العميل 101.. أحفاد الثعلب 2
الحلقة الثالثة
استرخى بمؤخرة رأسه على كرسي المدير العام لإدارة مجموعات “علي البناء” التجارية .. مغمض العينين ترتسم على معالمه الأجهاد الشاق ..
تسلل صوت “شاكر” لحظات سكونه هامسًا :
– ارهقت بجواري بني .. كان يجب أن تستمر راحتك على الأقل يومان أو ثلاث .. ولكن تعجلت وجئت لبدء العمل ومسك زمام الأمور اليوم .. خاصّةً عقب أرهاقك بسهرة الأمس برفقة الأطفال ومن قبله عناء السفر ..
فتح “علي” عينيه ثم عاد برأسه للامام يطالع ذلك العجوز بمعقده المقابل له قائلا عقب تنهيدة صامتة :
– على النقيض تماما بل جلستهم مرهفة حفزتني على تكرارها مرارًا وتكرارًا .. خاصة محبوبة “آنا” تلك الصغيرة “جويرية” فحقا كقطعة الشكولا كانت .. أمَّا فيما يخص العمل لا عليك كان هذا متوقع لتولي البدايات .. وأعلم أن التأقلم على أموره ليس بالشئ الهين .. ولم أنزعج من هذا مطلقا فأنا لم أعتاد الراحة يومًا ..
عقب حديثه حدجه “شاكر” بنظرة إمعان يستعمرها البهجة .. فحقًا لايصدق بأن الحفيد الضال عاد أخيرًا ليضمه موطن أباءه ويغمر رئتيه بهواءه … بل ويحتل مقعد الجد منذ الصباح الباكر، يدير شركاته وكافة أموره كما تمنى وحلم يوما، والأكثر تعجبًا يراه امامه الأن رجل يعتمد عليه ويتحمل على عاتقة كافة الأمور دون شكيان ..
همس على أثر لحظات شروده باسمًا كأنه ولجا داخل حلم جميل وليس واقع ملموس:
– بارك الله فيك بني .. وجعلك سمعة حسنة لأجدادك …
– آمين يا رب العالمين ..
همس يجيبه بها بعربية متقنة جعلت “شاكر” يجود بسهام دهشته للتغيرات الجذرية به منذ أخر لقاء جمعهما على تلك الارض هناك واللقاء على هذه الأرض الأن .. فكيف حدث هذا ؟! والآحرى كيف يؤمن الدعاء ! و.. وهو كما علمّ مسبقًا بأنه على ديانة والدته بل وتأكد من صحة المعلومة من اتصال “هنا” به ذات يوم ..
على ذكرها تنهد بعمق ونضجت أفكاره .. فيبدوا بأن الصغيرة البارة أخذت بنصيحته وجاهدت وحاربت وعانت حتى عادت بأبن الأسلام الضال لعباءة أباءه !
الاندهاش بلغ ذروته حتى بات لا يصدق ما استنتجه!!
ليس استهانة بها بقدر ما يعلمه عن قوة خصمها .. ف”علي” لمس به قسوة كالجبل المتحجر .. ويقينه أن الجبل لا ينوء إلا بإرادة خالقه ثم عشق أضاء عتمته !!!
هتف لنفسه منذهلا “هيام وحب في قلب “علي” “!
فاجاب يقينا “ولما لا فالله يقل للشئ كن فيكون”، ويبدوا أن فتاته تضرعت كثيرا .. بل كثيرا جدا ليستجيب خالقها !
تراخت معالمه مبتسما حامدًا ربه على فائض رحمته عليهما، ثم راح يطالعه قائلا بإصرار :
– يكفي هذا القدر اليوم بني .. يجب أن تعود للقصر تنعم براحة تعيد نشاطك للاستكمال في الغد أن شاء الله .. والسبب الأكثر أهمية هو توديعنا لابنة عمك وابنتها جويرية ..
هتف “علي” مندهشاً :
– لماذا ؟!
أجابة العجوز بإبتسامة هادئة :
– ابنة عمك “ندى” حان موعد مغادرته اليوم لمدينة “الاسكندرية” فمنذ عودة شقيقتها “أميرة” وهي هنا لتكون بجوارها ولكن بعودة “هنا” يحق لها العودة قليلا لزوجها ..
أومأ برأسه متفهما حديثه، ثم همّ واقفًا :
– حسنًا .. هيا نصلي الظهر بأقرب مسجد ثم نتوجه للبيت ..
فغر فاه العجوز يلاقي نظراته المحفزة بأخرى بلهاء وهو يردد:
– أي ظهر !
اجابه مندهشًا عند أحكام غلق حُلته:
– صلاة الظهر يا رجل .. ألست مسلمًا !!
توكأ براحة كفيه المرتعشتان على سطح مكتبه، يساعد قدميه لمسايرته على الوقوف معه لتصديق الواقع، ولسان حالة يردد بذهول جليّ ” يبدو أنني نسيت من أنا عقب قولك وليست فرائضي فقط .. بوركتِ بنيتي .. بوركتِ وطبتِ وطابَ مسعاكِ ”
——————
رغمَّ الصخب وتراجع أحدثيات التكنولوجيا بين جدران تلك المدينة عن ولايات إمريكا التسعة والأربعون، إلا أنه مس بمقلتي قاطنيها وهوائها دفءٍ وأمانٍ لم يمسه منذ فراق والده الحنون وحضور محبوبته بين شباك انتقامه ..
شعورا توغله بشدة حتى باتا يمحي شائبة غربته بين طيات مجتمع كان يمقط هويته منذ الصغر ..
ابتسامة عذبة تفشت بملامحه الشاردة حين نضح طيف صورتها من مرآة عينيه، وشاحٌ من نور ممزوج بالبهجة خاص بها وحدها، تلحف روحه رويدًا رويدًا حتى همس بسعادة تراقصت على محياهُ ..
” هو بات كلاجىء لا يسعى إلى مئوى غير قلبها .. وطنًا له ” !
استنشق الكثير بما جاد به الهواء من حوله حتى استطاع ترويض قلبه الضال بين ضلوع صدره عقب صخبه المرتفع، حين داعبته ذكرى صاحبة الرداء الأسود التي ستقضي بعشقها حتمًا على مشتاقٌ مثله يومًا ما ..
عقبتها تنهيدةٌ حاره خرجت دفعةٌ واحدة على ذكر الاشتياق ! قلبت الابتسامة العذبة دون أدراك لأخرى صفراء فحواها الحنق والضيق، حين تملكه شعور الغضب مرة أخرى مثيل ما حدث له في الصباح بعد اكتشاف جريمتها الشنعاء التي أقترفتها في حقه ..
فصغيرته المراوغة تسللت باكر لغرفة الجد من أجل تحضير ملابسه والمغادرة من فورها دون أن يشعر، وهو نائم بها يحلم بملكوت قربها كالأَبْلَه ..
صغيرته أو بالأحراى معذبته التي أصدرت حكمًا في حقه منذ أن وطأت أقدامهما هنا بعدم التلذذ بنعيم قربها !!
ما أن طرأ على تفكيره أخر استنتاجاته حتى ارتفاع معدلات الغيظ داخله بسخاء .. جعلته بحالته أقرب إلى الطفل الغاضب المحفز للانتقام .. ذلك الطفل البرئ بوعوده الكثيرة لكل ما يعكر صفو قلبه العاشق .. ناسيًا قربها بأنه شابًا يافع تترنح نون النسوة من جماله الآخاذ .. مُقدمة إليه فروض الطاعة والولاء مثلهم كمثل امرأة العزيز بابن يعقوب .. بل ما يدركه فقط بأنه تائه الخطى في ألحان عشقها .. والاكثر إدراكًا توالي غمغمته بقوةٍ وإصرار على الثأر منها دون رحمة كل ما يختلج صدره الموقد بجمر بعدها ..
انتبه من بركان عشقه المتأجج بداخله أنه شرد لكثيرا من الوقت حتى تجاوزت سيارته بسائقها محيط الفيلا برفقة العجوز بعد أن جابت به شوارع العاصمة المصرية المزدحمة، والتي وفرها له الأخير لتخطي عقبة عدم ادراك الخارطة الجغرافية للمدينة …
فشاهدا معًا سيارة أخرى في محيطها يُحمل سائقها أمتعة ما بداخلها، يرافقها صوت “شاكر” المجاور لجلسته عند ترجلهما فور توقف السيارة ..
– يبدوا أننا وصلنا بالوقت المناسب “علي”
لم يستوعب مغزاه فتمتم متسائلا بحيرة:
– لماذ..
قطع استفساره حين خرجت من باب المسكن الرئيسي امرأة مشاحة بالسواد مثيلة محبوبته .. حينها وغز قلبه “آه” اشتياق صامتة تفحشت بقسوة بين ضلوع صدره الواهنة بهيامها .. مما ايقظت رؤية هيئتها الشوق بين ثناياه مرة أخرى .. رغمَّ أنه لم ينم من الأساس .. ولكن يبدو بأنه أجبره قصوى على الخضوع المؤقت حتى يثأر من تلك المخادعة التي سيقص منها ساعات ودقائق عذابه هذه .. يتبعها بتلاحق السيدة الموقرة بملامحها الحزينة تحمل بين ذراعيها ابنة العام ونصف بشهيتها المحببة “جويرية” ..
تحرك بخطواتٍ مترددة يتبع العجوز الذي بادلهما الحديث بالعربية، لتنتقل لملامحه المُسنة عقب انتهاءه معهما عدوى وجوههما المنفطرة ..
أجواءً مستحدثه سقط في بؤرها ذلك الأجنبي، فطن منها أنهم بأسين لفراق ابنتهم .. وحتما محبوبته مثلهم ..
محبوبته !
بنظرات تائهة مشتته تطلع للاعلى قليلا يبحث عن ضالته .. تراخت تقاسيمه حين ابصرها تزين بغطاء الوجه نافذة علوية كما كانت تفعل دائمًا ببلاد الغرب، وكما لم يتوقع لم تبتهج روحه بل شعر بشيءٍ بين عظامه الصدرية ينبض ألمًا لرؤيتها ساكنة شاردة متألمة !
رجفة توغلت جسده حين رأها تكفكف براحتها فيض عينيها ومن ثم الفرار من امامه بلا عودة ..
يا الهي ! طفلته مثلهم تشاح بالحزن .. بل أشد باحاسيسها الطاهرة ..
وعى من حالته الشاردة بين أطار نافذتها على شهقات الأم وابنتها معًا في وداعٍ مشبع بالمشاعر الجياشة يُسابق عناق جسديهما ..
تسرب لأذنه في وسط تطلعاته المتمعنة إليهما صوت العجوز يهمس بلغته :
” جدك كان يحارب بكل قوته من أجل جمع البعيد، وعدم بُعد القريب، ولكن حكمة الله هي النافذة ”
اغمض عينيه عقب سماعه لتلك الكلمات ورؤيته لذلك المشهد المؤلم، الذي احيا بقلبه حزن فراق والده من جديد .. متفهما مقصده جيدًا بأن حالة الجد في غيابه كانت كحالتهم هُنا .. وهو كان القاسي منتزع القلب هناك .. شعر بمخالب الذنب تنهش روحه دون تروي .. بعد أن علمَّ لِمّا لم يتقدم ذلك المجتمع بعد بمشاعرهم الجياشة النقية وروح الجمع والحنين المتغذية عليهما دماءهم ..
لم يدرك بأنه حرر أصفاد عينيه وهتف بابتسامة هادئة فور انتهاء عناقهم واستعداد ابنة العم لاعتلاء مركبتها :
– “ندى” أعتني بالصغيرة .. وسأتي لزيارتكما ذات يوم ..
رغما ترجمتها لجملته بإتقان إلا أنها كذبتها في قرارة نفسها، دون تباطؤ رفعت عينيها الباكية المندهشة تستشف الحقيقة الفاصلة من عينيه المغلفتان لعينيها برحمة فلمست صدق نواياه .. تفشى على وجهها المغطى بتتابع ابتسامةٌ متضافرة بالعبرات والبهجة معًا، وهي تكاد تقنع روحها المشتتة بأن الغائب المفقود الأمل في رجعته قد عاد حقًا !
بل ويجاهد لاقتحام حياتهم اليومية وتولى زمام الأمور بعد أن فارقتهن روح الجد الحانية ..
وهي أكثر من ممتنه لذلك الجهد، لهذا بادلته الحديث بقحت ملفت :
– ونحن سننتظرك يا ابن العم ..
توغل صدر “رقية” نسائم راحة رغم عدم فهمها بعض الشيء لحديثهما بلغته الأجنبية، بينما غمغم العجوز بالحمد من بين ضلوع صدره لتوفيق الخالق له في توصيل رسالة الجد رحمة الله عليه كما رغبَ قبل رحيله ..
————————–
لم يبلغه أحد بأي قرارًا يخصها طوال يومين، أو بالآحراى منذ واقعة تعارفهما ! .. فعلى ما يبدوا أن صفعته كانت علاجٌ فعالا لإخماد شراستها المتأججة، ورغم هذا لم يحبذ سكونها لتلك الدرجة التي تعيق مهمته .. فكيف له أن يخرج الأن ليحصل على مايريد .. ضيقٌ أعتلى صفحة وجهه مطلقا زفرة لم يبخل في مداها، نوى بها تنفيذ مخططه دون انتظار البرنسيسة المدللة كما وصفها حتى تحِن عليه ..
نعم فوجوده هنا على مهب الرياح، وهو لن يضيع وقت أكثر من ذلك حتى يحصل على ما يحتاجه!
على أثر إرادته حرر جسده من الفراش بنشاط حفزه في تلك الساعة المبكرة على بدء مهمته .. حاملا بجعبته مبرر تواجده في الخارج .. آلا وهو ضرورة ممارسة رياضته الدورية من أجل الحفاظ على لياقته البدنية الهامة لعملهُ كحارسٌ خاص .. ولن يجد مكان أكثر من جيد كحديقة القصر لتنفيذ مخططه ومراقبة سكانه ..
نال حمامٌ دافئ يحفز نشاطه على الازدياد، ثم ارتدى ما يناسب فعله القادم من وسط حقيبة ملابسه التي تدل من نظرته الخبيرة رغم حرصهم على رتابتها كما كانت، بأنها فُتشت جيدًا قبل قدومها إليه ..
سلاما أمني بالأجواء لم يتلوث بنفوس ساكنيه، يجمله منحه من اشعة الشمس النادر وجودها في تلك البلاد، ذلك ما مسه من النظرة المطولة لخضرتها النضرة وهيئتها المصممة باحترافية بحته، سحب نفسًا عميقًا ثم شرع بالركض الخفيف مبلغًا منازله العليا مع مرور الوقت، متجاهلا عن قصد تلك الشقراء التي تتوسد شرفة الطابق الثاني بنظراتها المصوبة في جسده كطلقات حيه كلما غدا أو راح أمامها ..
تلك الشقراء التي خرجت لشرفة غرفتها بقميص نومها ومن فوقه روب حريري محرر دفتيه دون احكام من أجل استنشاق الكثير من الهواء الصباحي المستجم للنفس البشرية كأغلب عادتها، إلا أنها بوغتت بوجود رجلا ملامحه العربية الجذابة تزين محياهُ فخرًا، يمتلك من مميزات الجسدٌ القوة والرصانة بتحركاته الجذابة التي سلبت ببريقها لُب عينيها الخانعة لتفحصه، غامض بنظراته في الأجواء، أو اكثر تدقيقا متجاهلا عن عمد وجودها بهيئتها الكاسية العارية بالقرب منه، وما زاد الطين بله رؤيتها لتصبب العرق من جبينه تزامنًا مع جميع أنحاء جسده حتى تلبدت فانلته الرياضية على تقسيمات جسده المنحوتة بإتقان تحت يدين فنانٌ تشكيلي ..
دغدغها شعورا جديد لم يقتحمها من قبل أثارها كأنثى رغم مرور الكثير والكثير من بني جنسه أمام سنوات عمرها !
اعتلى داخلها التشتت وكثرة الاستفسارات عن هويته وشخصه فهي تتذكر جيدا أنها لم تبصره من قبل في جمع الحراسة بالمحيط الذي تعلم عنه الصغيرة قبل الكبيرة ؟!
سؤالا ظل ينهش داخلها حتى اقتحم عزلتها ذراعين احاطت جسدها وهمس ناعم بجوار أذنها:
– صباح الخير “راشيل” .. بجد وحشتيني الأسبوع ده..
لم تهتم بالتطلع خلفها لمعرفة صاحبه، فذلك “مرتضى” زوجها الذي بادلته الاهتمام الجيّاش بسؤالٍ أخر لا يمسه بصله بلغتها العربية المتقنة:
– مين ده ..؟!
أجابها متماديًا باحتضانها رافعا ذقنه على كتفها بعد أن تطلع لمرمى وجهها:
– دا “ياسين” من مصر، حارس “مرام” الجديد ..
حررت تقيده لخصرها عنوة، ثم التفت تطالع قصر قامته عن قامتها بعض الشيء بعينين جاحظة:
– ومبلغتنيش ليه بالتطورات دي .. وأمتى اصلا بتعمل حاجة من غير لما أعرفها الأول..
رُسم على معالمه الاندهاش من رد فعلها المبالغ به، فاسرع يهتف مستغربا:
– أهدى “راشيل” أنتي كنتي في رحلتك لامريكا وأنا مكنش عندي وقت أتصل واشرحلك واسيب بنتي تضيع مني .. غير أنه من ترشيح صديقنا مراد قاسم ومع ذلك مردتش ابعت اجيبه الا لما “مايا” سكرتيرتي سألت عنه وجابتلي تقرير في حقه أفضل من كلام مراد بكتير وأنت عرفه شغلها ببقى ثقة ازاي .. وبعدين تعالي هنا أنتي كنتي عارفه أن بدور بشكل جنوني على أي حد يتحمل مسئوليتها في أسرع وقت بعد اللي عملته في الحراسة الأمريكية..
بلغ التعصب منها مبلغا جاهلة اسبابه، فكانت كلماتها التالية لاذعة كوابل رصاص:
– برضه كنت تستنى لما أوصل واعرف وأتحرى عنه بنفسي .. أنت كده تعديت حدودك المسموح بيها ولو البوص عرف أكيد مش هيعدي الموضوع ده على خير ..
طريقتها نالت من هدوءه حقا، وها هي تشاهد حصادها حين ابتعد متعصبا:
– وأنا مكنتش هستنى لما سيادتك تيجي وبعدين نبلغ البوص وبنتي تضيع مني .. هي أهم عندي من أهم حاجة ..
ثم واصل حديثه مقربا ملامحه المشتعلة غضبا لوجهها الفاتر وهو يصدح بنبرة هادرة:
– سامعه ! بنتي أهم من أي حاجة .. حتى لو الدنيا أطبقت عاليها بواطيها ..
كلماته نالت من برودها كما فعلت به، حين هتفت بانفعال مماثل :
– بنتك! .. بنتك .. كل شوية تصدعنا ببنتك .. فين بنتك دي .. بنتك اللي مش مقدره تضحيتك دي كلها وعاوزه تهرب منك .. بنتك اللي مخلية القصر وحياتنا كلها عبارة عن حالة طوارئ طول ٢٤ ساعة .. بنتك اللي بسببها مش عارفين نفوق لشغلنا ولعمليتنا الكبيرة .. دا غير كمان أنها قلبه أخلاق “أديل” بنتي ومسممه افكارها ومسمياها بغير اسمها وفكراني معرفش ..
بنظرات شرر نضحت من عينيه لحسم ذلك الجدال القائم دائمًا بينهما :
– والله اللي اعرفه أن البوص هو اللي كان عنده ظرف طارئ مانع تكملت العملية وأنه كان بيمر بحالة نفسية بسبب قتل والده وتخطيطه للانتقام من القاتل .. وكفاية بقى تكلميني بلغة الأمر لأن خلاص زهقت .. وأن كان على “أديل” أهي عندك اتفرغي ليها انتي بس الأول وربيها زي ما أنتي عاوزه وسبيلي “مرام” أتعامل معها بطريقتي وطلعيها من دماغك ..
ثم اضاف بنبرة متهكمة وعينيه تفترسها بعدائية:
– ولا طبيعة مرات الأب دايما قاسية ومتسلطة في أي مكان حتى هنا..
اتسعت عينيها بشدة ما أن رمى بكلماته الحاد اللاذعة عليها، فقالت منذهله حين اشارت تؤكد باصرار على صدرها :
– أنا .. أنا يتقالي الكلام ده يا ” مرتضى ” !! ..
اوقفها بإشارة من كف يده التي ملئت مقلتيها المشتعلة غيظا :
– خلاص ياريت كفاية كلام في الموضوع ده لغاية كده لأن بجد تعبت .. عن أذنك ..
رددها بقوة نادرا ما تحدث في وجهها ثم ولى ظهره ناويا المغادرة مكان تجمعهما الذي بات كاشواك الصبار طالما تطرأ الأمر بينهما لابنته ..
تتبعت مغادرته المستفزة بدبدبة قدميها الحافية على سطح الأرض الأملس بضيق أعتراها من عدم ردها على ذلك البدين قصير القامة، آلا أنها في تلك الحالة تذكرت شيء هين لين برَدَ حالتها، فاستدارت تعقد ساعديها امام صدرها تتابع بنظراتها ذلك الغريب برجولته الصارخة الذي جذب انتباه غرائزها المتحررة التي لا يحكمها منطق أو دين، بينما هو رصد خفيا بعينين حادة كالفهد ما يدور في تلك الشرفة من حوار محتد، فهم فحواه لقدرته الخارقة على قراءة الشفايف..
———————–
حين اشتدت عباءة الليل قتامة وسكنه البشر لباسًا، ارتخى جسدها طالبٌ الراحة على فراش غرفتها الوثير عقب طمأنتها على وصول شقيقتها وصغيرتها “جويرية” للعروس المدلل على شُطْآن البحر المتوسط -مدينة الاسكندرية- موطن زوجها، مفوضه آلم الفراق لخالقها بأن يجمع بينهم دائما في خير ..
على ذكر الجمع ضحى أمام عينيها الشاردة في الفراغ غابات عينيه التي بثت إليها بثوانيها المعدودة قحت طربتها من جفاف بُعدها .. وتراخي شتلات زرعها عطشًا .. وصخبُ حناجرها شوقًا لرؤياها ..
اكتسى خجل وحياء حفيدات فاطمة رضى الله عنها وجهها حتى تملكَ منها مبلغًا عظيمًا، خاصّة عندما مس روحها ذوبان مشاعره بالحنق والضيق !
حينها ايقنت بأن طفلها المدلل غاضب منها حد العنان !
ارتخى جفنيها خزيًا، مُقرَّه بذنبها في حقه ! ..
يومان ! .. يومان لم يبصرها فيهما، أكثر تدقيقا منذ قدومهما إلى القاهرة وانشغالها بمواساة شقيقتها “أميرة” في وفاة زوجها ..
تسللت لصفحة وجهها ابتسامة هادئة على زوايا ثغرها جاورت حمرة صفحتها حين تذكرت بتمعن ملامح فتاها المشاغب مع تعبيرات وجهه الثائرة لبعدها ..
فتاها الذي باغتها بقراره حين علمت من والدتها بأتخذ غرفة الجد محرابًا للعيش بين زواياها ..
اتسعت الابتسامة على محياها حتى باتت كبدر الدجى في ليالي تتوّجه، عندما خاطرها ذكرى تسللها الخفي لغرفة الجد صباحًا من أجل الانفراد بمقتنياتها وبث إليها شوق بعدها الذي قارب العام، فتفاجأت بشبيهه الوسيم يتوسد فراشه ..
كأنه.. !
كأنه بات الجد أمامها !
رغم ثواني صدمتها وعدم قدرتها على تصديق واقعها الملموس، إلا أنها إذدردت ريقها ببطء وتخطت شعورها ببراعةٌ تحسد عليها من أجل الفوز بذكرى تعيد روح جدها إليها حتى وأن كانت ضئيلة الحجم ..
اقتربت بهالة مغيبة احاطتها من رأسها إلى أخمص قدميها من أجل اشباع جوع اشتياقها الداخلي لحبيب رحل عن عالمها ..
رجفة توغلت بوصالها اختلطت بفيض عينيها ما أن بدأت بتحقيق حلمها ..
ثانية .. ثانيتين حتى بلغ مطمعها لدقائق، ظلت بحذر شديد تتلمس بأناملها الحانية تقاسيم وجهه حتى غاصت متلذذه في خصلات شعره الكستنائية الناعمة المتمردة على جبينه ..
– “آنا” ..!
كلمته الهامسة بشغفها المبين وملامحه الباسمة من باطن حُلم ثباته العميق .. كانت كفيلة لصعق غيبوبتها وتسربها ..
هل هو نائم يحلم بها وذكر اسمها !
بل الاسوأ الأن هل تلمسته باشتياق نضح من ثنايا قلبها !
دب الرعب في اوصالها حين ضحت جريمتها الشنعاء أمام عينيها ..
عادت لحاضرها بضحكة رقيقة اختلطت نغمتها بالسكون من حولها حين تذكرت رد فعلها من ريبة وخوف تحت غطاء رجفة جسدها المُرتعد وتأنيبها للذات كأنها فعلت جرم محرم من السماء برجلا ليس بزوجها .. ومدى قدرتها على التماسك عقبها للتفكير فيما يخصه واخراج ملابسه كما تعود منها هناك .. ومن ثم الهروب بعيدًا !
بعيدًا جدًا .. !
ذلك البعد الذي يكفي لحمايتها من موج مشاعرها الذي غمر شرايينها حتى يأذن الله لهما بالجمع المبارك ..
لم تعلم تلك البريئة بأن الهجوم بات قريبًا، وأن شبيه جدها فتت سقف صبره، وبات يبحث الأن عن ضالته كوحشٌ جائع !
بابتسامة شيطانية زينت شفتيه أتمَّ مهمته الأن على أكمل وجه حين علمَّ مخبأها من أحدى الخادمات ..
نحنحه مصطنعة عاتب بها نفسه الشقية بوجوب محى ابتسامته وضرورة التهذب !
فمقصده إليها من أجل أحضار المعادلة الفيزيائية من قلب القلادة التي تعتلي صدرها لتدبير مقابلة مع مسئولي الدولة وعرض صفقته عليهم ..
فرحة داخلية أعترته كلما بات قريبٌ منها لم يحررها للخارج حتى يكللها برؤيتها أمام عينيه .. ولتحقيق هذا عليه أخذ خطوة الهجوم ومن ثم الانتقام سريعًا ..
عاتب شيطانه الشقي مرة أخرى على ضرورة التهذب .. فعن أي انتقام يثرثر ! وأي رؤية !
تنحنح مرة أخرى موضحا له أن خطاه نحوها يحمل كل سبل السلام والنية الحسنة وفقط !!!
تهادت خطواته بحذر بين أروقة الطابق من أجل الوصول للغرفة المنشودة كما وُصف له بانجليزية ركيكة من تلك الخادمة، رغما عنه وسط فعله الجنوني هذا تذكر هيبته ورصانته بين موظفينه سواء هنا أو هناك بالماضي !
إلا أنه أقنع إباءته سريعًا بحديث ذاتي ..
” لا بأس من استحضار بعض شقاوة الطفولة قليلاً مع من نحب ! ”
تلك كانت جملته الكفيلة للاستمرار .. والمتوَّجة فوق تشريع عشقه بها !
وها قد انتصر القائد حين عبر باب حصنها الغير موصد بتحالف الحظ واقفًا خلفه بعد سرعة اغلاقه يشاهد تلك المُنتفضة من فراشها بمعالم مبهمة عنوانها الصدمة لاعوام ..
متمعنا النظر بها وبمنامتها الوردية التي يزينها بعض رسوم الكرتون الشهيرة ..
اسند رأسه للخلف مغمض العينين بشده فما به الأن هو العذاب بعينه، هل هو “علي” مذيب كل امرأة مر امامها، يقف الأن مُذابًا أمام طفلة بملابسها الطفولية تلك ..
حقا عجلة الحياة لها فروضٍ أطغى ..!
ابتسم متهكما عند تردده مع النفس لتلك الجملة، ثم فتح عينيه يشبع اشتياقه مع اقترابه إليها بخطى مخدرة، لاحظا لجلجتها الواضحة كأنها ابتلعت لسانها ومُسح من ذاكراتها حروف الهجاء ..
اقترب ثم اقترب حتى بات أمامها بعينين تتوغل داخل شعر رأسها المنسدل على أكتافها بانسياب، فحقا توحشه لحظات تلصصه الصباحي عليها هناك من أجل الفوز باستنشاق شذاه الفريد .. مغيبٌ دنَّى بوجهه قاصدا وجهها ليشبع اشتياقه الجارف بيديه التي التفت ببطء حول جسدها لتتوسد ساعديه وصدره ..
ما أن فعل فعلته حتى تخطت صدمتها وخرجا صوتها الخافت المذبذب :
– “علي” ماذا تفعل !
كلمتها كنت بالمثل وصعقته صعقا حين وعى بعدم تبادلها لمشاعر الاشتياق بينهم بل والكارثي نطقها لاسمه بتلك الطريقة .. “علي” !!!
كم تملكه الغيظ حين سمعه منها هكذا، غيظا اشعل موقد الانتقام بداخله جعله ينسى رخوته العاشقة بقربها، واتخاذ الهجوم عنوانه حين تمتم بحنق كاد يبلعها دون رحمة:
– أراكِ أصبحت قاسية بالبعد يا فتاة ..!
لم تستوعب مقصده في حالتها المنذهلة التي هتفت من بينها بتلعثم :
– “علي” كيف دخلت إلى هنا !
تصميمها الراسخ أوقد بركانه وبعثر لهيبه، فهكذا تستقبله بعد ما فعله من فعل جنوني لو اجبره رئيس أمريكا نفسه لفعله لأبى !
أم باتت جاهلة أهميتها لديه، وشوقه الناضح من عينيه !
كلا لم تكن .. بل هي لم يتملكها تجاهه أي مشاعر .. وإلى الأن لم يمسه حبها .. أو دليلا ما يوحي إليه بذلك !
ارتخت ذراعيه من حولها إلى أن استقرت على جانبيه، ثم سحب شهيقًا عميق ليشدَ من عزمه قائلا بإباءة وشموخ اصاب رأسه رغم وهن صوته المجروح :
– لقد جئت فقط من أجل ما في القلادة !
انهى جملته يرمق موضعها على صدرها بطرف عينيه، عزة نفس وكبرياء تملك من الأجنبي رغم حالته العاشقة منذ ثواني معدودة ..
ما أن همت “هنا” بفتحها بأناملها المرتجفة واعطاءها إليه حتى همس مقاوما :
– شكرا ” آ.. ”
لم يستطع أن يكملها فيبدوا أن لسانه غاضب كما حال صاحبه الذي تحرك مرغمًا عنه وخرج مندفعا عبر بابها الذي دوى صوت غلقه عاليا بين هيبة السكون ..
تهاوى جسدها على الفراش من خلفها دون سيطرة من جانبها عليه عائده لحالتها الشاردة المنذهلة فيما حدث الأن، وما أن لبست بها بعض الوقت حتى عادت لواقعها بابتسامة زينت ثغرها الوردي فاح مكرها مغمغمة :
– الصبر “لي” .. فلابد أن تعلم بأن مذاق ليلتي الحلال المباركة من الخالق والأهل والأحباب، تختلف كثيرا عن مذاق تلصص العصاه وعبق الحرام الذي توغلك لسنوات !!
————————