العميل 101.. أحفاد الثعلب 2
الحلقة الثانية ..
- بقى يا رضوى أنتى وندى يعدى ست شهور على الخبر ده وانا معرفش ..
رددتها “هنا” بلوم لشقيقتيها المجاورتين لها على الفراش، بينما تتوسد ذراعيها وصدرها شقيقتها “أميرة” الملكومة بوفاة زوجها الطبيب الصيدلاني -أثر حادث سير في أحد الدول العربية محل عمله واقامتهما معًا – مقهقرة بناءً على نتائجه هي وابنتها “هاجر” للاقامة بين حوائط هذا البيت للأبد ..
إجابتها رضوى بنبرة خافته:
– أنتي عارفه ماما يا “هنا” في أمور زي دي خصوصا لو حد مننا بعيد عنها بتخاف تعرفه بأي حاجة عشان مترجعش تقلق عليه تاني..
حركت رأسها بتفهم ما أن تذكرت قلق والدتهما الدائم على غائبها وقرارها المنفذ كالسيف بعدم أخباره بأمورهم الحياتية خشية أزعاجه في غربته ..
غاص في شرودها أنين شقيقتها الخافت يخرج من وصال حضنيهما معًا، ليضحى لها بأنه مازال الدمع رفيقها رغمّ مرور تلك الفترة، أشتدّ ساعديها بتحنان حول ظهرها تشاطرها حزنها شارعه في تلاوة بعض آيات الذكر الحكيم بنبرة عذبه ينفطر لها القلوب من أجل أن تعينها على الصبر وهي تردد من بينهم بمواساة..
– أبكي .. البكاء ساعات كتير علاج صامت لآلمنا .. وصدقيني على قد ما بيرهقنا لحظتها .. على قد ما بيريحنا كتير بعدها .. أبكي يا حبيبتي وأنا جمبك وفاتحة حضني لكي ومش هسيبك أبدًا .. وربك كريم قادر يحاوطك بصبره لأيوب وبرحمته لإبراهيم عليهما السلام ..
خمس سويعات !
خمس سويعات كان مقرر له أن يزوره النوم بهم ولكنه على النقيض فرَّ هاربًا دون رجعة ما أن شرع سلطان القلوب طربًا بين ضلوعه ..
خمس سويعات مرّت كالدهر عليه لم يبصر فيهم محبوبته “آنا” في أختراق قاسي لعرف عشقه لم يعتاده بعد .. ويكاد يقسم بضيق وغيظ بأنه لن يعتاده بعد أن قدم مشيئة خالقه !
خمس سويعات كاملة بين جدران غرفة الجد التي اختارها للإقامة بها رغم كثرة الغرف الفارغة ..
لم يعلم بفعلته تلك بأنه يكفر عن ذنبه في حقه، أم ذلك حنين لسلالة دماءه بالعيش بين أطياف ماضي والده ومن يحمل شذاه ..
بعض الطرقات المتفاوتة على باب غرفته جذبته لحاضره، جعلته ينتفض من الفراش تجاه موقعه يحوطه هالة التمني بأن ضالته القاسية اهتدت لطريقه أخيرًا واشتاقت له كما يتوغله اشتياقها ..
تراخت معالمه المحفزة وخاب ظنه عندما شاهد ببابه أحدى خادمات المكان تخبره بإنجليزية ركيكة بموعد وجبة العشاء وانتظار الجميع له بالأسفل ..
رغم اليأس الذي تخلله ما أن أبصرها إلا أنه بدأ يعيد غريمة الأمل مرة أخرى بفعل كلماتها ..
فحتمًا هي بالأسفل تنتظره مع المنتظريين ..
وحتمًا هو لن يتهاون عن تلبية نداء محبوبته مطلقًا ..!
هبط السُلم الدخلي يجمع بعض الدرجات معا بهيئة جذابة وخصلات شعر مصففه بعناية واهتمام، مفشيًا شذاه ذات الجودة العالمية بالمكان من حوله، فحقا توحشته تلك المراوغة، وحقًا استعد لرؤيتها، غير مستوعبًا بأنه بات ينتظر مقابلتها بين نهارًا ولى وليلا أت كمراهق تملكَ الوله حجرات قلبه المخيمة قبل رؤيتها ..
في وسط بهو الفيلا شاهد مائدة معدة سلفا بأشهى الأطباق، لم تشغل ذهنه رغم تضوره جوعا، فالاهم رؤية “آناه” فهي التي ستحفز وتغذي خلاياه على العيش أولا، يليها تلك الأمور الروتينية الأخرى ..
إلا أن قدماه تراخت حين أبصر السيدة “رقية” برفقة العجوز “شاكر” وبعض الأطفال الذي يجهل من هم ..
استبعد كل هؤلاء عن مخيلته حتى تلك المشاعر الحديثة التي تداعب روحه عن الألفة والترابط بمشاركة المسكن مع جمع كهذا تغاضى عنها .. فالأهم هنا وما يشغله أين هي حبيبته ؟!
ذلك كان سؤال ملامحه المصوب لهم حين وصل لبقعتهم، فجاءته أجابتهم الفاترة حين هتف العجوز:
– أتفضل بني أجلس لتتناول الطعام بصحبتنا، فحتمًا ينهش الجوع أحشاءك ..
- “آنا” !
رغم اندهاشهما من حداثة الكلمة على أذنهم إلا أن “شاكر” فطن مقصده بأعجوبة، فأجابه مُسرعًا بتصويب رصاصة طائشة لعقر قلبه دون قصد:
– تقصد “هنا” أنها بالأعلى برفقة أشقائها، “فأميرة” لن تستدعي الهبوط و”ندى” لنقابها لن تستطع تناول الطعام برفقتنا .. لهذا “رضوى” و”هنا” سيرافقنهما بوجبة عشاء علوية ..
حتما كل ما به مزحة سخيفة منهم جميعا، ومنها هي خاصةً ..
أين فتاته بل يقصد عن عمد أين هي زوجته ؟! ..
نعم زوجته ولن يستطيع أحد أخفاء تلك الحقيقة المتراقصة على أنغام قلبه .. ولسان حاله يردد كوسواسٍ داخل عقله ..
هل نعمة تواجدها بجواره هناك وعدم تقديره لها انقُلب بنقمة وأصبح هو صائد لحظاتٍ ليبصرها ..
- يا إلهي .. كم قاسي ذلك العقاب !!
قالها بنبرة صوت يائسة هربت منه للعلانية حين توغلت أطرافه خصلات شعره الكستنائية الكثيفة والناعمة .. أنتبه منها على كف طفولي ناعم يحرك بنطاله بحركة جذب متوالية أجبرته على النظر أسفله فشاهد مخلوقًا لم يبصر مثيله عن قرب طوال سنوات عمره .. طفلة شهية بعامها الثاني تداعبه بابتسامة شقية ..
تجمدت أطرافه كما حدث بخلايا عقله جاهلا بأي رد فعل يبادلها .. !!
توغل المشهد حديث “رقية” قائلة وهي تتجه صوب الصغيرة بابتسامة هائمة :
– أعمل فيكي أية يا “جويرية” كل لما نحطك في المشاية تطلعي منها وتجرينا وراكي في الفيلا كلها يا صغيرة نناه أنتي ..
إلا أنه أبصر ضيفةٌ أخرى تكبرها بأربعة أعوام توجه له كلمات أنجليزية بسيطة أثر تعليمها بمدارس خاصة :
– أنا “هاجر” .. من أنت ؟!
يتبعها أولاد رضوى يوسف وعمرو قائلان مثلها بابتسامة ودوده ..
على أثر ما لمسه ازدارد ريقه بملامح منذهلة لا يصدق ما وقع به رغم قسوة اعوامه المنصرمة، إلا أنه اهتدى لإيمان قلبه حين تذكر قول محبوبته ماضيًا في أحدى جلساتهما ..
” الأطفال ملائكة الرحمة، وحين تريد أن تداوي قلبك من أوجاعه لينه بمعاشرتهن”
لم يدرك عقب تذكره لنبرة صوتها بتلك الكلمات بأن دماءه تحنن لمجالستهم، رفع كف يده فجأة تجاه تلك المرأة الموقرة والقادمة تجاههم عقب أن فطن غرضها بابعادهم عنه وعدم إزعاجه، إشارته أجبرا قدميها على التسمر مكانها، تبصر مندهشة تدنيه ببطء من ابنة العام والنصف حاملا إياها بيدان مرتعشتان وكأنهما لم يحملان قط كائنات كهذه من قبل ..
تطلعت لصديق عمها بسنوات عمره المسنه تستمد منه العون على ما تشاهده، فرمقها بنظرة هادئة تؤكد على انسحابها وترك ساحة الأختبار امامه لينال شرف حياة آباءه وأجداده بوصمتهم العربية ..
إيماءة كان يحتاجها ذلك الفهد حتى ينقض على فريسته الشرسة وتعليمها الأصول الشريفة للتعدي على الخصم ..
وها قد اقتحم باب غرفتها بعنفوانية حاملا أياها من خصرها بساعدًا واحد دون أن يرمش له جفن رغم حالة نفورها العام من فعله .. ألا أنه بُغت بوجد طفلة تتجانس ملامحها ما بين الأصول الشرقية والغربية .. فأضحى نتاجها شهيًا للناظرين .. تحتلها بأحدى عرائسها القطنية ..
إذا هناك ضيف سيفسد جلسته التأديبية بغريمته، ولكن ليس هو من يعيقه شئ ..
بابتسامة مخادعة جذب الفتاة من ساعدها برفق مجبرها على الخروج خارج الغرفة حتى ينهي مهمته كما يريد ..
ما أن أغلق خلف الصغيرة المطيعة باب الغرفة، حتى حرر عدوته من براثنه والتي أسرعت تردد عند التفافها له بتصويب لوجهه لكمة وراء الأخرى نجح في إجتيازهما بإحترافية وهي تردد على مسامعه ..
– أنت أزاي يجيلك الجرأة تمسكني كده .. أنا هعلمك أصول الرجولة يا متوحش يا ح..
قطع جملتها عندما نفذ صبره ودفعها بعنف تجاه أقرب حائط لهما مثبتًا ذراعيها أعلى رأسها بيداه الاثنان محاصرها بجسده كليا ليحد من ركل ارجلها العشوائي قائلا بفحيح ثعبان سأم تصرفاتها :
– من دلوقتي كل تصرفتك الغبية دي تنسيها تماما .. أنا هنا هكون مسئولا عن كل شئ يخصك .. ويا ريت تتعودي من الثانية دي على أن دخولك وخروجك كله هيبقى بنظام واتبلغ بيه قبلها بكام ساعة ..
راوغت للإفلات من قبضة يديه بضيق إلا أن محاولاتها بأت بالفشل، فشرعت تبصر عينيه بشراسة وصخب صوتها يشق هالة غضبه :
– مين بقى اللي هتسمع أوامرك دي وتنفذها .. شكلك بتحلم .. لأن مش أنا اللي يحصل معايا كده ..
تدنى بوجه يكسو معالمة التجهم يبادل نظراتها بأخرى أكثر إصرارًا حتى بات يلامس معالمها النافرة متمتمًا من بين جّز انيابه:
– مابحلمش ..ومع الأيام هتعرفي أني غير اللي سبقوني تماما .. والعقاب للي مبينفذش كلمتي عندي جلد ..
ثم واصل بصوت هادر وأكثر قوة :
– سمعاااني ولا لا ..
جاهدت لخروج نفورها من تقاربه بها بهذا الشكل إلا أنها قيدت بمحاصرته الجسدية المميزة بصلابتها وقوتها، متيقنة بأنه كلما استمر عنادها كلما استمر هو بتضيقه وتسلطه ذاك، لهذا أومأت برأسها بالموافقة كهدنة للتخلص من وضعها الراهن وهي تصراخ بتواصل :
– حاااضر .. حااااضر .. أبعد عني بقى متلمسنيش ..
ابتسم بنشوة من خضوعها بذلك المجهود الضئيل رغم شراستها التي تنضح من عينيها، تراخت قبضته مبتعدًا ولكنه عاد بعزم قوته ولكم بقبضة يده وجهها الملائكي بلكمة لن تنساها ما حييت معقبٍ بشررٍ يتطاير من مقلتيه :
– أه من حق .. ده رد الدين اللي عليكي .. وأحمدي ربنا أنك لولا ست قدامي كنت رديته أضعاف مضعفة ..
أنهي جملته بغمزة من أحد عينيه عقب تحرره لها كليا، مغادرًا عقبها من باب الغرفة التي توالت الصغيرة بالطرق المتلاحق عليه بكف يدها الناعم طوال فترة تواجدهما بالداخل خشية وقوع شقيقتها الكبرى في اللعب مع ذلك القوي كما تستوعب دائمًا ..
خرج بزوبعة نارية كادت تلك المرأة العجوز بحجابها الشرعي ومعالمها المندهشة بوجود رجلا مثله بالأعلى أن يطولها طوفان غضبه هي وتلك الصغيرة امامها بملامحها الخائفة .. والتي أسرعت تبث الأمان لها بين ذراعيها الحانية متمتمة باندهاش عند مواصلة خطاها لداخل غرفة ابنة سيدها الكبرى ..
– يا ساتر يارب .. مالك يا “أديل” وفين “مرام” وأيه اللي طلع الراجل ده فوق ..
اثناء حديثها أبصرت ابنة قلبها جليسة فراشها تولي ظهرها لمن يقتحم بابها ..فأسرعت فزعه تقدم عليها قائلة:
– مالك يا “مرام” يا بنتي أوعي تكوني عملتيها تاني والراجل ده جابك زي عادتك ..
على غرة اقتحام صوت مربيتها لمحيطها اسرعت تخفي وجهها بارتباك وكأن ما لحق به عارًا عليها مغمغمة بخفوت كاد يسمعها :
– مفيش حاجة يا دادة ..
- ازاي مفيش يا ..
بترت العجوز جملته حين باتت امامها وأبصرت جانب وجهها الذي التحق به الازرقاق قائلة بغصة في صدرها :
– مين تجرأ وعمل الجريمة دي ..
جاءها صوت الطفلة يهلل بما تحتاجه بينما مازالت “مرام” تغض بصرها عنها:
– عمو الكبير لعب معها “أضب بعض” ..
على أثر ما تفوهت به الصغيرة اسقطتها العجوز برفق من على ساعدها قائلة لها بمودة:
– طب روحي العبي بعروستك في أودتك يا حبيبتي عقبال لما أجبلك الكيك المخصوص بتاعك اللي عملته من شويه ..
نال عقلها الطفولي جائزته المحببة وسيتمرد قليلا على تحذير طبيبها، مما جعلها تهلل بسعادة بالغة، تبعثر قبلاتها على شقيقتها ومربيتها قبل أن تتوجه لغرفتها بإنصاعٍ تام ..
محَّتا الاثنان صورتهما الباسمة ما أن ابتعدت ملاكهما البريء، مستبدلة أحدهما إياه بالوجوم بينما الأخرى نخرها القلق سائله :
– في أيه يا “مرام” .. ومين الشاب ده .. وأية طلعه لغاية هنا دي عمرها ما حصلت ؟!
بتذمر أجابتها :
– سيادته الحارس الجديد اللي عينه والدي لمراقبتي ..
هتفت العجوز معاتبة بلوم :
– مش قلتلك هدي اللعب شوية يا بنتي ومتقفيش نده .. أهو جاب واحد جديد وسمح له بصلاحيات أكتر من اللي خدها قبله واتوقع كمان أنه لو فشل هيجيب عاشر وعشرين ..
حينها تنحت “مرام” عن خجلها وتطلعت اليها بعينين تلمع بالعبرات:
– انا أخدت قراري خلاص يا دادة “أنيسة” ومش هسكت ولا هتراجع عنه مهما حصل حتى لو موتي حتم على تنفيذه ..
عجلتها مربيتها ببتر حديثها بإستياء :
– بعد الشر عنك يا بنتي متقوليش كده وأدعي ربنا يهديه ..
تنهيدة عميقة يائسة تحررت بصوت مسموع، أردفت عقبها:
– دعيت .. ولغاية دلوقت بدعي .. وأمي الله يرحمها من قبلي كانت بتدعي .. بس هو شكله الشيطان مالي عينيه ومش عاوز يرجع عن اللي بيعمله ..
بنبرة حزينة أجابتها مربيتها باستسلام :
– ربنا يريح قلبك يا بنتي وينولك اللي في بالك .. رغم أن فراقك هيعز عليا قوي ..
أغمضت عينيها تؤمّن خلفها بنفسٍ راضية:
– أمين .. بالله يادادة ادعيلي بالدعاء ده كتير .. وصدقيني فراقك أنتي و”أديل” أختي هيبقى مش بالساهل عليا كمان .. بس أنتي أحتمال كبير لو أنا عرفت أهرب ممكن تستغني عن خدمتك هنا وترجعي بلدك ونتقابل هناك .. أما “أديل” ..
فتحت عينيها مستأنفه حديثه بتنهيدة أخرى حارقة:
– فدي بقى اللي مش ليا أي صلاحية أخدها من مامتها .. وهفضل متعذبه ببعدها عني طول العمر ..
جذبتها المرأة الخامسينية برفق تتوسد ذراعيها وصدرها مردفه بتحنان:
– صدقيني يا حبيبتي هتهون بأذن الله وهتفرج من أوسع الأبواب .. دا ربك مبيرضاش بالظلم أبدًا ..
أحاطت خصرها بذراعيها مردد بتضرع يتملكه الأمل :
– يا رب يا دادة “أنيسة” .. يارب ..
دلف لذلك المُلحق بعد أن قاده أحد الخدم إليه، ما أن راقب مغادرته بهدوء حتى أحكم غلق الباب خلفه .. وقبل أن تجوب حدقتاه المكان بتمعّن شاهد حقيبة ملابسه قد سبقته إليه واحتلت بؤرة بهوهُ، الذي يتفرع منها غرفة أعداد طعام أيطالية التصميم ودورة مياة، وبدون بذل عناء الفحص فهم بفطنته بديهيًا بأن البابان المجاوران بأزُوقة جانبية هما غرفتين نوم ..
بابتسامة تهكمية اعتلت زاوية ثغره حدث نفسه بأنه حتمًا مشبع بكاميرات المراقبة، والتي بدأ يرصد وجودها واحدة تلو الأخرى في الحال رغم احترافية مخبأهن، جاهلين قدرة ضيفهم الذهنية على كشف كل ما هو مستور ..
ترك كل شئ كما هو فخطوتهم تلك يعلمها مسبقًا ولا يريد المساس بها حتى لا تثير شكوكهم نحوه .. فليراقبوا إذًا ما يستطعون مراقبته !
جذب خطاه حائطٍ زجاجي يزين استقباله يشف صورةٌ تسُر الناظرين .. وقف يتطلع للقصر ببنايته الشامخة وحديقته النضرة من خلفه بحدقتين يتضافر منهما الحنق، والغضب، والبغض حين تزاحمت على مخيلته تلك الدقائق الماضية ..
فتلك الفتاة .. لا لن يطلق عليها لفظ فتاة !
بل هي متغطرسة شرسة كادت بهجومها المفاجئ تفتك بمهمته وتجعله يخرج من القصر قبل أن تستوطنه قدماه، فحتمًا عقب تعديها المفاجئ ستثور دماء رجلا شرقي مثله للثأر في الحال .. ولكن بفضل ربه ثم فطنته استطاع أن يمسك على غضبه امام والدها الواهن بحبها حتى انفراد بها وأخذ حقه بما جادت يداه حينها ..
أطلق زفرته القوية عقب وقوفه امام حقيقة بات عليه أن يسلم لها .. آلا وهي نسيان تلك الصورة النسائية الضعيفة التي كونها عنها قبل قدومه إلى هنا، والأعتراف بأنها طرفًا قوي لابد أن يخشى بطشه المتهور ذاك بعد ذلك ..
لهذا وجّب عليه وضعها منذ الأن نصب عينيه حتى لا تفسد مخططه الذي عانى هو وفريق عمله لانجاحه منذ ما يقارب الخمس سنوات ..
حينها طرأ على مخيلته ذلك اليوم الذي استدعته به مخابرات بلاده منذ خمس سنوات وعدة شهور للوقوف على الأمر برمته بعد أن قدمت إليه واجب العزاء في شقيقه “ياسين” الذي توفى في ظروفٍ غامضة داخل شقته الخاصة ..
“منظمة صهيونية تستهدف البلاد”.. بشتى أنواع المحظورات من مواد مخدرة بهيئتها السائلة والمتيبسة والأقراص .. حتى امتدّ نشاطها لتجارة الرقيق وانتشار الثقافة التصويرية الجنسية للأطفال قبل اليافعين .. بالأضافة للأسلحة النارية بكافة أنواعها .. في حملة شعواء ضد شباب البلاد وآمن مستقبلها القادم ..
ذلك ما رواه قائده أمام عينيه المشاعة بالاندهاش مسترسلا حديثه :
– الحملة دي يا رائد “عمر” لو تركناها بدون ردع من مصدرها هدمر البلد كلها في خلال عشر سنين .. لأن ردع الشرطة الداخلي مش مكفي خاصة أننا شاكيين بأنهم بيصفوا أكتر الضباط الكفء في الإدارات الحيوية للداخلية ..
حينها أنقلبت نظراته من الاندهاش للجحوظ المتمعّن المُحفز للإنتقام ..
والتي آثارت وعى قائده الذي أسرع يهتف محذرًا :
– بقول يا “عمر” شاكيين مش متأكدين عشان متخلطتش الأمر بموت أخوك “ياسين” .. أه نعم ظروف موته غامضة لتحريات الشرطة لغاية دلوقت .. حتى المعلومة الوحيدة اللي وصلوا ليها بأنه كان على علاقة ببنت ليل قبل وفاته .. لسه متأكدوش منها ولا من وجود البنت دي فعلا .. ولا أن الموضوع كله مرتبط بالمنظمة ولا لا ..
انتكست رأسه بحزن ثم تنهد بعمق معقبًا :
– وأنا من أمتى يا فندم بقحم مشاعري الخاصة أو ظروفي العائلية في شغلي ..
تراخت معالم قائده بابتسامة هادئة، أعقبها متمتمٍ بفخر:
– عارف يا فهد المخابرات المصرية ١٠١، دي دايمًا نظرة القيادات العليا كلها ليك ورؤيتهم أنك الأفضل على الأطلاق لتولي أصعب المهام على الساحة في الوقت الحالي ..
أردف بتقديرًا جليل :
– شكرا يا فندم ده شرف ليّ ..
أخفى قائده بذر تحكم ضئيل الحجم ضوء الغرفة، وهمَّ بفتح جهاز عرض شرائح لينعكس محتواه على لوحة العرض أمامهما، فتتوالى عرض صور لأفراد وأماكن تبعًا، ترافق سرده :
– ندخل في شرح مفصل وحيوي للمهمة .. “مرتضى الجهيني” تسعة وخمسين عام، مهاجر مصري غير شرعي إلى الأراضي الإيطالية بعد ما ترك زوجته وبنته حديثة العهد خلفه منذ ما يقارب الواحد والعشرين عام .. اكتشفنا مؤخرا للأسف أن المنظمة الصهيونية دي احتضنته بعد كام سنة من معاناة أي مهاجر داخل البلاد هناك.. ومع مرور السنين والشغل معهم اثبت لهم الولاء لدرجة أنه بقى مسئول قدامهم عن العمليات التهربية اللي بتدخل مصر .. الموضوع فتح معاه والفلوس عرفت طريقها ليه وبالتالي بعت جاب زوجته وبنته واستقر للابد هناك .. المنظمة من قبل ما يجندوه هو وغيره معهم كانت بتعتمد على زراعة المواد المخدرة داخل البلاد هنا وخاصة على حدودنا الشرقية في مدينة طابا مع حدود فلسطين المحتلة، ولما بفضل الله تم اكتشاف مخططهم وإبادته من جنود الجيش البواسل بفرقتين الصاعقة والطيران الحربي في العملية المعروفة أعلاميًا بأسر الرائد طيار “حمزة حسين الألفى” أكيد كلنا نعرفها ..
أومأ برأسه صامتًا يسترعيه مهتمًا على الاستكمال، والذي استطرد الأخير حديثه قائلا :
– في الأواني الأخيرة لحظنا أن شرطة الداخلية بجميع أنواعها المختصة كشفت عن كمية كبيرة من المخدرات دخلت البلد، غير برضه ظهور أنواع متطورة من الأسلحة في الأسواق الغير مشروعة وده اللي اثار شكوكنا وخلانا نتفحص ونتحرى الأمر .. وبالتالي عرفنا كل المعلومات اللي قولتها ليك من البداية .. مش بس كده قومنا بزراعة طرف لينا حوالين “مرتضى” واللي قدر يأكد لينا معلومة مهمة، أن في عملية كبيرة جدا بل وقد تكون أكبر عملية هتدخل البلد بيخططوا ليها كرد على تربصنا لشغلهم ..
طبعا اكيد عرفنا محتواها بس المحير أمتى وفين طرفنا مقدرش يفيد بده كله للأسف لأنه في مكانه بعيده متسمحش ليه بتقصى صحة الخبر أكتر من كده أو حتى يلاقي ملف الصفقة ويصوره وبالتالي نعرف المعلومات اللازمة ..
استنشق الكثير من الهواء داخل رئتيه حرره بزفره عميقة متابعا في السرد ما أن أقتحمت الشاشة امامهم صورة لإمرأة شقراء بملامحها الأوروبية ..
“راشيل” تلاتين عام يعني من سنك يا “عمر” .. ايطالية الجنسية ويهودية الديانة، بتعرف عربي كأنها مولودة اب عن جد في الوطن العربي .. واحده من أفضل عملاء المنظمة في الأواني الأخيرة واللي زرعتها مع “مرتضى” في علاقة جواز ومسكن عشان تراقب ولاءه وسير أمور وأهداف عملهم على أكمل وجه .. وده طبعا بعد وفاة زوجته ..
طرفنا قدر يفيدنا بمعلومة حيوية تانية وقعت في أيده .. وهي أن بنته بتعمل محاولات هروب شبه شهرية من بيته عشان ترجع لجد والدتها اللي موجود حاليًا في مصر وطبعا والدها رافض ده نهائيا لدرجة أنه بدأ يعين لها حراسة خاصة مخصوص عشان تراقبها..
البنت دي اسمها “مرام” واحد عشرين عام، وللاسف منمتلكش صورة شخصية ليها لأنها من النوع المغلق والغامض شوية ..
البنت دي هتكون سبب زرعك لمخابرتنا جوا القصر والفرصة الوحيدة عشان نقدر نوصل لاي معلومة تفيدنا في العملية المنتظرة ..
ولكن خطتنا مش هنقدر نبدءها في إيطاليا مباشرة عشان لازم ليها تخطيط ممتاز وحبكة كويسة جدا لأن عدونا مش سهل التعامل معه .. واللي شجعنا على كده أن طرفنا أكد أنهم بيقوموا بعمليات صغيرة عشان ترهقنا وتفقد تركزنا .. وأن قدمهم سنين على تنفيذ مخططهم الكبير أقل شئ خمس سنوات لتعويض الخسارة اللي لحقت بيهم من الكشف المستمر لبضاعتهم من شرطتنا ..
أحنا هنا هنستغل شخصية أخوك “ياسين” الله يرحمه وخاصة أننا أخفينى خبر موته عن العلانية لغاية لما شرطة التحقيق توصل للحقيقة بأن نسبة الهيروين اللي ظهرت في دمه بسب فعل فاعل اقحمها غصب عنه في جسمه للتخلص منه وبالتالي نبدأ نشك بنسبة عالية في المنظمة أنها هي اللي صفته .. أو تأكد أنه قضاء وقدر ناتج عن أدمان اخوك للمخدرات برغبته وبالتالي المنظمة متعرفش عن شخصيته شئ ويبقى الخطة وجب تنفذها فورا ..
بداية الخطة هتكون أنك طبعا اترفدت من الشرطة وبعد معاناة هتدخل مصحة ويتم علاجك .. هتلتحق كحرس خاص في شركة عادية واطرفنا طبعا هتوصلك بطرق ملتوية لصديق مرتضى الصدوق ومن كبار رجال الأعمال داخل البلد هنا “مراد كاظم” ونحاول نعمله قضية اغتيال عادية مجهول فاعلها، ومتفبركة مننا تكون انت عالم بيها وتنقذه منها عشان تكسب ثقته وبالتالي يرشحك لهدفنا المنشود ..
طبعًا أحنا متوكلين على الله في العملية دي ثم عامل الحظ اللي يخلي مرتضى يحتاجك في نفس المدة الزمنية اللي وضعناها قبل تنفذهم هما لعمليتهم ..
عاد لحاضره على وقع خمسة أعواما تذبذب في أذنه بأيامها ولياليها المنصرمة ..
خمسة أعوام يحمل طوالهم هوية شقيقه وذكرى موته المؤلمة امام عينيه كظله، بعد أن بعثر التحقيق حقيقة فاجعة، والتي أكدت على ترسيب المادة المخدرة في دماء أخيه منذ مدة تسبق وفاته وعدم حداثتها .. ليقفل التحقيق على موت طبيعي نتيجة الأدمان ..
عبارة قفلت معها قلب الأم الذي انفطر للأبد وقلبه أيضًا ..
خمسة أعوام تتلاعب بهم وبخطتهم على أوتار الحظ حتى سار عمره الأن على مشارف عامه الخامس والثلاثون ..
والمفاجأة الكبرى لهم جميعًا بنهايتهم هو انضمام عامل الحظ لكفتهم فأثقلتها بتوفيقٍ من الله، وحسم الأمر أخيرا لاستمرار مخططهم، حين علموا بأن تلك الشرسة صاحبة الست والعشرون عاما الأن مازالت مستمره بنضالها كما هي ..
من أي نوع من النساء هي بنضالها هذا ؟!.. ولما ترغب في هجر والد يحمل بين طيات صدره عشق يفوق الوصف ؟!
الكثير من الاسئلة تجوب خاطرة كفضول ولن يسترعى اهتمامه للبحث عن أجابتهم .. فهي لا تعني له شيء ولن تكون .. فقط مجرد مضمار يجب خوضه للوصول لهدفه المنشود دون موانع وعراكيل من أي مخلوقٍ كان …