العميل 101.. أحفاد الثعلب 2

الحلقة الأولى

“تعلن الخطوط الجوية الأيطالية عن وصول أخر رحلاتها من الأراضي المصرية لهذا اليوم .. 
نرحب بالسادة الوافدين على متن الراحلة القادمة من مدينة العاصمة .. مع رجاءنا لهم بالتوجه لأقرب إدارية لاتمام باقي الإجراءات ..”

كان ذلك صوت المذياع الذاتي المنبثق بالغة الإيطالية من جميع زوايا صالة الاستقبال بتعددها “1” داخل المطار الدولى في العاصمة الإيطالية “روما” …

بعينان حادتان كعينين صقرٌ جارح هاجر عشهُ لنيل فريسته، وببنية جسد اشتدَ عزمها لردع المخاطر، تقدم بأحد قدميه على أولى درجات مدرج الطائرة الهابطة منذ دقائق معدودة، عقب تجانس عجلاتها الضخمة مع باطن الحدود الجغرافية لتلك الدولة ..

توحي معالمة الصارمة والجدية للوهلة الأولى بشبيه هزيم رعد ليلةٍ عاصفة شقَّ رحب السماء الملبدة بالغيوم …

أو بتدقيقٍ مجهري كان كالفهد ملتحفًا بعباءة البشر .. يغزو داخله سبع أروحٍ قطةٌ برية .. لا يستصعب عليه أمر .. ولا يخنع راكعًا إلا لربه ..

هكذا عُرفَ بين من يقدر قيمته بـ (ف-خ-م 101) !!

فقد وهبهُ الخالق عقلٍ حكيمٍ ودهاءٍ شديدًا عن من حوله، إضافة لسرعة حركاته المزدوجة أمام عدوه حتى اصبح لمن يعمل بجواره فخرًا، وقدوة لمن يحلم بأن يكون بجواره يوما ما ..

أتمَّ اجراءاته الاخيرة علي خير كباقي المسافرين علي نفس رحلته، مغادرًا عقبها باتجاه تلك السيارة الحديثة وسائقها ابن هذا الوطن، الحامل بين كفيه بلافته متوسطة الحجم مدونه عليها باﻹيطالية اسمه الثلاثي …

” ياسين أحمد سلامة ”

أعتلى مقعدها الخلفي بهدوء صامت لا يعكس ما بداخله، بعد أن ترك حقيبته الوحيدة ليدخرها ذلك السائق فى مكانها المخصص داخل تلك السيارة ..
الذي ما أن اتم مهمته حتى توجه دون تباطؤ لمقعد القيادة للتحرك به تجاه وجهتهما المحددة مسبقًا ..

بعد ما يقارب العشرون دقيقة جابت به تلك السيارة بسائقها بين شوارع العاصمة الرئيسية، استكانت امام صرح مهول من أكبر المجموعات التجارية داخل الأراضي الأيطالية والممتدة لخارجها أيضًا …

تحرر السائق من مقعده عقبها بمهارة تجاه الباب المجاور لمقعد ضيف سيده والحائل بينهما، مع حركة فتحه السريعة ترجل فهد البشر بوكاره وهيبة جسده الخاصة تجاه استعلامات ذلك الصرح، ليعلن أمام أفراد هيئتها بحُليهم المُنمَّقة عن اسمه كاملا، رافق حديثه هويته الرسمية .. ليخبره رئيسهم بدوره بعد أن تدفقت منه عبارات الترحاب، بانتظار مالك هذا الصرح ومديره له على أحر من الجمر ..

بعد عدة ثواني تم احتلال المصعد من قبله للطابق الخامس والستون .. حيث طابق إدارة المجموعة التجارية ….

ما أن اصدر المصعد انذاره عن بلوغه لهدف زائره حتى فُتح دفتيه بإتساع، لينكشف امام مقلتيه بعد أن حرره للراغبين من خلفه، طابق مشيد بعناية واهتمام، تصميمه يفوق تصميم الصرح باكمله ..

علمَّ حينها بوصوله للهدف المنشود، خاصة حين تمعن النظر بإمراة في عقدها الخامس لا تنتمي بملامحها المألوفة لاجناس تلك الدولة، تحتل مكتبٌ يحمل لافتة إيطالية بتلك الخبرية ..
“مديرة مكتب السكرتارية” ..

أقبل عليها بخطى ثابتة مردفا بإحترافية باللغة الإيطالية:
– مرحبًا سيدتي .. السيد ياسين سلامة امامك ولدي موعد مع السيد مرتضى الجهيني ..

عبارته المهذبة اجبرتها أن تقلع اهتمامها عن شاشة حاسوب العمل المحمول، ترمقه بنظرة هادئة إيجابية وبسمة عملية زينت شفتيها مردفه بإيطالية مماثلة:
– أجلس قليلا حتى أخبره بقدومك سيد ياسين ..

رافق مغادرتها بسمة هادئة من جانبه عند استراحته على أحد المقاعد المجاورة، مطلقًا سهام نظراته المتفحصة بمحيط المكان من حوله ..

  • أتفضل يافندم .. السيد مرتضى بانتظارك ..

هتفت بها بابتسامة رسمية لم تتعدى حدود شفتيها بعد وهلة زمنية، جعلته ينتبه من شروده لمكان تواجدها وعربيتها المتقنة التي تحدث بها، ومع هذا لم يندهش فطالما كان مهيئ لتلقي المفاجأت، قام من جلسته بإيمأه هادئة إيجابية بعد أن أحكم غلق دفتيه حُلته السوداء، متوجهًا خلفها بإنصياع مهذب في ممر رئيسي مجوف للداخل ينشق منه عدة أبواب ..

إلى أن صوّبت وجهتها لإحداهم وإستهلت تُخطيه بعد عدة طرقات خفيفة متلاحقة، والتي تبينت امام مرآة عينيه عند عبورهُ خلفها، بأنها غرفة شاسعة الاتساع منفتحة على بعضها البعض، يشغر زواياها طاولة اجتماعاتٌ ضخمة، ومجلس استقبال فخم، بمرفقهما من دورة مياة والذي استنبط فحواها بسرعة بديهته من بابها صغير الحجم نوعًا ما ..
استدار برأسه يتتبع اتجاه نظراتها، فرمق مكتب في الزواية المقابلة لطاولة الاجتماعات ومجلس الاستقبال لا يقال ولا يدرج فى لائحة المكاتب من إبتكار تصميه وهيئته المستحدثة، يعتليه رجلاً ممتلئ الجسد بعض الشئ، توحي ملامح عمره المجعدة قليلا للعقد الخامس من العمر، كما تعطي تلك الملامح ايضًا إيحاء عن شدة الهيبة والثراء بخصلات شعره البيضاء المتفرقة على جانبي رأسه كالأرض البَزَرَ بسخاء .. ومع هذا اخفقت في إخفاء دهاء الذئب المتدفق من عينيه كالفيضان، لا يلاحظهُ إلا مثيل فصيلته أو أكثر دهاءً ..

نهض ذلك العجوز من جلسته مبيننا قصر قامته نوعا يستقبله بحفاوة عربية ما أن شاهدهما يحتلان صومعته، ممددٍ يمناه لمصافحته بينما يسراه شاغرة بملفوف ضخم من التبغ باهظ الثمن يستنشق منه كل ثوانٍ متفرقة ..
– اهلا بيك يا ياسين باشا في إيطاليا وفي مجموعاتي خاصةً..

بادله “ياسين” بيمناه المصافحة مردد بجدية :
– أهلا بحضرتك سيد مرتضي ..

اشار اليه “مرتضى” اثناء جلوسه على مقعده الوثير باحتلال المقعد المقابل لمكتبهُ، ليأتيهما صوت مديرة أعماله التي لم تغادر بعد أن يعلنان عن رغبتهما فيما يريدان من شراب ….
جاءها صوت رب عملها متطلعًا بنظرة خاصة لضيفه :
– نخليها قهوة مظبوط .. صح كده .

أومأ “ياسين” موافقا بحركة هادئة من رأسه ..
قامت السيدة على أثارها بتسجيل ما يحتاجانه في اللوحة الإلكترونية المرافقة لها كظلها، نظرا لاهمية عملها فى هذا الصرح المهول، مغادرة عقبها لخارج المكان ..

استدار ياسين برأسه عن مرمى مغادرتها على صوت مرتضى يردد فخر :
– دى “مايا” من مصر بلدى وبلدك .. مديرة اعمالى من 10 سنين وأكتر .. اثبتت ثقتى فيها ومازالت …
ثم أسترسل حديثه بنبرة فحواها الدهاء كما حال صاحبها :
– عقبال لما تثبت أنت كمان ثقتي فيك ..

مستأنف بجديه عند تبادله النظرات بين ضيفه وبين ورقه ما امامه:
– ياسين أحمد سلامة … 32 عام .. ضابط من ضمن ضباط المكافحة المصرية سابقًا .. معروف عنك بالعناد والإصرار ونجاحك المبهر في شغلك والحياة المستقرة .. لغاية لما وقعت في شرب الخمرة .. وواحدة واحدة وصلت للمخدرات … شغلك اتأثر بالتأكيد وبالتالي اترفدت منه بعد خدمة ست سنين في الشرطة .. بعد معاناة مع الموت قاومت واتعالجت والتحقت بشغل الحراسة الخاصة لشركة صغيرة نوعا ما .. ومنها اترشحت للعمل مع شركات “مراد كاظم” صديقي في القاهرة .. اثبت ولاءك وكفاءتك ليه خاصة لما أنقذته من عملية أغتيال مؤكدة في سنة من السنوات اللي اشتغلتها معاه واللي وصلت لخمس سنين .. طول الفترة دي كان بيوصلني سيطتك وتشكيره فيك وقدرتك الجبارة لتأمينه .. ولأن أنا صديق عمره وعارف بالظرف اللي بمر بيه رشحك ليا بعد تنازل كبير منه وخاصة أنه مكنش يقدر يستغنى عنك لاي ظرف كان .. وعشان كده جيت لغاية هنا وبقيت قدامي دلوقت ..

قطع حديثه مستنشقا الكثير من الهواء حتى أرتفعت رئتيه لأقصى حدودهما مطلقًا حريتهما في تنهيدة حارقة ذكرته بآلمه الوحيد منذ عدة سنوات منصرمة..
– كل اللي اقدر أقولهلك عشان يساعدك لما تستلم شغلك أن بنتي الكبيرة وأملي والحاجة الحلوة اللي محلية حياتي مقتنعة بشوية أمور غلط وتخاريف من صنعها وبتعمل كل سبلها أنها تهرب من تحت حمايتي وتروح لجدها من والدتها في مصر .. لغاية ما تصرفتها الطايشة وصلتني أن أعين لها حراسة خاصة .. وياريت أطمن قلبي من ناحيتها .. كانت بتهرب منهم كلهم وأخرهم حراسة إيطالية من أقوى الرجال أنتهت بأنها كانت في المطار تالت يوم بعد ماخدرتهم .. طبعا اترفدوا واترشح ليا أقوى رجل في الحرسات الخاصة في إمريكا .. واللي بعت جبته في الحال .. وفعلا مسك زمام الأمور عدة شهور وكل حاجة كانت ماشية تمام لغاية لما اتفاجأت بيها طلعت تدريبات الكاراتية اللي واخده فيها الحزام الاسود عليه كلها .. الحاجة الوحيدة اللي بشكر بنتي عليها بعد عملتها دي أنها سابت فيه روح أنه يقدر يخرج تليفونه ويبلغني باللي عملته وهروبها منه .. ولولا معارفي في المطار حاولوا يعطلوا اجراءات تذكرتها اللي حجزتها في السر لما بلغتهم .. كانت هربت لأخر العمر على مصر ..

عقبها تطلع إلى “ياسين” بنظرة أقرب إلى الجنون ..
– وهي دي مهمتك اللي بعت جبتك من مصر علشانها وخاصة لما صديقي مراد اقنعني بأن لابد اللي بيحرسها غير قوته وخبرته يكون بيعرف عربي عشان يكشف مخططاتها أول بأول ..

اندهش “ياسين” من تقلبات معالمه رغم معلوماته السابقة عنه، فمعاشرته له في تلك اللحظات جعلته لايعلم إن كان رجل أعمال شديد الدهاء والمكر أم أنه أب حاني يعاني ويخشى فراق ابنته حقًا ..

ولكن كله ما على يقين به بأنه هدفهُ الأوحد وأنه رجلا غامض يُغير جلده بين وهلة وضحاها لعشرات الآلوان كالحرباء !


في ذات الزمن وعقاربه المتقدمة ساعةٌ واحدة عن توقيت تلك المدينة وعبر الكثير من البلدان على هذه الخارطة الفاصلة لدول العالم ..
،
كانت تلك الرحلة أخيرًا تستقر داخل حدود بقعة يحصرها بحرين ويتوسطها نهرٍ عريق تُعرف “بأم الدنيا”

ما أن سكنت عجلات طائرتها الضخمة الأرض الملساء حتى أعلن مذياع صالة الاستقبال عن وصول رحلة أخرى كامثالها من المملكة العربية السعودية الشقيقة ..

توافد فحواها تبعًا، تنبثق أعين بعضهم حنينًا لذويهم، رغم أنها بكت شوق الفراق قبل قدومهم بين أطهر مدينتين على تلك الأرض المباركة هناك ..

باستثناء عينان “علي” التي تجهل خطاها، برغم أن صدره يمتلىء طمأنينةٍ وسكينة لا يفطن منبعها، ولكنها كافية لتحفيزه على مواصلة طريقة ..

تطلع بجواره لصاحبة الرداء الأسود فشاهد بها فتنة لم يعهدها بداخله تجاه أنثى رغم تلحفها ذاك .. فتنة أشعلت فتيل غيرته بأولى خطاها في جنة عشقها، جعلته أقرب إلى شراسة الأسد لحماية أنثاه ..

تلك الأهاربية التي برعت بإشادت بنيانٌ شاهق بقلبه وحدقتيه، فحالت بينه وبين نساء العالمين ..

مشاعره المستجدة التى تتوالى عليه دون كل كلما مرّ عليه وهلة بقربها، جعلته يمدَّ يده تجاهها كي يوصمها بوصمته للإبد .. وقد نال ما أراده حين تعانقت الرحتان، حتى سارت الأخرى اسيرة حرب مشاعر طاهرة بين قلبان كان بينهما قبل هداية الله برزخٌ راسخٌ لا يلتقيان ..

هكذا كان العُرف السائد الذي وضعه دكتاتورية أحد طرفيها ..

” بأن تتعانق الأيدي للأبد، ممتنًا بقلب يحبو في ربيع عشقها أن لا يفرق بينهما أحد يومًا ولا حتى ثوانٍ ”

وعلى الأخر أن يستسلم لعرفه دون إبداء إعتراضه !

بل قل هل تمتلك هي حق الأعتراض من الاساس !!

عبرت سيارة الأجرة بحذر شديد محيط الفيلا الخارجي بعد أن أخذت موافقة آمن البوابة الرئيسية للإجتياز ..

كلما تقدمت السيارة بهما في حديقة البيت حتى شعر برجفة بنيتها تزداد، والتي انتقلت له عبر راحة يده المتواصلة بعناق راحتها .. تطلع على غرتها يراقب معالمها العامة من فوق غطاء وجهها بتوجس ..

عيناها المصوبة تجاه باب البيت الداخلي اغرورقت بالعبرات وتأججا الحنين بين شرايينها الواهنة، في مشهدٍ لم تلتقطه عينيه لها من قبل ..

بل يشعر كلما غاص في محيط عشقها بأنه “جاهلاً وجائعًا ”

جاهلاً خفايا صدر محبوبته و ردود أفعالها ..

و جائعًا حد السُعار لنهم كل ما يدور بعالمها ..

انتبه مشدوها لتقلب تعبيرت نظراتها بين وهلة وأخرى، فالأن عيناها ضاحكةٍ مستبشرة رغم تحرر ينبوعهما ..!
اشاح وجهه المتمعن عن تفاصيلها بقصد مشاهدة بؤرة اهتمامها وصاحب تقلبات تعبيراته الذي سيهدر دماءه كما هدر دموعها الغالية على فؤاده، أبصر على مرمى بصره جمع من النسوة يترواح ما بين الثلاث يتوافدون باتجاه سيارتهما التى لم تبطئ بعجلاتها بعد ..

فعلى ما يبدوا أن حارس البوابة الخارجي جَهْر خبر من بداخلها عبر سماعة الهاتف الداخلية، ليخرج قاطنيها تبعا بملامح متناقضة أحدهما تُدفع غائصة في بحر السعادة، وأخرى مرتعبة أن تصدق ما سمعته الأذن لتغرق في بحر تكذيبه بعد دقائق …

على الطرف الأخر ما أن شاهدت “هنا” والدتها وشقيقتيها حتى تحررت من عرفه ومن جلستها بجانبه وهبطت حال ما توقفت أطارات المركبة .. لتلقَّفها دوامة مشاعر أمومة حانية في عناق ممتد فاق الوصف، آثار غيرته عليها مرة أخرى جاهلا ما يعتري صدره من نضج مشاعره تجاهها كل حين ..

انتهى به الحال بأنه جليس تلك المرأة الموقرة الملتحفة بالسواد مثيل ما استقبلانه واختلسوا محبوبته من عناق يده !!

ما اسمهما !

نعم .. نعم لقد تذكرت اسماء أعدائي جيدا ولن أنساهما ما حييت !

“رضوى” و “ندى” .. !!

الويل لهما كل الويل .. ولن تشفع لحظات استقبالهما الودودة لي بشىء..

جادلته نفسه بلوم “بأنها ليست ودوده وفقط بل شعر من خلالها بدفء وروح العائلة الموأد من ثنايا صدره .. مشاعر حقيقية كان يحتاجها لتطيب جروحًا غائرة ترعرع عليها منذ الصغر .. ”

وخاصة وهلة احتضان هذة المرأة المسنة له .. أقسم حينها أنه جاهد دمعتين خائنتين كاد تفضحانه، وتعلن أمام الملأ اشتياقه الشديد لضمة صدر وعاطفة أمومية جياشة مثيلها .. متيقنًا عقبها بأن تلك الأرض تحمل فصيلة دماء لنساء غير تلك الأرض هناك ..

مشاعر تدفقت تذكره بوالدٍ غالي لم يفارق مخيلته، بل عالقًا كالطلاء بحائط فؤاده ..

انتبه على صوت انثوي هادئ يغزو ذهنه الشارد مردفا بالعربية:
– متخفش يا “علي” هي أكيد هتنزل .. هي بس أنصدمت من خبر وفاة زوج أميرة أختها وطلعت تواسيها مع أخواتها ..

وصوت كاهل يتبعه مترجمٍ ما تحدثت به بالأنجليزية .

وعى بأن الصوت البادئ كان صوت والدتها يعقبه صوت العجوز “شاكر” القادم عقب قدومهما ليجالسه .. منذهلا من قولهما لتلك الكلمات ..

ولكن لم يدم حالته كثيرا حين وعى لوجهه الذي مازال مسلطا على الدرج منذ ان استهلته محبوبته للصعود عليه برفقة شقيقتيها ..

تنحنح متحشرجًا بحرجٍ بالغ عائدا بنظراته لموضعهما مع توالي حديث العجوز بنظراته المداومة بذهول لواقع حضوره على تلك الأرض حقًا بعد ما بذله من عناء هو و رفيق عمره رحمة الله عليه ..
– رغم جميعنا كنا نراه مستحيلا .. جدك فقط ما كان لديه أمل بالله لتحقيق ذلك الحلم .. حتى تتولى مهامه كاملة .. فشركاته وكافة اموره تبسط ذراعيها إليك بني ..

أومأ بابتسامه هادئة قائلا بلغته الأجنبية :
– رحمة الله عليه..

توالي اندهاش “شاكر” من طريقة حديثه الهادئة وطلبه لرحمة الخالق لروح جده إلا أنه لم يطول به هاتفًا برفق:
– لقد جهز لك الخدم غرفة نوم كاملة بني .. هل تريد أن أدلك عليها لنيل قسط مريح من النوم بعد عناء سفرك ..

تجرع ريقه ثم رمقه قائلا بإصرار :
– أريد غرفة جدي “آلي” !!

————————–——-

تسللت بخطواتها الناعمة تلك الدرجات المجهدة لبنية جسدها الضئيلة، ولكن من أجل شقيقتها ورفيقتها الوحيدة في ذلك البناء الضخم الشبية بقصر عِلْيَة القوم ستبذل العناء لكي تحذرها بما جلبهُ والدهما لها من ضيفٌ جديد تبغض حبيبتها من مثله، كما عاصرتها منذ أن وعت بسنواتها القليلة لما يدور حولها ..

ما أن وصلت لهدفها المنشود حتى توقفت على رؤوس أصابع قدميها تجاهد بساعدها الممتد على أخره فتح باب غرفتها .. بعد عدة محاولات امام صمود مقبضه نجحت بإجتياز تلك المعضلة وعبور إطاره بمسافة قدميها الضئيلة .. توجهت لموضع الفراش مباشرة في وسط عتمة الغرفة .. فيبدو مليكتها غائصة في ثباتٌ عميق أثر أجهاد ما حدث لها منذ أيام قليلة، هكذا فسر عقلها ضئيل الحجم ما رأته بعينيها الفيروزية المتلألئة حينها ..

شاركتها الفراش بعد صعود مجهد من جانبها يعود لقصر قامتها، بكف ناعم مثل بشرتها بدأت تصدر عدّة هزات متلاحقة في ساعدها متمتمة بصوت ملائكي ولغة عربية مجهدة:
– ميام .. ميام .. إومي سوفي دادي عمل حاجة وحسة أنتي مس تحبيها ..

تمللت بتمغط على كلماتها التي اقتحمت غفلتها .. عدة ومضات أصدرت من عينيها كثيفة الأهداب حتى لمست حضور فاكهتها الوحيدة في غابة حياتها الموحشة ..

اعتدلت جالسة على أثارها تجذبها بين ذراعيها بابتسامة صافية ..
– في أيه يا “أديل” اللي يخليكي تصحيني من نومي كده حبيبتي ..

مطت الطفلة شفتيها للأمام بغضب قائلة :
– مامي مس هنا ميام ! إولي سرنا عادي ..

صفعت جبهتها بتصنع ثم رسمت وجهها الهادئ بابتسامة مرحه رافقت حديثها :
– صح نسيت دا أحنا في أودتي ومحدش سامعنا .. طب سماح المرة دي ” مريوم ” عشان لسه قايمة من النوم ومركزتش ..

ثم تابعت حديثها بعد أن أكتسى صفحة وجهها عبوسٍ مصطنع :
– قوليلي بقى أية الحاجة المهمة اللي تخليكي تصحيني كده ..

أقبلت جوار أذنها هامسة بصوتًا خافت خشية سماع أحدًا لهما في بوادر فعل طفولي مثير للضحك ..
– داد عمل حاجة زعل ميام ..

أبتعدت للخلف ببطء مرددة بشرودٍ حزين ..
– قولي حاجات تزعلني .. مش حاجة واحدة بس ..

رغم مرارة ذاكرتها أدركت أنها أمام طفلة لا تفقه شيئًا مما يطوقهم من أحداث، فأنتشلت روحها الجريحة سريعًا من بئر الماضي ثم اختلست ملامح مازحه بماهرة تحسد عليها ..
– أية بقى اللي دادي عمله جديد زعلني يا لمضة هانم ؟!

شعرت الطفلة بعجزها عن التعبير وأن حصيلتها من اللغة العربية لن توفّي غرضها فرافقته بأنفراج يديها الصغيرتين على قدر استطاعتها متمتمة :
– داد جاب عمو أد كده يعب معاكي ..

عقب سماع قول الأخيرة همست شاردة بتعجب في مغزى كلماتها الغامضة..
– يلعب معايا !

لم تمتد حالتها طويلا حتى انتفضت من جلستها بملامح متجهمة ما أن أدركت غرض شقيقتها الوحيدة .. فحتما تقصد بأن حرسًا أخر أقدم عليهما بفعل والدها لينال حصته القتالية منها كما نالها السابقون من قبله ..

والدها الذي لم يمّل .. ولن مطلقًا حتى تسقط في بئر خطاياة خانعة ..

غير مدرك أن عصيانها هذا ما هو إلا مبدأ حياة روته والدتها بدماءها من أجل أن يغزوا شريان ابنتها ويغمر فؤادها ..

وهي كفيلة بتولي العهد حتى أخر رمق في حياتها ..

ومن أجل هذا شقت الهواء المحيط بها بسخط تجاه وجهتها التي تعلمها مسبقًا، تاركه خلفها تلك الطفلة بأعوامها الخمس غائبة بين طيات عالمها الطفولي بأحدى لُعبها المحببة ..


  • أظن كده تعرفت على كل جوانب القصر ومداخله كويس سيد “ياسين” ومع الأيام هتتعرف عليه أكتر ..

رددها “مرتضى” اثناء جلوسه على أحد مقاعد بهو الاستقبال الفاخرة داخل قصره العريق واضعًا آحد ساقيه فوق الآخرى بتعالي بعد أن جاب بحرس ابنته المستجد زوايا مملكته الفاخرة، بينما وقف امامه “ياسين” منصتٍ بثبات مزيف على عكس ما يعتلي مخيلته الذهنية..

مما حفزهُ على استئناف حديثه باسترخاء :
– وكمان بفضل تاخد باقي اليوم راحة في استراحتك اللي بجانب القصر عشان تستريح من تعب السفر وتستعد لشغلك كويس جدا من بكرة وكم….

قطع حديثه بغتة متطلعًا خلفهُ بسهام نظراتٍ توّاقة متمتمٍ بشغف لابنته التي لم يبصرها منذ عدة أيام أو بالآحراى منذ أخر حادثة هروبٍ لها ومن ثم اختفاءها بين جدران غرفتها:
– مرام !

انتبه بنظرة خاطفة تلك المندفعة من خلفه كعاصفة ترابية تجاه والدها، فتاةٌ فارعة الطول تكاد تصل للأرنبة أنفه ببنية جسدها النحيفة نوعًا، خصلات شعرٍ ممزوجة بلوناه المميزان الأسود القاتم يداعبه البني الفاتح ينساب ويتطاير حولها بخفة مع غضبها، عينان واسعتان تحوي مقلتان بزرقة السماء ويحتضنهما أهدابٍ كثيفة، حُمَيْراءُ بشفتان ينبع دماءها ويكاد من يراها يقسم بأنها بفعل طلاء البشر الصناعي .. طلاسيم أحجيةٌ قوية يصعب حلها على الأغبياء وأشباه الرجال، مزيجًا راسخ لا يعبر عنه إلا بكلماتٍ قوية تعد على الأصبع آلا وهي ” أنثى كما يقول الكتاب”

اخترق لحظات تفحصه قولها الجارح وهي تبادل سهام والدها الشغوفة بإخرى نارية تحمل جمراتً حية ..
– لو تفتكر يا داد إللي بتعمله ده هيخليني ارجع عن اللي ناوية عليه تبقى غلطان .. ومهما جبت
خنازير لحراستي هتعرف أن مصيرهم كلهم واحد على أيدي ..
أقولك! وليه نستنى ماتعرف دلوقت قدام عينيك أن الخنازير كمان بتفهم عنهم ..

صاحت صاخبه بجملتها عقب التفافها على غفلة تجاه ذلك الغريب الذي تبغض أمثاله بخفة ظل لم يعهدها هو ذاته بإمرأة قبلها، تلكم بقبضة يدها وجهه الذي طاح في الهواء على أحد جوانبه أثر تعديها الغاشم عليه ..

لتنتهي ثوانٍ أعتلت راية نصرها أمام والدها كما رغبت وتمنت يومًا ..

والدها المنتفض من جلسته بوجه شاحب لفعلها المباغت محاولا أخراج أحدى كلماته من على لسانه المنعقد، إلا أن “ياسين” قطع نيته بعد أن تصنع الثبات مرة أخرى وليّن فكه السفلي المتشنج أثر فعلتها ..
– تسمح ليّ سيد “مرتضى” باستلام شغلي من دلوقت !

من بين حالته الغير مدركة وملامحه المشدوهة أومأ له بالموافقة .. أيماءه كان يحتاجها ذلك الفهد لينقض عقبها بإحاطة خصر فريسته الشرسة رغم مقاومتها المتلاحقة والعنيفة متوجها بها لطريق غرفتها التي علمَّ مقبعها منذ تجواله مع والدها قبل دقائق .. من أجل توضيح قوانينه الصارمة وخطوط حدوده الشائكة لغريمه الوقح في حرب بات عنوانها “البقاء للأقوى”

تاركًا خلفه ذلك الرجل متلاطم بين موج عاطفته الأبوية وموج قسوة قلبه كما المعتاد ..
غير مباليًا بما سيخلف هذا عليها طالما ستظل محصنة بقربه مدى الحياة ..


error: