رواية الحبُ.. أَوْس

الفصل الحادي عشر
تحركت نظراته ببطء متأملة وجهها النائم دون أن يصدر أي جلبة لتستفيق من نومتها، أراد “أوس” أن يمتع عينيه بسحر “تقى” الذي فرضته عليه فصارت إدمانه الذي لا يشبع منه أبدًا، حدق أمامه ليفكر بتمعنٍ في الكارثة المسماة “رغد” وهو يزفر مطولاً، فمجرد تذكر حركتها المستفزة التي افتعلتها احترق منزله وكاد يودي بحياة الأغلى إلى روحه، وبتريثٍ حريص حرك جسده لينهض من جوارها دون أن يتسبب في إيقاظها، أنزل “أوس” قدميه وسار على مهلٍ إلى خارج الغرفة متجهًا إلى قسم الأطفال الملحق بالمشفى، فقد اشتاق لرضيعته ورغب في الاطمئنان عليها، كان الوقت لا يزال مُبكرًا، وما إن رأته إحدى الممرضات المسئولات عن متابعة الصغار حتى هبت واقفة، ارتجف صوتها وهي ترحب به:
-“أوس” باشا
أشار لها بسبابته لتصمت، امتثلت صاغرة لأمره وتنحت للجانب متحاشية النظر إلى شخصه المهيب، مشى “أوس” بتؤدة إلى الداخل قاصدًا فراش ابنته، ثبت عينيه عليها مستمتعًا بحركاتها العفوية أثناء نومها، أسرته غمغمتها البريئة وتأوهاتها الصغيرة، امتدت يده لتتلمس بشرتها بحذرٍ مضاعف، امتلأ صدره بالارتياح لكونها بخير ولم يصبها أي مكروه، ابتسمت تلقائيًا فتشكل على ثغره ابتسامة صغيرة سعيدة، أحنى رأسه ببطءٍ على جبينها ليطبع قبلة أبوية مطولة عليه، مسد على رأسها بحنو ثم اعتدل في وقفته ملتفتًا نحو الممرضة ليسألها:
-أخبارها إيه؟
أجابته بتلهفٍ وهي ترتعش من نظراته الصارمة:
-بخير يا فندم
ابتلعت ريقها في حلقها الذي جف كليًا لتكمل بارتباكٍ:
-أنا موجودة معاها، والدكتورة كل فترة بتيجي تشوفها، يعني حضرتك متقلقش!
هز رأسه بإيماءة خفيفة متفهمة دون أن يضيف المزيد ليحدق بعدها في وجه ملاكه الصغير، سحب نفسًا بطيئًا لفظه على مهل ثم انصرف من المكان سائرًا في الرواق بهدوءٍ، أخرج هاتفه المحمول من جيبه، تفقد على عجالة بريده الالكتروني الخاص وكذلك المواقع الإخبارية، شعر بالارتياح لعدم وجود أي خبر صحفي نشر عن ذلك الحريق الذي اندلع بمنزله، عبث بأزرار الهاتف ليجري بعض المكالمات الهامة، بدت نبرته جادة وهو يأمر أحد موظفيه:
-خلال يومين بالكتير عاوز كل حاجة تكون خلصت، مفهوم!
أنهى المكالمة معه وقد اعتلت شفتاه ابتسامة مغترة، تمتم مع نفسه قائلاً:
-أتمنى المفاجأة تعجبك يا “تقى”، معدتش ينفع تتأجل أكتر من كده!
……………………..………………….
في تلك الأثناء، استيقظت “تقى” من نومتها لتتحسس الفراش بجوارها، كان المكان باردًا فانتفضت مذعورة من رقدتها فاتحة لجفنيها، تلفتت حولها بخوف باحثة عن “أوس”، نهضت عن الفراش متجهة إلى الحمام الملحق بالغرفة، دقت الباب تناديه بترددٍ:
-“أوس”، إنت موجود؟
لم تجد ردًا من الداخل، فقبضت على المقبض وأدارته لتتفاجأ بخلو الحمام منه، شحب وجهها خوفًا متوقعة حدوث مكروه ما له أثناء غفلتها، شعرت بدقات قلبها تتسابق بداخلها، استدارت مهرولة نحو باب الغرفة، وقفت عند عتبة الباب حابسة أنفاسها، ارتخت تعابيرها المشدودة بدرجة كبيرة حينما رأته مقبلاً عليه بخطا شبه بطيئة في الرواق، ركضت نحوه هاتفة:
-“أوس”
احتضنته دون مقدماتٍ محاوطة ظهره بذراعيها لتلتصق أكثر به، استندت برأسها على صدره وهي مغمضة لعينيها ومستمعة لدقات قلبه تخترق أذنيها، همست له بتنهيدة ساخنة شعر بحرارتها على صدره:
-خضتني، الحمد لله إنك كويس
تعجب “أوس” من تلهفها عليه، لم ردة فعل كهذه منها، ومع ذلك شعر بسعادة كبيرة تغمره لكونها تعبر له عن حبها بطريقتها، تنهد بعمقٍ ماسحًا على ظهرها برفقٍ، أبعدها عنه ليتأملها، وضع يده أسفل ذقنها رافعًا وجهها إليه، التوى ثغره بابتسامة عذبة متسائلاً:
-للدرجادي خايفة عليا؟
أجابته بندمٍ مقروءٍ بوضوح في عدستيها:
-أيوه، أنا السبب في اللي حصل
رد عليها بهدوءٍ:
-انسي يا “تقى”، أنا قدامك واقف على رجلي أهوو
نظرت له بعينين زائغتين مرددة:
-أنا خوفت لما ملاقتكش في الأوضة!
تلمس وجنتها موضحًا ببسمة صافية:
-أنا روحت أشوف “حياة”
كان رده مثلجًا لصدرها، فرغم ظرفه الصعب إلا أنه منح صغيرتهما وقتًا ليتفقدها، عادت لتحتضنه وقد تجمعت العبرات عند طرفيها تأثرًا لتقول له:
-ربنا يخليك لينا!
حاوطها “أوس” من كتفيها، لو كان الخيار بيده لما تركها أبدًا، لكنه مضطر لإبقائها في مكان آمن حتى يرتب أوضاعه، ورغم عدم تحبيذه لتواجدها بذلك المكان الشعبي الشنيع إلا أنه تغاضى مؤقتًا عن نفوره منه ليضيف بلهجة جادة:
-العربية هاتيجي كمان شوية تاخدك عند أهلك يومين، والحراسة هيفضلوا قريبين منك لو عوزتي حاجة
ردت معترضة بخوف:
-أنا عاوزة أفضل جمبك
بدا وجهه صلبًا ونبرته إلى حد ما خشنة وهو يقول:
-مش هاينفع يا “تقى”، وبعدين أنا بقيت أحسن، ده غير إني محتاج أخلص كام حاجة في الشغل
عبست ملامحها أمام إصراره غير القابل للتفاوض، لن تصل من جدالها معه إلى شيء، ظل “أوس” على جديته فأردف محذرًا:
-خلي بالك على نفسك يا “تقى”، إنتي عارفة إني بأقلق عليكي من أقل حاجة
أومأت برأسها قائلة بانصياعٍ:
-حاضر
أكد عليها مشددًا:
-ولو في حاجة حصلت كلميني على طول، تمام؟
ردت مبتسمة ابتسامة باهتة:
-ماشي
تابع محذرًا:
-ويا ريت محدش يعرف باللي حصلنا عند أهلك، إنتي رايحة تزوريهم وبس، اتفقنا
لم تعارضه رغم الامتعاض الظاهر على تعابيرها، فهي المخطئة في الأساس، هزت رأسها بالإيجاب، ولم يضف هو المزيد من التعليمات.
……………………..……………………..……
بدت مشمئزة وعلامات التأفف واضحة على وجهها الممتعض، ورغم كونها جالسة بمكتب مأمور السجن إلا أن مجرد التفكير في وجود والدها هنا وسط الحثالة وأرباب الإجرام جعلها في حالة استنفار متحفزة، هزت “رغد” ساقها بحركة عصبية خفيفة، دارت بعينيها في أرجاء المكتب محاولة تشتيت تفكيرها المشحون، ثم التفتت برأسها للجانب لتطالع الباب الذي فُتح فجأة، نهضت من جلستها غير المسترخية حينما وقعت أنظارها على جسد والدها الهزيل، ازدادت عبوسًا مع رؤيتها لتأثير الحبس عليه، بدا أكبر عمرًا، وأكثر إرهاقًا، اعدت الابتسام لتخفي ضيقها الكبير مستقبلة والدها بأحضان مشتاقة، حل المأمور أصابع يده المتشابكة لينهض من خلف مقعدها، أردف قائلاً بصوته الأجش الخشن:
-هاسيبكم شوية مع بعض وراجع تاني
ردت عليه “رغد” بابتسامة متكلفة:
-شكرًا يا فندم
انتظرت بترقب خلو غرفة المكتب منه لتهرع إلى والدها، احتضنته مجددًا مرددة باشتياقٍ:
-بابا
ضمها الأخير بقوة قائلاً لها:
-أخيرًا جيتي يا “رغد”، وحشتني أوي
ابتعدت عنه لتتأمل ملامحه عن كثب، قرأت بوضوح نظرات الانكسار عليه، أضاف “سامي” معلقًا باستنكارٍ:
-شوفتلي اللي حصلي
ربتت على جانب ذراعه قائلة بنبرة مواسية نادمة:
-أنا أسفة يا بابا إني مكونتش جمبك الفترة اللي فاتت
ابتلعت ريقها في حلقها المرير لتكمل بوعيدٍ:
-بس خلاص أنا رجعت وهاتصرف
عقب عليها بضيق ليضاعف من إحساسها بالغضب:
-باباكي متبهدل هنا، وكله بسبب ابن عمك
كزت على أسنانها قائلة عن ثقة:
-متقلقش يا بابا، “أوس” أنا هاعرف انتقملك منه بطريقتي، هاخلي حياته جحيم، مش هايعرف طعم الراحة تاني
أكد عليها مشددًا:
-بردي ناري يا “رغد”، أخوكي “يامن” زي قِلته، مابيحلش ولا بيربط و…
قاطعته قائلة بازدراءٍ:
-ده عيل تافه، أخره الصياعة ويحط نفسه في مشاكل، بجد ندمت إني سددتله ديونه، كان المفروض أسيبه كده
سألها باهتمامٍ:
-هو عرف إنك رجعتي؟
أجابته نافية:
-لأ لسه
ثم تنفست بعمق لتضيف بعدها بنبرة أكثر اهتمامًا أثارت الفضول في نفس أبيها:
-بس أنا قابلت “أوس”
بدت الحماسة جلية في نظراته وهو يسألها بترقبٍ:
-وكان ردة فعله إيه؟
لوت ثغرها لتظهر بسمة متهكمة على زاويته وهي تجيبه:
-اتفاجئ طبعًا، مكنش متخيل إني هاوصله، وأحرجه كمان، بس اللي جاي معايا أسوأ بكتير
تهللت لمحاته العابسة لتظهر إشراقة ماكرة فيهم وهو يثني عليها مادحًا:
-برافو يا “رغد”، إنتي كده بنتي، وأنا كمان هاقولك على مين يساعدك أكتر في انتقامك منه
قطبت جبينها متسائلة بفضولٍ:
-مين ده؟
صمت للحظة ليحصل على انتباهها بالكامل قبل أن يحرك شفتيه ناطقًا بكلمة واحدة مقتضبة:
-“ناريمان”
انفرجت شفتاها عن اندهاشة عجيبة قبل أن تعلق:
-مرات أنكل “مهاب”؟
أومأ برأسه موضحًا:
-أيوه، هي مرات عمك
زفر بعدها مكملاً بنبرة ذات مغزى:
-هي ماهتصدق تلاقي فرصة تنتقم فيها من عيلة “الجندي”، وخصوصًا بعد ما “مهاب” مات ووداها في داهية، وفرصتها هاتكون مع “أوس”
هزت “رغد” رأسها بالإيجاب كتعبير عن إذعانها له لتضيف بعدها بابتسامة شيطانية أظهرت خبثًا مضاعفًا:
-اوكي يا بابا، قولي بالظبط حضرتك عاوز إيه، وأنا هانفذه بالحرف!
……………………..……………………..………….
كانت مهمتها محددة حتى وإن كان المكان لا يليق بما اعتادت على الخدمة فيه، لكنها ستتبع سيدتها أينما ذهبت، أنهت “ماريا” عملها بداخل المطبخ المتواضع في ذلك المنزل الفقير لتخرج منه متجهة إلى الصالة، ناولت “تقى” زجاجة الرضيعة بعد أن أعدت لها الحليب الاصطناعي بها لتأخذها الأخيرة منها وعلى وجهها ابتسامة امتنانٍ، أخفضت “تقى” نظراتها لتحدق في صغيرتها بحنان أمومي غريزي، رفعت عينيها لتحدق في وجه “ماريا” حينما سألتها بلكنتها العربية المتكسرة:
-في حاجة تانية “تقى” هانم؟
ردت نافية دون أن تختفي ابتسامتها:
-لأ يا “ماريا”، كله تمام، تقدري إنتي تروحي، خلي بس حد من الحراسة يوصلك لبيتك
ارتسمت تعابير الارتياح على وجه الخادمة التي ستتجنب عناء العودة إلى المنزل من تلك المنطقة النائية، ابتسمت مرددة:
-شكرًا سيدتي
انصرفت بعدها لتعلق “فردوس” -الجالسة بجوار ابنتها على الأريكة- ساخرة:
-عشنا وشفنا، خدامة ألفرانجا عندنا هنا، لأ وبتقولك يا هانم، عجايب!
نظرت “تقى” إلى والدتها بعبوسٍ ملحوظ من طرف عينها، كانت مستنكرة طريقتها في التعليق على ظواهر الأمور، ومع ذلك ردت بهدوءٍ علها تكف عن ذلك الأسلوب:
-“أوس” بيعمل اللي عليه عشان أكون أنا وبنتي مرتاحين
مطت”فردوس” فمها مكملة:
-تلاقيها بتاخد بالدولار، ماهو اللي زي دي ماقبضش ملاليم!
زفرت مرددة بتجهمٍ:
-معرفش يا ماما
مصمصت أمها شفتيها مغمغمة بسخطٍ:
-حسرة علينا احنا، إن ما هاين عليه يطلع قرشين من جيبه أتعالج بيهم، مستخسر في خالته ترجع تشوف تاني
نظرت لها باستياءٍ، فدومًا تلجأ للشكوى والسخط والازدراء من حياتها المتواضعة، حتى طريقتها في طلب المساعدة تجبر الغير على النفور منها، انتبهت فجأة إلى الأصوات الصاخبة بالخارج فتساءلت:
-هو في إيه؟
ردت عليها “فردوس” بفمٍ ملتوٍ:
-هناخد إيه من الحتة دي غير الخناقات والمصايب اللي مابتخلصش
أشاحت بوجهها بعيدًا عنها لكن حدة الأصوات والصراخ المرتفع دفعها للنهوض من جلستها لتعرف ما الذي يدور، رفعت صغيرتها إلى صدرها ثم دنت بها من الشرفة لتطالع بفضول مثل باقي أهل المنطقة الشعبية ما يحدث من شجار محتدم لزوجة غاضبة تسب وتلعن وهي في أوج ثورتها، رأت قبالتها “بطة” و”هالة” تراقبان ما يحدث فلوحت لهما بيدها، بادلتها الاثنتان ابتسامة مرحبة ثم تركزت الأنظار كلها على المشاجرة، هاجت المرأة صائحة بنبرة جهورية:
-انزل يا حيلتها وخلي الناس تتفرج على المسخرة اللي بتحصل في بيتي
تجمهر المارة على إثر صراخها اللافت ليتحول المكان في أقل من ثوانٍ معدودة إلى تجمع كبير، تابعت المرأة صياحها قائلة:
-بقى أسافر يومين لأهلي في البلد أرجع ألاقي البيه جوزي بيخوني مع واحدة “….”!
صدرت جلبة وهمهمات جانبية بين جموع المتفرجين، شعر زوج تلك السيدة الحانقة بالحرج الشديد من فضح أمره هكذا علنًا، وبخها بخشونة وهو يلوح بذراعه من أعلى النافذة مهددًا إياها:
-اسكتي يا ولية بدل ما أجيبك من شعرك
نزعت المرأة حجاب رأسها دون اكتراث بنظرات من حولها، رمقته بنظراتها النارية المشتعلة وردت عليه بتحدٍ سافر:
-أهوو يا ادلعدي، عريته عشان الناس تتفرج كمان
ثم صفقت بيديها لتلفت الأنظار أكثر وهي تكمل:
-اتفرجوا يا ناس، والله لأفضحك وسطهم، خليهم يعرفوا العرة اللي متجوزاه
لم يتحمل الزوج المزيد من الإهانات القاسية فأوصد النافذة متوعدًا إياها بالرد العدائي الشرس في الحال ليحفظ ماء وجهه، حاولت بعض النساء التدخل لمنعها من تصعيد الأمور لكنها أبت ألا تقتص لكرامتها الأنثوية، فيمكن للمرأة أن تتحمل كل شيء، الفقر، العوز، ضيق اليد، الظروف المعاشية القاسية، فيما عدا الخيانة، لا يمكن أن تقبلها مطلقًا، ستقاتل من أجل استرداد كرامتها ورد اعتبارها، تحفزت تلك المرأة لمواجهة منذرة بالكثير من التطاول باليد والألفاظ، لم تعبأ بتبعات ما ستلاقيه، المهم أن تفضح ذلك الزوج الخائن، لمحت بعينيها المتقدتين إحدى النساء وهي تتسلل من مدخل البناية، التقطت نظراتها بها فأيقنت أنها اللعينة اللعوب التي مارست البغاء مع زوجها، وبدون ذرة عقلانية ركضت كالمجنونة نحوها، تمنت تلك العاهرة لو أفلتت منها قبل أن تنالها قبضتها، لكن حظها العثر أوقعها في براثن زوجة تشتعل غضبًا، أمسكت الزوجة بكتلة من شعرها تجذبها منه لتدفعها أمام الحشد المتجمهر صارخة بهياجٍ:
-فكرك مش هاعرفك يا ……، ده أنا أطلعك من وسط ألف يا زبالة!
أوقعتها أرضًا ثم جثت فوقها لتضربها بكفيها وبخفها على مواضع مختلفة من جسدها لاعنة إياها بكلمات نابية فاضحة، ثم رفعت عينيها مكملة:
-مش سيباكي يا بنت الحرام
صرخت المرأة الأخرى مستغيثة بمن ينجدها، لكن فضل الأغلبية مشاهدة التلاحم الجسدي بين المرأتين بحرارةٍ، فساقطة مثلها تستحق الرجم، هكذا حكمت عليها نساء المنطقة بتشفٍ ظاهر في نظراتهن نحوها، أفرغت الزوجة شحنتها الثائرة فيها ثم نهضت عنها لتمسك في تلابيب الزوج الذي خرج من مدخل البناية قاصدًا ضربها لتطاولها عليه وفضحه، عند تلك النقطة تدخل “منسي” مدعيًا الشهامة وهو يقول بحدةٍ:
-ما تلموا نفسكم، كفاية فضايح!
فقد لمح الأخير بطرف عينه “هالة” وهي تقف بجوار أختها ووالدتها في شرفة منزلهن بالطابق العلوي، طمع في إثارة إعجاب أمها ليستحوذ بدهاءٍ مدروس على عقلها فتظن أنه رمزًا للرجولة والشجاعة والتصرف في المواقف الشائكة، عاد من شروده السريع على صوت المرأة الغاضب وهي تقول:
-مش سيباه المفضوح ابن المفضوحة، جايب واحدة زي دي تنام في فرشتي و…
قاطعها زوجها بتوبيخٍ:
-محروق أبوكي إنتي وهي و…
نهره “منسي” بخشونة عنيفة:
-ما تلم نفسك، يعني العيب راكبك من ساسك لراسك وجايلك عين تتكلم كده وتزم في مراتك، احترم الرجالة اللي واقفة!
رد عليه بتذمرٍ:
-يا عم “منسي” دي ولية حيزبونة ماتتعاشرش
استشاطت الزوجة غضبًا من إهانته الصريحة لها فهدرت به:
-وإيه يا روح أمك اللي جابرك على كده؟ ارمي عليا اليمين خليني أخلص من قرفك
في تلك الأثناء، رأت “هالة” نظرات “منسي” غير المريحة لشخصها تحديدًا، ومطالعته لها عن قصد فانتابتها قشعريرة مريبة أجفلتها ولبكت بدنها، أحست لوهلة أنه لا ينتوي خيرًا لها، انسحبت للداخل آملة في نفسها ألا يكون ما شعرت به حقيقيًا، ما كانت تخشاه بحق هو انسياق والدتها وراء لهفة الزواج لتوقع بها مثل أختها الكبرى مع بغيض مثله، همست لنفسها برجاء:
-يا رب ابعده عني، قلبي مش مرتاح!
بعد برهة، وعقب انتهاء المشاجرة، دخلت أختها للغرفة متعجبة مما رأته، لم تنتبه لها “هالة” وظلت على وضعيتها الشاردة، لاحظت “بطة” عبوسها فسألتها مهتمة:
-مالك؟ سرحانة في إيه كده
نفخت مطولاً قبل أن تجيبها بفتورٍ:
-مافيش حاجة
جلست بجوارها على الفراش مضيفة بتهكم ساخر:
-ياما هانشوف في الحتة العجب دي، كل بيت مخبي وراه بلاوي
لم تعقب عليها وادعت الإصغاء لثرثرتها دون أن تشارك في التعليق، هتفت “بطة” مقترحة بحماسٍ:
-بأقولك ايه ما تيجي نعدي على “تقى” نقعد معاها شوية؟
جمدت عيناها عليها لتفكر في اقتراحها الذي ربما قد أتى في وقته، فهي بحاجة للترويح عن نفسها، سألتها بامتعاضٍ وقد تذكرت مهامها في ترتيب المنزل وغيره من المشاق التي لا تفرغ منها:
-طب وأمك؟ ما إنتي عارفة مش هترضى و…
قاطعتها بثقة:
-دي نص ساعة، وبعدين هو احنا هنسافر، دي قدامنا، يعني فركة كعب!
أومأت برأسها موافقة:
-ماشي
فربما في تلك الزيارة القصيرة ما قد ينسيها قلقها المزعج بشأن ملاحقة “منسي” لها.
……………………..……………………..………
استقبلت ضيفتيها بحفاوة كبيرة واصطحبتهما إلى داخل غرفتها لتجلس ثلاثتهن بارتياحٍ وبعيدًا عن تلصص والدتها، خاصة إن أردن الحديث عن بعض الأمور الشخصية، حدقت “تقى” في الرضيع “إسلام” الذي غفا بجوار ابنتها على الفراش لتقول بابتسامة مرحة:
-ما شاء الله، ابنك كبر يا “بطة”، ربنا يباركلك فيه
ردت عليها “بطة” بتنهيدة مطولة طوت الكثير من معاناة سابقة:
-يا رب، ده ربنا كرمني بيه بعد اللي حصلي من حماتي، الله يرحمها بقى، مع إنها ماتستهلش الرحمة
علقت عليها “هالة” بعتابٍ لطيف:
-انسي يا “بطة”، كله بيعدي
أخرجت زفيرًا ثقيلاً من صدرها قائلة لها:
-الحمد لله
تساءلت “تقى” باهتمامٍ:
-وإنتي عاملة إيه يا “هالة”؟ كله تمام معاكي؟
أومأت برأسها قائلة باختصارٍ:
-أيوه
أضافت “بطة” بحماسٍ مادحة أختها الأصغر:
-عاوزة أقولك البت “هالة” شاطرة أوي في دراستها ومذاكرتها، كان نفسي أكون زيها، بس هي إن شاء الله تكون أحسن مني وتخش الكلية
ردت عليها “تقى” بتفاؤلٍ:
-ربنا يوفقك يا حبيبتي
امتعض وجه “هالة” قليلاً وهي تتمتم بيأسٍ مقروءٍ:
-لو أمي تشيلني من دماغها هاقدر أعمل حاجة، بس أنا بصراحة مش مطمنة، قلقانة منها ومن دماغها
سألتها “تقى” مازحة:
-ليه؟ أوعى تكون ناوية تجوزك بدري بدري؟
عبست كليًا وهي تجيبها بحزنٍ:
-حاسة إنها عاوزة تعمل كده
اندفعت الدماء في وجه أختها لتقول بقوةٍ رافضة تكرار تجربتها الفاشلة والزج بها مع زوج يدمر مستقبلها ويقضي على طموحاتها وأحلامها القادمة:
-أنا هاقفلها، مش هاميل بختك زيي، ركزي بس في مذاكرتك وربك هيكرم
تصنعت الابتسام وهي ترد:
-يا رب
اندمجت ثلاثتهن في الحديث عن أمور جانبية حتى بدأ الرضيع “إسلام” في التململ في الفراش، بحثت “بطة” عن حليبه الخاص لتطعمه، لم تجده في حقيبتها الواسعة، رددت متسائلة بتوترٍ:
-الله، فين الرضعة بتاعة “سمسم”؟!
أجابتها “هالة” على الفور حينما فشلت في إيجادها:
-باين نسيناها، هاروح أجيبها وأرجع على طول
أضافت “تقى” قائلة بجدية:
-طب ما أنا عندي لبن صناعي بتاع “حياة”، أجيبلك منه؟
ردت عليها “بطة”:
-مش بيرضى يشرب أي حاجة، متعود على اللي ضاكتور كاتبه
هبت “هالة” واقفة على قدميها لتقول بهدوءٍ وهي تشير بيدها:
-أنا هاروح أجيبه وأرجع
لوحت لها بيدها مؤكدة:
-متتأخريش بدل ما يصحى، ويزن، ويفقل دماغنا من العياط
هزت رأسها مرددة:
-حاضر
ثم أسرعت بضبط حجاب رأسها عليها لتخرج بعدها من الغرفة قاصدة العودة إلى منزلها في البناية المقابلة، مالت “تقى” على صديقتها لتقول لها:
-بالمناسبة، “أوس” ناوي يعمل حفلة عيد ميلاد لـ “حياة”، هتكمل سنة كمان كام يوم
تهللت أساريرها قائلة برجاءٍ:
-ماشاء الله، عقبال 100 سنة يا رب
ردت عليها بامتنانٍ:
-يا رب إن شاء الله، إنتو معزومين عليه
بهتت ملامحها قليلاً من عرضها المغري بحضور حفل طفلتها، بالطبع لن يخلو من مباهج الحياة ومظاهر الثراء التي ستفتن حتمًا من يراها، ناهيك عن شعورها بالضآلة والفقر بين أثرياء القوم المدعوين له، لذا ردت معتذرة بحرجٍ:
-هو احنا أد المقام، جوزك بيه كبير و….
قاطعتها “تقى” بإصرارٍ:
-على فكرة “أوس” هو اللي قايلي أجيب كل أهلي، هو عاوز كده، وأنا حابة تكونوا كلكم معايا
ابتسمت قائلة:
-ربنا يخليهولك
ألحت عليها بجدية لتجعل الرفض خيارًا غير متاحٍ:
-هستناكو تنوروني
فركت “بطة” جانب عنقها لتقول:
-ربنا يسهل
تصنعت العبوس وهي تضيف:
-والله هازعل لو مجتوش
لم تجد بدًا من الرفض أمام إصرارها العنيد، تنهدت قائلة باستسلامٍ:
-حاضر يا حبيبتي، هو أنا أتأخر عليكي!
لمعت نظراتها ببريق متحمس لشروعها فعليًا في الترتيب والدعوة لجيرانها والأقرب إليها لحضور ذلك الحفل، اتسعت ابتسامتها هاتفة:
-تسلمي يا رب
……………………..……………………..…………
تسمرت قدماها عند مقدمة الدرج بعد أن أغلقت الباب خلفها لتجد آخر من توقعت رؤيته أمامها يطالعها بنظراته غير البريئة، جف حلقها وهربت الدماء من عروقها، بحثت “هالة” عن أي مهرب لها منه لكنها لم تجد، ودت لو تأخرت في ارتدائها لحذائها لبضعة دقائق لما كانت رأته على الإطلاق، لكن سوء التوقيت وضعها في لحظة لا تُحسد عليها، تقوس فم “منسي” بابتسامة كريهة لها، اعترته حالة من الانتشاء العارم وهو يجوب بنظراته على كل جزء فيها، تقدم خطوة على الدرج مرددًا:
-ده أنا حظي من السما إني شوفت القمر هنا
مقتت طريقته السمجة في التغزل بها، رفعت رأسها في إباء متجاهلة ما قاله، صعد الدرج ليصير في مواجهتها، شعرت “هالة” أنها حُصرت منه، نظرت بتوترٍ له، تراجعت بخوفٍ للخلف لتنأى بنفسها بعيدًا عنه، همس لها بأنفاسه الكريهة:
-بتبعدي ليه يا قطة؟ ده حتى القرب حلو
خرج صوتها مهزوزًا وهي تحذره:
-وسع خليني أنزل
نظر لها بجراءة متسائلاً بنبرة عبثية وقاصدًا إرباكها:
-ولو موسعتش؟ هتعملي إيه؟!
وجدت “هالة” نفسها ف مأزق حقيقي، خشيت من تجرؤه عليها باليد ومحاولته لتلمسها عنوة مثلما فعل سابقًا، ما أنقذها من شره المستطير هو ظهور ذو الهيبة والقوة بالخلف ليتساءل بثباتٍ:
-في إيه بيحصل هنا؟
تحركت أنظارها على شخص “أوس” المهيب، الذي بدا في تلك الحظة بالذات طوق النجاة بالنسبة لها، تنفست الصعداء لوجوده، بل لوهلة تلاشت مخاوفها مع حضوره الطاغي الذي يفرض مهابة تلقائية على الجميع، قرأ الأخير في نظراتها خوفًا جليًا وارتباكًا مذعورًا خاصة حينما تحركت حدقتاها عفويًا لتشير إلى وجه السمج “منسي”، وبهدوئه الواثق اعتلى “أوس” الدرجات بخطى ثابتة ليقف بجواره رامقًا إياه بنظرات شرسة تحمل عدائية صريحة، وضع يده القوية على كتفه وكأنه يثبته في مكانه متسائلاً بنبرة جادة لكنها جامدة:
-بتعمل إيه عندك ……………………..………………….. ؟!
……………………..……………………..

يتبع >>>>>>>

error: