العميل 101.. أحفاد الثعلب 2

الحلقة الثانية عشر ..

حدجها بحدة وهي تتابع حديثها بغنج خافت:
– وكمان باقي البيت كله نايم ومحدش بينزل تحت دلوقتي .. فخلينا نستمتع بالدقايق دي ونروي شوقنا لبعض !

جاهلة انصات أحدهم لهما من خلف الباب يكاد الجنون حليفه بعينين تتسع .. وتتسع من هول ما سمعته الأذن .. حتى كادت شهقت صدمة تتحرر من فاهها المنفرج، ألجمتها براحة يدها المرتجفة، رافقتها موج دمعات قاسية لاطم وجنتيها دون رأفة أثناء توالي صوته الحاد رغم خفوته :
– أي شوق بتتكلمي عنه أنتي مريضة .. وبعدين هي دي كل مشكلتك أنهم يشوفوكي وبس .. طب واحترامك لجوزك و لبنتك ولنفسك من قبلهم فين !!

  • “ياسين” أنا مش مريضة وفوق من الشعارات الرجعية دي وافهمني كويس .. في مشاعر فريدة بتتخلق جوانا بين يوم وليلة تجاه ناس معينة مبنقدرش نتحكم فيها ولا لينا يد أنها تجيلنا .. وأنت الوحيد اللي قدرت تحرك المشاعر دي جوايا وتخرجها للنور . . وبكلمة منك هتخليني اتغاضى عن وجود “مرتضى” نفسه واتحدى أي ظرف ليا ويمكن العالم كله كمان .. أيوه يا “ياسين” متستغربش أنا فعلا بحبك !
    هي أه المشاعر دي ظهرت في وقت قصير بس صدقني مشاعر ناضجة مني لشخص وشخصية كنت بحلم إن أقابل واحدة زيها من زمان .. فعشان خاطري افهمني بقى ومضيعش علينا اللحظة لاننا مش هنعرف نعوضها تاني ..
  • صدقيني أنا فاهمك .. وفاهمك كويس قوي كمان .. فاهم أنك هيئتي الوضع كله لرغبة دنيئة مشمئزة جواكي واللي مش موجودة إلا في دماغك دي وبس ..

مستأنفا بتهكم :
– عارفه ليه ! .. لأنك نسيتي تعملى حساب أهم شيء في احتياطاتك دي كلها .. وهو أن العربي الرجعي اللي قدامك مش مهيئ للي في دماغك لو السما اطربقت على الأرض ..

مع توالي انصاتها لحديثهما بإتقان مست صدمة زوجة أبيها من حدة صوتها :
– أنت بتقول أيه ! .. ااانت أكيد بتهزر ! .. بقى أنا أقولك بحبك وانت ترد عليا بكلامك ده .. دا أنا عمري ما طلعتها من قلبي صادقة زي دلوقت ولا أنت كمان تحلم بواحده زي تقولها ليك .. حتى مافيش حد قدر يرفضني من غير حب قبل كده بمجرد ما بشاور له .. ولا حد يقدر طول ما أنا عايشه .. فاااااااهمني طول ما أنا عايشه ..

  • ممكن فعلا يكون محدش قدر يقولها ليكي قبل كده بس تبقي غلطانه لو فكرتي أن مفيش حد هيقولها .. لأن أنا جيت وقدرت أهو .. يا ريت تتعودي بقى وتبعدي عن طريقي خالص !

تعالت صرختها :
– عمر ما اتعودت على حاجة أنا مش مقتنعة بيها .. والايام هتثبتلك صحة كلامي .. لحظتها هتندم يا “ياسين” صدقني .. وها تيجي لغاية عندي راكع ..

مع اصرار فجورها ارتعد جسدها عند هذا القدر، ولم تستطع الأنصات لذاك الحديث المقزز أكثر من ذلك، فرّت تهرول بحذر لغرفتها وهي مازالت تكتم شهقاتها التي باتت تخرج بتلاحق دون سيطرة عليها حتى ضمتها جدران غرفتها .. حينها فقط رأفت بحالها واطلقت العنان لعويلها ولشهقاتها معا .. والذين أفزع العجوز من نومتها داخل فراشها حين نهضت تردد بتوجس:
– “مرام” في أيه يا بنتي كفى الله الشر ..

إلا أنها لم تجيبها ومضت تتهاوى بجسدها أرضا تحتضن ساقيها بساعديها وشهاقتها المرتفعة لم تتوانى عن الجلجلة ..

انتفضت العجوز تركض تجاهها بذراعيها المنفرجة لتحوطها بعناق أمومي وهي تردد كل ذكر من القرآن والسنة يتراود على مخيلتها في التو واللحظة :
– أية يا بنتي اللي قومك من جمبي .. وبتعيطي ليه كده هو أنتي شوفتي كابوس ولا أيه ..

تدثرت ببنيتها المرتجفة في أحضانها تستمد القوة والأمان هامسة :
– يا ريت كابوس كنت قلت أهو حلم والسلام ..

ثم تطلعت إليها بعينيها وغشاء الدمع يحيطهما هاتفة بنبرة مضطربة وروح منكسرة:
– اللي شوفته العن .. اللي شفته أن كرامة والدي بتنداس في الأرض بكل حقارة من واحدة واطية اعطاها اسمه وشرفه وسمعته .. والكارثة أنه عارف بافكارها وبكل عمايلها ومعرفش ساكت ومتكتف على كل ده ليه ..

ابعدتها عنوة عن صدرها وهي تطالعها بترقب والقلق يغلف نبرتها :
– أنتي شوفتي أيه بالظبط يا بنتي ؟!

غمرها موج العبرات مصرحه :
– شفت يا دادة الخاينة بتعرض نفسها عليه بكل بجاحة وسيطرة منها .. أكنها بتقوله غصب عنك هشبع رغبتي الوضيعة سواء وافقت أو لا ..

ثم زاغت ببصرها عنها وهي تهتف باندهاش :
– بس تصدقي مع قوتها وسلطتها وجمالها رفضها بكل احتقار واشمئزاز وذل انوثتها .. حافظ على غيبة والدي وبنتها ونفسها اللي هي محفظتش عليهم مع أنهم أهلها هي مش هو !

همست العجوز بتنهيدة مريرة :
– ” ياسين” !

حينها تحجرت دمعاتها وتباطأ شهيقها وهي تهتف بذهول :
– أنتي كنتي تعرفي !

انخفضت المسنة بعينيها صامته، فلاحقتها “مرام” بصوتها الهادر وعبراتها المتلاحقة مرة أخرى:
– انطقي يا دادة “أنيسة” في حاجة حصلت قبل كده وانتي مخبيه عليا ..

رفعت عينيها تدلو بعجالة :
– والله يا بنتي مرة وبالصدفة .. بس ربك والحق رغم اللي هي عملته وقتها .. ربنا يحميه طلع راجل من ضهر راجل وعرف يصدها يومها بكل أدب وأخلاق لما زاد في نظري أكتر ..

ابتعدت عنها وهي تحيط جانبي وجهها براحتيها معارضه بصخب :
– كفااااية .. أقسم بالله كفاية لغاية هنا ومعنتش قدره استحمل أكتر من كده من والدي .. والدي اللي هيموتني ويقهرني من سكوته و حالته دي .. انا خلاص تعبت .. بجد تعبت ..

ثم صمتت ما أن شردت لوهلة صاحت على آثارها تستقيم من جلستها وهي تهتف بإصرار :
– أنا فعلا معدش ليا قاعدة هنا أكتر من كده .. المكان كله بقى لا يطاق .. ولو فضلت لأما هدنس زيهم .. لأما هموت مقهورة بجد ..

ثم راحت تبحث عن ضالتها حتى وجدته، ورفعته على أذنها بعد أن ملأت شاشته برقم ما وأملت عليه ما تحتاجه في وسط نظرات العجوز الجاحظة ..


اصابه بسهام نظراته المندهشة وهو يهتف مستفسرا:
– أنت بتقول أيه يا “أمير” .. معقول اللي بتقوله ده طب وأنت !

تخلى عن مقعد مكتبه وهو يتوجه للأخر الذي أمامه مرددا باهتمام:
– افهمني يا “حسين” شغل القاهرة هيكون مشترك بينا يعني برضه هنفضل مع بعض وهتلاقيني مقسم الأسبوع ما بين هنا وهناك وعمرنا ما هنفترق .. لأن بصراحة نقله كبيرة زي دي مينفعش تترفض .. للشركة وليك أنت قبلها من مستقبل ومكانة أفضل بكتير من هنا ..

انتكس رأس “حسين” صامتا، بينما تابع “أمير” متمتما :
– أنت عارف يعني أيه تبقى المدير الأداري لمشروع زي ده يعني أنا والحكومة وكل المنظمات البترولية ومش استبعد كمان منظمة الأوبك الدولية بصرف النظر عن الفروع التانية زي البحث عن هياكل الطائرات لو سقطت في المحيطات بسب حادث ما وعن ثروات باطن الأرض كلها من آثار لاحجار كريمة هنكون كلنا تحت توقيع منك أنت و”علي”..

تسلق نظر “حسين” إليه ببطء مندهشا، فاجابه “أمير” بتنهيدة عميقة :
– أيوة يا سحس أنا فكرتها كده لأن لو شفت فيها مصلحة لشركتي بس عمري ما كنت هوافق حتى لو كان الرفض ده هيتوقف عليه شغل وتعب شهور من الحفر ويا عالم هنلاقي بعدها بترول ولا لا ..

ثم راح يدنو بجزعه العلوي تجاهه وهو يقبض على كاهله بقوة مقحما حدقتيه في عينيه وهو يردف باصرار:
– وافق يا “حسين” على النقلة دي علشان من سنين عشرتي معاك .. لقيتك بجد تستاهلها جدا يا صاحبي ..


دلفا معا لمبنى إدارة شركات الثعلب التجارية رافضان الراحة من عناء السفر فلديهما أعمال هامة تجبرهما على ذلك ..

تجهيز مكان يحوطه الأمان التام للعلماء الوافدين ووضع خطة الأطمئنان على ما يحتاجونه خلال رحلة أقامتهم داخل البلاد ..

اجتماعات متلاحقة دون كل أو مل من أجل اتمام ما يحتاجونه لبدء فعاليات التنفيذ لذاك المشروع الذي لن يشهده البلاد مرة أخرى .. بجانب اتصالات مفتوحة مع الحكومة والرئيس ذاته للوقوف على أخر التطورات بين الجانبين وامدادهم بالعون الأمني إن احتاجوا لذلك ..

مع تشابك خيوط النهار بخيوط غريمة الليل اسقط القلم من بين اطرافه بإرهاق شديد ثم راح يلتجئ إلى ظهر مقعده لتمديد جسده المتشنج وهو يرفع راحتيه يمسح بهما وجهه، انهى مطافهما بازاحة بعض الخصلات المتمردة على جبينه للخلف ..

بادره العجوز المحتل لأحد المقاعد أمامه بارهاق مماثل :
– تعبنا اليوم حقا ..

على ذات وضعيته قال معاتبا :
– قلت لك أذهب واسترح في بيتك أيها العجوز وأترك لي الأمر سأتكفل به وأنت لم تنفذ ..

رمقه “شاكر” بنظرة جانبية ثم أجابه على مضض:
– كيف أترك بني بكل هذا وحدك حتى وإن كانت سنوات عمري الكثيرة تعاندني ..

أعتدل “علي” يطالعه برأفة لوهلة متمتما بامتنان:
– شكرا لك .. واعطاك الله الصحة والعافية ..

ثم واصل حديثه متذكرا :
– نعم .. لقد تذكرت شيء مهما الأن !

هتف العجوز مهتما :
– ما هو ؟!

حدجه “علي” هاتفا :
– أريد تجهيز بناية متكاملة لأجل إدارة المشروع ..

بعينين نضح دهشتهما إجابه مستفسرا :
– توجد بناية مهيئة خاصة بمجموعاتنا بالفعل لاداء غرضك، ولكن من سيتولى إدارتها ؟!

  • ستعلم في الوقت المناسب !

بادره باستفسار أخر :
– “علي” لماذا أجتمعت بالسيد “أمير” طالما “حسين” اعطاك رفضه !

إلا أنه أصر على غموضه متمتما :
– جميع اسئلتك أيها العجوز ستكون اجابتها واحدة عما قريب .. لا تقلق !

ثم طالعه بحده ماكره مضيفا :
– الأهم لدينا الأن هو استقبال الوفد العلمي وانهاء ما يحتاجه في الغد، حتى نتفرغ لموعدنا المسائي فالثلاثة أيام حينها ستكون نفذت ..


ولج لملحقه وهالة الاندهاش تطوقه بسياجها، فحقا صعق من فجورها الذي لا دين يبيحه، ولا شيءٍ يردعه حتى لو لم يكن بينهما حديث من قبل أو أي علاقة عابرة .. فقط عُرفها السائد ما تعجب به لابد أن يأتي إليها راكعا ما أن تسمح دناثتها بذلك .. هكذا اعتادت الأمر .. لا للرفض في قاموسها !

استغفر ربه ماضيا يبعد قميصه عن جسده بنفور ما أن تذكر قربها به كأنها باتت وباء معدي لا ترياق له، ثم راح يتطهر من لمساتها بالوضوء وأقامة ركعتين في أحد زوايا مسكنه الذي حصنها من نفوذ عدسات المراقبة !

————————–

حمد خالقه كثيرا بأن تلك الساعات العديدة مرت في ضغط العمل والاطمئنان على تنفيذه كما يبغى، وها قد انتهى اليوم الثالث وأتت اللحظة الحاسمة !!
سيسخر منه الكثيرون بأنها أياما قليلة لا تعد، ولكنها على قلبه مرّت كدهر يطوقه البركة .. متعجبا في ذاته بأن كلما ابتعدت عنه كلما زاد عشقها بداخله ألاف مؤلفة .. وشعر بغربة المكان من حوله .. يتمنى رؤيتها باستماته وبذات الوقت يخشى عقابها بنفور .. كالطفل كان ومازال في رحاب ملكوتها !

وها قد دُق الناقوس ليعلن عن قدوم الوقت المعلوم فأما أن تكن له برغبتها .. وأما أن تكن له بغير رغبتها !

نعم صغيرتي ذاك أنا، ولا خيارا ثالث بيننا !!

فعقب جفاء بعدها منذ أن وطأة اقدامهما تلك الأرض، ليزيدوهم تلك الثلاث والأمر بات محسوما ..

لا يستطيع البعاد عنها .. ولا يهواهُ !

ولكن لرغبة رجولية مُلحه بداخله رضخ لقرار العجوز حتى يشبعها بسماع صوتها العذب، ورؤية إيماءتها الوردية الخجلة وهي تدلي بها في حقه ..

نعم .. أرغب بك !

سمعها من كل النسوة إلا هي، ومع ذاك منهن لا تلذذ بها، ومنها سيرتشف حروفها رشفا من على شفتيها بعد أن ينتقم لتلك الثلاثة ايام التي استغرقتهم في قولها المنتظر !

على خاطرته ابتسم وهو يلقي نظرة متمعنة امام المرآة على هيئته الجاذبة وشذى عطره النفيس ثم هما مغادرا كفارس يستعد لغزو حصنها ..

أخذه السائق للدار الذي خرج منها منذ ليالي قليلة مكفهر الوجه، رث الروح .. ليدخل على أهلها بسلامًا أمنين !

دلف لغرفة الاستقبال بعد أن أخبرته أحدى الخادمات بانتظار الجمع له .. العجوز والسيدة الحنون كما توقع برفقتهما رجلا اربعيني يزين وجهه العوينات الشفافة لا يعلم هويته !

مع تقدمه وإيجادتهم بالترحاب علمّ حينها بأنه الطبيب “أحمد” زوج ” رضوى” ابنة عمه، والذي حضر إليهم بعد أن جرفه أحد المؤتمرات الطبية خارج البلاد لشهر كامل ..

تشعب احاديثهم وتوطدت أرواحهم فزادتهم ألفة، قطعه همس العجوز بضرورة الصعود للأعلى لجلب رأي العروس وعرضه على صاحب الشأن في حضور الجميع !

أجواء تفعمت بالغام الترقب والقلق وبحبس الانفاس أعقبت قول “شاكر” .. افقدت الأجنبي تركيزه في الحال لاستكمال ود حديثهم وهو يكللها بالنظرات المتوالية على الدرج المؤدي لطابق معذبته ..


” بثوب شديد البياض اقدم عليها بكرسه المتحرك وبابتسامته المشرقة التي طوقت وجهه المنير، ما أن تمعنت بشخصه حتى غمرها البهجة وانفرجت اساريرها من فرط السعادة لرؤيته سالمًا معافًا أمامها، كأن يد الموت لم تطوله وهلة من الزمن، أقبلت تجاهه بلهفة دون إنتظار قدومه، فتلك رغبتها الدفينة منذ فراقه .. فقط رؤيته وهي ستبذل كل ما في وسعها للوصول إليه لنيل عناق ممتد تتوق إليه بشدة ..
وقد نالت ما سعت إليه عندما دفست معالمها بصدره لتروي ظمأها بنهم .. لم تعي كم لبست في ذلك العناق، الذي بغتت عقب انتهاءه بيديه الاثنان تمتد تجاهها بطائر سلام ناصع البياض مثل ملبسه، وهو يهتف في حبور :
– دي هديتك مني عشان رجعتيه ..

أنهى جملته وهو يرمي بنظراته تجاه شخص لا تبصر هويته، ولكنها تراه خاشعا على سجادة الصلاة في حرم عدد من الركعات المتتالية بأحدى الزوايا القريبة منهما .. والذي ما أن انهاهم باطمئنان حتّى توجه إليهما باشراقة جذابة يزينها غابات عينيه الخضراء ..

فصاح صوتها مندهشا بسعادة وهي تعود ببصيرتها إليه:
– دا “علي” يا جدو .. هو أنت عرفت أنه رجع أزاي ؟!

عند نهاية جملتها كان قرب “علي” لها وشيكا يزيده بنظرة عاشقة تُذيب خلاياها، كللها بإحاطة خصرها بأحد ذراعيه وطبع قبلة عميقة على جبيبنها بإمتنان .. تزامنا مع قول العجوز له برجاءٍ:
– ساعدها يا ابني في شيل هديتها .. وخلي بالك منها .. هي أمانتي عندك ..

تطلعَ الاثنان معا لعطيته، فتفاجأ بأن ذاك الطائر بين يديه أصبح بغتة طفلا حديث العهد في لفافة بيضاء تزيد جمال عينيه الخضراء جمالاً .. حملاه معا بلهفة محب مشتاق دون تباطأ يحيطهما السعادة الغامرة، وهي توزع نظراتها المنذهلة بين الصغير وشبيهه الأجنبي بجوارها، حتى بغتت في غفلةٍ منها بتسرب الجد من أمامهما للأبد ”

  • سرحتي في أيه ؟!

استفاقت من شرودها في تلك الرؤيا التى عاشتها في منامها عقب صلاة الاستخارة على جملة “شاكر” الذي أحتل غرفتها بصحبة شقيقتيها “رضوى” و “أميرة ” لأخذ موافقتها .. محت دمعه تدللت على وجنتها دون إدراك اسفل نقابها وهي تهمس بشجن :
– مفيش ..

فتوالى “شاكر” بقوله مرة أخرى على مسامعها :
– طب مقلتيش ليه رأيك لما سألتك !!

بهالة حياء احاطتها من خصلات شعرها لاخمص قدميها رغم تسترها الكامل امامه أجابت بخفوت :
– موافقة يا جدو “شاكر” على “علي” !

ما أن تأكد مما سمع تفشت ابتسامة تملكت من شفتيه قائلا بارتياح :
– مبارك يا “هنا” .. مبارك يا بنتي ..

قالها ثم غادر جلستهم لاخبار المنتظر على مقود من الجمر بالأسفل، بينما ترك شقيقتيها يجودان عليها بالمباركات المحملة بمشاعر جياشة من السعادة ..

مع رؤية هبوطه استقام “علي” بترقب يقطع حديث “رقية” وزوج ابنتها، الذي لم ينصت لفحواه مطلقا من شدة توتره، مما أرغمهما على بتر حروفهما والتطلع لبؤرة اهتمامه، والتي أضحت بأنها العجوز الذي اقدم على جلستهم يقف أمامه بوجه هادئ بشوش مهللا بسعادة :
– مبارك “علي” .. هي لك دون إجبار .. هي لك بني !!

موج فرحة عارمة زار شطَّئنهم أجمع، وشاطئه هو خاصة مما ازاح ثوب القلق والتوتر عن كاهلة، غير مستوعبا بأن محبوبته قالتها برغبتها الكاملة في حقه .. ليزيد فرحته العارمة قول العجوز وهو يربت على كتفه ببطء:
– هيا نقرأ فاتحة الكتاب لتحيط ارتباطكما بإرادة الخالق بركة و سعادة .. ثم نحدد موعد كتب الكتاب ..

والتي ما أن تمت بحمد الله بواسطة الرجال ومشاركة والدتها، حتى راحت الأخيرة مغيبة من أثر بهجتها تطلق أحدى الزغرودات الصاخبة بترت استرسالها ما أن تذكرت آلم ابنتها الثانية ..

ولكن ما صدمها ليلاحقها صدمة الجمع هو استكمالها متناغمة من قبل “أميرة” و ” رضوى” وهما يشهدتان بسرورٍ شديد من فوق الدرج على فرحة شقيقتهما الصغرى وفرحتهما بها قبلها ..

————————–

ظلت تجوب غرفتها ذهابا وإيابا بجنون ملامحها وحركاتها العشوائية اللا إرادية، ينقض عليها كل حين مشاعر داخلية متناقضة، فتارة تجز أنيابها بوعيد الانتقام، وتارة ينخرها عشقه بلا شفقة لتتمنى نيله بين يديها الأن بأي طريقة كانت .. ولكن ما كان يطمئن فجورها يقينا راسخ بأنه يحتاج لتخطيط فريد من تخطيطاتها حتى يأتي إليها راكعا ذات يوم ..
نعم هكذا روضت رغبتها المتأججة بداخلها ..

مع علو رنين هاتفها بذات الوقت تملل “مرتضى” من غيبوبته المؤقتة، فعلى ما يبدو بأن تأثير المخدر بدأ مراسم وداع الجسد، لذلك هرولت تكبت صوته وهي تشاهد بشاشته ما جعل قلبها يخفق خوفا، مما ارغمها ان تجيب بنبرتها المرتبكة على صاحبها سريعا :
– مرحبا .. نعم راشيل معك ! .. الغد بتلك العجلة ! .. حسنا ! .. حسنا ! .. إلى اللقاء !

————————–

  • يعني أيه يا ماما تعملوا كتب كتابها بدون أي أحتفال ولا معازيم .. طب على الأقل نعزم عدد محدود من قريبنا ..

صدح صوت “أميرة” بوجوم صريح وهي تردد تلك العبارة بعدما انفردت بوالدتها في غرفتها المغلقة، بينما الأخيرة جذبها لب الحديث موضحة :
– بصراحة من الأخر كده يا “أميرة” يا بنتي .. كلنا حتى “علي” لقينا أن ده أفضل حل لظروفك ..

بمعالم مستنكرة قالت باندهاش :
– وأنتم شايفين ظروفي مالها .. ما أنا الحمدلله بقيت كويسة أهو قدمكم !

ثم استرسلت بتحدي للذات :
– لا .. ومش بس كده دا أنا من بكره هكلم جدو “شاكر” و”علي” كمان على أي شغل يشغلني من تفكيري ويخليني مقفش على عتبة الحزن دي أبدا ..

اقتربت “رقية” تقبض على ذراعيها بحنو وعينيها ولسانها يشعان ذهولا :
– اللي أنتي قولتيه دلوقت بجد يا بنتي !

هزات متلاحقة ترقرق عينيها حينها بالعبرات وهى تؤيد على حديثها :
– أيوة يا ماما بجد .. أنا خلاص الحمدلله قررت احتفظ بلون ذكرياتي الغامق في مكان خفي داخل قلبي وأشوف بقى اللون السماوي لحياة بنتي وحياتي معها ..

ثم بتنهيدة مريرة أكملت :
– ما هو ياريت الحزن بيرجع اللي راح كنت زماني احتفظت بيه وزودته كمان .. بس فعلا مش بيزودنا إلا هموم وتعب وحسرة وعدم الرضا على أن ده نصيبنا من ربنا .. وأنا مش عاوزه اتحسر يا ماما أبدا وأخسر ديني .. أنا عاوزه دايما أفضل حمده ربنا وشكراه على عطياه ..

على آثر كلماتها جلبتها بين ذراعيها وهي تمسد على ظهرها بحنو راحتها وحروفها تتوالى :
– من حمده زاده يا “أميرة” وصدقيني ربنا كرمه واسع قوي وإن شاء الله هيكرمك أخر كرم بدال حمدتيه وشكرتيه ..

ثم راحت تبعدها من احضانها قليلا للخلف وهي تردد بوجه مشرق مبتهج :
– أنا سعيدة قوي أن جه عليا اليوم اللي سمعت منك الكلام ده يا قلب ماما ..

رفعت طرف أناملها تمحي أثر دمعة تحررت بأهدابها وهي تجيبها بإصرار :
– كان لازم يجي اليوم ده .. كان لازم يجي حتى لو غصب عني عشان مكسرش فرحة أختي اللي مش عاشتها الا بطلوع الروح .. “هنا” صغيرتنا تعبت يا ماما وانجرحت في ظروف جوازها ولازم نتكاتف كلنا عشان نفرحها على الأقل لو بشيء بسيط ..

لم تصدق ما سمعته بأذنيها فجذبتها مرة أخرى لتوسد صدرها وفيض الدمع ينسال على وجنتيها وهي تهتف بتضرع لخالقها :
– ربنا يسعدك يا بنتي ويعوضك خير ويحفظكم ليا انتي واخواتك وأولادكم يا رب ..


في صباح اليوم التالي ازاح عن عقله عناء التفكير فيما حدث بالأمس بحمام دافئ أعاد توازنه ليوم شاق ينتظره بصحبة المشاغبة ..
افتتحه بممارسة عادته الصباحية في وسط الخضرة الندية ونسيم البُكرة فبغت بها تسير أمامه شاردة بغير هدي تحتضن بساعديها ما يستطعان اطالته من جسدها بعد أن أكل الحزن معالمها .. تعجب في نفسه وتملكه الدهشة فبحالتها تلك لم تكن تلك الشرسة المعارضة الذي عاشرها تلك الأيام .. ومع ذلك راح يستكمل بعيدا عنها رياضته دون مبالاة لحضورها فأخر ما ينقصه الأن هو اندلاع مشاجرة بينهما في جمال ذاك الصباح ..
ولكنه بغت باقدامها نحوه بعد أن شعرت بوجوده حولها تهتف باتزان وخجل لم يشهده بها من قبل رغم رغم شعوره بضياع روحها :
– كويس أنك هنا .. في تجمع غنائي كبير لمطرب إيطالي مشهور النهاردة بليل في مدينة البندقية .. فياريت تعمل حسابك أننا هنسافر الدهر عشان أحضرها ونرجع بكره ..

قالتها على مسامعه ثم همت مغادرة المكان بشرود كما حضرت، مما زاد معدل حيرته من طريقة حديثها الهادئة على غير العادة، وانكسار عينيها اللتان لم تنظر بهما إليه خلال مدة حديثها مطلقا ..


error: