العميل 101.. أحفاد الثعلب 2
الحلقة التاسعة عشر ..
على هول ما سمعته من زوجة أبيها تباطأ النبض بعدما سُلبت انفاسها من قوة الصفعة، و برزتا عينيها من محجريهما فتماثلت لمن يراها بمنحوتٍ حجري لايدرك مصاعب وابتلاءت تلك الحياة، بينما على بعد عدة أمتار منها بالداخل استدار “عمر” محدقا بحدة عينيه بالشقراء يستوعب خطورة ما ادلت به، وهو يكاد يحافظ على ثباته في استنكاره الاذع:
– أنتي بتخرفي تقولي إيه !
ثم راقب بحنق مماطلتها الباردة وهي تجيبه مؤكدة :
– اللـي سـمعته بالـظبط !
وهلة من الزمن شحن صدره خلالها بالهواء للترَيَّث قبل أن يندفع معنفا برودوها اللعين، مردفًا عقبها وهو يفترس معالمها بهدوء مخيف:
– وأنا مبسمعش لا ليكي ولا لأي حد للأسف لأن المنطق هو اللي بيحكمني وبس .. واللي بيأكد على أن ورقي كله سليم ومفيش قوة في العالم تقدر تثبت عكسه .. وبالتالي بينفي أي حاجة تانية من تأليفك !
ثم ردد باشمئزاز وهو يشيح وجهه للجهة الأخرى لحسم ذلك النقاش قبل أن يفوح رائحته للعلانية :
– الزيارة الوضيعة انتهت !
بابتسامة باهتة يشوبها التهكم تجاهلت جملته وهي تقترب منه بخطوة أكثر ثقة :
– بس ده مش تأليف دي حقيقة و واقع .. وأنت عارف كده كويس !
ثم زفرت مسترسله قبل أن ينفي حديثها مرة أخرى:
– متخلينا نتكلم بوضوح ونكشف كل ورقنا أحسن من اللف والدوران على بعض .. أنا هنا مش عشان أقول حقيقتك وأكشفك قدام الكل .. لا بالعكس أنا جاية دلوقت عشان اتفاوض معاك لأن بصراحة كدا مصلحتي أنك ماتكشفش ..
نالت منه نظرة مبهمة فواصلت قائلة :
– إيوه .. زي ما سمعت بالظبط .. لأن أنا قلتهالك قبل كده وهفضل اقولهالك طول ما أنا عايشة أنت حركت مشاعر جوايا عمرها ما اتحركت لراجل قبلك .. زادت أكتر لما عرفت أنك “١٠١” الشخص المجهول صاحب المهام العظيمة اللي كلنا دايما بنسمع عنها .. وبنفس المشاعر دي هعمل المستحيل واتخلى عن مبادئ منظمتي مقابل أنك تكون معايا وليا لوحدي ..
ثم استطردت بعدما لاحظت اندهاش قسماته:
– ومستغربش عرفت أزاي .. لأن بعد تحري دقيق على صورتك الكترونيا في قاعدة العمليات المخابراتية ظهر لي رسم شبيه نوعا ما اترسم من خلال وصف كام راجل حضروا عمليتك الهجومية اللي قمت بيها من ٨ سنين في جنوب استراليا لتصفية عملاء مهمين في محور القاعدة الصهيونية واللي قالوا عنها بعد كده -رغم عدم تأكدهم بشكل قاطع- بأنها أكيد لأفضل رجال المخابرات المصرية المسمى على الساحة بـ “١٠١” ..!
كاد يفتح فمه إلا أنها قطعت ما أنتوى باستكمال فحيحها بعدما عقدت ساعديها أمام صدرها بثقة زائدة :
– صدقني تصميمك على الانكار مش هيفيدك زي ما أنت متصور لأن لسه عندي اللي اتقل من كده واللي متعرفهوش أنت ومخابراتك العظيمة أن “ياسين” مات من خمس سنين بين أديا أنا دونا عن العالم كله !!!
برهانًا قوي جعل مخطط بلاده ينازع رمقه الأخير في قاع الهاوية بعدما ذبحته بذكر موتة أخيه “وتلك كانت القشة التي قصمت ظهر البعير” !
تبدد ثباته الانفعالي وحرفيته المعهودة في مواجهة كتلك، عندما هتف من بين جز انيابه مغيبًا عقب اشتعال داخله بفتيل الحنين إليه:
– أنتي اللي صفتيه ؟!
لاح على محياها ابتسامة هادئة تضافرت بالخبث والراحة من اعترافه الغير مباشر وهي تجيبه باستيضاح دون أن تعي لصلة الدم بينهما :
– هجاوبك بالحقيقة ومش هكذب عليك عشان بس اثبتلك حسن نيتي .. أيوه هو مات مستهدف بالحقن البطيء من المواد المخدرة مش تعاطي زي ما تقريركم طلعت .. وأنا اللي كنت مسئولة عن تصفيته لأنه كان عضو نشط في المكافحة وقدر يوقف انتشار تمويلنا داخل الحدود فكان لازم يكون على رأس القائمة ..
اغمض عينيه كعتراض منه مبطن على قسوة حديثها وهو يسألها عن اسفسارا مقتضب نهش خاطره :
– ازاي ؟!
اطلقت أحدى ضحكاتها الصاخبة بغتة وهي تشبع فضوله :
– إيه يا باشا ما تخلي السؤال ده من حد تاني مش عارف اساليب لعبنا زيك .. وعلى العموم نخوة المصريين وشهامتهم لواحدة ست عربيتها عطلانه على طريق شغله وهو راجع متأخر لازم تظهر خاصة لما يعرف عن قصد أنها جاية زيارة صغيرة من أمريكا ومحتاجه مأوى وحد يساعدها في ابحاثها العلمية عن حقوق الانسان في مصر .. وبصراحة بعد ما تأكد من جواز سفري شهامته طلعت أكتر من تخطيطنا لما فتح شقته الخاصة ليا في الليلة دي لغاية لما يرجع الصبح بحجز فندق أو شقة إيجار مناسبة .. وأكيد اساليب الاغراء بعد كده والحجج لمساعدتي في ابحاثي بصفته ظابط منع خروجي من الشقة وجذبه ليا من اسهل ما يمكن خاصة لو كان شخص خام في الأمور دي .. وعلى قد ما تعبني بمبادئه واحلامه الزايدة أنه يعيش قصة حب نضيفة ويبني عش زوجية مثالي على قد ما كان تنفيذ مهمته السبب أن اوصل لمكانة مهمة في المنظمة ..
رغم أن كل حرف من حروفها ادمى قلبه مما جعله راغبا في تمزيقها إربًا، إلا أنه غزاه وميض راحة بعدما علمّ ببراءة أخيه وقاتله بعد صبر دام لسنوات! .. ولكن لا الوقت ولا المكان سيسمحان له بالقصاص، فأولوايات الوطن الذي طالما يفتديه واجبة قبل كل شيء أخر ..
سحب نفسا طويل ثم همس ببطء مميت :
– وايه هي عروضك ؟!
- أنت مقابل أن اسكت !!
صمته عقبها جعلها تطمع بالاقتراب منه أكثر وهي تسترسل باغراء لشوشرة تفكيره :
– يعني أنا بمعنى أصح هكتفي بأنك تكون معايا مقابل أن مبلغش عنك وهسيبك كمان تمشي في مهمتك زي ما أنت ماشي واللي هي واضحة وضوح الشمس بأن مخابرتكم شمت خبر عن العملية اللي بنخطط لها ووعد مني مش هقف قدامك أو أعركل أي تقدم بتعمله ..
ثم واصلت وأناملها تستبيح برقة في حيز الجزء المكشوف من فاتحة قميصه :
– اللعب هيكون مشوق ما بينا بأن بليل نكون حبايب والصبح أعداء بدون ما نخلط الأمور ببعضها والشاطر اللي يثبت نجاحه في الأخر سواء أنا أو أنت وفشل الطرف التاني ..
نالت منه نظرة حادة وهو يشل حركة يدها بقبضته الحديدية التي ارتجف بدنها من صداها، ومع ذلك تصدت لها بثباتها المزيف والصمت الكافي لترك مساحة له للتفكير وهي واثقة من قراره عقبها، ففصيلة تلك الفهود يبنى لديها حب الانتماء والتضحية لأجل القبيلة قبل انطلاقها في ساحة القتال !
————————–
طرقت بلطف على بابه ثم همت بفتحه وهي تدلي بما لديها بتنمق واحترافية :
– “حسين” أنا جهزت قاعة الاجتماع بالأوراق المطلوبة للتعاقد و”علي” كمان وصل مكتبه ودقايق بسيطة ويكون في المبنى هنا
ثم بنظره عاجلة طالعت ساعة معصمها وهي تواصل :
– والمفروض يكون الشريك التالت على وصول دلوقت في حاجة تانية اعملها ولا كده تمام ..
انتبهت لشروده عن واقعهما فصاحت بنداء حذر :
– “حسين” .. “حسين” !
انتبه لتوالي نداءها، فتنحنح متحشرجا :
– نعم يا “أميرة” بتقولي حاجة !
- لا دا أنت مش معايا خالص .. في حاجة شغلاك !
- لا متشغليش بالك مشكلة مع صاحبي وإن شاء الله هتتحل ..
تنحنت بعفوية بعدما استوعب بديهيا من ذلك الصاحب، فحتما يقصد “أمير” بعد موقف الأمس ومغادرته للحفل من فوره بكل غضب وسخط يحتله ..
في عقر شرودها هي الأخرى جاءها استفساره عن سبب حضورها فأعادت بارتباك ما قالته مرة ثانية، فأومأ إليها هاتفا :
– لا كده تمام قوي .. يلا بينا على القاعة نستقبلهم ..
تراخى جفنيها المتشددين بخذلان فور سماعها لموافقته، فأذرّفت العبرات الدافئة الواحدة تلو الأخرى دون ادراك وهي تأسر حزنها داخل قلبها الملكوم، الذي بات دقاته تعلو صاخبا بعدما اكتال هما بما سمعته !
اشتدت عزما على جسدها المرتعد ثم حركت ساقيها المثقلتان في اليابس تنوي الفرار .. ركضت دون أن تلتفت خلفها ظنا بأنها كلما ابتعدت كلما نفضت عن أذنيها صدى ما سمعته من خرافات .. ركضت تسابق الرياح بوحدتها وهشاشتها حتى احتضنتها جدران غرفتها الأربع .. تُبعد لاهثه ستائر نافذتها المنسدلة عن حدودها لتثبت لعقلها الذي سيجن بأنها داخل سبات عميق وما مرّ عليها ما هي إلا اضغاث أحلام لا صحة لها .. فصفعت عينيها الباكية برؤيتها وهي تغادر مسكنه بعدما نال منها قبلة فوق خده في صمت وخنوع ..
إذا لا أكاذيب إلا واقعها الذي كانت تجمله !
الرجل الذي رحب به قلبها مالكا قاطنا داخل حدوده ليس شخص طبيعي كما كانت تظنه، وماهو إلا ضابط مخابرات لا تعلم عنه شيء ولا حتى اسمه الحقيقي، جاء إلى هنا متخفيا لاداء إحدى مهامه والتي حتما القضاء على والدها وتجارته المشبوهة ومن ثم سيبتعد عقب قضاءها ..
لتضوي الكارثة بخضوعه لابتزاز تلك المريضة النفسية ..
دوامة إعصار وقعت وسطها دون إرادة جعلتها تجثو ارضا تنتحب بشهقات مدوية حالها وهي تنوي مُصرّه على اقتلاع بذرة عشق ذلك الرجل من تربة فؤادها قبل أن تنبت وتزدهر !
————————–
تصادف خروجهما مع قدوم “علي” والعجوز فتبادلا التحية ودخلا معا للقاعة المغلقة لمناقشة أعمالهم الهامة والسرية .. احتل كل واحدا منهما مكانه على الطاولة المستطيلة وقبل أن يسأل “علي” عن غائبهم ولج ” أمير” عليهم بملامحه العابسة وعينيه المطرقة يحتل مقعده هو الأخر !
بينما على الجهة المقابلة له عقب رفع حدقتيها بنظرة تلقائية لضيفهم القادم توقف الزمن حولها، بعدما سقطت روحها صريعة الحال وهي تشاهده أمامها وجها لوجه دون حواجز يحتل مقعد الشريك المنتظر !
ولا يختلف رد فعله عنها كثيرا عندما جلس ووقعت عينيه المحدقتين عليها، مما أيقن بأن ما وصل إليه من قرار رغم أنه سيسب له الخسائر الفادحة إلا أنه بات الأنسب الأن !
ملأ محيط صمتهم اثناء مراجعة بنود العقود واستعدادهم لسرد الأسرار الهامة فيما بينهم بقوله الحازم الذي سقط عليهم كالصاعقة :
– سيد “علي” شكرا لثقتك الغالية بي واقدر بامتنان موقفك تجاهي في مشاركة تنفيذ مشروع هام كهذا .. ولكني لاسباب خاصة بي أقدم اعتذاري لك مقدما عن قبول تلك الشراكة !
رددها على مسامع الجميع ثم انتصب من جلسته مغادرا حيز تجمعهم .. تاركهم خلفه مطرقين الروؤس في سكون كأن عليهم الطير، وملامح “علي” المندهشة تبحث في وجوههم الشاحبة عن الأجابة المرجوة لشكوكه ..
بقوله القاطع لانفاسهم آجمعين :
– استمع جيدا لتفسيركم ؟!
مع بكرة اليوم التالي وقبل أن تمحض الشمس اشعاتها النادرة في سماء تلك البلاد خرج خلسة لمقابلة زميل مهمته في مركب صيد حُصر عليهما بعدما ارسل إليه إشارة من خاتمة المزود باحدث تقنيات التكنولوجية المتقدمة للتواصل في عالم المخابرات وما تحتويه من أصغر كاميرا مصغرة يشهدها العالم ومهام حيوية أخرى متعددة ..
صديقه “عبدالرحمن” الذي ترك التجديف وصاح فزعا ما أن استمع لأخر تطورات الأوضاع بالأمس :
– دا على كده العملية لازم تتلغي وأنت تنسحب فورا وترجع معايا !
استقبل بملامحه المتجمدة توجسه الآمر بلا مبالاة، ثم مالا للأمام يتكئ بساعديه فوق فخذيه وهو يردد بحزن اعتلى نبرته :
– أهدى يا “عبدالرحمن” وخلينا نفكر بالعقل !
صاح صديقه في جنون :
– أي عقل بطالبني بيه بعد اللي سمعته منك .. ولا أنت مش مستوعب مدى الكارثة اللي وقعت فيها ..
ثم بحزم صارم واصل :
– أنا لازم أبلغ السلطات المسئولة حالا وهما اللي هيأكدوا قدامك على قراري بأن المهمة دي لازم تتلغي فورا ..
على ذات جلسته اجابه بهدوء بعدما حرر زفرة عميقة :
– ونضيع تعب السنين دي كلها ؟!
حدج جانب وجهه في ذهول وهو يكاد يصرخ:
– يا “عمر” الست دي دمها يهودي وملهاش أمان .. يعني ممكن تتفق معاك على حاجة ومنين ماتنول اللي بتسعى وراه تبيعك في أي لحظة بعدها .. وأحنا مش مستغنين عنك أنت بالذات جو لعبتها القذرة دي ..
على عكس حالته رد عليه بطمأنينة:
– محدش هياخد اكتر من نصيبه .. فقل لن يصيبنا شيء إلا ما كتب الله لنا ..
- “عمر” استسلامك لمخططها وسكوتك ده هيجنني .. فيه إيه أنا معنتش فاهمك بجد ومعهدتكش كده طول فترة شغلنا مع بعض !
- وصدقني هيجنني يا “عبدالرحمن” قبلك بس اللي بخليني اتقبله بأن اتحطيت في كفه وكل شباب بلدي المهدد أن يشرب مخدرتهم من الصفقة دي في كافة تانية وبكده لازم كفتهم هي اللي تميل ..
ثم واصل بعد صمت لم يدم طويلا:
– ولا أنت رأيك إيه يا صاحبي !
طال صمت “عبدالرحمن” ولم يجيبه فالتفت “عمر” إليه بملامح قاسية لم تنعم بالنوم لليلة كاملة :
– عارف ماجوبتنيش ليه .. لأنك عارف بأننا من يوم ما دخلنا شغلنا ده وأحنا ماشيين بِكَفنْا على ايدينا بعد ما عهدنا نفسنا واقسمنا نضحي بكل اللي نملكه في سبيل إن وطنا ينعم بالأمن والأمان ..
لايمانه الكامل بما قاله صمت لوهلة مستسلما ثم رد عقبها باستياء خافت:
– طب ازاي هتقدر وأخوك الله يرحمه و الست دي گـانو….
قطع جملته بعدما نال من “عمر” نظرة حادة تقدح شزرا وهو يتمتم :
– أهي دي من أكبر التضحيات اللي ممكن تدوس بيها على كل المشاعر الأدامية في الكون وتعملها عشان غيرك !
ثم واصل باصرار منقطع النظير :
– عبدالرحمن أحنا في وظيفتنا دي اتخلقنا عشان نُسير مش نُخير .. عشان نقف قدام المستحيل ونفذه .. عشان دمنا يكون جسر لاجيال تعبر عليه من بعدنا!
————————–
راح يطالع بعينين جاحظتين المشيب الذي اضطر أمام اصراره بأن يسرد له في احد الغرف المغلقة ذلك الأمر الذي أدى إلى جعل “أمير” يأخذ ذلك الموقف ..
والذي واصل هلعا ما أن رصد تغيرات معالمه :
– صدقا بني ليس هناك أكثر من ذلك .. فقط رجل تقدم لطلب الزواج ورفض من الجد لأن الفتاة كانت متزوجة بالفعل منك بعقدنا الموثق ..
بضيق عينيه الغائمة همس بنبرة مخيفة تثير الرعب في أوصال من يسمعها :
– وهي !
طالعه “شاكر” بتمحلق وهو يسرع في نفي ما استوعبه من كلمته المقتضبة :
– كلا .. كلا “علي” ليس الأمر كما فهمته .. فهُنا الأمور لا تسير مثل امريكا بضرورة تعارف الطرفين قبل الزواج والوقوع في قصة حب .. فقد يتقدم الرجل للمرأة دون حتى أن يعلم اسمها أو شكلها، فقط يكتفي بترشيح الأهل لها .. وحتى أن خالف البعض ذلك .. فحجاب ابنتنا وعفتها خير دليل على حدودها مع الرجال .. وأنت أخر إنسان لا تحتاج لحديثي هذا حتى تعلم ما هي عليه .. ثم الأهم من هذا كله هو عدم علمها إلي الأن بالأمر برمته !
هو محق هو لا يحتاج أن يعلم عنها شيء فما رصده من جانبها قبل القران الشرعي يكفي على طمس أي سؤالا يثيره .. ولكن موج الغيرة بداخله لطخه باوحاله فخرج سؤاله الشاذ دون وعي .. أغمض عينيه معاتبا ذلك العاشق الغير متزن بداخله متوسلا عقله الرزين بتولي الأمر ..
وها قد جاءت بوادره حين همس بحاجبين مقطبين :
– طالما المضمون كذلك لما تطور الأمر بهذا الشكل ..
فجاءه نبرة العجوز موضحة باستياء :
– دعنا نقول بأن كرامته جرحت دون قصد منا وليس أكثر ..
عاد بظهر للخلف يمسح وجهه بكفيه مضيفا بنفاذ صبر :
– اسمعني جيدا سيد “شاكر” برغم أن الأمر مسني بجنون ولكني لا أحب أن يشيع الحديث أكثر من ذلك خاصة أنه من الماضي، فما تتحدثون عنها اصبحت زوجتي ولا يحق للجميع ذكرها على السنتهم حتى لو بالخير بالأضافة إلى أني لا أحب أن أنقد وعد وعدته بكامل إرادتي .. فهذا الشخص اتذكر له جيدا بأنه لم يخذلني حين لجئت إليه والأكثر عندما لمست السعادة الحقيقية لفعله في عينين السيدة “رقية” وزوجتي لهذا سعيت بأن اكافئه بالاستفادة من هذا المشروع الذي لا يحتاج لاضاعة الوقت أكثر من ذلك ..
استوعب “شاكر” حديثه جيدا فأومأ بالإيجاب متنهدا :
– لا تقلق تجاه هذا الموضوع من بعد الآن، و أنا كفيلاً بحله و أعادة الأمر كما كان ..
————————–
راقبت بتمعن خروج العجوز مطرق الرأس من غرفة مكتبه ليسجل هزيمته أيضا بعدما فشل “حسين” في اقناعه للبقاء ..
عقبها ايقنت بأن ما تبقَ لتصيح المسار يقع على عاتقها هي فقط .. لذلك تجرأت وحركت خطاها تجاهه وهي تحدث ذاتها بأن من افسد شيء عليه يجب عليه اصلاحه بالاعتذار الذي يعزز من قيمة صاحبه وليس كما يظنه البعض بمحو الكبرياء ..
اطرافها المتصلبة اجبرتها على الثني للقبض على مقبض باب مكتبه ومن ثم الدخول بعدما تركته مواربا ..
فتفاجأ بحضورها وقبل أن يودعه الاندهاش صدم من حديثها المتلاحق بنسمات خجل :
– استاذ “أمير” أنا بعتذر لحضرتك على اللي حصل مني امبارح لأن متأكده بأنه السبب ورا تطور الوضع لكده .. وصدقني معرفش ده كله حصل ازاي بس اللي متأكده منه أنها كانت لحظة غضب طالتك بشرها ..
اسفها جاء على غير المتوقع ومع أن اخلاقه غير محفزه لفعلها إلا أنه لمس حزن قلبه وجاء شفاءً لخاطره، مما جعله يشعر بأنها ليست كباقي أكثر البشر حين لا يلومون انفسهم ويقرون بما فعلانه من ذنب، وحتى أن اعترفوا به فيما بينهم يرفضون اتخاذ خطوة التكفير عنه بكل كبرياء !
احرجته بكرم خلقها حقا مما جعله يتمتم سريعا:
– ولا يهمك .. وبدون اعتذار ..
ثم اضاف عن قصد :
– وأنا كمان بقدم اعتذري لحضرتك لأن اتكلمت ومسكتش في توقيت كان غلط بالنسبالك ..
لاحظ احمرار وجهها خجلا ما أن ذكرها بما مضى فقال عاجلا بعدما قرأ افكارها :
– على فكرة مش عيب ولا غلط أننا نعبر عن مشاعرنا بأي شكل أنا ذات نفسي بعملها بدون تخطيط وبدون ما ادفنها جوايا .. لأن ربنا مخلقناش جبال بتواجه الحياة بتحجرها وقسوتها أنما خلقنا بشر من دم وقلب محتاجين لحظة فضفضة مع النفس أو مع حد موثوق فيه عشان نقدر نكمل اللي جاي بعد كده من غير أمراض نفسية أو عصبية !
اجتاحتها الراحة بعدما لمست وجهة نظره جُرحها الذي خلفه ذلك الموقف المحرج لها، مما هزت رأسها مؤيده عليه وهي تستدير مغادرة في صمت ..
فتوقفت خطاها بغته على قوله :
– هو مين ؟!
فالتفت إليه بملامح مستفسره، فواصل قائلا :
– يومها قولتيلي إن حرمتكم منه .. هو مين !!
فودعها الاستفسار بعدما تفهمت مقصده، فاجابت بخفوت:
– جدي !
ثم استطردت بحزن :
– لما عملت كده كان هو عاقد زواج “هنا” على “علي” وفي بعض المشاكل اللي تمنع الجوازة دي تتم فبالتالي جدي بعد مقابلتك حس أنه ظلمها وقلبه مستحملش ..
ثم صمتت تقاوم دمعة مؤلمة كادت تفر على وجنتها، بينما هو رغم تفاجئه بأنها شقيقة “هنا” إلا أنه فاق سريعا يبرر موقفه :
– صدقيني أنا معرفش والله كل الأحداث دي اللي بقدملك اعتذاري عنها مجددا .. حتى لما رجعت اسكندرية ماسألتش حسين بعدها على ردهم لأن بدال مبلغنيش بالموافقة يبقى رفضوا وبيني وبين نفسي تقبلت ده بصدر رحب لأن مقتنع دايما بأن الجواز قسمة ونصيب من ربنا ومحدش له دخل فيه ..
تنهدت تجيبه بعينين منخفضتين :
– ولا يهم حضرتك لأنك فعلا ملكش ذنب في كده .. هو مجرد ادعاء كاذب خرج مني في لحظة ضعف إيمان نسيت فيها بأن الأعمار بيد الله وحده ومحدش له دخل فيها ..
ثم استدارت تكمل خطاها مغادرة وهو خلفها منذهلا لا يكاد يستوعب الوجه الأخر لاخلاقها، مؤكدا بأن ما شهده الأن من وجه هو الوحيد لها، وأن ما حدث في البداية ماهو إلا وجه عرضي احكمه بشاعة الموقف الغابر ..
————————–
مر اسبوعا كاملا في العاصمة الأيطالية روما على تلك الأحداث أهمها ..
- أيقنت “مرام” بعد معاناة بتمدد نبتة عشقه بإريحية في جوف قلبها، وأن عملية اقلاعها قبل أن تينع باتت درب من المستحيل، ومع هذا مازالت لم تيأس بعد و تجاهد بكل ما أوتيت من قوة لقلعها كي تغرس بديلا عنها بذرة كرهه كلما رأت خروجهما السري خلف بعضهما في لقاءاتهما المتفرقة خارج القصر!
- تدهور حالتها النفسية واصبح البكاء والقهر رفيقيها الأوحدان بعدما اختارت أن تدفس رأسها في الرمال كالنعام ولا أن تبلغ والدها الذي حتما سيقضي عليه فور علمه وهذا ما لا يحبذه قلبها العاشق ..
والدها الذي صدمت فيه للمرة الثانية عندما علمت بصهونية عمله ليزيد الطين بلة .. - لم يغب نحول جسدها لقلة الطعام وتغيراتها النفسية عن عين المسنة “أنيسة” فباتت الحيرة والحزن رفيقيها على حال تلك المسكينة التي تعزل نفسها عن الجميع، واعتقادا بداخلها ينمو ويتفحل مع الأيام بأن سبب ما يحدث لها نتيجته عدم علم ” ياسين” بعشقها ومعاملته القاسية الدائمة للوقوف ضد هروبها ..
في نهاية الأسبوع وبحجة متابعة تسجيلات المراقبة لتأمين ابنة صاحب القصر، علم “عمر” عند مشاهدته للقاء “راشيل” مع “مرتضى” اثناء رجوعها من تلك السفرة بحوازتها على ملف كامل أو شريحة مدمجة عن العملية وطرق تنفيذها مكانيا وزمانيا .. لهذا اجمع همته للوصول إليه بكافة الطرق لأجل قضاء مهمته التي باتت أثقل على صدره من ثقل الجبال..
واليوم عقب ترقبه لخروجها مع زوجها “مرتضى” في موعد عمل باكر على غير العادة انتهز الفرصة وتسلل خفيه لغرفة مكتبه بعدما عطل عدساتها المراقبة للبحث داخلها عن مكان الخزينة وفتحها بحرفيته المعهودة في تلك الأمور ..
في ذلك الأثناء تحررت “مرام” من غرفتها أخيرا ما أن علمت بخروج تلك الحرباء -التي اعتزلت عن رؤيتها طول تلك المدة- تنوي استنشاق بعض الهواء المستجد في الحديقة لعل تلك الحالة المكتئبة تحررها هاربة .. فرصدت حينها وهي أعلى الدرج تسلله الخفي للغرفة، بابتسامة تهكمية علمت ما يفعله فتجاهلته وكأنها لا يعنيها أمره وهي تستكمل هبوطها نحو حديقة القصر، وداخلها رغم ادعاء كرهه أن يكون التوفيق حليفه لعل خلاصها من ذلك البيت يكون على يده قريبا ..
في الداخل عانى “عمر” حتى وصل لموقع الخزينة السرية والتي كانت أسفل صندوق معلق لنوعية شهيرة من أسماك الزينة تسمى “الجوبي”والذي يحتل بجاذبيته أحدى الزاوية بالغرفة .. ثم مع توالي المحاولات لفتح بابها فُتح أخير ببصمة مزيفة لعينين “مرتضى” خرجت من فص خاتمه الذي التقطها له قبل ذلك مما انكشف عن مكنونها أمام ناظريه ..
بعض من الماسات النادرة بالوانها البراقة بالأضافة لعدة ملفات ضئيلة والتي بات يتفحصها واحدة تلو الأخرى منذهلا من محتواها رغم أنها لم تختص الصفقة من قريب أو من بعيد ..
بينما في الخارج استمرت في تجوالها في نقاء الطبيعة لبعض الوقت حتى سمعت مصادفةً نداء القائم على غرفة المراقبة وهو يأمر أحد الحراس الأقوياء بضرورة المرور في الحال على غرفة المكتب وفحص كاميراتها لتعطل شاشتها أمامه فجاة في وضح النهار ..
مجرد تخيلاتها الشنعاء وذلك الحارس يشاهده جعل التيه يحتلها وهي تلتفت حول نفسها بتشتت إلى أن هرولت مغيبة تجاهه لتنبهه بالخروج قبل قدومه إليه وكشف أمره ..
لم تتباطأ في ركضها الذي انحنى تجاه غرفة مكتب والدها ما ان عبرت باب القصر الداخلي، وهي تلتفت خلفها باضطراب لمراقبة مدى بعد ذلك الحارس منها فصدمت من تقاربه البين ! فزعت وهي تواصل خطاها غير عابئة بتهدج صدرها و لاهث انفاسها، فالأهم حمايته قبل كل شيء كحال كل محب تحتله مشاعر حقيقية تجاه محبوبه !
نجحت في اقتحام الغرفة سريعا مما صُعق “عمر” من وجودها وتوجهها الراكض لقفل باب الخزينة المنفرج وهي تمد يدها على الملفات التي بحوزته لابعادها ومدارتها في أحد الادراج، إلا أن رؤيتها لظلٍ ثالث شارك ظليهما على الحائط خلفه شل اطرافها، وجعلها دون تفكير تحصرهم بين جسده وجسدها الذي اقترب منه بغتة في عناق حميمي أكدته بالتفاف ساعديها حول عنقه وهي تستكين بشفتيها فوق شفتيه في قُبلة وهمية!!
صدم، تخشب ذراعيه المسدلان بجانبه، ومن ثم تجمد عقله عن التفكير وهو لا يستوعب ما حدث منها بسرعة البرق مؤكد بأن الجنون حالفها بين وهلة وضحاها، إلى أن لمح بنظرته الجانبية الخاطفة ذلك الحارس على باب الغرفة فرفع يديه دون تردد لاحتضانها وهو يكمل ما تفعله بتمثيلٍ متقن !!
والذي رصده الحارس بعينين شاخصتين وملامح مذهلة مما جعله يردد ملعثما بالأيطالية وهو يتقهقر للخلف :
– عذرا .. عذرا !
فابدعت “مرام” بتفاجئها به، ثم صاحت تعنفه كرد فعل طبيعي لا يثير الشك :
– أيها الوقح هناك باب يطرق قبل أن تقتحم خلوة اسيادك بذلك الشكل !
ظل يقدم اعتذاره بتوالي كي يستجلب مسامحتها ومن ثم فر هاربا من أمامهما مقتفيان معا أثره حتى ابتعد ..
ومع ابتعاده ابتعدت هي الأخرى مطرقة الرأس على استحياء تنوي المغادرة، فعرقل تنفيذ خطاها نداءه الخافت :
– “مرام” !
استدرات بنظرة منكسرة عن ملامحه وهي تزم شفتيها متمتمة :
– أنت مش مجبر تشكرني يا حضرة الظابط .. لأن أنا اللي هكون مضطرة اشكرك في يوم من الأيام لما تنجح مهمتك وتكون السبب أن أخرج من هنا !
ثم اختفت من امامه في لمح البصر بإباءة مزيفة .. بينما نبش قلبه شيء خفي كأولى نبشات الجنين بالاحشاء لا يعلم هويته .. ولكن ما هو متأكدا منه بأنها انصتت جيدا لحديثهما في تلك الليلة الهالكة !
————————-