العميل 101.. أحفاد الثعلب 2

الحلقة السابعة ..

رمقتها “أنيسة” بنظرة لوم وهي تطيب جروح جسدها المتناثرة، ثم راحت تكللها بنبرة ماكرة:
– بقى عاوزه تقنعيني أن ده كله حادث برئ ؟!

بمعالم وجه متجعدة توحي بألم مليكته من ضغط العجوز اردفت باستنكار :
– آآآه براحة عليا يأنوش .. وبعدين أعمل أية طيب عشان تصدقيني ..

دنت “أنيسة” بمعالمها المبهمة لتأسر بحدقتيها معالمها المرتبكة وعينيها الهاربة قائلة بغيظ:
– “مرام” هو أنا آه مخلفتكيش .. بس مربياكِ وعرفه أن كلمة البراءة مش معترف بها في قاموس تخطيطاتك خالص .. لأن بصراحة كده مش ناسية عمايلك في الحراس اللي جم قبل منه ..فقوليلي بالاتي هي أحسن ..عملتِ في الشاب الطيب أية النهاردة وأنت بتحاولي الهروب !

عادت ببصرها الضال إليها تطالعها بقوة، ثم صاحت بانفعال ممتعض:
– والله يادادة المرة دي بريئة بجد وكنت رايحة السكولا زي كل يوم .. مش هروب زي ما أنت فاكرة ..

على أثر إجابتها تابعت دنو وجهها حتى لفحت أنفاسها وجنتيها ضاغطة على حديثها بدهاء:
– بدال مش تخطيط هروب يبقى تخطيط انتقام منه .. صح يا”مرامي” !

اشاحت وجهها بعيد عن مرمى بصرها مرة أخرى قائلة بإرتباك :
– يا دادة متكبريش الموضوع قوي كده دا كل الحكاية أن عربيتي انقلبت بعد ما خدت بطشه صغيرة من شاحنة معدية كنا بنحاول نتفاداها ..

شحب وجهها عقب أختراق حديثها لأذنيها، مما دفعت أناملها للقبض على ذقنها واعادة وجهها لمرمى عينيها الجاحظة وهي تردد باندهاش :
– يانهار أبيض هي العربية اتقلبت بيكم كمان .. !

حررت ذقنها من بين اطرافها قائلة باستنكار:
– يا دادة هي قلبة واحدة خفيفة وجت سليمة الحمدلله ..

صدح صوت العجوز بلوم :
– هو أنا لسه هستنى لما الطوبة تجي في المعطوبة ويبقى الله أكبر كذا قلبه من نظام سواقتك اللي عرفاه !
ثم استأنفت بحنق:
– وبعدين أية ذنب الراجل الكمل المحترم ده يتبهدل معاك من أولها كده ..

اجابتها “مرام” بتشفي:
– أحسن .. هو أصلا لسه مشافش حاجة مني .. دا أنا ناوية أكرمه أخر كرم بأذن الله ..
ثم تابعت بحدة :
– وبعدين يا داده كمل ومحترم أية ميغركيش المظاهر .. ماهو أكيد زيه زي رجالة دادي كلهم معندهمش نخوة ولا دين !

بملامح عاتبة قالت “أنيسة” باستياء:
– يا بنتي سماههم على وجوههم .. متظلميش إن بعد الظن أثم ..

استقامت مندفعة من جلستها، قائلة بنفور:
– استغفر الله العظيم .. بس أي حد في مكاني هيقول كده لأن هو اللي واضع نفسه بشغله ده في خانة الشك ..

حدثتها “أنيسة” بملامة:
– يا حبيبة قلبي ما تخلطيش الأمور ببعضها .. ده شاب زي أي شاب بيسافر من مصر عشان يشوف رزقه الحلال في أي مكان ..

اشاحت وجهها بعيد عنها بوجوم صريح، بينما طالعتها العجوز بيأس مغمغمة بخفوت:
– ربنا يهديكِ يا بنتي وينور بصيرتك ..مش هقول أكتر من كده ..

——————-

قادته خطاه عقب وداع “شاكر” لداخل الفيلا فشاهد خلو بهوها من سكانها، وقع بصيرته على مرور أحدى الخادمات بالجوار فأسرع يحادثها بحذر قائلا:
– عفوا .. أين سيدات البيت ؟!

اجابته بركيك لغته قائلة بوقار:
– السيدة “رقية” والسيدة “هنا” بصحبة السيدة “أميرة” وطفلتها بالأعلى ..

طيف ابتسامة ماكرة زينت محياه، اتبعها قائلا بعجالة وهو يهم بالصعود:
– حسنا .. أنا ساصعد لغرفتي لاستحم وأصلي .. سيأتي لي ضيفة هامة بعد فترة وجيزة .. أريدك أخبار الأنسة “آنا” باستقبالها حتى أهبط وأفرغ لها وقتي ..

بملامح مشدوهة جاهدت لإلمام ترجمة ما قاله، إلا أنها قطعت شرودها بعفوية :
– من “آنا” ؟!

فعجالها “علي” بإشارات متتالية وحركات توحي بهيئة “هنا” .. فاستوعبت الخادمة مقصده بعد ثوان من جهده .. ليزفر بإرتياح عقب ما وصل إليه في مخططه داعيا ربه باتمامه كما ينبغي .. فاليأس من عدم يقينه بمبادلة مشاعرها نخرة حد الجنان .. وبات يؤرق مضجعة حتى توغل تركيزه بالكامل في باقي يومه .. وخطته الشيطانية هذه نواة سيسعى لتحقيقها لاشباع جوع مشاعره المفرط لصغيرته ..

————————–

اغتسل وضمد جراحه ثم سحب من بين ملابسه سترة أخرى لتغطية جزعه العلوي العاري، فتوغل صمت الأجواء من حوله طرقة ضعيفة على باب مسكنه، رغم شدة تركيزه وصدق ما سمعه أوحى الشك إليه بوجود أحد من عدمه، ومع إعلاء سيطرة الصمت مرة أخرى تجاهل شكوكه مستكملا ارتداء ثيابه، إلا أنه تفاجأ بعودة وهن الطرق كما السابق، فقطع الشك باليقين وشرعت أرجله تتسابق أمامه محاولا استكشاف مكنونها ..
عند اقترابه من الباب مد يده لفتحه ثم تطلع عقبها لمرمي بصره فشاهد خلو المحيط أمامه إلا من الخضرة النضرة ونسيم الهواء العليل .. فتعجب في نفسه وراح يقفله إلا أن صوت طفولي ناعم رغم خشونة إيحاءته نبع من أسفل ساقيه منع تحقيق ما إنتوى!
قطب حاجبيه وضيق حدقتيه حين انخفض بمعالمه المندهشة لرؤية فاعلها، فابصر طفلة ذات الخمس أعوام حسب تقديره البديهي بملامحها الأوروبية وخصلات شعرها الكستنائية تجود بحركات قتالية في الهواء بساعديها الهذيلين قائلة بتحفز هجومي :
– مس أنت اضب أختي .. أنا بقى جاية أقولك أنها مس لوحدها عسان أنا معها وأقوى منك وهضبك .. طخ .. طااخ .. طيخ ..

تسربت تجاعيد وجهه وودعت الدهشة محياه بعد أن علم هويتها، فلقد تذكر تلك المرة التي شاهدها بها، بل ببديهته أيضا توقع من تكون قبل أن يتذكرها .. راح يمسح براحته على وجهه بضيق طالبا الصبر من خالقه، بعد أن بدا أمام ذهنه بأنه وقع أسيرا لشراسة نساء تلك العائلة !
فالطفلة مثل شقيقتها تماما، يالا حظه العسير .. !

مع تتابع حركاتها واندفاع اصواتها القتالية الموحيه بإصرارها على محاربته .. انحنى بجذعه العلوي قليلا تجاهها مبدلا معالمة للصرامة والقسوة ثم راح يخرج عن عمد صوت جهوري زعزها من ثباتها قائلا :
– فـي حـاجة !!

كلماته المقتضبة وطريقة لفظه بها جعلها تبتر فعلها وينتفض ثبات بنيتها الواهن عدة خطوات للخلف يتلبده الرعاش، قائلة بتلعثم :
– أاااانا بس جاية أقولك أن أختي “ميام” متهوره .. و..ومحتاجه ااااللي يوقفها عند حدها!

رددت جملتها بخفه وزينتها بالفرار المباغت من أمامه دون تروي، مما استثار حديثها انفراج شفتيه واستحضار ضحكاته الرنانة، متماديا فيها بعد أن أغلق الباب عائدا لاستكمال ما كان ينوي فعله قبل حضورها، إلا أن عودة الطرق مرة أخرى أوقفه في الحال وجعلته يتجه إليه مرة ثانية، ظنا منه بأن تلك الطفلة المراوغة عادت بهجومها الطفولي من جديد، ففتح بصفحة وجهه المكفرة بتصنع متحفزا للحديث الخشن معها، إلا أنه بوغت بوجود “مرتضى” ودخان سيجارة الفاخر يسابقه، ودع تجهمه وراح يرسم الجدية قائلا بترحاب فحواه الحيرة من زيارته:
– أهلا “مرتضى” بيه أتفضل !

اسقط ملفوفه من بين اطرافه عمدا على الأرض، ثم راح يدهسه ببداية حذائه قائلا بجدية مبادلة وهو يهم بالدخول :
– مش هطول عليك ..

عقب جلوسهما راقب “عمر” بحدقتيه الحائرة معالمه المبهمة وعينيه المنكسرة حتى تحشرج أخيرا قائلا بخفوت:
– أنا عرفت باللي حصل النهاردة ..

ثم انتكس برأسه متابعا عقب تنبهُ لجروحه وجهه:
– من أول لما خرجتم لغاية لم وصلتم هنا !

– “مرتضى” بيه أنا…

قاطعه بلمعة حدقتيه وقوله الحازم عقب رفع رأسه :
– “ياسين” أنا هنا مش بصفة “مرتضى” بيه رئيس شركات كذا وكذا لا .. أنا قدامك دلوقت بصفتي أب وبس .. أب بيترجاك أن متتصدمش من أفعال بنتي وتتخلى عن حارستك ليها بعد اللي حصل النهاردة واللي لسه هيحصل لأن عارف عناد بنتي مش هيسكت إلا لما يوصلها لتحقيق هدفها ..

تلك اللمعة تحولت لمحيض الدمع بعينيه حين استرسل حديثه قائلا :
– في اللحظة دي متستبعدش موتي .. لأنها روحي .. ولو هي فارقتني يبقى روحي فارقتني بالظبط .. فارجوك تدافع عن وجودها هنا بكل قوتك وأنا بديك كل الصلاحيات اللي تحتاجها ..
تنهيدة مسموعة استطرد عقبها قائلا :
– أنا عمري ما حطيت نفسي في موقف زي ده أبدا إلا قدامك .. عارف ليه ؟!

ملامحه الصامتة ونظرة عينيه شجعت “مرتضى” على وصل حديثه والذي راح يستأنفه قائلا :
– لأنك الوحيد اللي لمست فيك تحقيق الأمل ده .. فارجوك متخذلنيش ..

تجرع “عمر” ريقه متخطيا به صدمة ما لمسه الأن .. فخليط ذلك الرجل اذهله حقا ومازال يذهله .. فبات لا يعلم أهو رجل الأعمال الشهير بعضويته الهامة والقوية لدى المنظمة الصهونية للقضاء على شباب العرب ومحي مستقبل أمتهم .. أم والد يأكله حنين الأبوة وينهش داخله مخالب فوبيا الفراق لهذا الحد !

ما بين هذا وذاك دفس مشاعره واستفساراته كعادته في خفاياه المظلمة بعد يقينه بأن ثقته تلك هي مرحلة هامة كان يسعى إلى تحقيقها في مهمته، وها هو اكتسبها الأن، خرج من صمته متنحنحا ثم راح يطالعه بإصرار عينيه وهو يبث إليه بثقة متزايدة كلماته باطمئنان :
– متقلقش سيد “مرتضى” ثقتك في محلها وهجاهد عشان بنتك تكون معاك دايما .. ومهما بلغت الصعاب فأنا لها !!

—————–

بعد الطرقات المتلاحقة على باب الغرفة أجبرتهن على قطع ضحكاتهن المكللة لتثامرهن المرح في محاولة مستمرة من “هنا” ووالدتها لتخفيف اجواء حزن “أميرة” وطقوس عزلتها عن المجتمع ..

استجابت له “رقية” تأمر الطارق بالولوج، فضحى الملبي للنداء أمامهن إحدى الخادمات قائلة بتهذب:
– أنسة “هنا” في ضيفة جاية لمقابلة “علي” بيه تحت وهو بيصلي دلوقت .. ومفيش حد يستقبلها !

سألتها بتعجب :
– ضيفة !! .. ول “علي” !! .. طب ماقلتش اسمها ايه !

– بتقول اسمها “حياة” يا هانم ..

رغم توغل الحيرة بداخلها دعتها للانصراف قائلة بهدوء:
– خلاص أتفضلي أنتِ دخليها أودة الصالون وأنا جاية وراكِ ..

تراقبن جميعهن خروجها ثم عقبت “رقية” قائلة بعد أن تطلعت لابنتها باستفسار:
– مين دي يا “هنا” اللي تعرف “علي” هنا وتسمح لنفسها أنها تيجي تزوره في بيته ..

دغدغ روحها شيئا مستجد، ومع ذلك تجاهلته لتحسن الظن هاتفة بإرتباك:
– معرفش يا ماما أكيد معها عذرها ..

ثم استقامت من جلستها تتابع حديثها بثبات مصطنع :
– هنزل استقبلها عبال لما هو يفضى وينزل يقابلها ..

أومأ لها كلا من والدتها و”أميرة” المندهشة مثلهن متابعين مغادرتها، فهتفت الأخيرة بتسائل :
– هو أبن عمي لحق يعرف حد هنا يا ماما !

تنهدت “رقية” في صمت قائلة بثبات رغم ضلالها:
– الله أعلم يا ميرو .. ممكن يكون في شغل بينهم ولا حاجة ..

——————–

تقابلت عيناها بعينين رب عملها فتنحنحت باضطراب، ثم افسحت الطريق أمامه من أجل عبوره لغرفة ابنته في حادث فريد من نوعه، ثم راحت تردف بوقار :
– أهلا سيد “مرتضى” .. أتفضل !

مع هتافها رفعت “مرام” عينيها المنذهلة تتأكد من صدق ما سمعته، وبالفعل تأكدت على أثر خطاه للداخل وتلاقي عينيهما معا في صمت فرض عرشه على الأجواء، قاطعته “أنيسة” بصوت مرتبك وهي تهم بالمغادرة :
– أاانا افتكرت أن “أديل” لسه متغدتش لغاية دلوقت .. عن أذنكم !

رددتها وسحبت الباب خلفها حتى تهيئ لهما الخصوصية، داعية الخالق بمرور وقتهما على خير وليس كأغلب لقاءتهما المشحونة ..

مع حديث عيناه الحانية والمتلهفة للأطمئنان عليها وحديث عينيها المجلدة لذاته بعتابٍ لاذع تمادى بهما الوقت، لم يتجرأ إحداهما على قطعه وبدء الحديث إلا ابتسامة “مرام” المتهكمة وقولها الفج عقبها :
– متفرحش لسه فيا النفس ومستسلمتش !

اغمض عيناه بآلم إجتاحه وأزهق روح أبوته، ثم راح يتجرأ تجاهها ببعض خطواته قائلا باستياء:
– ليه متقوليش أن كأب قلقت عليكِ .. وجيت اطمئن أنك بخير بعد اللي سمعته ..

اجابته مسترسله بنبرتها التهكمية :
– سامحني .. بنتك قاسية وبتقابل حنيتك دايما بجمود !

تابع خطواته مرة أخرى ببطء حذر وهو يهتف بنبرة حزينة نادمة:
– لا بنتي مش قاسية ولا جاحدة .. أنا اللي مقصر في حقك كتير ..
ثم تابع حديثه قائلا بعاطفة :
– “مرام” ليه دايما حاطة جدار بينا وبتحرصي لو طوبة وقعت منه أنك تبنيها من جديد ..
مسترسلا بتوسل ورجاء :
– ارجوكِ يا بنتي انسي اللي فات وتعالي نفتح صفحة بيضة نبدأ فيها من جديد.. نفسي اشبع من قربك ليا ..

على أثر حديثه قامت تواجهه بحدقتيها الضيقة قائلة بهجوم محفز :
– أي جديد تقصد حضرتك .. الحارس اللي لسه باعت تجيبه من ايام عشان يضيق الحصار حوليا بصلحياتك المفتوحة ليه لدرجة أن رفع أيده عليا في وجودك .. ولا شغلك اللي بترجاك طول سنين كتير تبعد عنه ولسه ماشي فيه وعمرك ما هتتخلى عنه حتى لو وقعت من طولي قدامك .. أي جديد ده وكل اللي حوليا حرام في حرام .. أي جديد ومراتك الشيطانة دي في حياتنا كل لما بنضف حواليك بترجع توسخه من تاني .. أي جديد ده بالله عليك قولي !!

رددت جملتها الأخير وهي تهوى جالسة على فراشها مرة أخرى تنساب العبرات على وجنتيها بشهقاتٍ متفاوتة، ردعت حريتهم براحتيها حتى اختفى وجهها بالكامل عن حدقتيه المتأججة بألمه الداخلي ..

اتخذ خطاه المتبقية بينهما، ثم انحنى إليها رافعا راحتيه المرتعشة والمشتاقة لتملك بنيتها بين ذراعيه في امتداد عناق أبوي حرم عليهما في حياتهما كحرمة الدم بينهما ..
ثم شرع يلمسها قائلا بنبرة باكية متوسلة :
– ليه تأخدي الأمور كده .. ليه متقوليش أن بحبك .. بحبك لدرجة الطمع أن مش عاوزك تبعدي عني لحظة واحدة حتى لو أجبرت على عمل افعال من جوايا مش راضي عنها .. ليه متقوليش أن بعملك حياة كريمة وبأمن مستقبلك بدل ما كلاب السكك تنهش لحمك من بعد موتي .. ليه !

انتفضت مرتجفة تبتعد عنه ما أن شعرت بلمساته وراحت تطالعه بيأس وأسف .. فأن كان يظن بأنها لاتشتاق لذلك العناق مثله ويفوق فقد اخطأ .. بل هي دائما عاتبه جالده لنفسها على حديثها بتلك الطريقة العقوقية معه .. ولكن بافعاله الشيطانية هو وزوجته لم يطرقا لها خيار .. فهو ما زال مثل ما هو بتفكيره العقيم عن الأبوة في توفير الجاه والقوة حتى لو اتخذ إجساد ضحايا أبرياء لا ذنب لهم جسرا لتحقيقهما ..
إذا لا تغير ولا عاطفة مستجدة به كما يزعم .. عاتبت نفسها على لحظات ضعفها وحديثها الغير مجدي الذي دائما تجود به عليه لعل الهداية تقع بقلبه ليقابله دائما بجموده وخلو مشاعره .. إذا لا فائدة كما أخبرتها والدتها .. لا فائدة مطلقا .. لذلك أيقنت بأن قرار الهروب هو خير حل للجميع وستعافر به حتى أخر رمق بحياتها ..

ابتلعت ريقها ثم جاهدت لاخراج صوتها المجروح بإباءة وشموخ :
– متقلقش حضرتك أنا بخير .. وزي ما أنت شايف شوية جروح بسيطة هحرص بإذن الله أنها تخف بسرعة عشان أكمل اللي بدأته…

ثم استأنفت بثبات وقوة وهي تمحي أثر الدمع عن وجنتيها بظهر يدها:
– اسفة مضطرة أقطع اللقاء الأبوي الحاني ده على حضرتك .. لأن جسمي محتاج الراحة !

لملم أنامله المنفردة بالفراغ في بوادر قبضة قوية كادت تهشم عظام يديه، لينفس به عن غضبه الذي اعتلاه من استمرار تعند ابنته الراسخ بعقلها وإقامة الحرب بينهما دائما ..

اندفع بضيق يخرج من الغرفة بتعابير جسده النافرة، تاركها خلفه تهوى مرة ثانية تجهش في بكاء حار فاضت به حدقتيها دون حقن له، فالأن هي وحدها بعد أن غادرها، فالتقلع رداء القوة والإباءة عنها ولترفع إذا رآية وهن الروح ورثاء النفس في يُتم الأمومة وغياب الأبوة ..

————————-

هبطت لاستقبالها وأيضا لاشباع رغبتها الفضولية بمعرفة هوية تلك الضيفة .. اقتربت من غرفة الاستقبال حتى تجاوزت بابها المتوارب .. وبعينيها العسلية القاتمة خلف نقابها بدأت رحلة تشخيصها لتلك الفتاة المولية لها ظهرها من أخمص قدميها وما يعتليهما من حذاء ذو كعب رنان وبنطالها الجينز الملتصق بساقيها كعاشق ومعشوق، يعلوه .. لا يعلوه شىء !
فالخصر مفصل بدقة متناهية يخاصم كنزتها الشحيحة بقماشها وسمكها .. فبأي حقا يلفظ عليها كنزة وهي بذاك القصر والشفافية !
والأدهى أن تنهي رؤياها على خصلات شعر نارية بتمويجاته الغجرية !

ابتلعت ريقها ببطء مع شعور الأخرى بوجود أحدٍ ما خلفها فاستدارت تقابلها بصفحة وجهها المزينة بالألوان الصناعية المزيفة تحتضن عدة ملفات تخص العمل .. وذلك ما زاد الطين بله كما يقولون حين أندلعت نيران تجهل منبعها بصدرها وفؤادها، اجبرتها على عدم تبادلها الابتسامة والترحاب كما يجب حتى لو بقليل من النفاق !

ربما لأنها تعلم بحرمة النفاق أخفقت باجتيازه !!

ولكن لمّ تحتاجه .. وما اساس فواحة البركان النابضة تلك بداخلها !!

تعجبت من حالها كثير فبعض فتيات مجتمعها كاسيات عاريات كجنس التي أمامها .. و رد فعلها دائما تجاههن هو التضرع الخفي للخالق بهدايتهن لحفظ جسدهن من بصيرة الأندال دون أن يختلج صدرها ذلك اللهيب المتشعب بخلاياها .. فما المستجد الآن !

علمت الإجابة حين اندفع الاجنبي خاصتها من العدم واخترق المشهد بتجاهل لوجودها، يغدق بكلمات الترحاب لضيفته التي بادلت حديثه بغنج الساقطات وصوت مصطنع يكاد يكون بسمك الخيط ..

– مرحبا .. لقد كنت بانتظارك !

– عفوا مستر “علي” اتمنى أن أكون جئت بموعدي ..

بابتسامة عريضة مع خضرة عينيه ضحى إشراق وجهه قائلا بهدوء :
– لا عليكِ حتى وإن انتظرتك قليلا ..

مع اختراق كلماتهما لأذنيها وما تشاهده بعينيها الجاحظة تراخت ذراعيها جنبا بهجوم محفز، حين نهشت مخالب النيران صدرها بتعالي دون رحمة، حتى كاد يخرج من انفاسها لهيب ناري كالتنين يلفعهما معا ..

لا تلك الفتاة فقط .. وحبيبها تتمنى إلحافه برداء السلامة رغم رغبتها القوية بإطاحة فكه المبتسم بخبث الأن !

إلا أنها فوجئت به يلتفت إليها متجاهلا ما بها عن عمد قائلا ببرود لعين :
– أسف لإزعاجك أنستي .. يتاح لكِ الخروج الأن وأخذ الباب معك ..

أنستي .. والباب معك !!!!

ذلك كثيرا عليها حقا فوق ما اعتراها !

نصبت قيامته !

وفتحت جهنمها لهما بترحاب !

فالأن علمت بأن مستجدها هو ..
غيرة شديدة كانت تجهل وجودها بخفاياها ضحت بسخاء في دماءها .. رافقت تعبيرات وجهها المشحونة .. ورغبة تحفذت بداخلها لتنفيذ جرائم جنائية في الحال !

ومع هذا جاهدت بكل عزمها لمحاربة ذلك الشعور الإبليسي وترويض النفس بما يرضي خالقها، وستقتدي بغيرة أم المؤمنين عائشة الإيجابية لا بغيرة حواء السلبية وستدافع عن ارضها بحرب شريفة عفيفة دون استسلام !

ازدردت ريقها وحركت خطاها بجرأة لم تلمسها بين أفعالها من قبل وهي تعبر للداخل تتخذ أقرب مقعد ملاذا، قائلة من بين اسنانها المضغوطة :
– لا ما أنا هقعد معكم ..

ثم عقدت ساعديها أمام صدرها قائلة بابتسامة صفراء لهما معا :
– وهكون عزولكم .. أقصد حائلكم لما تخلصوا شغلكم ..

ثم ضغطت بحنق على حروف كلماتها الأخيرة عن عمد وهي ترمقه هو لا هي بضيق حدقتيها المقذفة بالجمرات :
– ولا هعطلكم سيد “علي” !

———————–

 

error: