رواية الحبُ.. أَوْس
الفصل الثالث عشر
بعنجهية وغطرسة اعتادت أن تكونا سمتها المقروءة على تعابير وجهها حتى باتت قاعدة أساسية في التعبير الصامت لديها، نظرت “رغد” إلى أخيها المشدوه بحضورها المريب بنظرات جامدة تحمل الازدراء والتأفف، بادلها نظرات مزعوجة من وجودها غير المرغوب فيه، ألقى “يامن” بثقل جسده على الأريكة المجاورة لها متسائلاً بامتعاضٍ:
-عاوزة إيه؟
أجابته متسائلة بعد زفير مطول:
-مش ناوي تبطل القرف ده؟
أشاح بوجهه بعيدًا عن نظراتها الاحتقارية قبل أن يرد ببرودٍ:
-دي حياتي وأنا حر فيها
علقت باستياءٍ:
-بس مترجعش تندم لما تقع في مصيبة وتتصل تقولي الحقيني
رد متحديًا:
-مش هايحصل
ثم نفخ مجددًا وسألها قاصدًا تغيير مجرى الحوار:
-إنتي جاية ليه؟
ركزت عينيها القاسيتين على وجهه لتجيب بعدها بنبرة مريبة:
-تراقبلي “أوس”، تبلغني بكل حاجة حتى لو كانت صغيرة عنه
رد متهكمًا:
-ناوية تشغليني جاسوس عنده؟
أوضحت بسخريةٍ وهي تطالعه بنظرة مستهجنة:
-أهوو نستفيد منك، بدل ما إنت مش فالح تعمل أي حاجة غير القذارات اللي أنا شيفاها قصادي
استشاط غضبًا من إهانتها المستفزة له فرد قائلاً بوقاحةٍ:
-كفاية إنتي رمز الشرف يا.. ربة الصون والعفاف!
صاحت محذرة من تجرؤه عليها:
-احترم نفسك
استقام في جلسته رامقًا إياها بنظرات قاسية وهو يضيف بلهجة قوية متعمدًا جرحها باللفظ لتكف عن التطاول عليه:
-بلاش نلف على بعض يا “رغد”، كل واحد فينا بيدور على مصلحته وبيعملها بطريقته، ما تجيش تعملي واعظ عليا، وإنتي ماتفرقيش حاجة عني!
هبت واقفة من جلستها صارخة فيه بعصبيةٍ وهي ترفع سبابتها في وجهه:
-اخرس
وقف هو الآخر ليواجهها معلقًا ببرود مستفز وقد استعاد القليل من كبريائه:
-أنا ساكت بمزاجي
توحشت نظراتها المحتقنة نحوه ثم هتفت بنزقٍ:
-تصدق أنا غلطانة إني جيتلك
أسرعت في خطاها متجهة نحو الباب وقبل أن تخرج من منزله التفتت نحوه لتضيف بنفورٍ واضح على وجهها:
-بابا كان عنده حق، واحد زيك ماينفعش نعتمد عليه أبدًا
عبث “يامن” بخصلات شعره هاتفًا بسخرية ليخفي ضيقه:
-استني اشربي حاجة
صفقت “رغد” الباب خلفها بقوة ليتخلى بعدها “يامن” عن قناع بروده الزائف، كان مدركًا أنها ستحاول استغلاله بطريقة أو بأخرى لتحقيق نزعاتها الانتقامية –كعادتها في السابق- من ابن عمه حتى لو كان الأمر على حسابه هو شخصيًا.
……………………..
تولى قيادة السيارة بنفسه تاركًا أفراد حراسته يتبعونه بالسيارة الأخرى، ورغم الصمت الظاهري عليه إلا أن بداخله كان صاخبًا، تنفس بعمقٍ لافظًا من صدره زفيرًا مطولاً ليخفف به شدة الضغوط، بالطبع ضج رأسه بحديث “فردوس” المتسول الذي لا يتوقف أبدًا في كل مرة يزور منزل زوجته المتواضع أو حتى يعرج عليها، دومًا تذكره بحاجتها للنقود لتنفقه في علاجها، كان قد وضع الخطط مسبقًا من أجلها، لكنه لم يرغب أبدًا في الإفصاح عن ذلك وهي مستمرة في استخدام تلك النبرة الشاكية على الدوام، ورغم هذا مل في الأخير من إلحاحها المتواصل، التفت “أوس” برأسه نحو زوجته الجالسة بجواره ليناديها بهدوءٍ:
-“تقى”
ابتسمت برقة قبل أن ترد:
-أيوه
تابع قائلاً بوجه ممتعض وكأن الكلمات تتقاتل على شفتيه:
-أنا في حاجة ناوي أعملها تخص أمك
تحفزت بعد جملته الأخيرة، ثبتت عينيها على وجهه متسائلة بفضولٍ:
-إيه هي؟
أجابها بفتورٍ وهو يوزع نظراته بين وجهها والطريق المزدحم أمامه:
-أنا بعت لمتخصصين في طب العيون بالخارج تقارير وأشعة بحالتها ومستني الرد
تفاجأت بنيته المبيتة في علاج والدتها، مالت في جلستها ليصبح تركيزها بالكامل نحوه هو فقط، رددت مصدومة وهي ترمش بعينيها:
-بجد؟
اكتفى “أوس” بالإيماء برأسه لتزداد حيرة وتخبطًا من تصرفه غير المتوقع، ظنت أنه سيقول المزيد لكن لا شيء، فقط سكون مريب، عضت “تقى” على شفتها السفلى قائلة بترددٍ لتقطع حاجز الصمت الذي ساد للحظاتٍ:
-أنا عارفة إنها غلطت و…
قاطعها مرددًا بجدية:
-“تقى” أنا مش محتاج أفتكر هي عملت إيه، أنا بأحاول أنسى كل ده ده
أشاح بوجهه بعيدًا عن نظراتها المراقبة له كي لا تلاحظ الامتعاض البائن على تعبيراته وهو يكمل:
-لكن هي بصراحة مستفزة، مش صابرة على أي حاجة
تحرجت هي الأخرى من أسلوبها الفج في طلب العون، بل وفي استجداء عطف الآخرين بطريقة تنفر الفرد من مساعدتها، تنهدت هامسة:
-معلش هي طبيعتها كده
لم يجد ما يعقب به عليها، فالموقف يعد حساسًا لكليهما، هي والدتها وفي نفس الوقت خالته بالرغم من أفعالها المحرجة، اعتدلت “تقى” في جلستها لتطالع الطريق الغريب عليها، بدا المكان أكثر خضرة، والطرقات مرصوفة ومعبدة، دققت النظر في المباني حديثة الطراز التي بدأت في الظهور من على بعدٍ، تساءلت بحيرة دون أن تبعد أنظارها عن الشارع:
-رايحين فين يا “أوس”؟
التوى ثغره بابتسامة باهتة وهو يجيبها بغموضٍ:
-هتعرفي دلوقتي
طالعت المظاهر الحضارية الراقية بنظراتٍ أكثر اهتمامًا، بدت المباني واضحة الآن بعد أن ولج بسيارته المدخل المفضي إلى ذلك التجمع الراقي، تضاعف فضولها ومع ذلك قاومت رغبة ملحة تحثها على سؤاله عن وجهتهما الحالية، التفتت برأسها للخلف لتلقي نظرة خاطفة على رضيعتها النائمة بمقعدها الخاص، عادت لتحدق به متسائلة:
-أخبار شقتنا إيه؟
أجابها بكلمة مقتضبة وترتها:
-انسيها
اترفع حاجباها للأعلى في فزع وهي تسأله:
-يعني مش هاينفع نسكن فيها أو ترجع زي الأول؟
رد بوجهٍ جاد التعبيرات:
-لأ خلاص
أحست “تقى” بتأنيب الضمير لكونها المتسبب الرئيسي في إتلاف المنزل وإحراقه لحظة خروجها عن شعورها وانسياقها وراء شكوكها غير الحقيقية، أطرقت رأسها في خزي قائلة بندمٍ:
-أنا أسفة، أنا السبب، لو كنت …..
مد “أوس” نحو ذقنها ليرفع وجهها المنكس حرجًا مقاطعًا إياها بنبرته الهادئة:
-ماتفكريش في اللي حصل
لم تختفِ علامات الحزن من نظراتها، أراحت وجنتها على يده مستشعرة لمسته الحنون على بشرتها، أبعدت رأسها لتسأله بترددٍ:
-طب هانقعد الفترة دي عند مين؟
أجابها “أوس” بهدوءٍ:
-أنا مرتب كل حاجة، متقلقيش!
هزت رأسها بإيماءة متفهمة لكن سرعان ما تحولت تقسيماتها الواجمة إلى تعابير اندهاش مع مطالعة مناظر القصور الفاخرة والحدائق الجميلة الملحقة بها، تساءلت بإعجاب كبيرٍ بدا واضحًا في نبرتها:
-إيه المكان ده؟
تقوس فمه ببسمة ساحرة تشكلت على زاوية شفتيه وهو يسألها:
-عجبك؟
أجابته دون تفكيرٍ:
-شكله حلو أوي
لحظات وأوقف السيارة بجوار إحدى الفلل رائعة التصميم ذات اللون الرمادي الفاتح والداكن، نظر ناحيتها قائلاً:
-احنا هنسكن هنا
انفرج ثغرها مرددًا بذهولٍ:
-هنا؟!
ابتسم مؤكدًا بنظراتٍ واثقة:
-إنتي مش أقل من اللي ساكنين فيه
عادت لتتأمل شكل الفيلا الآسر للأنظار بانبهار واضح عليها، رمشت بجفنيها قائلة بارتباكٍ:
-بس .. شكله غالي
وضع “أوس” يده على كفها، استدارت نحوه فور أن شعرت بيده تحتضن راحتها وأصابعه تتخلل أناملها، قرب كفها من فمه ليقبله بهدوءٍ ونظراته مركزة على وجهها البشوش، برقت نظراته بوهجٍ مشرق قائلاً لها بتفاخرٍ عظيم:
-إنتي مرات “أوس الجندي”، ماتستقليش بده!
تورد وجهها من غزله الممزوج بقوته وهو يشعرها دومًا بأنها تستحق الأفضل على الإطلاق، ردت عليه بخجلٍ:
-حبيبي، ربنا يخليك ليا
احتضنت يده بكلتا كفيها ضاغطة برفق على أصابعه، رمقها بنظرة حانية مطولة احتوت على عشق غير محدود، ومحبة تسري في العروق، خلا كل شيء إلا من نظراتهما الرومانسية، قطع ذلك التأمل الواله رنين هاتفه، أخرجه من جيب سترته ليجيب عليه بجدية:
-ألوو
صمت لبرهة مصغيًا للطرف الآخر قبل أن يحرك شفتيه ناطقًا بجمود:
-تمام
راقبت “تقى” ردة فعله التي لم تستطع تبين إن كانت جيدة أم لا، ما أثار قلقها هو إنهائه للمكالمة دون أن تعرف أي تفاصيلٍ عن طبيعتها، سألته بفضولٍ مهتم:
-في حاجة؟
تصنع الابتسام فخرجت ابتسامته باهتة نسبيًا وهو يجيبها:
-لأ يا حبيبتي، شغل
شرد “أوس” متطلعًا أمامه وقد تحولت تعابيره للجمود المخيف، راقبته “تقى” بطرف عينها متعجبة من ذلك التحول المريب في قسماته، استشعر حدسها وجود خطب ما، ومع ذلك لم تتجرأ على سؤاله، فإن كان يرغب بالبوح بما يزعجه لن يتردد للحظة في إخبارها، انشغلت بمتابعة مظاهر التمدن الحديثة في ذلك المجمع السكني الراقي الذي لم تكن تحلم أبدًا لأن تكون أحد قاطنيه.
……………………..
لم تصدق أنها نجت بأعجوبة من شره المستطير وقد تربص بها ليرعبها ويشعرها بأنها في خطر محدق، بقيت “هالة” على حالها المذعور رغم صعودها لمنزلها واختبائها أسفل الغطاء، لكن ظلت تعابيره الشرسة ونظراته المتوحشة محفورة في ذاكرتها رافضة تركها تنعم بلحظات من السلام، لاحظت “أم بطة” انزواء ابنتها في غرفتها والتزامها للصمت منذ أن عادت من الخارج، ولجت إليها لتسألها بوجه ممتقع:
-مالك يا بت؟ مش على بعضك ليه؟ من ساعة ما رجعتي من برا وإنتي على الحالة دي؟ حابسة نفسك في الأوضة
أجابتها بصوت مهتز وهي تكافح للسيطرة على رجفتها المستمرة:
-مـ.. مافيش
انتزعت والدتها الغطاء عنها لتتأمل وجهها الشاحب ونظراتها المرتاعة، ضاقت عيناها متسائلة بلهجةٍ حادة:
-لأ في، أنا مش هابلة ولا دقة عصافير في دماغي، انطقي في إيه؟
للحظة فكرت في سرد ما حدث لها، لكنها خشيت من سوء تفسير والدتها للموقف، ابتلعت ريقها وفكرت في التلميح ضمنيًا عن ملاحقة ذلك السمج الهمجي لها، إذ ربما تساندها وتوقفه عند حده فيلتزم حدوده معها، همست قائلة بترددٍ كبير:
-“مـ.. منسي” يا ماما
حلت تعابير جادة على قسماتها، رفعت حاجبها للأعلى متسائلة باهتمامٍ مزعوجٍ:
-ماله سي “منسي”؟
ازدردت ريقها قائلة بتوترٍ رهيب وقد بدأت حبات العرق الباردة في التجمع على جبينها:
-بيضايقني في الرايحة والجاية
-إيه؟
قالتها “أم بطة” بعدم تصديق، ومع هذا تابعت “هالة” بخوفٍ:
-أنا مش مرتحاله، وهو مش سايبني عمال …..
قاطعتها بصرامة:
-بطلي تخاريف عبيطة
حدقت فيها مدهوشة، في حين أكملت تعنيفها القاسي مرددة:
-هو الجدع هيعوز منك إيه؟ ده الحتة كلها شاهدة على مواقفه فيها، ده ناقص يعملوله تمثال من كتر اللي بيعمله مع الواغش اللي هنا
أيقنت أنها أخطأت حينما باحت لها بما تخشاه، ومع ذلك بررت لها رهبتها منه قائلة:
-أنا بقيت بأترعب منه، حاسة إنه ناويلي على حاجة وحشة!
لوحت أمها بيدها في الهواء هاتفة باستنكارٍ:
-كفاية فرجة على أفلام ومسلسلات، دماغك دي هتوديكي في داهية، أهوو ده اللي خدناه من القراية والعلام!
سكتت مبهوتة من حديثها الصادم قبل أن تبكي بقهرٍ لاستهتار والدتها بما يحدث واستخفافها بالمضايقات المتجاوزة من ذلك البلطجي العاطل لها، وما زاد الموقف تأزمًا هو مدحها له:
-ده يا ريت يبصلك، هو إنتي طايلة حد يعبرك وإنتي شبه الغفر كده
انسابت عبراتها بغزارة على إهانتها القاسية، تمتمت من بين نحيبها المتحسر:
-الله يسامحك يا ماما
لم تعبأ “أم بطة” بمشاعرها التي دهستها بقسوة قلبها والتقليل من شأنها، بل تابعت بشراسة قاصدة إشعارها بعدم جدوى التعليم:
-ده أختك لما كانت في سنك مشقلبة الحارة بحلاوتها الرباني، مش تقوليلي هم مذاكرة وشهادات إيه!
ردت مدافعة عن طموحها بعد أن فاض بها الكيل من تحطيمها لكل ما هو جميل في حياتها:
-أنا مش زي “بطة”
لكزتها بعنف في كتفها آمرة إياها:
-سيبك من القرف ده وقومي ساعديني، ورانا كوم غسيل أد كده، ده غير الأطباق و…..
وكأنها تخاطب نفسها، بدت كلماتها ضائعة لا تصل إلى أذنيها، فقط نظراتها الباكية بعينيها الحمراوتين من كثرة البكاء مسلطة على وجه أمها، همست راثية نفسها:
-يا ريت تحسي بيا، أنا ممكن أضيع في لحظة!
تأوهت بأنين موجوع حينما غرزت والدتها أظافرها في لحم ذراعها لتجبرها على النهوض وهي تصرخ بها:
-هتفضلي متنحالي كده كتير، قومي يالا!
تحركت بثقلٍ من فراشها، كفكفت بظهر كفها دمعاتها المقهورة من على وجنتيها وهي تدعو الله في نفسها أن ينجيها منه إن عجزت عائلتها عن حمايتها.
……………………..
-ها قولت إيه؟
تساءل “منسي” بتلك العبارة وأنظاره المتوهجة بوميضٍ غير مريح مركزة على “عبد الحق” الذي التقى به في المقهى الشعبي الكائن على الناصية، كان داهية في انتقاء الشخص المناسب ليكون الداعم له في عرضه القادم بالزواج، فإن نجح في استدراجه وضمه إلى صفه تجاوز الكثير من العقبات، ارتشف الأخير القليل من شايه الساخن ثم أعاد وضع الكوب الزجاجي في مكانه بالصينية رافعًا وجهه نحو مُضيفه وهو يرد:
-بردك مفهمتش قصدك!
أراد “منسي” إشباع غرور الآخر بمدحه بما ليس فيه ومنحه سُلطة لا يمتلكها فأضاف مبتسمًا من بين أسنانه السوداء بفعل نيكوتين السجائر:
-يا سيدي إنت راجل العيلة دلوقتي، وقبل ما فاتح أمها قولت أخد رأيك
حك “عبد الحق” رأسه بأظافره المتسخة معلقًا عليه:
-والله مش عارف أقولك إيه
اتسعت ابتسامته اللئيمة قائلاً بتأكيد:
-وافق إنت والباقي سهل
داعب طرف ذقنه النابتة هاتفًا بترددٍ حائر:
-الحكاية متخصنيش، هي “هالة” أخت مراتي، بس أمها موجودة و….
مال نحوه ليقول له مقاطعًا بثقة:
-كلمتين حلوين منك يمشوا الليلة، وبعدين أنا جاهز، الشقة بأوضبها، وهاجيب كام حاجة أفرشها، ونشوف طلبات العروسة
هز رأسه في استحسانٍ معقبًا بدبلوماسية:
-ربنا يسهل، أما توافق الأول
عاد ليقول بهدوءٍ ماكر ليضمن دعمه له:
-البركة فيك تظبطني، ده إنت كبيرهم، وبعدين الكلام في الأول والآخر بين الرجالة، والحريم أخرها تبارك وتهني
زفر “عبد الحق” قائلاً باستسلام:
-ماشي
تهللت أساريره وامتلأ صدره بغبطة مضاعفة من قدرته على استمالته دون عناءٍ يُذكر، هلل صائحًا بصوته الأجش:
-هات يا ابني شيشة للمعلم “عبده” بسرعة
رد عليه أحدهم من الداخل:
-حــاضر
بدت علامات الانتصار جلية في نظرات “منسي”، فقد راهن على اختيار الشخص المناسب وها قد تحقق مراده، بقي فقط القليل ليظفر بما يريد.
……………………..
سارت بخطى ثابتة لكنها مرتبكة على الممر المعبد بالطوب متأملة الخضرة التي تحاوطه من الجانبين بما اشتملت عليه من أشجار وأزهار متنوعة، لمعت حدقتاها بشدة وانعكس بريق السعادة فيهما، تساءلت “تقى” بأنفاس متحمسة وهي تدير رأسها في اتجاه “أوس”:
-احنا هنعيش هنا؟
أجابها مؤكدًا وهو يتأمل الإعجاب الظاهر عليها:
-أيوه
استنشقت الهواء النقي الذي غلف الأجواء من حولها، أغمضت عينيها مستمتعة بذلك التأثير الإيجابي عليها قبل أن تفتح جفنيها لتردد بسعادة كبيرة:
-أنا مش مصدقة عينيا
استمر “أوس” في دفع عربة الرضيعة للأمام تاركًا لها الفرصة للتمتع بالطبيعة الخلابة من حولها، أدخل ابنته للبهو الواسع ثم عاد ليقف في مواجهة زوجته التي طالعته بغرابةٍ وهي تسأله:
-في إيه؟
خرجت منها شهقة عفوية حينما مرر ذراعيه خلف ظهرها وأسفل ركبتيها ليحملها، تورد وجهها بالكامل بحمرة ملتهبة عكست توترها وارتباكها الحرج من تصرفه المفاجئ لها، شعرت بخفقان قوي يعصف بقلبها، وأحس “أوس” بحالة الاضطراب التي اعترتها، ابتسم لها هامسًا بتنهيدة عاشقة:
-ماينفعش تخشي بيتنا الجديد وإنتي ماشية على رجليكي
طوقت عنقه بذراعيها، نظرت له بحرجٍ وهي تهمس له:
-الناس هتتفرج علينا
رد بقوة تليق به:
-هو حد يستجري يقول حاجة؟ ده أنا أنسفه قبل ما عقله يفكر في ده!
ســار “أوس” حاملاً إياها للداخل رافضًا تركها تخطو دون أن يشعرها بأنها الملكة هنا، أنزلها على قدميها وبقي ذراعه محاوطًا لخصرها، انبهرت أكثر واعتلاها مشاعر متحمسة مختلطة بفرحة غامرة مع رؤيتها لتصميم الفيلا من الداخل، بدت في حلم أسطوري وهي تجوب بنظراتها المبهورة كل ركن في البهو متأملة جدرانه والتحف التي تزين الطاولات الذهبية الجانبية، ناهيك عن الأثاث باهظ الثمن، اتسعت نظراتها في صدمة أكبر حينما أردف قائلاً:
-الفيلا دي هديتك لأنك جبتيلي أغلى حاجة في حياتي، بنتي “حياة”
فغرت ثغرها غير مستوعبة تلك الهدية الثمينة التي أنفق فيها ألوف الجنيهات آملاً فقط أن تحوز على إعجابها، تابع بهدوءٍ وقد تشكلت بسمة ساحرة على شفتيه:
-أنا كتبتها باسمك وكنت بأجهزها عشان أديهالك في عيد ميلاد بنتنا
ردت بصدر يقفز بتوترٍ من فرط السعادة:
-ده كتير عليا
حاوطها “أوس” بذراعيه لتستند بكفيها على صدره، حدق في عينيها بنظرات عميقة هامسًا لها:
-مافيش حاجة تغلى عليكي أبدًا، إنتي حبي الأول والأخير
لم يكن أمامها سوى منحه قبلة مباغتة ممتنة على شفتيه كتعبير عن سعادتها بما يغدقه عليها من ترف لتتنعم في جنته الأرضية، بادلها قبلة أشد عمقًا بثت القليل من مشاعره المشتعلة بحبها الجارف، ابتعد عنها لتلتقط أنفاسها بعد أن غابت للحظات تحت تأثير تلك الأحاسيس المحفزة لها، تنهد مقترحًا:
-لو حابة تغيري أي حاجة في العفش، أنا معاكي و..
قاطعته “تقى” واضعة إصبعها على شفتيه:
-كفاية عليا إنت!
شعر بالانتشاء لكون هديته أدخلت عليها السرور، وما حفز رغباته المشتعلة مسبقًا هو تجاوبها معه، بل ودلالها الرقيق الذي يلعب على أوتار قلبه، زاد من ضغطه على خصرها لتلتصق أكثر بصدره، غمز لها قائلاً بعبثيةٍ:
-وبعدين في كلام بينا مكملش
ورغم فهمها لمقصده إلا أنها ردت تسأله ببلاهةٍ:
-كلام إيه ده؟
داعب طرف ذقنها بإصبعيه قبل أن يمسك به قائلاً بغموض مثير:
-شكلك نسيتي اللي حصل في الأوضة هناك
رمشت بعينيها بتوترٍ وقد تحولت بشرتها لكتلة ساخنة بسبب الدماء المندفعة بقوة في شرايينها لتؤجج من تلك الرغبة التي تجتاح خلاياها، أرادت آنذاك أن تستفز مشاعره، أن تلاعبه على طريقتها، ولم تعلم أن السحر سينقلب عليها، مال “أوس” برأسه على أذنها ليهمس لها بنبرة ذات مغزى جعلت أوصالها ترتعش:
-اللي يلعب بالنار.. تحرقه
شهقت ضاحكة وقد انحنى للأسفل ليحملها على كتفه بخفة، ركلت بساقيها في الهواء هاتفة بارتباكٍ:
-“أوس”، إنت بتعمل إيه؟!
رد كمن يُقرر ولا يُخير:
-لينا حساب سوا
هتفت بتوترٍ:
-و”حياة” …
قاطعها بجدية:
-بنتك في سابع نومة، متقلقيش عليها
خرجت منها تأويهة متألمة لكنها متحمسة حينما شعرت بتلك الصفعة الخفيفة على مؤخرتها والمصحوبة بقوله المتسلي وعن إيحاءٍ مقصود:
-كل حاجة وليها وقتها
اشتعلت وجنتاها أكثر، وتحفز جسدها بالكامل لما هي مقبلة عليه معه، رددت بخجلٍ:
-مجنون!
علق عليها قائلاً:
-بيكي وبس!
كركرت ضاحكة ليصدح صوتها في المكان معلنًا عن سعادة وشيكة ستغمر أركانه وزواياه ما لم يظهر من يكدرها ويعكرها بمخططاته المهلكة ……………………..
……………………..
يتبع >>>>>>>>