العميل 101.. أحفاد الثعلب 2

الحلقة الثامنة عشر ..

حمام دافئ نالته وبأقل التجهيزات وأرقها استعدت للخروج .. فالمُكُوث ليوم أخر في الفراش أمرا مستحيلا .. خاصة بأن موعد تصريح الغياب من المدرسة أنتهى بالأمس، وطالما لم تهرب فيتوجب عليها مداومة العمل مرة أخرى حتى يحين الله بأمره ..

والأكثر تحفيزا للخروج هو جلب الكثير من الهدايا المنمقة والشكولاه المحببة لفاكهتها الصغرى “أديل” بعدما علمت مصادفة بحضورها اليوم من السفر أو “مريم” كما تحب أن تناديها به دائما بعد تأكدها من أصل اسمها اليهودي !

عقب وصولها للأسفل لم تشاهده بجوار سيارتها رغم أنها ارسلت بإبلاغه بالخروج في سابقة من نوعها ومع هذا غاب عن الموعد أو أكثر تدقيقا هي من بكرت قدومها لأجل رؤيته ..

لا إراديا حركت أرجلها تجاه ملحقه السكني وما أن وصلت إليه تملكها الفضول لرؤية كل شيء يخصه بحجة الاستعجال ..

دفعت الباب الحائل بينهما والذي يبدو بأنه غير موصد بالكامل .. فتحركت بعد الخطوات في بدايته ترغب بجهر صوتها مناداته ولكن صوتها أبى الخروج عقب ما أبصرته في زاوية مسكنه !

أنه يصلي !!!

لحظات كانت خلالها تنصهر .. و قلبها فقط بنبضاته الصاخبة هو الذي كان يحيا من جديد ..

يحيا بحبه هو !!

دقائق مرت مغيبة في بديع ما أبصرته، جعلتها تدمغ نفسها في طريق اللاعودة، وتنذر روحها بكل فخر لعشق رجلا مثله ..

ادركت حركة رأسه لإنهاء الصلاة، فأصابها الإرباك لوهلة ثم فرت هاربة قبل أن يدركها، جاهلة بأنه شعر بها منذ الوهلة الأولى بعد نقر حذاءها في الأرض رغم احتياطاتها ..

شيء من القلق اصابه بأن تفشي سرّه أمام والدها، ولكن تعجب عقب وصوله إليها ورؤيتها بشوشة الوجه باسمة، لا تعكس غضبا من فعله أو حتى كرها تجاهه كما العادة .. فقط حمرة وجهها أينعت نضجا، وعينيها شاردة هائمة في هيئته، فتنحح بحذر :
– حمد لله على السلامة ..

فطمأنه ابتسامتها الهادئة وقولها المرتبك :
– الله يسلمك .. جراسية لذوقك ..

تعجب داخله مما حل بها متابعا باستفسار يشوبه المزاح لجس نبضها :
– على الشغل أكيد ولا أعمل حسابي على مغامرة جديدة !

دون أن تعي تمعنت شاردة في صفحة وجهه لقليلا من الوقت ثم بتنهيدة عميقة اطرقت مغمغمة:
– أطمن .. الرياح أتت بما لا تشتهي السفن ..

طالعها مقطب الحاجبان في صمت، فاسترسلت متلعثمة وهي تزيح بعض خصلات شعرها المتمردة من أمام عينيها :
– أقصد أن “مريم” جاية النهاردة ولازم أطلع من الشغل أجيب لها شوية هدايا .. يعني أطمن جدولي مشغول ومش فاضية للهروب في الوقت الحالي !

مط شفتيه بتهكم ثم اشار إليها بالتقدم أمامه للركوب داخل السيارة وكل ما يشغل ذهنه من تصرفاتها الشاذة تجمد عقب علمه برجوع الحرباء و أعادة كرّة مخططاتها الدنيئة ..

———————–

– يا ربي مش معقول!

صاحت “ندى” المصغية باهتمام لسرد شقيقتها بتلك الجملة، ثم استطردت متلهفة :
– وبعدين عملتوا إيه في الوقعة دي .. أزاي خرجتم ؟!

فركت “أميرة” راحتيها يرافقها اهتزاز ساقها بتوتر وهي تفيض بارتباك :
– بعد فترة من خبطنا على الباب أنا سكت ومبقتش أخبط لما استوعبت صورتي هتكون إزاي قدامكم وقدام المعازيم لما تفتحولي وأنا خارجة مع راجل غريب من أودة مقفولة .. مجرد تخيل الفكرة مقدرتش استحمله عشان كده بعدت أدور على حل تاني يخلصني من ورطتي باسرع وقت والأهم من غير ما حد يحس .. خطر على بالي أن أتصل بحد منكم وتفتحولي في السر بس للأسف دورت على تليفوني ملقتوش معايا واكتشفت أن نسيته في أودة “هنا” وأنا بجهزها .. الغريب أن لقيته في نفس الوقت فكر زيي وطلع تليفونه بس للآسف متردد يتصل منه .. طبعا اللي استوعبته أنه يقصد “حسين” وبصراحة معاه حق هيشرح له موقف زي ده أزاي .. ففكرت ابعد عنه الحرج وأتصل أنا من عنده على رقم حد منكم بس اتذكرت بأنكم مبتردوش على أرقام غريبة والأهم أن اسجل أرقامكم عنده …

التوتر زاد عندي ومن غير ما أشعر بدأت التفت في كل حته أدور على أي مخرج .. بالصدفة جه على بالي فكرة الهروب من الشباك لما شوفت شباك المكتب وتدنيه من الجنينة !
لقيته أفضل حل للموقف السخيف اللي اتحطينا فيه .. وفعلا فتحته ورحت نزلت منه ..

قاطعتها “ندى” بفضولها :
– وهو عمل إيه في الوقت ده؟!

زفرت بضجر تواصل حديثها :
– طبعا حسيته استحسن الفكرة .. وقال إيه جه يمد ايده يساعدني في النزول ..

تجمد معالم “ندى” تسئلها في ذهول :
– هااااا .. وأدتيها له ؟!

– أدي إيه أنتي عارفه أن دي أخلاقنا .. طبعا رفضت ومن غير ما أتكلم أكتفيت ببصة سخرية بأن المسافة كلها متر ونص .. أتنحنح وحسيته فهم أن مقبلش حد مش محلل ليا يلمسني ..

– جدعة وبعدين ..

– مفيش لما نزلت وبدأت أبعد ألتفت ورايا لقيته نزل بعدي ولاحظت أنه خد طريقه لبوابة الفيلا على طول وهو حاطط وشه في الأرض فكملت طريقي ودخلت من الباب عليكم زي ما شوفتيني !

انفرجت معالم “ندى” المندهشة وهي تتمتم :
– يااااااه يا “أميرة” دا أنتي مريتي بموقف ماتحسديش عليه بصراحة .. عتابي الوحيد فيه أنه جه مع الشخص الغلط .. “أمير” طول سنين زواجي عرفت عنه من “حسين” أنه حد طيب ومحترم قوي يعني أخلاقه متسمحش له أبدا أنه يقصد يكون في موقف زي ده من البداية .. وأتأكدي أن لو كان لقى فرصة ينبهك فيها من الأول كان عملها بدون تردد غير عامل الصدمة ليه لما شافك كده ماخدنهوش كمان في الإعتبار ..
ثم واصلت بمرح :
– يعني من الأخر كده مكنش يستاهل أبدا تطلعي فيه الطلعة دي كلها .. يا شيخه ضميرك مش بأنبك دلوقت على عملتك خاصة أن لو أنا مكانه كنت رزعتك كفين معتبرين ..

هوت قبضتها على كتفها وهي تردد بغيظ :
– لمي نفسك دا على اساس كنت هسكتله يعملها حتى لو أنا غلطانة .. وبعدين أنا مليش في حكاية محترم ولا طيب اللي أعرفه إن في حدود محدش يتخطاها وزي ما هو تعدى حدوده بعترف كمان أني أتخطيت حدودي وجرحته جامد بفتح القديم .. بس صدقيني من غير وعي مني .. مجرد لما عينيا أتأكدت أنه واقع مش خيال وأن عقلي استوعب أنه شافني كده جالي حالة هستيريا ومكنتش عارفه أنا بقول أيه .. دا غير طبعا موضوع حبي لجدي وفقدانه اللي كفيل أن أثور أكتر من كده مليون مرة ..

– يا “أميرة” يا حبيبتي انا ذات نفسي مكنتش أعرف بموضوع جواز جدو الله يرحمه لـ “هنا” بالطريقة دي ولا “حسين” جوزي كمان لأن باختصار لو كان عارف مكنش سمح لصاحبه أن يتقدم ويتحرج ولا أنا كنت وافقت على كده .. لأن حبي لجدي زي حبكم بالظبط وعمري ما كنت هسمح بأي حاجة تأذيه .. دا أننا لازم نعترف بأن ده قدره ولازم نكون مؤمنين بيه ونحتسب شوقنا ليه لخالقنا ..

لوحت “أميرة” بيديها وهي تجيبها في ضيق :
– اهو اللي حصل بقى وماعدش ينفع الندم ..

– لا ينفع يتصلح طبعا ..

– ازاي ؟!

– أنك تعتذري له ..

صاحت “أميرة” في ذهول :
– أعتذر أيه أنتي مجنونة دا أنا مجرد ما اشوفه تاني هتنرفز تاني واطلع خلقي فيه كل لما افتكر أنه شافني كده .. بجد يا “ندى” الموضوع ده بقى خارج أطار سيطرتي الأخلاقية والنفسية والعصبية كمان !!

لوت “ندى” شفتيها مستفسرة :
– طب والحل ؟!

شردت في الفراغ متمتمة :
– معرفش .. وع العموم الحمدلله أنه من اسكندرية وبعيد عننا .. يعني مش هنتقابل بعد كده أبدا ..
ثم التفتت إليها تواصل في حبور :
– ياااااه يا “ندى” متعرفيش مجرد الشعور ده مريحني قد أيه !!

————————–

بعد انتهاء دوامها استقلت السيارة جانبه، فتحرك بها لقلب العاصمة روما على الفور في طريق طال صمتهما خلاله، وما أن ضوى اشارة حمراء من أحدى إشارات المرور الجانبية حتى توقف عنوة، مستفسرا دون أن يحيد بصره عن الطريق أمامه:
– في مولات معينة ولا لسه هندور على مكان مناسب ..

جاءه صوتها يتساءل بخفوت وكأنها لم تستمع لجملته :
– بتؤمن بكده!

قطب حاجبيه مندهشا ثم التفت تجاه بؤرة اهتمامها فشاهدها تصوب عينيها خارج النافذة تجاه ‘ نافورة تريفي الأسطورية أو نافورة الأمنيات ‘ التحفة الفنية الغاية في الروعة والجمال بهندستها البديعة ومنحوتاتها المبهرة، تلك التي تنبض بملايين الأمنيات لقلوب ملايين من البشر المتشبثون بالأمل وبالأسطورة التي تقول من يعطي ظهره إليها ويرمي عملات معدنية بيده اليمين داخل برْكتها سيبلغ مناه!

اجابها بهدوء وهو يلتفت بوجهه للطريق مرة أخرى :
– وليه الجأ لحاجة من صنع البشر .. ورب البشر موجود !

التفتت تحدجه في صمت لبعض الوقت قطعه نبرتها الخانعة:
– معاك حق ..
ثم واصلت باقتناع:
– هو اللي خالقنا وهو اللي المفروض نتوجه له بكل أمنياتنا وأحلامنا .. لأنه الوحيد اللي قادر يحققها حتى لو كانت مستحيلة !

دائرة غموضها منذ الصباح تزداد بروزا وثارت فضوله كثيرا، زفر بصوت مسموع ثم تحرك بالسيارة شارد الذهن عقب فتح الإشارة أمامه، ولكن ما أن لبث لبعض الوقت حتى جاءه صوتها منبها :
– لو سمحت يا “ياسين” أستنى هنا شوية !!

صرير الأطارات صدح عقب توقفه بالسيارة فجأة ثم راح يطالعها بمعالمه المستفسرة فشاهدها تتحرر من حزام الأمان المحاط بجسدها وتترجل من السيارة مهرولة، لم تمهله الوقت لمعرفة السبب ولكنه تحرر من مقعده يلاحقها بأقصى سرعته خشية فرارها المعتاد ..

على بعد عدة أمتار توقف مذهولا وهو يشاهدها تدعم صفوف مسيرة سلمية مارة بالجوار من أجل “دولة فلسطين” ينظمها المئات من العرب القاطنين داخل حدود الدولة الأيطالية ..
لم تترك أمامه خيارا آخر حين أقتحم الأزدحام جانبها مطلقا سهام نظراته إليها عن قرب وهي تندد بكل عزمها بالاعتداءات الغاشمة على أخواننا في الأرض المحتلة من قبل الصهاينة ..

دائرتها اكتملت غموضا أمام عقله الذي لم يستصعب عليه أمرا من قبل، ولكن أمام تلك المخلوقة فشل وبجدارة، مما أيقن بأن ما جمعه عنها لم تكن صورتها النهائية بضبابيتها المشوشة!

مضى بعض الوقت لم يستطع شيئًا أن يحيد نظراته عنها وهي منغرسة في نضالها إلا صخب الصوت وبعثرت الفوضى من حولهما، فبغت بمداهمة الشرطة لجمعهم ومحاولة القبض على الجميع بالعصي المبطنة وبصعقاتهم الكهربائية، زاغت عينيه على من حوله لاستيعاب الأمر، فأبصر مندسين استغلوا التجمع في عملياتهم التخريبية والتعدي على الممتلكات العامة، فلم يعي بأنه قبض على راحتها وهم بها مسرعا قبل أن يمسها دوامة العاصفة، فانساقت خلفه دون إرادة خاصة ما أن شاهدت مطاردة أحد أفراد الشرطة لهما، من هنا لهناك ظلّ يهربان منه بحرفية حتى احتضنهما أحد المنحنيات المتوارية عن المارة، ولضيق المكان كان يستند بظهره للحائط وهي أمامه مباشرة يعلو صوت انفاسهما اللاهثة التي قُلبت لنوبة ضحك متحررة ما أن وعى كليهما لما حدث لهما من مغامرة مجنونة ..

جاء صوته عقب انتهاءها متمتما بتحذير حازم :
– دي أخر مرة هتحضري مظاهرات زي دي .. شوفتي بعينك أن في مندسين بيستغلوا الوضع وبيخربوا هدفها السامي ..

بضيق عينيها هتفت بدهاء :
– يعني لو مفيش عناصر مندسة مكنش هيكون عندك اعتراض !

توترت الأجواء حولهما حين فطن ما ترمي إليه فقال عقب فترة صمت طالت:
– “مرام” في ثوابت ومشاعر في دم كل عربي فينا محدش يقدر يختلف عليها .. بس مع الآسف بعضنا بحكمهم ضوابط ميقدروش يتخطوها ..

ثم ألتفت حولهما هاربا من تعمق الحديث وهو يواصل كلماته ما أن أبصر هدوء الأجواء حولهما :
– يلا بينا !

اطاعته مغيبة أمام ما أبصرته من بديع محاسنه، وعقلها يثني بإمتنان على جدارة اختيار القلب لذلك الرجل عن العالمين ..

————————–

– راشي بجد وحشتيني متعرفيش الأيام دي عدت عليا ازاي من غيركم ..

صاح بها “مرتضى” وهو يهم باستقبال زوجته وابنته اللتان حضر توَّا من رحلة سفرهما .. فعاجلته الصغيرة متمتمة عقب عناقهما:
– دادي “ميام” فين ؟!

مع احتقان وجه “راشيل” اجابها بابتسامة هادئة :
– خرجت للسكولا مع حارسها وأكيد هترجع بسرعة لما تعرف بوصولك !

فقاطعهما نبرتها الصارمة من بين جز أنيابها :
– “مكلين” .. “مكلين” !!

والتي لبت نداء سيدتها على عجل متمتمة:
– مرحبك بكِ سيدتي “راشيل” !

بإقتضاب اجابتها ربة عملها :
– جراسية ماكي .. رجاءً “أديل” محتاجة تغير هدومها وتاخد حمام دافي من السفر وتنام فورا لأنها مجهدة ..

أومأت مربية ابنتها في صمت وهي تحث الصغيرة على متابعتها بابتسامة حانية والتي اطاعتها الصغيرة مرغمة بسب عناء السفر ..

مط “مرتضى” شفتيه متجاهلا مشاعر زوجته المعتادة على ذكر ابنته وهو يهتف أثناء اقتفاء أثر المربية :
– إيه الأخبار .. في أوامر جديدة ؟!

التفتت إليه تجيبه باهتمام :
– أيوه .. العملية خلاص اتحددت أخيرا .. وخدت التفاصيل !

رد باهتمام متبادل :
– وهي فين ؟!

مطت شفتيها ببرود وهي تتمتم :
– مش دلوقت .. القرص المدمج متعان في الحفظ والصون .. لغاية لما نأخد أنا وأنت الأوامر بفتحه !

نالت منه نظرة جانبية غامضة فاطلقت ضحكتها الصاخبة مردده :
– متبصليش كده أنت لسه هتعرف نظام البوص .. وبعدين دي أكبر عملية هنشهدها في تاريخ شغلنا فلازم نكون واخدين الاحتياطات اللازمة اللي تليق بيها ..

أومأ مؤيدا على حديثها فأعتلت شفتيها ابتسامة خبيثة قطعتها على قوله :
– طب أنتي وحشااااني !

ارتعد جسدها متلعثمة :
– مش دلوقت يا مارو لازم أعدي على الشركة الأول بعد كلامي مع “مايا” عشان أتابع شغلنا اللي اتركن وأنت بتابع السنيورة بنتك في تعبها ..

اعتلى معالمه التجهم مرددا :
– “راشيل” نفس الحوار تاني .. يعني كنتي عاوزاني اسيبها في ظروف زي دي ..

عاجلته بامتعاض :
– بقولك إيه لحوار ولا ظروف أنا راح الشركة هتيجي ولا تخليك !

زفر بضجر :
– أتفضلي قدامي ..

————————-

تغدو بسلاسة وتروح بقشعريرة، عبقها يثير أنفها بأغراء، ونعومتها حفزتها للعودة من سباتها العميق متذمرة :
– يكفي يا “علي” اتركني لارتاح قليلا ..

اشاحت الزهرة المتفتحة عن وجنتها متمتمة بصوتٍ غليظ ساخر :
– لست بـ “علي” يا أختي ..

فزعت “هنا” من نومها مردده :
– “ندى” !

رمشت بعينيها بتلاحق مصطنع ثم هتفت بنعومة لا تخلو من المرح :
– أيوه “ندى” يا قاسية لحقتي تنسيني من ليلة واحدة !

تجاهلتها “هنا” بوضع الوسادة فوق رأسها وهي تردد بإنزعاج :
– بقولك إيه ابعدي عني السعادي مش فايقة لهزارك ده دلوقت ..

اجابتها “ندى” بتنهيدة هائمة :
– ما هو ليكي حق تطفشي مني ما هو أنا مش حبيب القلب اللي نمتي بين اديه وشالك بحنية وانتي نايمة لغاية هنا ..
ثم صاحت بصخب على غفلة :
– قومي يا أختي قضمتي وسط الراجل من أولها ولا هيلحق يتهنى ..

ابعدت الوسادة في ضيق وهي تعتدل جالسة بتذمر :
– يا بنتي هو راضي وأكتر من راضي كمان ومش اشتكالك .. فأخرجي بقى عشااااان خاطري برة الأودة وسبيني أنااااام .. منمتش يا عالم إلا بعد الفجر ..

نفخت ببطء في اظافرها وهي تجيبها ببرود :
– حتى لو عملتها وفلتي مني فأمنا العزيزة مش هتقدري تفلتي منها ..

رمقتها باستغراب قائلة :
– ليه بقى ؟!

– عشان هي اللي بعتاني أقولك أنك تروحي تصحي “علي” يروح الشركة لأن سنسن زوجي نزل هو و”أميرة” من بدري وقالها إن وراهم شغل مهم قوي و”علي” لغاية دلوقت لسه مصحاش وكده هيتأخروا ..

عقدت ذراعيها وهي تردد بضيق :
– طب وأنا مالي .. ولا قاصدين تقطعوا نومي وخلاص !

– يا بنتي فوقي شكلك لسه نايمة .. بقولك عاوزين نصحي “علي” من نومه التقيل بسبب سهركم لوش الفجر .. يعني لا أنا ولا ماما ننفع نصحيه خاصة أن البنات اللي بتشتغل طالعين نزلين يخبطوا على بابه وهو ولا هو هنا !

زفرت بضجر وهي تبعد اغطيتها في ضيق ثم همت واقفة من فوق الفراش لاداء مهمتها على وجه السرعة لأجل العودة من جديد لدفء الفراش قبل أن تودعها رغبتها المستميتة في النعاس ..

————————–

بعض الطرق الهادئ على باب الغرفة أجبرت “راشيل” المحتلة لمقعد رئيس إدارة الصرح على سماح الدخول للطارق .. فأبصرت أمامها السيدة “مايا” مديرة المكتب عقب فتحه وهي تردد بتبجل :
– دي باقي ملفات الصفقات اللي اتأجلت اليومين اللي فاتوا “راشيل ” هانم !!

– تمام “مايا” سبيهم وروحي أنتي ..
ثم ما أن مر بعض الثواني الضئيلة حتى نادتها مرة ثانية :
– مايا ..

التفتت تجيبها بابتسامة متنمقة :
– أفندم “راشيل” هانم !

– أنا ما كنتش قلتلك قبل كده تجبيلي ملف الحارس الشخصي لـ “مرام” ..

ازدردت “مايا” ريقها وهي تردد بثبات مصطنع :
– وجبته لحضرتك بالفعل يا فندم يومها مع بعض الملفات المهمة للشغل وحضرتك اللي انشغلتي فيهم وسبتيه ..

حدجتها بضيق عينيها متمتمة:
– تمام .. يا ريت تجبهولي تاني وقبل ملفات الشغل المرة دي وكمان قبل “مرتضى” بيه ما يرجع من الاجتماع الروتيني للاقسام !

أومأت بالإيجاب مردده :
– تمام يا فندم ثواني ويكون عند حضرتك ..

بابتسامة مصطنعة لم تصل لزوايا ثغرها هزت رأسها في صمت وهي تتابع مغادرتها ..

————————-

ما أن أقحم معا محيط القصر بسيارتها لمحت مربية الصغيرة في الفناء فترجلت مهرولة دون صبر من مقعدها تجاهها وهي تردد بلهفة :
– ماكي “أديل” جت ؟!

التفتت تطالعها وهي تجيبها بارتباك :
– وصلت سيدتي ولكنها تغط في نوم عميق الآن !

حينها ترجل “عمر” من مقعده يتبعهما في صمت فابصر معالم “مرام” تتبدل للحزن متمتمة :
– ليس من عادتها النوم قبل رؤيتي ومعانقتي !

لم تكاد تجيبها المربية بتلعثم حتى تفاجأ معا بصوت الصغيرة من خلفهما تركض من الداخل مهلله:
– “ميام” جت .. “ميام” جت ..

استدارت تلقفها بين ذراعيها مشددة على ضعف بنيتها ودون إدراك التفت هائمة بها دائريا وهي تفيض بحنان كلماتها:
– حبيبة “مرام” وعقلها وقلبها ..

ثم أبتعدت تغدقها بوابل قبّلات حارة في كل جانب من وجهها وهي تهمس بشوقٍ :
– وحشتيني قوي قوي يا صغيرتي ..
ثم باغراء هتفت :
– تعالي ما افرجك جبتلك إيه معايا !

عانقتها الصغيرة مجددا وهي تردد في حبور :
– أااانا بحبك قوي قوي يا ميام .. معنتيش تخليني ابعد عنك !

– أبدا أبدا يا روح ميام ..
ثم حملتها وهي تهم بها ذاهبه تجاه السيارة وحارسها الذي مازال يراقبهن بتمعن، فبغتت بارتعاش الصغيرة عقب رؤيته ودفس وجهها في عنقها، فربتت على ظهرها هامسة لها بلوم عقب ابصار مغادرة “عمر” تجاه ملحقه من أثر فعلها :
– ليه كده يا “مريم” عمو والله طيب ومش بخوف ..

– لا هو بيخلي “ميام” تييط من الليب “تعيط من اللعب”

ابعدتها “مرام” بابتسامة منفرجة وهي تقرص خدها بمشاكسة :
– حبيبتي اللي بتخاف عليا يا ناس ..

ثم انزلتها وهي تردد بتحفز مشوق ما أن فتحت باب السيارة أمامها :
– تعالي يلا شيلي معايا كل الاكياس دي عشان دول كلهم بتوعك أنتي لوحدك ..

انطلق ضحك الطفلة صخبا تكلله بالتنطيط المتواصل ما أن حاصرت جميع ما تحبه بين يديها وسط مراقبة شقيقتها الكبرى لها في حبور ..

————————–

جفنان مغلقان، عقل مغيب راغبًا بالنوم، خصلات شعر متمردة بجاذبية .. تلك كانت هيئتها عندما قادتها قدميها تلقائيا لغرفة ابن العم أو زوجها أكثر تدقيقا، فتحت الباب دون طرق ودلفت تتجه صوب خزانة ملابسه كما العادة وهي تغمغم بعربيتها :
– “علي” قوم أتأخرت على الشغل !

ثم على ضوء الصباح المنبثق من النوافذ جذبت جاكت بني اللون وبنطال أسود حالك من الجينز جمعهما قيمص قطني أزرق ثم وضعتهم على المقعد المجاور دون أن تعي لتناسق الألوان المختارة وهي تردد بتذمر :
– يلا يا “علي” قوم أنت بقيت كسول كده ليه ع…

قطعت جملتها على صرير باب الحمام من خلفها فالتفتت تحدق بخوف صاحب ذلك الفعل فشاهدته يخرج عقب استحمامه بمئز قطني يلحف خصره والأخر يجفف به خصلات شعره مفاجىء من وجودها ..

بينما هي صعقتها صاعقة كهربائية أخذت بيد النوم عن عينيها هاربة حين باتت تمحلق به في ذهول ثم استدارت تتمعن بالفراش فرأت الأغطية الهائجة ولا أثر لبدنه داخله !
انفرجت ابتسامتها البلهاء مغمغمة بفاهها المُفغَر :
– يا نهاااار ألوان !!

– “آنا” !

على همسه ارتعد جسدها فزعا ثم ابتلعت ريقها بصعوبة بالغة وهي تبحث عن مآوى يعزلها عن وجوده، وهلة واندفعت دون تفكير نحو الفراش تدثر نفسها من رأسها حتى أخمص قدميها أسفل أغطيته مردده بتوسل بنبرة أقرب للبكاء:
– مش هي صدقني .. مش هي !!

بابتسامة ماكرة توجه للفراش يحتله بجانبها مردفًا بتسلية :
– عربيتك مجددا !

رددت كالمعتوة المغيب :
– بقى أنا مزنوقه زنقت الكلاب وأنت بتقولي العربية .. هو ده وقته !

فخرج نبرته الحانقة :
– “آنا” أنتِ تتحدثين بالعربية مجددا !

صاحت بنفاذ صبر :
– حاضر .. حاضر .. ثم غمغمت مع نفسها بحيرة : يا نهار أبيض على الورطة اللي أنا فيها هخرج ازاي أنا كده دلوقت ..

زفرت بضيق تستجمع قواها وتركيزها من جديد وهي تمتم له بعد أن أخرجت ذراعها لعمل إشارات معينة :
– “علي” اتجه يسارا ثم يمينا ثم ابتعد وابتعد !

مط شفتيه بتعجب :
– لماذا !

– حتى استطع الخروج وضبط النفس للتحدث معك بانجليزية مطلقة يا رجل !

– حسنا كما ترغبين ..

– أشهد أن لا اله إلا الله .. بحبك وأنت مطيع يا علـــ …

قطعت جملتها وهي تبصره بجوارها بهيئته تلك فصرخت فزعة وهي تعدو تجاه الباب تنوي الفرار إلا أن الوحش إنقض يقيد حركتها حين حاصر خصرها بذراعه واسندها على الحائط بجوار الباب هاتفا باندهاش :
– “آنا” ما بكِ أنا “آلي” !

بابتسامتها البلهاء اجابته :
– حقا .. لم أكن أعلم !

لاحَت سبابته أمام وجهها وهو يآمرها متوسلا :
– حسنا “آنا” أعلم بتوترك للأمر ولكن رجاءً لا تذهبين .. لدي شيئا هام لكِ !

في خضم توترها هزت رأسها بصمت وهي تغمض عينيها عن هيئته حتى بغتت بقدومه وقوله الهادئ عقبها :
– لم أنم حتى فعلتها !

فتحت عينيها تبصر مقصده فشاهدت صورة التقطها بالأمس بهاتفه وهي تجمعهما معا من سهرة الأمس والقمر يتوسط عناقهما بضوءه الساطع .. فابتسمت برقة متناسية هالة توترها وهي هائمة بين جزئياتها حتى رصدت يده تتجه صوب عنقها لتسحب سلسال قلادتها من أسفل منامتها الكرتونية كما يسميها دائما ..

فتح قالبها ثم وضعها بحرص بين اضلعها لملئ فراغها وهو يهمس بعاطفه حانية :
– سيكون مكانها عند قلبك حتى اطمئن بأنني داخله دائما !

تمعنت ساحرة بين ملامحه وخضرة عينيه وهي تهمس هائمة :
– أنت به دون أن احتاجها !

ابتسم بزاوية ثغره هامسا بمكر وهو يدنو بوجهه تجاهها :
– حقا !

ارتبكت ما أن وعت لوضعهما فقالت بعجالة وهي تهم بالذهاب :
– لقد تذكرت يجب عليّ المغادرة الأن لشيء عاجل!

أعادها لموضعها هاتفا بضيق مقتضب :
– “آنا” !

– حسنا .. حسنا ..

رددتها بتوالي ثم اقبلت على خده تقبّله بعجالة وهي تحدثه باستعطاف أثناء فرارها من أسفل ذراعه المحاصر لها :
– تلك وفقط تكفي الآن ..

استدار يعيق هروبها مجددا إلا أنها نجحت بفتح الباب والفرار فتابعها بجزعه العلوي وهي تردد بصوت مسموع نوعا :
– لقد تأخرت على عملك ولابد من الذهاب فورا !

فأشار براحته إليها بالوعيد بعد أن رفع الآخرى تتحسس موضع قبلتها على خده .. فاطلقت رقة ضحكاتها وهي تراقب فعله ثم اكملت ركضها تجاه غرفتها تستجلب الكثير من الهواء لرئتيها التي تعاندها في التنفس كما عاندتها طقوس النوم وفرت هاربة ..

———————

نظرت للمغلف الذي أمامها بكثيرٍ من الفضول لأجل معرفة كل شيء يخص معذبها وأسر دقات قلبها عليه ..
توحشها كلمة قليلة تصف شعورها في تلك الأيام المنصرمة، فعشقها له قفز لأعلى مراحله والرجوع عنه ضرب ممزوجا من الجنون والمستحيل، حتى اصبحت ترغب بنهم المزيد عن حياته، حتى وإن كانت ستشبع شوقها مؤقتا بحروفٍ عنه !

همت بفتح صفحته الأولى فوقعت عينيها على بنط اسمه العريض في بدايته ..

“ياسين أحمد سلامة”

لن تحتاج لقلب صفحة أخرى !

هالة رعاش وإرتياب أصابتها ما أبصرت اسمه بالكامل جعلتها تفزع من جلستها بعنفوانية أدت لانقلاب المقعد خلفها وهي تردد بتلاحق دون وعي أقرب للجنون …

– مش ممكن .. مش معقول !!

———————–

اندفع متهجما يقتحم مكتبه منذ الصباح ما أن علم بحضوره مبكرا بنبرته المعاتبة :
– أنت ازاي متعرفنيش بكل التفاصيل دي !

رفع “حسين” رأسه من عدة أوراق كان يتفحصها بعناية متفاجأً به، فنهض بعجالة مرددا :
– “أمير” صدقني أنا مكنتش اعرف أن الموضوع هيوصل لكده .. بس اللي متأكد منه ولازم تعرفه أن كنت خايف عليك من أي حاجة توجعك ..

هز “أمير” سبابته في وجهه من أمام مكتبه متعصبا :
– لو كنت خايف عليا بجد يا صاحبي زي ما بتقول كنت عرفتني عشان أعتذر بلباقة عن قبول الدعوة ولا اتحط في الموقف السخيف ده ..

إلتف “حسين” متوجها إليه يعلمه باسبابه :
– والله يا “أمير” عمري ماكنت اتصور أن ده يحصل وانها هتيجي من “علي” لأن كنت مقتنع أن بدال معرفتش مني يبقى مش هتعرف أبدا .. غير أنه ماضي واتقفل ومكنتش حابب افكرك بيه تاني !

بابتسامة تهكمية وعينين لامعة أردف بحزن :
– وادي اتفتح وبقت حكايتي العجيبة على كل لسان .. مع العلم أن مؤمن بأن الزواج قسمة ونصيب بس الموقف نفسه كان صعب وقاسي لدرجة أن صعب انساه يا صاحبي !

ختم حديثه بالمغادرة من فوره، فتبعه “حسين” معتذرا :
– “أمير” .. استنى .. والله ما كنت أقصد كده خالص ولا حد كمان يعرف بموضوعك إلا اخواتها وبس !!

ولكنّ صديقه الغاضب صمّ أذنه عن جملته الأخير بعدما صفع الباب بحدة شقت هيبة المكان من حوله ..

————————

هز رأسه بتوالي ينفض شعوره المستجد بالدوار لعل أثر ما تجرعه من خمر يذهب الآن وهو يواصل تقربه منها في تلك الأمسية المنتظرة عقب عودتها من ليالي السفر ..

ولكن الحظ عانده حين استمر وازداد بتشوش الرؤيا وكأن مقلتاه باتت تحاط بدائرة سوداء فجوتها القاتمة تتسع كلما مرت الثواني ..

حتئ تراخى مهزوما منها جثة هامدة لا يدرك من واقعه شيء ولا يميزه عن الموتى إلا انفاسه المنتظمة ..

ابتعدت “راشيل” عن “مرتضى” عقب سقوطه جوارها في الفراش بفعل ما دسته له في الشراب كعادتها ..ثم بابتسامة ماكرة انتوت المغادرة بقميص نومها الفاضح لملحق ذلك الحارس الذي جذب عقلها بجواره بعدما التحفت بمعطف يحمي جسدها من الصقيع !

بينما على الجهة الآخرى عقب نوم شقيقتها الشهية خلسة عن والدتها بين ذراعيها في فراشها تسحبت من جوارها لشرف غرفتها للأنفراد بمشاعرها قليلا وهي تتوجه ببصيرتها لمحيط ملحقه .. فمنذ مغادرته إليه عقب فعل الصغيرة وهي لم تبصره خارجه من حينها .. عقدت ذراعيها تتذكر هائمة ضحكاته الصباحية التي رصدتها للوهلة الأولى منذ قدومه لحراستها يتبعها الكثير من الحوارات الهادئة أثناء شراءهما الهدايا معا للصغيرة ..

يوم هادئ يرفرف بالبهجة أمام عينيها بوميضهما البراق قطعت أوردته رؤية زوجة أبيها وهي تسلل كاللصوص تجاه مسكنه !

احتقن وجهها بدماءها الهائجة ما أن فطنت نواياها الإبليسة لجذبه إليها .. وشعورا يزورها للمرة الأولى ينهشها بوحشية جبارة جعلها مغيبة عن حركتها اللإرادية للسير مسرعة تجاه ملحقه لمتابعة ما ستفعله تلك الأفعى التي لا تكل ولا تمل مطلقا ..

عقب وصولها بحيطة وحذر لباب الملحق الموارب شاهدتها بعينيها المرشقة وهي تبعد عن جسدها معطفها لترتعد من صوته النافر بعدها :
– أنتي إيه مبتهبطيش .. ولا بتاخدي اشمئزازي ورفضي في اعتبارك .. اللي مفروض يجرحك ويهينك گ أي ست طبيعية !

اتخذت أحد المقاعد بجوارها مجلسا ثم وضعت ساقها فوق الآخرى وهي تجيبه ببرود مستفز :
– امممم .. ليه تاخدها كده ومتفسرهاش بأني ست عرفه هي عاوزه إيه وبدافع عنه بكل قوتها ..

بابتسامة تهكمية ولى ظهره إليها وهو يبادلها البرود :
– وأنا كمان راجل شايف أن الموضوع ده عمره ما كان بالغصب .. وهفضل أدافع عن مبادئي مهما كانت الأغراءات !

نهضت بابتسامة خبيثة تعقد ساعديها أمام صدرها وهي تفيض عليه بفحيحها السام :
– حتى لو قلتلك إن “ياسين أحمد سلامة” مات من خمس سنين وإنك مش هو يا “101” !!

——————

تقديركم الطيب يدفعني لعمل بصمة في تاريخ الروايات بمشيئة الله تعالى فما زال في جعبتي بتوفيق الله الكثير والكثير ..

 

error: