتدرك ما تتفوه به من حماقاتٍ مشككة، احتضنها “أوس” بقوةٍ ماسحًا على ظهرها برفق، همس لها مؤكدًا عن ثقة ووعيد:
-انسي يا حبيبتي اللي حصل، أنا هاجيب حقك!
……………………..
كانت خائفة، ضائعة، في حالة تخبط ذهني واضحة، لكن لم يمنع ذلك الشعور الدافئ بالاطمئنان من التسلل إليها ليخفف من حدة تسارع دقات قلبها، انزوت “هالة” في أقصى المقعد ملاصقة جسدها بالباب وكأن هناك شبحًا خفيًا يجلس إلى جوارها، نظر لها “يامن” من طرف عينه متعجبًا من ابتعادها بتلك الطريقة، ومع ذلك لم يتطفل عليها، تركها لبرهة حتى تعتاد عليه وتطمئن لوجودها معه، ران الصمت بينهما لبعض الوقت حتى ضجر منه، فقاطعه مُعرفًا بنفسه:
-أنا “يامن”، أهلاً يا …
تعمد عدم ذكر اسمها رغم استحضار ذاكرته له ليمنحها الفرصة لترد عليه، أطبقت “هالة” على شفتيها بقوة رافضة الحديث معه، لاحظ تلك الرجفة الخفيفة الظاهرة على أناملها القابضة على حقيبتها، ادعى الابتسام كاسرًا من جديد حاجز الصمت:
-إنتي “هالة”، مظبوط؟!
قرأ نظرات الدهشة في حدقتيها، اتسعت ابتسامته قليلاً وهو يوضح لها:
-أكيد من الحفلة، ماتستغربيش
أشاحت بوجهها بعيدًا عنه متجنبة نظراته التي تحاصرها، صدرت عنها شهقة شبه مكتومة حينما أوقف السيارة فجأة، التفتت نحوه لتسأله بجزعٍ:
-في إيه؟
أدار جسده للجانب ليتمكن من رؤية وجهها كاملاً وبوضوح، ركز بصره على تفاصيلها المثيرة لفضوله رافضًا تلك المرة منحها الجواب الذي يرضيها، سألته من جديد بتوترٍ مُضاعف فخرج صوتها مبحوحًا مرتعشًا:
-وقفت العربية ليه؟
رد ممازحًا:
-أكيد مش هانزلك هنا
حدقت أمامها متأملة بخوفٍ سرى حتى في بدنها الظلام الحالك بالمكان، وقبل أن تدور برأسها الهواجس بادر موضحًا:
-متخافيش، أنا كنت عاوز أعرف إنتي دلوقتي كويسة
أومأت برأسها بخفة، فشعر بالارتيــاح، انطلق بالسيارة مجددًا مفضلاً تلك المرة أن يشغل المذياع ليصغي كلاهما إلى الأغنيات الرومانسية الصادرة منه لبعض الوقت، نظرت له بغرابة من طرف عينها، والتقط هو نظراتها المختلسة نحوه، قاوم ابتسامة مغرية تقاتل للظهور على محياه، ظل “يامن” يدندن مع الكلمات التي يعرفها ليذيب الجليد بينهما، بعد برهة همست له بخجلٍ وبصوتٍ يكاد يُسمع:
-وقف العربية لو سمحت
توقعت أن يمتثل لطلبها لكنه تجاهلها، هتفت مجددًا بنبرة أعلى نسبيًا:
-عاوزة أنزل هنا
التفت ناحيتها يسألها باهتمامٍ:
-بيتك هنا؟
أجابته نافية:
-لأ، بس أنا هاعرف اتصرف، المكان مش غريب عليا
أومأ برأسه متفهمًا:
-تمام
وبحذرٍ واضح في قيادته اصطف بالسيارة على الجانب، ولكن قبل أن تضع “هالة” يدها على المقبض لتترجل منها أمسك بها من رسغها ليمنعها من النزول قائلاً:
-لحظة
ارتجفت من لمسته المباغتة وتصلب جسدها بالكامل، رأى “يامن” نظرات الخوف في عينيها فأرخى أصابعه معتذرًا:
-سوري، أنا بأطمن عليكي
ترجلت سريعًا من السيارة وقبل أن توصد الباب صاح عاليًا كنوعٍ من العتاب الرقيق:
-مافيش شكرًا، أو ميرسي حتى!
ردت باقتضاب رغم ارتجافة نبرتها:
-متشكرة
ابتسم قائلاً وقد برقت عيناه بوميض غريب:
-العفو
صفقت الباب دون أن تنظر نحوه ثم هرولت مسرعة في اتجاه موقف السيارات القريب لتختفي وسط الزحام المرابط هناك، ودعها بنظراته مرددًا لنفسه بفضولٍ مهتم:
-حالة غريبة أول مرة أصادفها!
ظلت ابتسامته العفوية ملازمة له لتبدد كوارث اليوم المتراكمة على كتفيه، حرك عنقه للجانبين في لزمة معتادة منه ليخفف التيبس الذي اعترى فقراته، سخر من نفسه حينما تذكر إقدامه على فعل متهور لم يرتكبه حتى في مراهقته، لكنه منحه شعورًا ذكوريًا بالقوة والانتشاء ……………………..
……………………..