العميل 101.. أحفاد الثعلب 2

الحلقة السابعة عشر ..

” كلًّ يهرب من قدره ليلقى قدره ” !

ببريق عيناها المتأجج رصدت ما يفعله ذلك العاشق بمعشوقه في صحن الاستقبال، فلاحت ابتسامة هادئة على محياها من أجل سعادتهما، متيقنة بأنه آن عليها الأوان العودة لأحزانها عقب اتمام فرحة شقيقتها على خير، بحذر وترقب قلبت عيناها بين الجمع، وما أن تأكدت بانشغالهم بهيئة العروسين المحببة حتى دفعت قدميها خلسة للرواق الممتد بمعزلهِ عن البهو، تبحث داخله عن عزلة مؤقتة تحتويها دون أن تثير شكوك الأخرين نحو الغياب ..

تمنّت أن يكون انفرادها بالحديقة ونسيمها العليل كعادتها إلا أن لا سلطة لها على هدوءها الأن في ظل الهرج والمرج المحاط بالمكان، أما غرفتها بالأعلى فهي عزلة بعيدة المدى ستثير الشكوك بالأجواء ..

عند نهايته توقفت بعد أن وجدت ضالتها، تحديدا أمام غرفة مكتب الجد رحمة الله عليه -تدقيقا صومعته للانفراد بأحزانه- وذلك لأسباب كثيرة، البعد الكافي عن الصخب ولإيمانها بأن لأحد سيقتحمها من تنبيهات والدتها الصارمة للخدم بدورية تنظيفها واغلاقها من أيدي الأطفال العابثة ..

تحقق غرضها عندما استدار مقبضها متحررا من تجانسه، استهلت بابها الزجاجي والجة بملامح منتكسة ثم أحكمت غلقه خلفها بحذر، غير عابئة بإضاءة الأنوار حتى لا تلفت إليها الانتباه، وعلى كثافة الضوء المنبثق من الحديقة اكتفت، ثم استدارت تطالع محيطها الشاسع ومحتوياتها الثمينة ببطء وذكريات صاحبها العطوف أمام عينيها تتساقط كزخات الأمطار، إلى أن تصلبت حدقتيها فوق إطار دافئ يحوط مُجسدا لهيئته، دونما إرادة اغرورقت عينيها بالدمعات، تجاهد لألجام آهات اشتياق وحنين تحتل صدرها ترغب بالفرار، تملكتها من أجل أرواح تركتها غائصة في الوحدة والحزن دون اشعار ..

تدحرجت العبرات تاركه لها حرية التحرك مودعه بها قوتها المزعومة أمام الجميع، فالأن لا أحد سيرى دمعاتها وضعف روحها وما يعتلى صدرها من حزن وآسى ونيرانٍ مستعرة ..

تدفقت بغزارة حتى قلبت لشهقاتٍ صادحة اشعرتها بالبرودة وضعف ثوبها الحقيقي، فمدت ساعديها بتضاد لاحتضان ما تستطع احتضانه من جسدها المرتعد، حامدة الله بأن صوت الأناشيد وفرحتهم بالخارح يغطيان على جرمها بأكثر مما تحتاج ..

في خُضُمّ مشاعرها اهتزت ساقيها وتراخت فما عاد ليها القوة الكافية لحمل ثقل الجسد فيكفي ما تحمله من ثقل الروح، استدارت قليلا تنوي اللجوء لأقرب مقعد يحتضن ما يعتريها من حزن وألم ينوء منه الجبال، إلا أن جسدها صعق متصلبا مما ابصرته عينيها واقفًا أمام النافذة وهو يتطلع إليها بعينين جاحظتين وملامح مشدوهة !

————————–

بمعالمها الحزينة وعينيها الباكيتين شرعت تستبدل الكمادة الجافة من فوق رأس شاحبة اللون بأخرى رطبة وهي تمتم باستياء:
– أيه اللي صابك بس يا حبيبة قلبي حرارتك مش راضية تنزل رغم الأدوية والمحاليل الكتير اللي خدتيهم ..
ثم أضافت بعتاب حاني:
– مش لو كنتي وافقتي على رأي “مرتضى” بيه أننا نزل أقرب مستشفى مكنتيش بقيتي احسن دلوقت وأطمنا عليكي ..

اشاحت وجهها بعيدا عن مرمى عينين العجوز هاتفه من بين نهج الأنفاس :
– مش شرط اللي يكون تعبنا جسمنا ومحتاج لعلاج أو مكان نشفي فيه .. ممكن يكون القلب هو اللي بيتمرد على صاحبه ومحتاج يتعاقب ..

صفعت صدرها براحتها وهي تهتف بفزع :
– قلبك ماله يا قلب “أنيسة” !

اذرفت دمعاتها الحارة وهي تهتف بشهقة صادحة :
– تعبني بعصيانه يا دادة .. تعبني قوي وللأسف روحي بطاوعه وعقلي بيحاربهم بكل قوته .. وأنا تهت ما بينهم ونفسي أرتاح ..

بعينين نضح دهشتهما، صاحت المشيبة بتوجس:
– عصيان إيه يا حبيبتي كفى الله الشر وروح بطاوع أيه أنتي بتقولي كلام كبير قوي عمري ما سمعته منك ..
ثم ربتت على كف يدها مسترسله :
– مالك يا “مرام” يا بنتي هو في حاجة أنتي مخبياها عليا حساكي مش أنتي اللي أعرفها .. افتحي لدادة حبيبتك قلبك زي ما بتفتحيلي دايما واحكيلي أيه اللي حصلك في السفرية دي وكمان مهربتيش ليه .. أنا قلبي أتوغوش قوي !

استطاعت ضبط الذات ثم رفعت أطرافها لتمحي عبراتها نافية :
– أطمني يا دادة مفيش حاجة حصلت غير أن الظروف زي كل مرة ماسمحتليش أهرب .. أما بالنسبة للحرارة فمتخفيش لما الحرب اللي جوايا تحدد مين الفايز هتهدى لوحدها ومن غير أدوية ولا دكاترة كمان !!

انقبض صدر “أنيسة” عقب سماع كلماتها يحتلها التوجس مما شعرت به بديهيا من كلماتها والتي توحي بشيء واحد لا ثاني له آلا وهو بأن صغيرتها كبرت وباتت على أعتاب مشاعر لم تجربها يوما ومع هذا تخشاها باستماته وتحاربها بمعتقداتها الراسخة ..

ولكن من ذلك الشخص الذي يستحق أن يتعارك عليه القلب ونبضه !!

————————–—–

تذكرته !

ذاك متوسط البدن بطوله الحير، وبشرته الحميراء التي صفعتها الشمس بأشعتها حتى تشربت، وما تحتويه من معالم أهل الشمال والمدن الساحلية ..

بل تذكرته جيدا فلم يمر إلا دقائق معدودة وقد كان بطل حديث شقيقتها “ندى” عند مروره من أمامهم أجمعين أثناء عقد الاقتران حين همست بالقرب منها ومن “رضوى” بما لديها دفعة واحدة :
– مش ممكن دا ” أمير” يا بنات اللي كان متقدم لهنا وهي متزوجة .. معقول “حسين” عزمه يحضر كتب كتابها على واحد تاني .. بس شكله بيوحي أنه مكنش يعرف أنها العروسة الا دلوقت .. ربنا يستر والليلة تعدي على خير وما يحصلش حاجة تعكر فرحة “هنا” !!

  • تقصدي أن ده اللي حرمنا من جدنا بعملته !!!!

لم تهمس “أميرة” ألا بذلك الرد التلقائي الذي أرغم أخواتها على بتر تعمقهن في الحديث مكتفين بنظراتهن المعاتبة في صمت !!

عضت شفتيها نادمة فهي تعلم بأنه قضاء الله وقدره ولا راد لقضائه وأن الأسباب تعددت والموت واحد، ولكن عشقها للجد تملك منها رغمًا عنها وجعلها تدفع بقولها دفعة واحدة .. استغفرت ربها جهرا ثم أظهرت اللامبالاة حين اشاحت بوجهها الممتعض بعيدا عن خطى ذلك السمج وسيرته ..

الأن علمت بأنه ترك عقد الاقتران قبل أن يكتمل ليبكي هنا على أطلال الذكريات .. التي على ما يبدو لم ينساها مطلقا بشعيرات عينيه الدامية ووجهه المكفهر في عزلته تلك !

عزلته وعزلتها !!!

غلت دماءها حتى احتقن وجهها ما أن تشابكا الكلمتان في عقلها !
تحاول بذهول الاستيعاب بأنه شهد على لحظات ضعفها وسقوط دمعاتها والتي انتبهت بأن آثارها ما زال على وجنتيها حتى تلك اللحظة، مما اندفعت مرتابة تكفكف دمعاتها بسرعة تحسد عليها وهي تلحف روحها مرة ثانية بالقوة، ثم بإباءة رأسها صدحت من بين ضغط اسنانها :
– أنت مين سمحلك يا بني آدم تقتحم أود الناس وتتصنت على خلواتهم بالشكل ده ؟!

على آثر ما رصده تحرر من دهشته متلعثما :
– أااانا .. لو تلاحظي كنت موجود بالفعل قبل ما حضرتك تدخلي !

ثم أضاف معتذراً نظرا لسوء حالتها :
– وعلى العموم أنا آسف .. ومقصدش أن ده كله يحصل !

ذلك الاعتذار المرهف لن يُشفي كبرياء الأنثى الذي جرح وكرامتها التي مُست، رغما عنها تملكها حالة اللاوعي للهجوم من أجل اثبات قوتها أمام عدوها، حين صاحت بتنمر شرس:
– مش حجة كافية حضرتك عشان تبرأ نفسك .. لأن على الأقل كنت مفروض تنبهني بوجودك أول ما أنا دخلت ..

ثم استرسلت بغلظه لم تكن من صفاتها يوما ولكنها استجلبتها عنوة للثأر منه :
– ولا شعور الرفض وتفضيل واحد تاني مخلكش واعي لانسانيتك وأدب التعامل في المواقف اللي زي دي !

أغمض عينيه لوهلة يستوعب جرأة حديثها ثم فتحهما هاتفا باستنكار :
– أنتي بتخرفي تقولي إيه هو أنتي تعرفيني عشان تتكلمي عني بالطريقة دي .. ثم من الصبح دخله عليا هجوم أكني ألد أعداءك وأنا ساكت وبقصر في الشر عشان معرفكيش وعشان الوضع اللي انتي فيييـ!

لم يكمل كلمته ولكنها استوعبتها جيدا بل هذا ما كانت تخشاهُ منذ البداية ” أن ينظر إليها بعين الرأفة وكأنها باتت امرأة ضعيفة مسكينة تستحق أن يمّن عليها الجميع بالشفقة”، جزّت انيابها غيظا ثم هدر صوتها بسخط:
– ومين قالك إني عاوزه أعرفك أو تعرفني أصلا .. وبعدين إيه ساكت دي!!.. متفتكرش أن عشان شوفتني بدمعتين يبقى الضعف راكبني وتقدر تغلبني بكلمتين لأنك تبقى غلطان قوي وبتحلم!

رددتها وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها متحفزه للهجوم عليه والتي رغبته بشدة بعدما افاض عليها بكلماته المتلاحقة :
– والله الحال من بعضه مش شيفاني بترمي تحت رجلك طالب “CV” بتاعك .. وبعدين كلمتين إيه وضعيفة إيه أنتي بجد مش طبيعية وتفكيرك غريب !!

ثم أضاف بنفور وهو يتهيأ للذهاب :
– لو سمحتي وسعي من طريقي خليني أطلع لأن بجد مش فايق لجدالك ده دلوقت ..

سيهرب وهو الفائز حتى الآن وهذا ما لا تسمح به، فلم تعي بأنها صاحت ثائرة :
– معاك حق ماهو حبيبة القلب وصاحبة المعركة بتتخطف فطبيعي متكونش فايق ..

شلت خطواته لثوانٍ ثم ألتفت إليها صائحا في ضجر :
– أنتي يا بنتي مجنونة ولا اتحدفتي عليا من أي داهية .. حبيبة مين وتتخطف إيه.. أااارجوكي ابعدي عني السعادي خليني أطلع بعيد عن الخنقة دي .. قال وأنا اللي كنت فاكرها أودة هادية أتاري زعبيب أمشير بتلعب جمباز فيها ..

بحمرة عينيها هتفت محذرة وسبابتها أمام وجه:
– خلي عندك ذوق يا حضرة وأنت بتكلمني لأن مش هسمحلك تتخطى حدودك معايا .. وبعدين أنا فاهمة كويس غرضك من الطلوع أكيد مستعجل أنك تضيع فرحتهم وتحرمهم من بعض زي ما كنت السبب في أننا نتحرم منه العمر كله !!

ضرب كفيه ببعضهما وهو يهتف متعجبا :
– أفركش إيه وأحرم مين من مين ! .. لا دا أنتي أكيد مجنونة رسمي وعقلك كمان لاسع ..

ثم هتف بعدم استيعاب وهو يحدث نفسه بخفوت :
– مجنونة إيه !! .. دا بعد اللي شفته دلوقت أقسم أنها زعيمه المجانين كلهم !!

غمغمته استطاعت سماعها .. مما بلغ غيظها منه مبلغا عظيما تريد الانقضاض بأنيابها على ذلك السفيه الغليظ للانتقام، ولكن في ثوانٍ قليلة توقف كل شيء بهدنة بسيطة حين سمع معا صوت انغلاق الباب عليهما بالمفتاح من الخارج وصوت أخر مبتعدا شيئا فشيء عقبها:
– الحمد لله أن افتكرت وقفلته يا “سعاد” قبل ما ست “رقية” هانم تعرف وتبهدلنا وتقول سايبين مكتب “علي” بيه الله يرحمه مفتوح لملطشة الأطفال وشقاوتهم في مناسبة زي دي ..

ابرزت عينيهما للخارج وهما يعيدان ببطء كلمات إحدى الخادمات مرة ثانية على اذهانهما وما سيترتب عليه !

على أعقاب ما استنتجاه اندفع الاثنان ركض تجاه الباب كلًّ يدفع براحتيه للطرق المتواصل عليه لعل تلك الخادمة تسمعهما وتعود مرة ثانية لفتحه، ولكن ما لا يعلمانه بأن صوت الاحتفال قطع رغبتهما بنصلٍ حاد ..


  • إلى أين يا “علي” فلقد تركنا المدعوين وحدهم بالأسفل !

براحته المحتضنة لخصرها والأخرى القابضة على راحتها أقترب منها موشوشا :
– رجاء “آنا” أصعدي في صمت ..

بضحكة رقيقة وضعت اطرافها المتحررة فوق ثغرها قائلة بمشاكسة :
– حسنا هكذا جيدا ..

اجابها وهو يزيح راحتها بتذمر :
– كلا ليس جيد لا تحرميني من سماع صوتك !

  • ” علي” أثبت على رأي تريد أم لا …
    قطعت حديثها وهي تتأمل باندهاش ما ظهر أمامهما عقب وصولهما لسطح الفيلا، ودون إدراك هتفت مستفسرة وكأنها لم تستوعب بعد :
  • ما هذا !!

أحتضنها من الخلف بذراعيه اللذان تملكا من خصرها جيدا وهو يضع ذقنه فوق كتفها هامسا:
– أتعلمين .. لم يختر في ذهني يوما بأن أجتمع بامرأة في عشاء خاص .. كنت أظنها أمور بلهاء لعقول فارغة .. لهذا لم أكن أعلم بمخططات العاشقين له وبما يحدث داخله .. ثم تفاجأت عندما وضع الله محبتك في قلبي بأني تمنيت أن أجول بك العالم بآسره وأن يشهد جميع البشر عشاءنا الأول الذي حتما سيكون مميزا .. وانتظرت بفارغ الصبر تحقيق ذلك اليوم .. ولكن ما أن تحدد موعد الاقتران وشعرت بقربه قتلتني الغيرة !!
نعم قتلتني حتى كادت تذبحني كلما راودني هاجس أن أحدا سيشاركني برؤيتك .. كانت أقل التخطيطات أن احجز أفخم قاعات الفنادق داخل البلاد أو خارجها واخصصها مغلقة لجلستنا فقط ولكن سريعا ما تذكرت بأننا سنحتاج لنادلون يتجولون بالقرب منا فنزعت الفكرة من عقلي ونفيتها تماما .. ثم راودني حلم الانفراد بك أمام موج البحر وسكناته الشاعرية ولكن ما تذكرت بأنه حتما سيكون هناك عيون متطفلة حتى قطعت أيضا تلك الفكرة أربا .. ثم في حيرة مني تذكرت اكتشافي لذلك المكان حين صعدت لأعلى البناية في أولى أيامي هنا وحزني لبعدك عني فتفاجأت بذلك الركن الهادئ به ومدى راحتي بالجلوس فيه ..

ردد حديثه على مسامعها وعينيه تمران ببطء على ما أمامهما، فتبصر بتأني عشب نضر سُقّى بعناية حتى ترعرع يحتضن المكان، زهرات ندية تفوح طيب رائحتها الأجواء، مجلس عربي مريح وأخر بجانبه متأرجح وبعض الكتب بالجوار ..

مستطرد بنبرة دافئة : والذي أزداد تألقا ببعض توصياتي الإضافية عليه حتى أصبح يليق بمناسباتنا معا ..

تمعنت ببريق عينيها الأنوار الهادئة المنبعثة من مئة مصباح ضوئي على الأقل مبعثر أرضا بتوزيعاتهم المميزة، يزين منتصفه طاولة طعام معدة بحرفية تليق بعروسين، ينير من فوقهم القمر بسخاء وتبارك النجوم ليلتهما من حوله، البهجة استعمرت قلبها ما أن لمست أجواء شاعرية رومانسية ناعمة جدا لا أحد ثالثهما فيها الا الله .. استدارت إليه وعينيها تضوي في معالمه حبا هامسة :
– “علي” أنا حقا لم أصدق ما رأيته .. وأن كنت تظن بأنني سأحزن بأنك لم تأخذني هنا أو هناك فاطمئن لقد وفقت في الاختيار جيدا وفهمت ما أرغب به دون التحدث ..

عقب كلماتها نال وجهه جزء من إنارتها حتى افترشت شفتيه بابتسامة كشف عن بياض اسنانه ودون تمهل راح يمد يداه خلف رأسها لفك عقدت نقابها واضعهُ بالقرب منهما وكذلك حجاب الرأس ثم شرع بإزاحة ذلك الغطاء عن جسدها ليلحقهما في ظل صمتها ولمحة خجلها التي تجاهد لطمسها، بتباطء عينيه تمعن بكل أنشٍ بها، بداية من ذيل الثوب بتقسيماته وراحتيها المفركة ببعضهما بخجل حتى كتفيها العاريان وعنقها الخالي إلا من قلادته المحببة منتهيا بمعالم وجهها المشبعة بالحمرة الطبيعية، حبس أنفاسه وهو يطالع انعقاد شعرها بمثبت حديدي، رفع يده يبعده بنفور ثم عبث في خصلاته حتى ثارت وانسابت هاربة من فعله على كتفيها، ابتسامة واهنة لم تصل لعينيه عندما حقق مبتغاه الدائم بها أثناء نومها..
طال تمعنه بهيئتها عقبها فاقسم أنها باتت في عينيه تفوق بريق دافنشي وعذوبة لحن بتهوفن .. تنهد بحرارة انفاسه المشتعلة وهو يسقط راحتيه فوق أكتافها العارية فصارا يلامسهما ببطء حتى أنتهى بإحاطة خصرها كما السابق وهو يدنو من وجهها مردفًا:
– أخبرتك برسالتي في الصباح بأنكي ستكونين فائقة الجمال .. أعلمي الأن بأنني حينها كنت أكذب عليك !

من دوامة خجلها طالعته منصدمه، فاسترسل كلماته مؤكدا :
– نعم كذبت .. فأنتِ تفوقتي على ما رأيتهن من جميلات .. وكيف لا وأنتِ أنحنى لأجلك الأن مفهوم الجمال !!

تطلعت ترمقه بعدم تصديق لإطرائه، فأومأ لها في صمت حازم وهو يواصل :
– تعالي ..

قالها وهو يغمرها داخل صدره بحنو ذراعيه متمايلا بها برقه تحت نور القمر ووسط وهج المصابيح .. تمايل وتمايلت معه .. منغمسين في لحظات هادئة مشبعة بدفء مشاعرهما، جعلتهما لا يحتاجان لنغمات مصطنعة لمراقصتهما، مكتفيان بدقات قلبهما الصاخبة بفيض الهيام ..

جذبها لعالم هي ملكته حتى امتد عناقهما لمزيد من الوقت، يحاولان كلا منهما أن يستوعب بأن ما مضى مضى من فراق وأن الحاضر والمستقبل صارا سيجمعهما دوما وأبدا معا، توهجت أجواءهما حتى بات ينظر لشفتيها بنظرة خاصة ملتاعة فاح رائحة مغزاها وهو يقترب منها رويدا رويدا بينما هي تراقبه بخفقان قلبها الذي كاد يعلن نهايته من هول ما يمر عليها بين يده، هي بتولا بمشاعرها تحكمها رهبة البدايات، وهو خبيرا مخضرم في دروب الهوى، معادلة غير متزنة ومع هذا تحاول جاهدة السيطرة على رجفة جسدها المرتعد أمام تواصله الجائع ولكنها فشلت عن جدارة! .. فتفاجأت به يقطع ما يفعله عائدا للخلف يثير فضولها لمعرفة سبب فعله، فشهدته يضبط ذاته ببعض الصمت المخيف حتى بدأ يفيض بما لديه بصوته الأجش قائلا :
– لم أحلم بها هكذا !!

حدقت بنظراتها المندهشة لتحفزه على المواصلة، فستأنف قائلا :
– “آنا” .. أنا رجلا تربيت في بلد مباح بين حدودها كل شيء، فدائما كنت أشبع رغباتهن حتى نسيت بأنني رجلا له رغبات، أنت فقط من جعلتي تلك الرغبة تولد بداخلي كأني لم أبصر جنس حواء ألا بك، منذ أن أحببتك وأنا أصبحت كالمراهق العاشق الذي يحلم كل ليلة بأول قبلة بيننا وكيف ستكون حتى أنني تخيلتها إبداعيه ستدرس لمن يعشق بعدنا .. ولم أتخيل بأنني سأحصل عليها من روح مستسلمة وجسد مرتعش .. فأن كانت ستكون كذلك فأنا غنيا عنها وأعتذر لك عما فعلته .. فأنا ما سعيت خلفها ألا گ محب يرغب من خلالها تآلف روحه بروح محبوبته وزوجته وليس گ ذكوريا ساديا يريد اشباع غريزته ..

انذهلت مما سمعته فعاجلت بقولها المرتبك :
– كلا لست كما تظن .. فأنا فقط .. الرهبة و.. و..
ثم دفعت ما في صدرها مرة واحدة :
– “علي” أنها المرة الأولي لي وليس أكثر !

تنهد بعمق ثم ابتسم باطمئنان :
– علمت بهذا وأنتي بين يداي وعلى قدر ما اسعدني بأني الرجل الأول على قدر ما حملني مسئولية توصيل نيران صدري بطريقة صحيحة لا تصيبك بالخوف والنفور .. ولهذا أطمئني فأنا لن أطلبها منك مطلقا حتى تشعرين بأنكِ تخطيت خجلك ذاك ورغبتي بها قبلي .. واعتبري بأن ما حدث بيننا قبلة لم تكتمل وسأنتظر قبلتك الحقيقية .. وحين تتحقق أعلمي بأني أنتظرها وقلبي كله اشتياق !!

ثم بتصرف حكيم كي لا يزيد إحراجها مما حدث راح يعانق راحتها براحتها قائلة بابتسامة عذبة وهو يحثها على متابعته مشيرا براحته الأخرى تجاه الطاولة :
– جائعة .. تردين أن نأكل الأن ..

أطرقت تجيبه بهز رأسها نافية وهي تردد بخفوت :
– كلا ليس الآن ..

  • حسنا كما تشائين !!

ثم أكمل سيره حتى وصل بها لتلك الأرجوحة فجلسان عليها وهو يحاوط كتفيها بطول ساعده هاتفا بنبرة دافئة حانية :
– لقد قلت لك من قبل بأننا نحتاج لمزيد من الوقت معا فلنعتبر تلك الليلة بداية لسماع بعضنا البعض .. ترغبين بالبدء أولا !

رجعت برأسها للخلف تطالعه بصمت وكأنه تحثه على تولي الأمر فتملكه الضحك هاتفا بمشاكسة :
– حسنا كما تحبين أيتها الكسولة ..

مع ابتسامتها الراقية ضبط نفسه بتنهيدة عميقة مسترسلا وهو يداعب أناملها براحته المتحررة :
– تعلمين عندما أخترت ذلك الفستان وأصريت عليه ليس كما ظننتي بأن أكشف عن جزء من جسدك أمامي .. فــ و ربي لو فعلتها لم أكن في نظري استحق أن يطلق عليا رجلا وأنما رغبت به لأزيح جزء من خجلك بيننا .. ومع أنني أحبه بك لأنه يجعلك دائما في عيني مختلفة عن كل النساء بطهرك وبرائتك ألا أنه يصنع حاجز بيننا ويحرمني منك .. ولكني في حبك أصبحت صابرا محتسب أجري إلى خالقي لعل يجزيني في نهايته أكثر مما توقعت .. فحتما حين ترغبين مشاعرك ستكون مختلفة وأيضا قبلتك ستكون مختلفة !

عضت شفتيها بحرج ثم ضرب صدره بقبضتها الواهنة وهي تردد بخجل :
– لقد تجرأت كثيرا ” علي” ولن تطول ما تسعى إليه عقابا لك !

انطلقت ضحكاته مقهقها وهو يقبض على راحتها تلك بين يده ثم رفعها إلى ثغرة يلثمها في قبلة مطولة، قائلا باستمتاع :
– ولما لا فأنا أصبحت زوجك .. ثم للمرة المئة لست بـ “علي” بل أنا “لي” خاصتك للأبد .. أمّ عن عقابي فلست قادرة على حزني .. أليس كذلك !

قالها ونظر لعينيها التي انخفضت باستحياء ثم ما أن لبثت لبعض الوقت حتى هتفت بتلهف:
– تعلم من صاحب تلك الجلسة الهادئة ..

تفهم هروبها من سؤاله فقال وهو يساعد الهواء الطلق في مداعبة خصلات شعرها:
– من ذلك الفنان ..

  • أنه جدي “علي” !

تصلبت راحت في شعرها لبعض الثواني ثم واصل وهو يتمتم مندهشا :
– حقا !

أومأت بهزة شاردة وهي تضيف بشجن :
– جميعنا نعلم بأن هذا المكان عزلته عن البشر حين كان يأكله الاشتياق إليك والحنين إلي ولديه !

أردف باقتضاب :
– لقد رأيته !

ابتعدت عن صدره تصوب حدقتيها الجاحظة، فزفر ببطء مستطرد:
– حقا رأيته في منامي بعد جلستي مع العجوز “شاكر” وضيقي منه لتعثر الأمور بيننا، يومها خرجت تائه لا أعلم أين سأذهب بنيران صدري المتأججة، حتى ضمتني غرفة أحد الفنادق وهناك هجرني النوم من كثرة التفكير فتذكرت حديثك عن صلاة الحاجة، فقمت وتوضأت ثم تضرعت بما يضيق صدري وعقبها زارني الارتياح والرغبة في النعاس .. جاءني خلالها بمقعده المتحرك وأمرني بأن أحمل معك هديتك بعد أن أوصاني بك كثيرا .. فتفاجأت وأنتِ بجواري بأنه طفلا جميل يشبهني كثيرا فابتهجت أنا وأنت ثم عقبها أختفى دون أن ندركه ..

  • “لي” لقد كان هذا رؤياي أيضا في ذلك اليوم ..

ظل يتمعنان بعضهما البعض بصمت وحديث العيون استلم زمام الأمور ليشاركهما نبضات قلبيهما الثائرة بعد أن تأكدا من مباركة روح الجد لجمعها ..

————————–——

مع إشراقة شمس اليوم الثالث في العاصمة روما أعلنت الحرب فائزها عن جدارة، وانساقت خانعة وراء تلهف القلب ونبضاته الثائرة ..
ثلاثة إيام لم تبصره طولهم شعرت بأنهم كدهر أمام لوعة الفراق..
والأن لم تعد بصابرة تريد أن تشبع عينيها بتفاصيله الغائبة حاضرًا ولكنها مستعمرة الفؤاد ..
أزاحت الغطاء عن جسدها الهزيل من أثر التعب ثم أسقطت ساقها واحد تلو الأخرى من فوق الفراش، مع تحركاتها الواهنة ينتابها هالة من الخوف بعدم التكملة لمبتغاها ولكن من أجله ستعافر لتشبع اشتياقها..

مع وصولها للنافذة المستهدفة توارت خلف ستائرها ما أن شاهدته يمارس رياضته البدنية الصباحية كما توقعت ..

نهمت كثيرا من الوقت ولم تشبع بعد حتى إنها لم تشعر بدخول العجوز وقولها المرح عقبها:
– عملت ليكي يا ميرو شوية شوربة يعوضوكي عن الايام إللي فاتت ..
ثم مصمصت شفتيها بإغراء :
– إنما إيه حكاية ..

والتي ما رأتها خلف النافذة تتلصص كالصوص على أحد ما حتى وضعت ما بيديها على أقرب منضدة بالقرب ثم همت بالاقتراب منها بتوجس، فشاهدت بؤرة اهتمامها بعينين جاحظتين الصدمة عنوان صاحبتهما، فالآن علمت بأن حدسها صحيح وإنها معركة مشاعر حقا ..
والأهم من هذا وذاك أن صاحبها هو “يـاسـين” !!!

تلقائيا رفعت راحتها لتربت بها على كتفها كي تنبهها بحضورها، فالتفتت “مرام” تطالعها باندهاش والقلب يخفق بلا هوانه، فهونت عليها المسنة قائلة بشفقة :
– من أمتى ؟ وليه مقولتليش ؟!

اندفعت بين ذراعيها وصدرها الحاني وعبراتها تسبقها مردده بشهقاتٍ متفاوتة :
– معرفش والله ده حصل أزاي .. بس تأكدي أنه غصب عني وإن قاومت كتير إنه ما يحصلش .. أخرهم لما دادي دخل يطمن عليا إمبارح وقلت له لو عاوز تتطمن بجد خدي من هنا أنا وأختي وخلينا نعيش مع بعض بدون حراسات وشغل عصابات .. نسيب كل حاجة ورانا ونبدأ من جديد .. بس هو خذلني ورفض يا دادة ….

رفض وأنا ما صدقت استسلمت !!

————————–

ذهابا وإيابا في أرجاء الغرفة لمزيدا من الوقت، مرة يأكلها الغيظ كلما تذكرت مشاهدته لها في ذلك الوضع المهين لشخصها، ومرة يطمسها الندم على ما اقترفته بحقه من هجوم لاذع هي ذاتها لم تعي له إلا حينما انفردت بنفسها داخل غرفتها ..

  • مالك يا ميرو راح جاية أكن حد قتلك قتيل وماخدتيش حقك منه كما يجب ..

انتبهت باندهاش لتلك الجالسة على فراشها بأريحية تمازحها، وكأنها لم تعي لحضورها إلا الأن فقالت متعجبة :
– أنتي هنا ليه مش مفروض بتطمني على “هنا” و”علي” دلوقت !!

لوت “ندى” شفتيها قائلة :
– لا ما أنا بعد ما قال لها ..
ثم وقفت على الفراش تجلي حنجرتها لتقلده بحرفية ..
” أني غنيا عن قبلة تخرج دون رضاكِ فما سعيت خلفها گ ذكوريا يريد أن يشبع غرائزه أنما تمنيتها گ محبا يريد أن يتلائم روحه مع روح محبوبته ” وقلت بس لغاية عندك كده يا يا حلو يا مسكر واطمنت على أختي حبيبتي .. وقلت لنفسي أنزلي بقى أطمني على مستقبل بنتك ضناكي بدل ما تقع في المصري إللي بيقول إتركها لتبور وميعرفش أننا من غيرهم بنحلو وبنزدهر ولا أجدعها وردة في البستان ..

انطلقت ضحكات “أميرة” للعنان هاتفه من بينها :
– يا سلام وهتطمني ازاي بقى يا ناصحة هانم ..

  • بده يا يا ميرو .. ثم رفعت جهاز الكتروني محمول متوسط الحجم في وجهها وهي تواصل :
  • بعمل سيرش في جوجل على عرض أمريكاني أون لاين لرجل زي “علي” وعليه واحد هدية .. وأهو بدل الخير خيرين وتلاته وأخدم من الحبايب ألف .. ونبقى يد واحدة لتغير المعاملة العربية الخشنة ..

هوى جسد “أميرة” على الفراش بجوارها تمسك احشائها من كثرة القهقهات الصاخبة التي اندفعت منها دون سيطرة، ثم عقب وهلة ما أن هدأت قالت :
– والله أنتي عثل يا “ندى” ضحكتيني وأنا مكنتش فايقة ومعكننه ..

تركت الجهاز بجانبها مستفسرة باندهاش :
– وإيه اللي مش يخليكي فايقة بقى! .. وبعدين أنتي كنتي غطسانه فين طول الحفلة .. دا أنا تقريبا مشفتكيش الا في نهايتها وأنتي داخلة من باب الفيلا وشك بيضرب ألوان مع أن “هاجر” كانت بتلعب حوالينا ومكنتيش بتراضي دلعها زي العادة ولا حاجة !

أطرقت رأسها في صمت والارتباك يتوغلها، فتوجست “ندى” قائلة :
– في إيه يا “أميرة” مالك بجد ؟!

عضت على شفتيها السفلة ثم هتفت في حرج :
– أنا وقعت في مشكلة كبيرة قوي يا “ندى” وعاوزه رأيك !!

————————–

حمام دافئ نالته وبأقل التجهيزات وأرقها استعدت للخروج .. فلا يمكن أن تمكث يوم أخر في الفراش .. خاصة بأن موعد تصريح الغياب من المدرسة أنتهى بالأمس وطالما لم تهرب فيجب عليها مداومة العمل مرة أخرى حتى يحين الله بأمره ..

والأكثر تحفيزا للخروج هو جلب الكثير من الهدايا المنمقة والشكولاه المحببة لفاكهتها الصغرى “أديل” بعدما علمت مصادفة بحضورها اليوم من السفر أو “مريم” كما تحب أن تناديها به بعد تأكدها من أصل اسمها اليهودي !

عقب وصولها للأسفل لم تشاهده بجوار سيارتها رغم أنها ارسلت بإبلاغه بالخروج في سابقة من نوعها ومع هذا غاب عن الموعد أو أكثر تصحيحا هي من بكرت قدومها لأجل رؤيته ..

لا إراديا حركت أرجلها تجاه ملحقه السكني وما أن وصلت إليه تملكها الفضول لرؤية كل شيء يخصه بحجة الاستعجال ..

دفعت الباب الحائل بينهما والذي يبدو بأنه غير موصد .. فتحركت بعد الخطوات في بدايته ترغب بجهر صوتها مناداته ولكن صوتها أبى الخروج عقب ما أبصرته في زاوية مسكنه !

أنه يصلي !!!

لحظات كانت خلالها تنصهر .. و قلبها فقط بنبضاته الصاخبة هو الذي كان يحيا من جديد ..

يحيا بحبه هو !!

error: