العميل 101.. أحفاد الثعلب 2

الحلقة الثالثة عشر ..

مع مداعبة الغيمات الداكنة لأشعة الشمس المتساقطة بوهن فوق العاصمة روما، سقطت الأمطار من فورها اتبعها انخفاض درجة الحرارة، حينها اتخذ خطاه على أحد شواطئها المطلة على البحر المتوسط، يدس راحتيه في مخابئ معطفه المحكم غلقه، يطوق عنقه بعناية وإحكام وشاح صوفي يتوارى خلفه فك وجهه السفلي ..
أنهى مطافه جليس على أحد المقاعد الصلبة والمتراصة باحكام على ممشى ذلك الشاطئ .. يتأمل بتمعن موجها المتلاطم بفعل الرياح الهوجاء .. تزامنا مع وجود رجلا أخر بجانبه على ذات المقعد يخالف جلسته بإعطاء ظهره لتلك الامواج العاتية .. يهمس مازحا بتخفي أثناء تصفحه لاحدى الصحف المحلية كتضليل للمارة من حولهما:
– نقول “بنجور” بالأيطالي ولا نصبح بالمصري ..

دون أن يعيره أي نظرة حرر كفيه مائلا للأمام يتكئ بساعديه على فخذيه هامسا بثبات :
– لسه زي ما أنت من أخر عملية حضرناها سوا يا “عبدالرحمن” ..

– واحشني يا “عمر” !

بحنين جارف همس إليه :
– أنت أكتر يا صاحبي .. قولي أمي عاملة أيه !

– متقلقش عليها هي كويسة الحمدلله والحارس مش بيتحرك من قدام باب الشقة اللي أحنا بنغيرها كل شوية زي ما أنت أمرتنا ..

سحب نفسا عميقا ثم زفرة دفعة واحدة :
– بلغها سلامي وقولها تخلي بالها من نفسها وتاخد دواها بانتظام ..

– حاضر يا “101” .. في شئ جديد حابب تعرف الادارة بيه ..

على ذات واضعيته همس بضيق:
– “راشيل” بقت خطر وهتبهدل الخطة على بعضها ..

– في أيه؟!

بزفرة ضجر راح يوضح :
– عرضت نفسها عليَّ امبارح وستر ربنا قدرت الم الموضوع زي اول مرة بس مضمنش “مرتضى” مايكشفش نيتها دي في أي وقت ولا أي حد يشوفها وهي بتعمل اللي بتعمله ده ويروح يبلغه .. لحظتها قول على خطتنا وتعب السنين يا رحمان يارحيم بعد ما صدقت اكسب ثقته ..

باهتمام وحزم :
– حاول تصدها بحرفية على قد ما تقدر بأي شكل بحيث ماتلفتش الانظار لشغلنا واحنا هنحاول نشوفلك صرفه في الموضوع ده بعد رجوعها .. لأن الحظ لعب لعبته معنا بعد ما سافرت النهاردة ..

حينها مال وجه “عمر” تجاهه باندهاش ليتأكد مما سمع، فاسرع “عبدالرحمن” ينبهه لفعلته بحذر:
– خد بالك ومتخليش الخبر يخونك ..

اعاد “عمر” وجهه للبحر مستفسرا :
– عرفت ازاي ؟!

– خرجت من القصر الفجر ومعها بنتها الصغيرة .. واحد من رجالتنا شافها وراقبها لغاية المطار ومنه لطيارة خاصة لأمريكا ..

– لمين ؟!

– بنت اللذين زي عادتها لما وصلت ضللت رجالتنا اللي كانوا مستنظرنها هناك .. ومعرفناش راحت فين ..
ثم بتنهيدة اطمئنان أضاف :
– بس على الأقل وسعت الطريق قدامك لما تحاول تخلص مهمتك بدل ما تشغلك بقرفها ده ..

همس مقتنعا :
– على رأيك ..
ثم أضاف متذكرا :
– رجعت الموتسكل لصاحبه ..

– أول ما وصلني أشارة من خاتمك جينا وراك على طول ورجعناه ليه بعد معاناة ..
ثم بنبرة هادئة يتوغلها الضحك أضاف:
– أو بعد ما شبع فينا وفيك شتيمة بالايطالي بمعنى أصح ..

بابتسامة تهكمية تمتم :
– شوفت المجنونة خلتني أسرق على أخر الزمن .. كنت بقول مهمة سهلة وهخلصها بسرعة عن المهمات اللي قبل كده .. بس البنت دي اثبتت ليا غير كده خالص ..

جاهد لكتم ضحكة كاد يتحرر صوتها:
– بصراحة يكون في عونك .. بس نيجي للحق البنت حلوة وأي حد يتمنى يتحمل جنانها ده مقابل أنها تكون جمبه على طول ..

عاد يتكئ بساعديه للامام هامسا على مضض وعينيه تصوب سهامها للموج :
– أهي عندك بعد المهمة أبقى اشبع بيها .. دي ما تتعاشر بجد .. غير ده كله أنها من نسل “مرتضى” وما ادراك ما مرتضى ..

زفر متمتما:
– على رأيك .. ربنا يحفظنا .. المهم في جديد غيره ..

– عاوزانا نسافر النهاردة البندقية بتقول هناك حفلة غنائية عاوزه تحضرها ..

– خد احتياطاتك كويس عشان أنا وأنت عرفين كويس قوي يعني أيه تجمعات زي دي واحنا هنتابعكم من بعيد لبعيد ..

– واخد من غير ما تقول .. انا اصلا مش مديها الأمان خالص خاصة بعد حالتها الغريبة النهاردة ..

– مالها !

بتنهيدة صادحة تمتم بإقتضاب:
– متاخدش في بالك .. المهم احاول اخلص موضوع سافرها ده وارجع للقصر اخلص باقي الأماكن اللي لسه ما فتشتهاش ومن ضمنها اودة المكتب ..

– ربنا يوفقك .. وتحاول تنهي المهمة دي باسرع وقت وعلى خير ..

– إن شاء الله.. اللي عندي خلص هضطر أقوم دلوقت قبل ما حد يلاحظ علاقتنا ببعض ..

————————–

عقب طرقه خفيفة ولج لغرفة مكتبه تختلط دهشته مع تجاعيد وجهه قائلا بتساءل للمنكب على مهام عمله بإتقان :
– “علي” ما نقلته “رقية” لي عبر الهاتف صحيحا ؟!

استفاق يطالعه من لحظات انغماسه العملية هاتفا بثبات :
– ما الأمر ؟!

كان العجوز اتخذ حينها مقعدا أمامه وهو يجيبه باندهاش:
– لقد أخبرتني بأن “ندى” جاءت بالكثير من أغراضها وذلك من أجل حفل كتب الكتاب ومن ثم للاقامة الدائمة داخل القصر هي وزوجها .. صحيح ما تحدثت به !

زفرة هادئة أفتتح بها أجابته :
– نعم .. صحيح !

فغر فاه “شاكر” هاتفا بذهول :
– كيف فعلتها !

تحرر من جلسته متجها للنافذة القريبة موضحا وهو يدس راحتيه في بنطاله:
– “حسين” من سيمسك زمام الأمور عن كل ما يخص الجهاز الفيزيائي ..

– و “أمير” كيف اقنعته بذلك !
ثم صاح بغته عقب ما وصل لعقله :
– لا تقولها !

– نعم تلك الشركة ستكون شراكة لنا جميعا مع الحكومة .. وبالتالي “حسين” سيظل يعمل مع “أمير” وبذات الوقت يسكن هو وعائلته القاهرة ..
ثم أضاف بتنهيدة عميقة توحي بنفاذ صبره:
– وهذا ما سعيت إليه منذ البداية .. بأن يأتي “حسين” وعائلته إلى هنا مهما كلفني الأمر !

قام العجوز من جلسته محركا قدميه حتى ثبتت أمامه بعينين متسعتين :
– أفعلت ذلك من أجل أن تعطيك موافقتها “علي” !

رمقه بنظرة جانبيه ثم أردف بنبرته الخافتة وهو يعيد اهتمامه بالمشهد خارج النافذة :
– أن كانت نيتي كما تظن .. كنت أخبرتك منذ البداية لتخبرها في الحال .. لا أنتظر للأن ..

ثم استدار يطالعه بقوة تنافرت مع ثباته :
– ما فعلته فعلته فقط لاسعدها هي وتلك السيدة الحنون ..

على آثر ما تفوه به صمت العجوز لبرهة يستوعب ما قاله جيدا، ثم عقب مضي ثواني حرر ابتسامة جانبية وهو يربت على كتفه بفخر متمتما :
– تعلم .. لقد وعدتها أن رفضت سأتحدى الصعاب لتفيذ رغبتها، أنما الأن بعد ما رأيته من عينيك وحديثك فدعني أخبرك أمرا ..

منحه “علي” نظرة فضولية مما حفز العجوز للمواصلة قائلا باصرار :
– صدقني كنت سأجبرتها للمرة الثانية على الجواز منك .. فماذا سيحتاج الأهل أكثر من زوج ينضح من مقلتيه حب كهذا لابنتهم ..

وهلة ظل “علي” خلالها يطالع عينيه بقوة ثم تحرر منها مرددا بعتاب :
– طالما هذا رأيك .. لما جعلت الأمر يمر بعقد القران وفقط .. لما حكمتم جميعا علينا بالانتظار شهر أو أكثر حتى يتم الزفاف ..

تنهد العجوز وهو يوضح له مرأفا بحالته :
– بني هناك أمر نسيته تماما كعاشق .. وهو أنك تعيش في غرفة الجد ! .. أخبرني كيف ستختلي بزوجتك بين جدرانها وهي تكن إليه كل ذلك الحنين الجارف ..

بوادر الصدمة ابتلعت معالمه بنهم كأنه غاب عن مخيلته أمر كهذا حقا، مما دفع العجوز يضيف موضحا :
– لقد أردت لكما بداية رائعة ولهذا اسعى لتجهيز طابق علوي لكما وحدكما حتى لا يزعجكم أحد وبذات الوقت لا تنعزل عن تلك النسوة اللاتي هن بأمانتك …

————————–—-

– يعنى أيه سافرت !!

صاحت بها “مرام” وهي تهوى جالسة على الفراش ينتابها هالة الصدمة التي أفقدتها النطق لوهلة وهي توزع نظراتها المغيبة في الفراغ دون تركيز .. مما دفع “أنيسة” رأفة بحالها للاقتراب متمتمة :
– متزعليش يا بنتي كلنا زيك حتى مربيتها كمان متعرفش بالخبر الا معنا .. هوني على نفسك وأهدي وأهو أعتبري حالك أكنك سبتينا وسافرتي امبارح وخلاص ..

استفاقت من غيبوبتها تروض لسانها على النطق، فأطاعها متقطعًا:
– كدا من غير ما اشوفها .. و اسلم عليها .. و أودعها ..

ثم طالعتها بعينين يترقرق منهما الدمع متمتمة:
– دا أنتي عارف أن لو خطتي نجحت النهاردة .. هتكون سافره طويلة قوي بعيد عنكم!

ثم قلعت عباءة الدهشة عقبها وهي تصيح بانفعال ممتعض :
– وبعدين من أمتى البني آدمه دي بتفتكر في بنتها .. ولا بتفتكر تاخدها معها في أي فسحه ليها .. وفسحة أيه دي اللي جاية مفاجأة من غير معاد وخاصة بعد اللي عملته امبارح !!

في ظل توالي أسئلتها واحتقانها بالغضب نكست العجوز رأسها في صمت والحزن يتوغل داخلها قبل معالمها .. مما استسلمت “مرام” لبكائها المنحدر دون رادع .. عبرات تعاقب بها النفس على أنانيتها الزائدة للهروب دون التفكير في حماية الصغيرة كما يجب من براثن تلك الشيطانة ..

————————–——

عقب اتمامها لفرضها استقامت من فوق سجادة الصلاة تستبعد وشاح اسدالها عن خصلات شعرها، اللاتي سقطت بعضهن بشقاوة على معالمها ما أن نالوا حريتهن .. دون اهتمامها بتهذيبهن مرة أخرى .. فما يشغل ذهنها أهم بكثير من حركتهن المتمردة .. ما يشوشر ذهنها ويتحكم بأوصالها هو اشتياق الفؤاد لغائبها الذي ظل ملتجأ لغرفة أحد الفنادق بعد قراءة فاتحتهما وتحديد عقد اقترانهما القريب !

متعجبه من فعلته حتى بات حرمانها من رؤيته أو محادثته بأنه هجرها هجرا منسيا !

ارتسم الحزن بمعالمها الشاردة في الفراغ تروض حنينها الجارف إليه بحلو لسانه العذب بلقاءتهما معا .. والأكثر ترطبه بحديث شقيقتها “ندى” الندي ..

حينها بلمسة ساخر الخفة قلبت معالمها باشراقة بهجة عقب تذكرها لفعلته المفاجأة مع زوجها والتي كادت تطير والدتها لها فرحا ..

أطلقت العنان لتنهيدة اشتياق صادحة، فحقا ودت لو رأته امامها الأن وشكرته كثيرا على ما منحه إليهم من سرور .. فأن كان يسعى لاسعادهم فصدقا خفق القلب وسينبض ما دام حيا له بالجميل والعرفان .. ولكن أين هو !!

مع ترددها لسؤالها بألم اقتحمت خلوتها بغتة شقيقتها “أميرة” وهي تردد ببهجة تجاهد لتقنصها بحرفية لأجل منح مثيلها إليها:
– عروستنا الحلوة مفيش عندها أي تحضيرات خالص لزوم كتب الكتاب ولا أيه ؟!!

تطلعت إليها بائسة تحرر صوتها بنبرة آلم :
– وهو فين العريس الأول .. أنتي مش عارفه أنه لسه قاعد في الفندق ومفيش بنا حتى مكالمة تليفون واحدة !

غمزتها بإحدى عينيها وهي تردد بشقاوة مستجدة:
– ياستي ولا تزعلى نفسك وأن كان حبيب القلب مش موجود نروحله أحنا !

تمعنت بها “هنا” بومضة أعجاب لمخطتها الفوق ممتاز والذي غاب عنها كليا، مما هتفت بعجالة :
– قصدك نروحله الشركة دلوقت .. طب يلا بينا !

قالتها وهي تهب واقفة تتجه صوب باب غرفتها في حركة مفاجئة، مما دفعت “أميرة” بأن تطلق ضحكاتها الصاخبة دون إدراك وهي تتمتم بصعوبة من بينها :
– بلبسك ده ! .. دا أنتي واقعة واقعة يعني ..

ما أن تمعنت بهيئتها عقب حديث شقيقتها حتى اكتسى الخجل معالمها والتزمت الصمت، فبادرتها “أميرة” ساخرة وهي تستعد لتركها :
– أحمدي ربنا أن الشعنونة “ندى” بتجهز في أودتها ومحضرتش الموقف ده كان زماتك بقيتي مسرحيتها لشهر قدام ..

ابتسمت “هنا” بخزي ثم راحت تلكزها في ساعدها، فقهقهت “أميرة” مسترسله:
– طب يالا يا مكسوفة هانم جهزي حالك عقبال لما أجهز أنا كمان عشان أروح معكي أكلم “علي” في موضوع شغلي وبعدها نروح نشوف الفستان اللي يناسبك واحتياجاتك ..

ثم اتبعت صائحة باشتياق مبالغ :
– دا الشارع طلع وحشني بشكل متصورهوش ..

تتبعت “هنا” مغادرتها وابتسامة حالمة تزين محياها لأجل إنفكاك حصار حزن شقيقتها، والأكثر لقرب رؤية الحبيب الغائب مما دفعها لنيل حمامها بعجالة واستعدادها كما ينبغي لمقابلته المنتظرة …

———————-

– هناك حجز لغرفتان مجاورتان باسم “مرام مرتضى الجهيني” ..

رددتها بمعالم ثابتة بلغتها الأيطالية وهي ترمي بنظراتها على موظف الاستقبال لأحد الفنادق المميزة بمدينة البندقية، والذي اجابها بتنمق عقب تدقيقه بشاشة جهازه الإلكتروني:
– لقد تم الحجز بالفعل ليلة أمس كما رغبتِ سيدتي .. ولكن تفاجئنا بمد مدة الأقامة لأحد النزلاء كان مقرر مغادرته اليوم .. وبناءا عليه لم نستطع توفير إلا واحدة فقط، وقد قامنا بالاتصال بك لتقديم الاعتذار واعلامك بما جدت به الأمور ..

بمعالم مستنكرة رددت ببلاهة :
– عفوا .. عد ما قلته للتو فأنا حقا لم استوعب منه شيئا !!

– سيدتي !

رغم رداء الحزن الذي التحفت به منذ ليلة أمس صاحت بضجر:
– أنا لست بسيدتك .. ولم يصلني اعتذارا مطلقا ومع هذا لا احتاجه بل كل ما أريده الأن هما غرفتان وحسب !!

– عذرا منك .. ولكن حقا جميع الغرف منشغرة وليس هناك أمامنا الأن إلا واحدة ..

كادت بوجهها المتجهم تفتح فمها لتكيل على ذلك البارد بالكلمات اللاذعة، إلا أن قبضة أحدهم على راسغها بتملك عقب سماعه لجزء من حديثهما، أجبرتها على القطع والالتفات تطالعه بذهول، اشتد لذروته عندما ابتسم بدبلوماسية لذلك الموظف وأمره باتمام اجراءات حجز الغرفة المتبقية ..

هالة من الدهشة وتقيد اللسان أصابتها من حينها حتى انتهى بهما الحال بدخولهما للغرفة ذات الفراش الأوحد يتبعهما نادل حسن الهيئة قام بترك حقيبتيهما الضئيلتان في مقدمتها ومن ثم مغادرته توَّا بعد أن أنقده “عمر” إكراميته ..

فسرت صمتها بذاك الاستسلام البغيض ربما لوقوعها أمام الأمر الواقع بعدم توافر اماكن أخرى بالمدينة لذروة موسم السياحة بها .. ولكن ما لن تسطع عليه صبرا وألزام حالتها الصامتة هو قيامه الأن بغلق بابها عليهما من الداخل، ومن ثم قام بدس مفتاحه داخل أحد جيوب ملابسه ..

زين عقلها الأمر سوءًا .. بل الكثير من السوء لشاب وفتاة في غرفة واحدة وثالثهما الشيطان، وكأنها لم تعي للامر إلا الأن !
ارتعدت فرائصها توجسا .. وخفق قلبها رعبا .. وراح لسانها يصدح بتلعثم ما أن رأته يستدير إليها بنظرة غامضة لم تعهدها به من قبل:
– لا بقولك أيه متفتكرش سكوتي عشان اتحطيت قدام الامر الواقع بأن كده خلاص بقيت فريسة سهلة قدامك .. لا أبدا .. فوق لنفسك لأنك مش عارف أنا ممكن أعمل فيك أيه ..

راقبت تقدمه المبطئ إليها رغم تحذيرها، ونظراته الغامضة تزداد قوة، فازدردت ريقها بتوجس واستكانت لأحد افكارها التي ولدت من رحم الخوف، بأن تتخذ حركة يدها القاتلية حصنٌ حصين من تعديه الغاشم، والتي ما أن شرعت برمي أولى ضرباتها تجاه وجهه الذي اقترب صاحبهُ منها، حتى بغتت بقبضة يده القوية تبطل فعل يدها في الهواء، وباليد الأخرى راح يحيط خصرها، دفعا جسدها إلى صدره عنوة من خلالها حتى التصق لصقا بإنحناءات صدره الرحب بزواره، متمعن بغموض نظراته عينيها الذعرتين ووجنتيها المتوردتين، عقبها مضى ينخفض بشفتيه عند أحد أذنها هامسا بهدوء مخيف وانفاس متهدجة :
– مش طالبه معايا جنانك دلوقت .. فياريت ماسمعش صوتك لغاية لما أقوم ..

ثم في غفلة صاح بعلو صوته بغيظٍ كظيم:
– وأنتي كمان نااااااامي !!

ثم بادرها بترك يدها وجسدها دون مبالاة والتوجه للأريكة الوحيدة بالغرفة واستغلها لمضجعه طالبا الراحة لجسده الذي عان من عناء السفر المجهد بساعاته الطويلة ..

بينما هي ظلت بمكانها ويدها الممددة بالهواء كما تركها، تجاهد لحقن ارتجاف جسدها من قوة صوته وعلامات الصدمة والأندهاش يطغيان طغيا بمعالمها .. وهلة حتى تخطتها مدركه بإحراج حديثها المعتوة الذي هتفت به أمامه من جرّاء تفكيرها الصبياني، فراحت ترخي يدها لتمسح بها على مؤخرة رأسها بإحراج وهي تستعيد صوتها لاستراد جزء من كرامتها التي تناثرت هباء منثورا :
– أحم .. طبعا هنام .. هو أنا قلت غير كده دلوقت !!

ثم استدرات عقبها تحتل طرف الفراش تتدثر تحت أغطيته جيدا، وعينيها الحالمة لم تحيد عن هيئته الناعسة التي تحتل الأريكة المتباعدة نوعا ما يشاع منهما ومضة أعجاب بدأت تزداد بداخلها منذ موقفه مع زوجة أبيها، راحت الأن تتملك من قلبها أيضا الذي على ما يبدو بدأ موسمه الربيعي بالازدهار ..

————————–

عقب ترجلهما من سيارة العائلة وانتظار سائقها لهما بمكانه المخصص للانتظار، التفت “أميرة” قرب وصولهما للمصعد لشقيقتها الصامتة بخطواتها المثقلة خلفها، فقالت متعجبه:
– مالك يا “هنا” فيكي حاجة ..

بعينان زائغتان بذعر أجبرتهما عنوة على الثبات والتطلع إليها، وهي تهتف بارتباك:
– لا أبدا .. أيه خلاكي تقولي كده ..

أجابتها بحيرة :
– يعني حساكي مترددة تطلعي فوق .. لو محرجة من “على” أنه يشوفك هنا صدقيني هقنعه اننا جايين لشغلي وبس وأنا اللي اصريت عليكي تيجي معايا عشان فستانك بالمرة ..

ازدردت ريقها ببط وهي تحاول أن تجمل لشقيقتها ما بها :
– أبدا يا قلبي أنا يمكن دايخة شوية ..

بنبرة هادئة حانية ربتت “أميرة” على ذراعها تحفزها للركوب وهي تراقب هبوط المصعد :
– طب يلا تعالي الاسانسير نزل ولما نطلع فوق خديلك برشامة للدوخة تريحك إن شاء الله ..

على ذكر كلمتها ارتعدت اوصالها برجفة جاهدت لمدارتها وهي تأنب ذاتها بقسوة على موافقتها للحضور سريعا إلى هنا ونسيان في أجواء حبورها لرؤيته أن مكتبه بأحد الطوابق العليا وأن عليها استقلال المصعد !!

لماذا تناست شيء خطير كهذا ! وماذا ستفعل الأن ؟!

نظرات “أميرة” المتعجبة بدأت تنقلب لشكوك، لهذا تصنعت الثبات، مرغمة قدميها على التحرك بدون خذلان، مهدئه قلبها الثائر بأن ليس هناك شيئا خطير، فقط ستصل لوجهتها كمراتها الفائتة بعد الاستعان برحمة رب العالمين ..

لهذا اتخذت خطاها المتبقية وبدأت باعتلائه مع تحركات شقيقتها لبعض الأزرر، فاحتضنهما المصعد بغلق دفتيه في فعل متوقع سقط قلبها عقبها، ازداد عند بدء عمله حين شعرت بضيق رئتيها وتحرر روحها من جسدها مما اُرغمت على اتخاذ أحد الزوايا به حصن لنوباتها المتلاحقة والتي بدأت في الازدياد كلما سحبهم معه للاعلى ..
في وسط حديث شقيقتها المتوالي قطعته عندما لاحظت ما بها، ثم اندفعت تحتضنها وهي تردد باضطراب :
– “هنا” في أيه مالك ؟!

مع استفسارها الصاخب استسلمت لحالتها بين يديها وهي تتشبث بها جيدا مع خروج صوتها المرتجف بأيات الذكر الحكيم، مما دفع “أميرة” لازاحة غطاء وجهها للخلف لأجل استنشاق الكثير من الهواء، ولكن الأمر يسوء والفتاة بعرق وجهها الغزير كادت تسقط من بين يديها كخرقة مهترئة .. جعلت الدمع يتتدفق من عينيها وهي تهتف برجاء وتوسل :
– يا “هنا” مالك متقلقنيش عليكي أرجوكي .. وأيه اللي حصلك فجأة ما أنتي كنتي كويسة ..

هتفت باجهاد لاطمئنانها :
– كويسة متخفيش بس الاسنسي..

لم تستطع مواصلة حديثها مع بوادر قيء بدأ يتحرر أحد اصواته من جوفها، بدأت معالم “أميرة” توشي بالجنون وهي تهتف بتقطع عقب استيعاب الأمر رويدا رويدا :
– الاسنسير .. الفوبيا .. مرضك .. أزاي فاتني ده .. أنا غبية .. أنا غبية .. اااالحقوني ..

ارتفع صوتها المتلاحق بالاستغاثة دون كل وهي تجاهد لحماية جسد شقيقتها من السقوط يكلل صدمتها عبراتها المنهمرة ويغلف روحها تأنيب النفس لعدم تذكر مرضها والصعود بها للأعلى ..

– الحقوني .. حد يلحقني أرجوكم البنت هضيع مني .. يا جدو “شاكر”… ياااااااااا “علي”… !!

———————–

 

 

 

 

الحلقة الرابعة عشر ..

  • نعم سيد “شاكر” .. “حسين” أتى .. هذا جيدا جدا اسطحبه لمبنى إدارة الجهاز وقم باعلامه بكافة امور العمل وأنا دقائق قليلة وسالحقكم هناك .. نعم .. نعم الأن أنا أعلمته بهذا عبر الهاتف فليس لدينا وقت كافي ولابد من الهمة لإنجاز ما نحتاجه بعد أن بدأ الفريق العلمي باستلام مهامه في تنفيذ المشروع ..

كان “علي” القابع في كرسيه الوثير يردد حديثه ذاك بفواصل زمنية متباينة عبر هاتف الشركة الداخلي .. والذي قام بغلقه عقب إنهاء الاتصال ..

ثم راح يسند ظهره للخلف بارتخاء، وهو يمسح براحتيه تقاسيم وجهه لمحي الارهاق الذي نتج عن عناء العمل المتواصل ليل نهار، ومع ذلك تخلل وقته المزدحم صور واحاديث محبوبته دون كل أو مل .. تلك التي توحشته كثيرا خلال الخمسة ايام المنصرمة ..

سعيدا لاعلان موافقتها باتمام فاتحة الكتاب بينهما .. وحزينا كل الحزن للوقت الذي أخذته للتفكير حتى تصل لقرارها .. كأنها كانت متردده بالارتباط به!

جرحت كبرياء العاشق داخله حقا، لهذا ابتعد يثأر منها بالتعفف عن الحديث، ومع ذلك حريصا أشد الحرص على أتمام عقد الآقتران في موعده بالثانية والدقيقة ..

“فذاك حال المحبين تمضي أعمار الحب بينهما ما بين موج الهيام وعواصف العتاب ”

زفر بضجر وهو يتخلى عن مقعده ويتجه صوب اللوح الزجاجي الذي يكشف ما في الخارج ويحجم ما خلفه بحرفية محدثا نفسه بأنه يعاقب ذاته قبلها ..

لم يكد يواصل شروده حتى سمع ضجيج متواصل يغدق عليه من الخارج .. توجه بخطاه تجاهه حائرا عن سبب مصدره .. وهلة عقب فتحه للباب وشاهد بعضا من طاقم سكرتاريته يتوجه صوب المصعد أو بالآحرى تجاه مصدر الصوت الذي تخلل أذنه الأن باسمه هو لا أحدا غيره!!!

ـ عـلــــــي !

شرع راكضا دون تباطئ يكشف عن مستوره فشاهد امرأة لم يعلم هويتها ولكنها اقرب ظاهريا لهيئة “هناهُ” .. خمرية البشرة، عينان بنيتان في محجرهما الواسع، جسد متناسق، ملابس محتشمة وحجاب يحيط رأسها بإتقان .. توالي بمناداته بذعر وبين يديها فتاة تشاح بالسواد لا تدرك واقعها !

صدمته لم يتخطاها بعد وهو يجهل هوية الفتاتان .. جاءه الرد حين أبصرته “أميرة” بالقرب فقالت بنبرتها الباكية بتوسل :
– “على” الحمدلله أنك جيت ألحق “هنا” أرجوك !

جملتها العربية لم يستوعب منها شيء ولكن على أثر سماعه لاسم “آناه” بين ما تفوهت به .. كان كفيلاً بإرتطم تشتته الذهني بحائط خراسني جعله يستوعب بأن المتراخية بين يديها باستسلام ما هي إلا محبوبته !

لم يدرك بأنه بات كمجنونٍ يدفع بقوة من يقف عائقا في طريقه إليها، حتى أقترب منها وانحنى يحملها بين ذراعيه بعجالة صوب غرفة مكتبه وهو يأمر بصرامته “فتحي” المراقب للأمر بفزع:
– طبيب في الحال أيها العجوز !

عقب دخوله اراحها بحنو على أحدى الأريكات الكبرى وهو يهتف بصراخ :
– اريد زجاجة عطر فورا ..

ختمها وهو ينظر لجمع النسوة من خلفه الذي يترأسه “أميرة” بذات حالتها المرتعدة، والتي راحت تجيبه من وسط عبراتها المتدفقة بعفوية:
– لا املكه في حقيبتي “علي” فهو محرم على النساء ..

ثم التفتت باضطراب لباقي النسوة تأمرهن بتوسل :
– رجاءً اجلبوا لنا بواحدة فورا ..

المبادرة جاءت من “حياة” التي كانت تشاهد منذ البدء ما يحدث بمقلتي تقدح شزرا .. فجذبتها منها دون صبر ثم أعطتها لـ”على” بعجالة ..
فـ راح يبعثر بالكثير منه على راحته ومن ثم يقربه من أنفها بعد أن ابعد غطاء وجهها للخلف، والذي اسقطته “أميرة” عليه لستره قبل الخروج من المصعد ..

ظل يجود به على انفاسها وهو يتمعن بحزن وتوجس وجهها الشاحب الذي كاد لا حياة به .. متمتما برجاء وخوف ذهب بعتابه وغضبه منها منذ قليل هباءا منثورا ..
– “آنا” ما بكِ .. أفيقي أرجوكِ ..

ولكنها لم تستجيب لمحاولاته، فالتفت صائحا بغلظه لجارتهما بوجه متجهم:
– ماذا حدث لها .. ثم من أنتِ؟!

أجابته بتلعثم مرتبك :
– أنا شقيقتها “أميرة” .. ولم يحدث شيء مطلقا غير أننا ركبنا المصعد ومن ثم جاء تعبها المفاجيء وبعد الحيرة تذكرت بأنها تعاني من فوبيا الاشياء المغلقة والمرتفعات !!

بحلق بها بمقلتي تشع جنونا والذهول يغتال معالمه بقسوة، حتى بات يقسم من يراه بأنه شيع لمثواه الأخير .. فعن أي فوبيا ومرتفعات تتحدث .. بل الأهم عن أي فتاة تتحدث تلك!

“آناه هو ” !

شعر حينها بأنه بعيد كل البعد عن محبوبته حتى بات لا يعلم مخاوفها والكثير من مخابئها .. فالتفت مصدوما يحتضن وجهها براحتيه وهو يدنو بصفحته إليه، حتى راحت شفتيه تلمس وجنتها وهي تهمس بتوسل حاني بضرورة الأفاقة و رد روحه التي علقت بغيابها ..
– أرجوكِ .. أرجوكِ “آنا” لا تخذليني وأفيقي .. أرجوك صغيرتي عودي قوية كما عاهدتك دائما .. وأثبتي لي بأن ما سمعته عنك خطأ .. هيا أفيقي حبيبتي “لي” ينتظر وبشدة !!

دقائق ظل باهتمام محب يبث شوقه، ورجاؤه، وشغفه لعودتها إليه ..

وقد كان ..!

فبصوته الحاني وبقرب شذاه هو لا غيره كان ترياقها الذي احاطها بالطمأنينة واحتضنها بالأمان .. فمضت تخرج أنين خافت ورأسها يتحرك في الجهتين بوهن ظاهري ..

على أثر ما شعر به بين راحتيه رجع للخلف بابتسامة متفشية .. غير مصدقا ما سمعته أذنه من غمغمات .. وما رصدته مقلتيه من رجفات جفنيها المتلاحقة ..

فتنهد براحة ورضا وهو يتمتم الحمد بداخله ..

أقتربت “أميرة” حينها منها تجاهد عبراتها المتساقط بابتسامة مبهجة وهي تهتف في حبور :
– “هنا” حبيبتي ألف حمدلله على سلامتك ..

فتحت ببطء عينيها تبصر محيطها فشاهدت بقربها ذاك المهاجر لروحها منذ أيام، وجهه مضطرب قلق ومع ذلك به بسمة سعادة انستها آلامها وغضبها منه، تجاوره شقيقتها بوجه مماثل ويتبعهما من الخلف بعض الفتيات المترقبة بتمعن للمشهد أمامهن .. ومن بينهن “حياة” !

بتذكر ذاك الاسم كان كفيلاً بشحن مشاعر غيرة وغيظ اصابتها حين اهتدى ذهنها بقرب هذه الفتاة منه تلك الأيام الماضية في ظل ابتعادها، مما أجبرت هيئتها المتراخية فجاة على الجلوس والتخلي عن اعراض مرضها، فجاءها صوت “علي” بحنان جارف يشوبه القلق :
– لا تقومي هكذا .. فأنت ما زلتِ متعبة ..

على أثر كلماته لمعت عينيها بوميض فكرة جريئة لاثبات ملكيتها لأرضه أمام المتربصين والأعداء، شرعت في تنفيذها دون تباطئ حين أحاطت جبينها براحتها بتأوه وهي تردد بخفوت :
– أاااه .. يبدو أنني مازلت متعبة حقا ..

على أثر همسها اسرع يقوم من جلسته أمام الأريكة ليجاور جلستها قائلا بلهفة وخوف :
– دعينا نذهب الأن للمشفى من أجل الإطمئنان ؟!

لم يأتيه صوتها بل بغت بدخولها حيز صدره وميل رأسها ببطء فوق كتفه وهي تهمس بدلال عاطفي ملغم بالمخاطر:
– لا تخف “لي” أنا بخير .. فقط بعض الدوار مازال يلاحقني وراحتي هكذا ستحاربه حتما ..

رغم أحاطته تلقائيًا لظهرها ظلت الدهشة تنهش ذهنه عن فعلها الفريد منذ قدومهما لتلك الأرض، وجد أجابتها عندما وقعت عينيه على هؤلاء الفتيات وخاصة “حياة” بملامحها المختنقة ونظراتها الحادة !!

تبددت دهشته عندما فطن بأنها حرب نسائية على ما يبدو هوى في جُبها دون أن يعي .. ولكن ما يعلمه جيدا بأنه يجب عليه الاستفادة منها بحرفية مطلقة ..

وها قد تراخى جيدا في جلسته يتبعها تقسيماته وهو يزيد من ضمها بشدة داخل حصنه، قائلا باستمتاع :
– لك ما تشاءين فتاتي !

بينما مسدت “أميرة” براحتها كف يدها ما أن جثت على ركبتيها أمامها مردده بحنو:
– كده يا هنون تقلقينا عليكي بتعبك ده ..

ظلت صامته بعد أن أحمر وجهها خجلا من فعله ليتبعه قول شقيقتها وكأنها تخشى معرفة أحد بمرضها.. نظرات “أميرة” المتمعنة فهمت ما اصابها واحراجها منذ الطفولة بفصح مكنون ذلك الشيء أمام الغرباء .. لهذا استدارت تطالع الفتيات من خلفها بابتسامة ودودة :
– شكرا يا بنات تعبناكم معانا .. تقدرو تتفضلوا دلوقت فـ زي ما أنتم شايفين بقت أحسن الحمدلله ..

بدأ جميعهن يتمنون السلامة للساكنة بانتشاء في احضان رب عملهم مع تحركاتهن للمغادرة دفعة واحدة، ماعدا واحدة أُخلفت لترددها لها ببسمة صفراء ثم لاحقتهن مغادرة ..

مع مراقبة “هنا” لما يحدث بذكاء نسائي وتغاضيها عنه قلبت بصرها لشقيقتها قائلة بابتسامة حانية :
– أسفه يا مرمر خضيتك بس غصب عني والله ..

  • حبيبة قلبي أنا اللي أسفه بجد ومعرفش أزاي نسيت حكاية مرضك دي خالص ..

ضحكت بوهن قائلة لتخفيف الذنب عن كاهلها :
– دا أذا كان أنا نسيته قبلك !

  • لماذا ؟!

سؤالا خرج من “علي” لأجل العتاب لعدم اخباره بمرضها ذاك من قبل .. ولكنه اغتال ثباتهما حين ظن كلتهما بأنه استوعب كلماتهما العربية وراح يستفسر عن سبب تواجدهما الذي أدى إلى تعبها .. فعاجلته “أميرة” بارتباك :
– لقد جاءت بصحبتي من أجل أن .. أن اعرض عليكما العمل ..

وكانت الضربة القاضية التى شتت انتباهه بالفعل لبعض الوقت وهو يجيبها بحيرة :
– أي عمل !

فركت “أميرة” راحتها بخجل مردده :
– لقد قررت أن أخرج من عزلتي من أجل العمل هنا ..

ابتسم بسعادة لحالها وهو يهتف مشجعا :
– أحسنتِ صنعا .. فالعمل وصاحب العمل تحت أمرك سيدتي .. مع بالغ عذري لطريقة تعارفنا !

بابتسامة ودودة هتفت بإمتنان :
– شكرا لك يا أبن العم كم انت راقي بحديثك .. ثم لا عليك الأهم أن كل شيئا مر على خير ..

عقب تفكيره لوهلة قال :
– ما تخصصك ..

  • تجارة .. أي حسابات وما شابه ..
  • جيد جدا ستعملين إذا بجانب “حسين” زوج “ندى” يد بيد .. فيا للصدفة كنا سنبحث منذ اليوم عن العديد من الموظفين للعمل تحت يده ..

بفرحة عارمة قالت :
– “حسين” زوج “ندى” هذا جيدا جدا فحقا ممنونة لك لعدم وضعي مع غرباء .. فأنا لا أحب الاختلاط كثيرا ..

بابتسامة هادئة أمرها قائلا :
– حسنا أذهبي الأن للعجوز بالخارح والذي اشك به مازال يتصل بالطبيب حتى الأن واخبريه بأن مريضتنا شفيت بحمد الله وعليه أن يوفر مجهوداته الجبارة تلك لوقت أخر .. ثم أخبريه بالأمر وهو سيبعث معك من يدل على مقر عملك الجديد .. وهناك سيتولى العم “شاكر” بتوظيفك في الحال .. فعذرا نحن نحتاجك وبشدة اليوم قبل الغد ..

انتصبت فور كلماته تجاهد ضحكتها من حديثه المرح قائلة وهي تغادر من امامهما تلملم اساريرها المنفرجة ..
– لا عليك فأنا حقا على أتم الاستعداد للبدء الأن كما رغبتم ..

  • “أميرة” استني طب وأنا وال.. ..

قالتها “هنا” وهي تبتعد عن احضانه من أجل اللحاق بشقيقتها التي قطعت حديثها بانجليزيتها الموجهة للاجنبي اثناء هرولتها للخارج:
– تلك هي مهمتك الأن يا ابن العم .. إلى اللقاء !

اُحرجت “هنا” من كلماتها فاطرقت رأسها باستحياء حين جاءها نبرته الخافتة من خلفها :
– أي مهمة تقصد !

استمرت بتراخي رأسها وهي تلجلج :
– لاااا عليك ..

وقف أمامها يردد باصرار :
– “آنا” !

عقب لفظه لاسمها رفعت رأسها تفترسه بغيظ وهي تردف :
– من الجيد أنك ما زالت تذكر اسمي عقب تلك الأيام الماضية ..

اغمض عينيه مستنشقا الكثير من الهواء أسرهم في رئتيه لبعض الثواني ثم أعلن تحريرهم بتنهيدة عميقة وهو يدنو بوجهه تجاهها متمتما بحنق مماثل :
– تتذكرين تقصيري ولا تتذكرين تقصيرك !

باندهاش طرحت استفسارها دون تمهل :
– أي تقصيرا فعلت !

حينها لم يعد ذلك المتزن الرزين، بل بات العاشق المعاتب وهو يهتف بضيق :
– تستنفزين الثلاثة أيام كاملة دون أن تبدي رأيك في الحال .. وتقولين يا فتاة أي تقصيرا فعلتِ !

تسللت ابتسامة واهنة على زوايا ثغرها وقلبها يخفق بعنفوانية لسماع اسباب بعده .. تجيبه بدهاء :
– لقد كان هذا اتفاقك منذ البداية .. أي أنت ما ارتضيت بالبعد قبلي .. فلماذا تلومني الأن!

  • بل أجبرت .. وليس ارتضيت هناك فرق!

صاح بها الأجنبي مندفعا من بين جزّ اسنانه حين تذكر ما فعله به العجوز “شاكر” ..

اخمدت ضكحة كادت تخونها وتخرج للعلانية كي لا تستفزه عقب قوله المتبرم وطريقة نطقه له .. ثم التزمت الصمت عقبها وهي تشاهد استبدال قسوة تقسيمات وجهه بأخرى حانية قلقه :
– ثم لماذا لم تخبريني بمرضك هذا من قبل رغم شكوكي التي راودتني حين تجنبتِ بذعر الجلوس تجاه نافذة الطائرة عند مجيئنا إلى هنا!

على استحياء شارد اطرقت رأسها همسا :
– لم يأت بيننا الوقت المناسب للحديث عن هذا !

هز رأسه مرددا بإصرار :
– نعم “آنا” .. نحتاج حقا لخلق الكثير من الوقت المناسب بيننا حتى نشبع بعضنا البعض بما نحب وبما نخاف .. والأكثر أشكر ذلك الأمر الذي أتى بك إلى هنا الأن لمعرفة هذا الأمر الخطير عنك ..

ثم تحولت نبرته للاستفسار:
– ما هو صحيح !

ارتبكت بشدة تحت نظراته المتمعنة دون أن تجيبه، فمضى يحثها بخبث :
– أن كنت تشعرين بالأجهاد من الوقوف دعينا نستريح على الأريكة كما كنا منذ قليل .. ومن ثم تخبريني ببطء عن سبب المجيئ ..

زاد ارتباكها توترا وخجلا عقب فطنتها لما يرمي إليه فقالت بعجالة:
– لا أنا بخير هنا صدقني ..

لوى شفتيه بتبرم ضاغطا بخبثه :
– حسنا كما يحلوا لكِ ولكن لاتجبريني على مناداة تلك الفتاة إلى هنا حتى تتحدثين .. وحينها أعلم بأنكِ ستتحدثين باستفاضة وأنتِ تعانقيني !

بضيق عينيها استوعبت مقصده بعد مرور وهلة من الزمان، إذا هو فهمّ لعبتها في حضور تلك الفتاة، وقعت روحها خجلا واشتعل وجهها توهجا فـ “علي” بات جرئ على غير العادة في لقائتهما السابقة، وهي من جرأته على ذلك، لهذا اندفعت تحدثه بصلابة مزيفة لكي لا ينال منها :
– لقد أتيت كما أخبرتك “أميرة” منذ قليل وأيضا لأجل الخروج بصحبتها لشراء فستانا يناسب ذلك الظرف الذي سيحدث بيننا بعد يومان ..
ثم ضغطت على حروفها بغيظ :
– والذي تناسيته وكأن الأمر لا يعنيك ..

انطلقت ضحكاته للعنان وهو يجيبها بتحدي :
– لن انساه مطلقا ..

ثم استطرد معترفا:
– ولكن حقا نسيت أمر هذا الفستان ..

ماضيا يحاوط خصرها براحتيه وهو يدنو تجاهها قائلا :
– فانشغالي ليس بما سترتديه لإني أراكِ أميرة دائما .. بل كان انشغالي أنّكِ بعرف الأسلام ستصبحين زوجتي الشرعية بعد عددة ساعات قليلة ..

أطرقت رأسها في صمت يغزوها الحياء، فذلك الرجل حين يخرج جرعته الرومانسية يصابها بالدوار وخفقان القلب المستمر .. حتى باتت تخشى عليه كثيرا أن يسمعه بنات جنسها ويحقدن عليها بزوال نعمتها .. لهذا يحق لها أن تحصنه من عيونهن الحاسدة وعينيها قبلهن ..

راقب صمتها وثواني خجلها المبينة أمام مقلتيه فقال بهمس حاني :
– اعتذر لكِ فتلك مرتي الأولى في تلك العادة وأجهل ما كان يجب عليّ فعله .. فلا تحزني وسأرسل بطلبه من فرنسا في الحال !

رفعت عينيها المنذهلة تردد بنفي:
– كلا لا يحتاج الأمر الأن لهذا العناء ..
ثم استطردت قائلة على استحياء :
– اترك تنفيذه لوقتِ الزفاف !

دنى عند أذنها يجود بهمسه:
– سيكون مميزا .. إن شاء الله سيكون كذلك أعدك !

ثم ابتعد بابتسامة زينت محياه يتمتم بتحفز وهو يسدل غطاء وجهها ويقبض على كفها متجها للخارج :
– والأن هيا بنا نبحث هنا عن واحد يليق بك ..

أعاقت فعله بتسمر قدميها في الأرض هاتفة:
– وعملك .. فيبدو أنك مشغول !

عاد يطالع عينيها بتأني وهو يردد بحزم :
– لا عليك فتلك أولى المناسبات الخاصة بيننا وأنا لن أضيعها هي أو غيرها ما حييت ..

وكأن بحزمه واصراره صدع رفضها فسارت ببطء تتبعه مسحورة وعينيها ترصد قبضة يده الحانية على راحتها مؤكدا ملكيته لها أمام الغرباء كما فعلت هي منذ قليل ..


مع ولوج المساء وعقب امتداد ساعات نومها دون إدراك آثار عناء السفر، تقلبت بتمغط تستعيد واقعها، وهلة وفتحت عينيها بغتة تمحلق في سقف الغرفة ثم انتفضت عقبها جالسة على فراشها بعد أن تذكرت الكثير من واقعها دفعة واحدة أهمها موعد الهروب المنتظر ! ..

ترجلت من الفراش تهرول دون هدي، تكاد تبكي كالأطفال بعد أن هيئ إليها بأنها غاصت في سباتها العميق أكثر مما ينبغي، مما أدى إلى فشل مخططها قبل البدء به ..

لم تكترث لشعرها المبعثر، ولا هيئتها الغير سوية، بل ما كل يهمها هو العثور على ساعتها لمعرفة التوقيت .. نعم التوقيت هو فقط من سيرأف بحالتها التي يرثى لها ..

دقائق من الدوران حول ذاتها حتى أهدت إلى ضالتها، والتي علمت من عقاربها المتلاحقة بأن مازال أمامها بعض الوقت لإنقاذ مخططها ..

ابتسامة إنتشاء روضت بها معالمها العابسة وهي تركض صوب حمام الغرفة متناسيه تمام رفيق السكن الذي تلقاها بين احضانه مصادفة مع خروجه من دورة المياة ذاتها بجزعه العلوي العاري يستر أسفله بنطالا من الجينيز ..

رفعت رأسها من بين يديه تطالعه ببطء فبدا إليها بأنه كان يستنعم بحمام دافئ توابعه الندية زينت خصلات شعره القصيرة وبعضٍ من معالمه .. معالمه !
تمعنت به مسحورة وكأنها باتت تبصره للوهلة الأولى .. عينيه القاتمة بغموضها المحير، استقامة أنفه الرجولية، وأخيرا حدة شفتيه بابتسامتها المغرية .. بهم جميعا رصانة وجاذبية لم تجمعهم عينيها في بشري من قبل ..

نعم !

ولا يحق لرجل أن يجمعهم بوجهُ دفعة واحدة .. فجميعهم مهلكين بقسوة لأي حصون إمرأة، مهما كانت هي !

ليزين هذا وذاك نخوته وتعففه اللذان مستهما في لقاء زوجة الأب وليلة الأمس حين جمعتهما غرفة واحدة ..

وهما من جذباها جذبا للغوص في قاع محيطه لنهم المزيد !

تمعنت وتمعنت كأنها لم تبصره في أيام غضبها قط .. فدائما مشاعرنا المغلفة بالضيق والغضب تظلم عينينا عن كل ما هو جميل يحوطنا ..

تمعنت الأسيرة ونسيت نفسها !

حينها انخفض بوجهه يداعبها بمكر خافت عقب ترقبه لزرقة عينيها وهي تنهش بملامحه نهشا :
– هو أحنا هنحن ولا أيه ..

عقب همسه المستفز عادت برأسها للخلف تستفيق من شرودها اللعين على آثارها دفعت براحتيها صدره بكل عنف وقوة يشوبها الحنق من كلماته الماكرة، ثم هرولت تتوارى خلف الباب الحائل بينهما عقب اغلاقه والخجل يعتريها بشدة، مما دفعت راحتيها لتغطي وجهها الذي بات يوج وهجا من مشاعر مستجدة أصبحت تفترسها كوحش مفترس ..

بينما هو غمغم مع ذاته بابتسامة تهكمية أثناء تمسد صدره برفق أثر دفعها :
– أيوه كده اطمنت أن دي الشرسة بتاعتي .. أنا قلت لسمح الله اتبدلت أو اتنقل لها عدوى من الجنس الناعم ولا حاجة!

————————–

قطع مناقشاته مع “حسين” على أثر نغمة رسالة اقتحمت هاتفه، والتي جذبت لب فضوله لتبين محتواها .. وما زاد رغبته تاكيدا هو إعلان الهاتف بهوية صاحبها ” علي البنا ” فصاح مخبرا “حسين” وهو يتفحصها :
– دا “علي” باعت رسالة ثواني اشوف في أيه ..

بينما هو يقرأها اجتازت “أميرة” باب المكتب المجتمعان به بعد أن منت ببعض الطرق للاستئذان، فطالعها “حسين” بابتسامة ودودة مرحبا بها، على أثارها رفع العجوز عينيه من هاتفه قائلا في حبور:
– مرحب بالغالية .. اللي قرأته من “علي” ده صح !

جاهدت لدفن لمحة الخجل بمعالمها وهي تجيبه بابتسامة هادئة :
– هو قالك !

  • لسه مخلص رسالته وانتي داخله ..
    ثم استقام يستقبلها قائلا :
  • الشركة واللي شغالين في الشركة هينورا بوجودك يا بنتي وبخطوتك دي اثبتي وصف جدك عنك لما كان دايما يقولي هي القوية اللي ما يتخفش عليها في بنات ابني ..

انخفضت بعينيها تردد بتنهيدة حزينة :
– الله يرحمه ويجعله ذكرى حسنة لينا كلنا ..

  • اللهم أمين ..

حينها قام “حسين” من مقعده يردد باندهاش :
– أيه يا جماعة ما تفهمونا في أيه ؟!

استدار “شاكر” موضحا:
– في أن “أميرة” هتكون إيدك اليمين في الشغل من الثانية دي يا “حسين” يا بني !

فغر فاهه قائلا بلهفة :
– بجد .. دا أحلى خبر سمعته والله ..
ثم واصل متشوقا بفكاهة:
– أيوه كده خلى الشغل يكون بنفس في وسط المعدات والأختراعات الحديثة دي..

تناغمت ضحكاتهم صخبا ثم روضت على قول العجوز المحفز :
– طيب يلا بينا ارسم ليكم المعالم العامة للشغل عقبال لما “علي” يبقى يجلكم يوم تاني ويضيف اللي نفسه فيه و بالمرة يكون “أمير” موجود عشان يضيف خبرته الهندسية للتعامل مع الجهاز ..

فسأله “حسين” مندهشا :
– ليه هو مش جاي دلوقت ..

اجابه المشيب في حيره وهو يترأس طاولة الاجتماعات بهما :
– بيقول جاله مشوار مفاجئ وميقدرش يأجله ..

ثم بصوت رخيم استطرد بهمة :
– نقول بسم الله ونبدأ ……..


” أن تشعر بأنك تحت وصاية من تحب .. هو الأمان الذي لا بعده أمان .. ونسائم الاطمئنان التي يتهافت عليها الكثيرون في الصباح .. هو الاستسلام المستحب للعيش في كبده مدى الحياة ”

هكذا كانت حالة تلك الرقيقة بابتسامتها العذبة، التي جاورت حبيبها في خطواته الهادئة يربطهما عناق اليدين كما يربطهما عناق الفؤاد في هالة إحتواء ظلت تطوقهما إلا حين رأت توجهه بها تجاه المصعد!!

تبددت كل طقوسهما العاشقة التي نزعت بؤبؤة عيون الحسناوات بمظهرهن الفاتن ومستحضراتهن المستوردة من حولهما خاصة تلك المتربصة لهما بحقد دفين “حياة” ..

شعر “علي” بارتجاف راحتها في يده وبرودتها الثلجية كأن زارها عواصف الشتاء دفعة واحدة، وما أن ضغط ذر استدعائه حتى شهد على نزعها بعنفوانية من حصن راحته دون مقدمات!!

حينها تطلع لراحته الخالية لقليلا من الوقت يستوعب شدة الخوف الذي يلتحف بصغيرته، ورغم الغصة المريرة التي غمرت صدره قاومها و رفع بصره لعينيها الزائغة بريبة وصوتها الذي جاهدت لاخراجه بتلعثم وقلة تركيز :
– أاااانا .. بقول نصبر شوية .. أصلا ملحقتش أشوف المكتب .. “أميرة” مش ينفع تروح لوحدها .. ووووكماا..

بترت حديثها المعتوة بعدما شاهدته يجذبها لاحضانه في غفلة اخرجتها منها شهقات تلك الفتيات المراقبة لفعلته بدقة متناهية ..

لم تتح إليها الفرصة لأن تهمس ببنت شفة على ما فعله أمامهن حين وجدت جسدها يرفع في الهواء بين يديه ومن ثم استهلالهما للمصعد الذي أعلن عن غلق دفتيه عقب دخولهما ..

عقب انزالها بعناية راحت تعاتبه بشدة على ما حدث ولكن أسرت في نفسها كل انفعالاتها عندما شعرت بضيق المكان ومن ثم بدء هبوطهما ..

مع استيعابه لما تمر به راح يرفع الغطاء عن وجهها فشاهد تقسيماتها المقطبة وعينيها المغلقة بشدة حتى كادت تدميهما، فثار ثائرته يأمرها بصوته الأجش:
– أنظري إلي ..

  • لا استطيع !
    ثم بنبرة باكية استطردت بلوم:
  • لمَّ فعلت هذا بي ؟!

أحاط براحتيه ذراعيها متمتما بهيام:
– لأن أحبك ..

رغما عنها اجبرت عينيها المتلهفة لقوله كما روحها على فك الحصار لتأمل همسه، إلا أنها لم تكد تستمر وهلة حتى شعرت بدوار بدأ يطوقها وارتعاد جسدها بالكامل فاسرعت بغلقهما مرة أخرى بشدة وهي تطيح برأسها على صدره دون إدراك .. فقال ملحا بتهكم:
– قلت أنظري إلي أيتها الكسولة لا أن تسترقي النظر !

صرخت برجا :
– قلت لك لا استطيع أرجوك ..

  • حتى وأن قلت أنظري الي زوجك .. إلى حبيبك “آنا” ..

جاهدت لفتح عينيها مرة ثانية لتستجيب لكلماته العذبة الرقراقة إلا أنها لم تستطع حقا، فأغلقتهم سريعا تدفس رأسها كالنعامة في صدره وهي تتشبث بساعديها حول خصره بعزم قوتها مغمغمة بتوالي:
– لا استطيع .. حقا لا استطيع ..

ما أن لمس ارتعادها الشديد بين يديه مضى يسحب الكثير من الهواء في رئتيه اخرجه ببطء وهو يغمرها بقبلة أبويه على رأسها وفي كلماته الحانية ..
– ستسطعين يوما ما وأنا بجانبك صغيرتي .. فما خوفنا هذا إلا أكذوبة زرعناها بدواخلنا ثم رعيناها حتى أرتوت ونمت، فاصبحنا نصدقها ونعيش بين أوهامها بإيمانا قاطع بأنها باتت حقيقة مسلما بها ..

عقب انتهاءه شعر بارتخاء شدة ساعديها حول خصره نوعا فمضى مكملا :
– أين حديثك لي عن وجود الله وقوة إيماننا في الابتلاءت .. أين ثقتنا به وعزم توكلنا عليه .. ورحمته الكبرى التي تحاوطنا .. أين كلماتك عن يده التي تربت على أوجاعنا ومخاوفنا برفق أشد من حنو والدينا .. أين خالقنا الذي علمتني السير في خطاه واتخاذ دربه مدى الحياة .. أين هو عندك الأن يا فتاة !

عقب انتهاءه وصدمته بما انساب من لسانه وقلبه دون إدراك، تفاجأ برفع رأسها رغم ترنحها صائحة وهي تفتح دفتي عينيها بقوة لم تعلم من أي ينبوع نضحت :
– بقلبي يا “علي” .. بقلبي !!

راح بعينيه يحتضن مقلتيها بغمرة سعادة وهو يدني منها هامسا :
– إذا دعي قلبك يكون دليلك وينير دربك في مخاوفك يا فتاتي المطيعة !

هزت رأسها بيقين وهي تجاهد بوادر القيء التي بدأت تتناوب عليها، فقال مشتتا بدهاء وهو يغمز لها باحد عينيه:
– دعيه يملأ قميصي مثل ما حدث في الماضي ..

هزت رأسها بقوة رغم وهنها :
– لا و ربي فتلك المرة تحررت مني دون إرادة وسأجاهد ما حييت بعدم تكرارها ..

  • صدقتِ لأنكِ لن تحتاجيها بعد ذلك .. مبارك !!

تعجبت من إجابته فأعتلت بنظراتها إلى وجهه مستفسره، فأشاح بعينيه لموضع باب المصعد قائلا بإنتشاء نصر تحقق رغم صعوبته:
– لقد وصلنا .. وفعلتها صغيرتي ..

ثم دنى يفيض بضمها إلى صدره يحتوي هالة ذهولها وهي تردد مغيبة :
– مستحيل !!

————————–

error: