العميل 101.. أحفاد الثعلب 2
الحلقة الخامسة عشر
بنطالا من الجينز الملتصق وبلوزة عصرية من الستان اللامع بلونها التركوازي مبتور كُميها ذلك ملبسها داخل دورة المياة، ثم خرجت لحيز الغرفة تصفف بعناية شعرها المختلط بسواده وبنيته، وبقليلا من أدواتها المصنعة أتمت استعادها تحت نظرات الجالس ينتظرها على مضض والذي راح يحادثها متهكما :
– كتير من البنات سطحيين بيهتموا بشكلهم الخارجي عشان يجذبوا فئة ذكورية بحتة .. وللأسف في حرب الخديعة دي بينسوا يحسنوا أرواحهم وأخلاقهم عشان يجذبوا راجل بجد ..
التفتت “مرام” عقب انتهاء حديثه الجارح تحدجه بنظرة منكسرة يرافقها الصمت لبعض الوقت اختتمته بخفوت وهي تجاهد غصة بحنجرتها :
– أاانا جاهزة ..
استقام “عمر” يمد ساعده تجاه الباب يأمرها بنفاذ صبر:
– يلا بينا ..
تتبعته راضخة تبتلع إهانته ببرود رغم ضيقها الداخلي ورغبتها المستجدة لتصحيح صورتها أمامه وتوضيح الأمر بأن هذا من أجل خداعه للفرار .. ولا تعلم لما تلك الرغبة بدأت تزورها للتو ..
فمنذ متى هو ورأيه يفرقان معها .. بل قل منذ متى تلتحف بالصمت ولا ترد على هجومه بهجوما مماثل !
ازدردت ريقها بريبة وباتت تقنع ذاتها المشتتة بحجتها الواهنة بأن لا عاد يعنيها مهاجمته بطريقتها المعتادة لأنها حتما مفارقته للأبد بعد تنفيذ مخططها الأعظم .. لهذا اتخذت الصمت حليفا !
عقب اخماد تشتتها بتلك الأكذوبة مضت في خطاها وهي تتجاهل تلك الخرافات المتراقصة خفية داخل رأسها ..
على بعد دقائق قليلة بسرعة سيارتهما ترجلا الاثنان أمام حشد جماهيري تعدى عشرات الألوف، يتراقصون بأجسادٍ بعضها عاري والأخر محتشم شيءٍ ما تحت الأضواء الكاشفة في تلك الساحة المنفرجة، والتي يغزوها اصواتًا صاخبة من موسيقى ذلك المطرب الذي يتهافت عليه المدعوين المهوسين بصوته ..
مع تعجب نفسه مما يبصره مضى يقنعها باستماته بأنها هي تلك الصورة الحقيقية لحياة ابنة “مرتضى”، التي كان من المفترض عليه توقعها قبل حضوره حتى لا يتفاجئ مما رأه ..
انتبه من شروده على رغبتها المتحفزة للدخول وسط الجمع للوصول لمنصَّة الحفل فقال متعجبا:
– على فين إن شاء الله ..
مع تزايد الصخب الموسيقي حولهما قالت بعلو صوتها وهي تلوح براحتها تجاه أذنها:
– مش سامعه حاجة ..
فأعاد ما قاله بعلو مماثل، فمضت تجيبه برجا:
– عشان خاطري يا “ياسين” سيبني أوصل له أنت متعرفش أنا كنت بستنى حفلته دي أزاي ..
تفاجأ برد فعله السريع حين خرجت هزة رافضة من رأسه عوضًا عن صوته يتبعها تصميمه الراسخ البادئ على وجهه، فتراخت معالمها يأسه والحزن يسكنها ..
عقب اطلاق سهام نظراته إليها بتمعن زفر بضيق وهو يجيبها بعلو صوته الموجه تجاه أذنها:
– بشرط أيدك في أيدي وهتمشي ورايا لغاية ما أوصلك هناك بنفسي ..
تسلقت نظراتها حتى وصلت إلى عينيه فلمست صدق نواياه، حينها لم تعي بأنها قفزت مهلله بسعادة كالأطفال وهي تمد راحتها إليه لتخبره بصمت بأنها على أتم الاستعداد، فـ راح براحته يقبض عليها بزفرة قوية مستسلما للأمر وهو يشق بها بؤرة التزاحم ..
عقب الكثير من الوقت والأجهاد الشاق الذي بذله في تفرق الجمع من أمامه،استدار بقدر ضئيل يحكمه التكدس من حوله قائلا بصوت مرتفع :
– أظن القرب ده كويس جدا ومينفعش ندخل اكت….!
بتر جملته عندما شاهد بقبضته راحة فتاة أخري من أبناء تلك الأرض شاردة ببسمة حالمة في هيئته .. والأخرى لا وجود لها !
تخطى صدمته يبحث بعينيه عنها بجنون، ولكن ضله الحشد الكبير وضيق المكان من حوله، فنزع حانقا راحته من يدها ثم رفعها لتمسح فوق معالمه المتجهمة حتى انتهت مشددة على خصلات شعره بعنفوانية محاولا جلب الصبر وجلد ذهنه للتذكر .. والذي رد احتياجه متذكرا صرختها منذ دقائق بتعلق بعض خصلات شعرها بأحدهم وضرورة ترك يدها لتسليكه، لم يتركها ألا وهلة متيقنًا بأن لا هروب لها في ذلك الأزدحام الذي يعيقه هو ذاته للالتفات إليها بكامل جسده حتى أعطته راحتها مرة أخرى ..
الأن تأكد بأنها قصدت ذلك من أجل الفرار بعد أن وضعت راحة فتاة أخرى في يده ودعتها لمرافقته ولحظه العسير كانت دافئه وبقدر مقاس كفها بالدقة إلا وقد كان شعر بالتغير من الوهلة الأولى!!
ـ يا بنت ال××××× ..
رددها من بين جزّ اسنانه بتوعد، ثم شرع بعجالة يحارب الازدحام مرة أخرى لأجل الخروج من تعثراته والعثور عليها بشتى السبل بعد أن قام بمسح لؤلؤة خاتمة باستفاضة ..
————————–
انحنت قليلا تحمل هائج فستان زيتوني للمحجبات من أمام قدميها وهي تتحرر به من غرفة تغير الملابس .. لتتوجه به للأمير شاه الذي يضع ساقه فوق الأخرى .. ويأمرها بديكتاتوريته فيطاع .. والتي ما أن رأته أمامها بابتسامته المستفزة حتى هتفت بنفاذ صبر :
– “لي” هذا الفستان بالفعل جيد جدا مثله مثل السابقون .. محتشم .. بل أكثر من محتشم .. لا يظهر منه أي مفاتن للجسد .. ولونه هادئ إيضا .. أي كامل المواصفات !
ثم تابعت برجاء:
– أرجوك قل أنه يعجبك مثلي .. ومن ثم ترحمني للمرة التي لا أعلم عددها من قياس الفساتين ..
تخلى عن جلسته المهيبة مستقيما يبتلع الخطوات بينهما وهو يتمتم بنبرة هادئة تمتزج بالبرود ولا توحي بشره الداخلي:
– ولا هذا أيضا يعجبني ..
احتقن وجهها بتدفق دماءه الغزير وهي تستشيط غضبا:
– أنت حقا تمزح .. لا أنت لا تمزح .. بل أنت تسخر مني حتما .. فأنا صرت عارضه لجميع انتاجات ذلك المركز التجاري من بدايته لأخره حتى الأن لتخبرني في نهاية المطاف بأن لا شيء يعجبك ..
وضع راحتيه في مخابئ بنطاله مرددا باستفزاز وهو يدني برأسه قليلا تجاهها :
– نعم لا يروقني ما ابصرته .. وأن لم يعجبنا هنا شيء سنذهب لغيره ..
– لاااااا .. نروح لغيره فين صلِ على النبي كده !
رددتها بفزع ما أن اقتحم ذهنها هاجس تكرار ما مرت به على يديه هُنا منذ قدومهما برفقته .. ثم اتبعت مستأنفه بحنق :
– أنا بقول معنتش اختار أنا يمكن ذوقي فعلا وحش ومابيعجبكش .. أو يمكن أنت شايف اللي قستهم فاضحين لمعالمي مع أن أنا مش شايفه كده خالص .. غير أن مابستناش تعديل أي حد في النقطة دي بالذات لأن بحب الاحتشام الكامل في أي حاجة بلبسها .. ومع ذلك عشان أخلص من الأرهاق ده أخرج أنت بره للعرض واختار اللي يعجبك وأنا هروح البروفة اقيس أول واحد تختاره وصدقني هاخده وأنا راضية تماما .. ها حل حلو أهو يا سي علوه أفندي قلت إيه ؟!
رصدت إبتسامته تتسع عقب إنهائها للحديث فقالت مندفعة بضيق :
– ما المضحك بحديثي الأن يا “علي” !
بهمس فاتر قال باسما :
– لاشيء غير أنك تفوهتي به بالعربية وأنا لم أفهم منه شيئا مطلقا !
برزت عيناها بشدة وهي تستوعب ما قاله، ثم أغمضتهما مرة أخرى وهي تغمغم لترويض ذاتها المحتقنة :
– استغفر الله العظيم .. الصبر من عندك يا صاحب الصبر .. ربنا يسامحك ياللي في بالي ما أنا كنت قاعدة في أودتي لا بيا ولا عليا ..
ثم على حين غرة فاتحتهما مرة أخرى ترسم ابتسامة باردة على معالمها وهي تعيد حديثها باللغة الانجليزية، فأتاها رده باقتناع:
– تمام هذا حلا جيد بيننا ..
زفرت بصوت مسموع وهي تنحني لتحمل فستانها الهائج وهي تمتم برضا :
– أخيرا .. الحمدلله يا رب …
تابع مغادرتها وإبتسامته تتسع بانتشاء مغمغما مع الذات :
– من الجيد رؤيتك بجميع حالاتك يا “آناتي” والتي باتت تروقني عنادها وبشدة ..
ثم تحررت ضحكته المقهقهة وهو يحرك خطاه للخارج لتحقيق مراده بالدقة المطلوبة كما خطط له تماما ..
——————-
ما أن أبصره بالقرب من موقعه يلتف حول نفسه بحيرة حتى راح يجذبه بغته لمخبأ متواري عن العين، فاستدار “عبد الرحمن” ينقض على المتهجم إلا أنه شل فعله حين تمعن بملامحه جيدا في بصيص الضوء المتسلل لظلامهم الدامس، فهتف مندهشا:
– “عمر” في أيه .. وليه استدعتنا هنا متعرفش أنه خطر على حياتك لو حد شافنا من الزحمة دي مع بعض والأكتر أن التجمع ده متراقب بكاميرات الحكومة من كل جانب وممكن “مرتضى” بل أكيد على علاقة بحد فيهم !!
بملامح مبهمة قال مقتضبا :
– مش وقته الكلام ده يا “عبدالرحمن” أنت عارف أن مش هيفوتني حاجات زي دي .. قولي الأهم من كده وهو أن أنت ورجالتنا عنيكم على “مرام” في الثانية اللي بكلمك فيها !
قطب حاجبيه مجيبا :
– “مرام” بالفعل مغابتش عننا إلا وأنت داخل بيها التجمع .. لحظتها انسحبنا نستناكم عند باب الفندق مستغربين اللي عملته ..
ثم التفت حوله منذهلا وكأنه لم يعي لعدم وجودها حوله إلا الأن :
– هو أنت سبتها فين من حق .. أوعى تقولي أنها عملتها وهــ… !!
هز رأسه مؤكدا على حديثه وهو يتوعدها بغيظٍ كظيم :
– أيوه عملتها وهربت .. بس مبقاش أنا “عمر” أن معرفتهاش هي بتلعب مع مين بجد !
رددها وهو يغادر من أمامه بوجه محتقن فاعترض طريقه “عبدالرحمن” هاتفا :
– أهدى يا “عمر” وقولنا هتعمل أيه وأزاي هتلاقيها في التجمع ده كله .. لا الإدارة ولا أنا مستغنين عنك لو وقعت في أي غلطة !!
ربت على كتفه ببطء وعينيه تشع قوة يبصرها الماثل أمامه في المواقف الصعبة فقط ليرافقها قوة صوته الأجش على مسامعه :
– أركز .. محتاج أن بس أركز وصدقني هرجع بيها لو حتم إن يكون أخر يوم في عمري ..
– “عمر” استنى أرجوك خلينا نلغي المهمة ولا نخسرك ..
صدح بها من أجل وقف خطواته المغادرة بسرعة البرق .. ولكنه بداخله يعلم يقينا بأن لا شيء يستطيع وقف فهدهم عما ينتويه مطلقا ..!!
————————–
– هااااااا !!
شهقة صادحة اندفعت من فاهها المنفرج ملأت محيط تلك الغرفة المحكمة لاستبدال الملابس، عقب ما رصدته عينيها من كارثة نووية ستجعلها تقضي على ذلك الوقح بالخارج .. فالأن فقط علمت بأنه يجمع عرقين متنافرين بدماءه إحداهما شرقيا متعففا وأخر غربيا فاجرا .. وبفعله الأن علمت بأن الشرقي لن يبيد الأخر من جذوره مهما فعلت !
عادت ببصرها تتمعن مرة ثانية فيما استحوذت عليه بين يديها من إحدى العاملات بالمكان بعد أن أخبرتها بأنه من اختيار مرافقها بالخارج وقد تم انتهاء إجراءات شراءه بالفعل وعليها القياس ..
ثوب مجسم للجسد بإتقان يتساقط من الخصر بإتساع طفيف، عاري الكتفين تماما إلا من حمالتين واهنتين، وردي اللون مُطعم ببعض الفصوص اللامعة الطفيفة على منطقة الصدر من نفس لونه والممتد لنهايته بتواصل جانبي يزيده رونقًا .. ليعلن لأعينها المنذهلة عن منكر فاحش هي على أعتابه .. لهذا وجبت على ذاتها بالانتقام منه في الحال !!
نعم ستخرج وتشبع ذلك الغليظ بالضرب المبرح فوق صدره دون رأفة !!
إلا أن في لحظات جنونها المتصاعدة اهتدى ذهنها بأن ما ستفعله لن يشفع لساعات عذابها المتواصلة في قياس الكم الهائل من أثواب الأعراس ..
صمتت !!
بل صمتت كثيرا حتى جاء على خاطرها ما سيشفي غليلها حقا !!
بابتسامة ساخرة شرعت تحل سحاب الثوب ثم قامت بارتدائه، وما أن اطمأنت على تحكمه باحترافية على جسدها حتى تحررت منه بخبث يتضاعف على محياها .. ثم نادت على تلك العاملة التي تنتظر في الخارج لتلقي أوامرها بصدر رحب وبابتسامة هادئة دنت على أذنها هامسة لبعض الثواني، فأجابتها العاملة موضحة بتبجل :
– بس الأستاذ اللي مع حضرتك حجز كاب لنفس الفستان وكمان نقاب بلونه ..
انخفضت مرة ثانية تهمس لها فجأها صوتها مستجيبا لمطلبها قائلة :
– حاضر يا فندم كل اللي حضرتك أمرتي بيه هحضره تأمري بحاجة تانية ..
همست بإمتنان وهي تعطيها الثوب لتجهيزه في حقيبته المعدة لذلك:
– لا شكرا .. اللي قلته وبس ..
ثم استدرات تؤكد على إحكام غطاء وجهها وملابسها لتخرج عليه ببسمة تشفي تتوارى خلف الغطاء ..
رصد بعينيه المنذهلتين تهادي خطواتها، وارتياح عينيها بوميض لامع، حتى كاد يشعر بابتسامتها المتوارية من وراء حجاب، فقال متحشرجا بترقب:
– لقد رأيتكِ وافقتي على اختياري دون عناء ..
اطرقت رأسها وهي تجيبه باستحياء خافت :
– لقد كان هذا اتفاقنا منذ البداية .. وأنا لا أحب نقد الوعود !
مط شفتيه مرددا ببرود ماكر وهو يتمعن هدوءها المثير للشك :
– طالما هذا لما لم تخرجي به لاشاهده كالسابقين ..
حمدت الله بأن رأسها مطرقه ولم يشاهد جحوظ عينيها وجزّ اسنانها وحمرة الخجل التي توغلتها بنهم .. صمتت لم تجيبه وهي تختلس بحدقتيها المتراقصة عن مفر من حصاره الوقح وها قد وجدته حين لمحت العامل يسبقهما في مصعد العاملين بكارثته الشنعاء .. فخرج صوتها مبحوحا مهتز تحثه على ضرورة المغادرة لأجل الحاق به ..
رغم أنها ليست “هناهُ” الثأئرة منذ قليل إلا أن هدوءها الشديد الأن آثار فضوله كثيرا، ومع ذلك أومأ برأسه صامتا مشيرا إليها للتقدم أمامه، حركت قدميها للأمام تستجيب لأمره إلا أنها بترت تقدمها بقولها المستفسر :
– “علي” ما تلك الرائحة الغريبة بك !!!
————————–
راح بقدمه اليمنى يجود بالضغط العنيف فوق دواسة البنزين داخل سيارتها لأكثر من ساعة كاملة، عبر خلالها الكثير من الجسور الداخلية للمدينة بسرعة جنونية كادت تقلع كل ما هو صلب حولها من شدتها، وها هو أخيرا على أعتاب وجهته ..
“ميناء مدينة البندقية البحري”
دقائق معدودة كان يصف خلالها السيارة ويهرول مسرعا يستفسر عن موعد قيام رحلات سفنها لوجهه معينة لا غيرها، والتي جاءت إليه الأجابة التي قطعت الشك باليقين من أحد موظفي الميناء وهو يردد على مسامعه ..
” بالفعل هناك رحلة بحرية لشمال أفريقيا بالقليل ربع الساعة وستبحر للمغادرة من الرصيف الرابع “!!
ربت على ساعده ثم فر من أمامه دون كلمة واحدة فذهنه ليس حاضرا لكلمات الشكر الأن بعد أن علم بالوقت المتبقي المحتم عليه عدم إجتيازه حتى يهتدي لضالته في ذلك الصرح البحري المهول والذي يعتبر ثاني أكبر الموانئ في أوروبا !!
راحت عيناه تنهش في كل وجه وكل لافته تدله على مقصده يرافقها قدميه التي تسابق الرياح مهرولة ..
نهجان الصدر، وجبينه المصفد بالعرق طوال اثنتى عشر دقيقة مضت في البحث، ليس عائق أمامه الأن فطالما كانت تدريبته أكثر وأقوى من ذلك ألاف المرات .. مُهلكه حقا هو إعلان الهزيمة ! ليس أي هزيمة بل ستُعلن هزيمته على يد فتاة !!!
نفرت أوردته ما اقتحم مخيلته لمجرد التفكير .. خاصة وهو بات يقف بطوله الفارع وبنيته القوية ينظر لتلك السفينة المهيبة التي يهيئها حواشيها لمراسم زفافها في عرض البحر المتوسط !!
استهل جسر الوصول إليها قبل عدة ثوانٍ ضئيلة من قطع أوصالها بالرصيف البحري لتلك المدينة .. ثم راح بعينيه السوداء يقلب بين الخلق المتلاهية في صنيعها عما يروض نبضات قلبه الثائرة، تخطى طابقها الأول بعد تفتيشه ولم يعثر على مبتغاه ثم الثاني والثالث كذلك ولن يبقى إلا الكابينات الخاصة بالركاب وسطح السفينة !!
ترك اختياره الأول لصعوبة البحث دون أذن لحين بحث سطحها أولا ..
حرك خطاه دون صبر يبتلع الدرجات المتبقية مع صخب بوق السفينة المهيب لتعلن لمن حولها عن بدء الانطلاق لوجهتها في عرض البحر، هزات طفيفة اصابت جسده من عدم الأتزان عند بدء تحركها من الميناء ومع ذلك لم يتوانى عن التمحلق فيمن حوله على المدى القصير والبعيد متغاضيا بأنه يعتلي ظهرها عائدا برفقتهم لموطنه الأم !!
فالأهم هدفه، وصدق ما فطنه عن مكان تواجدها !
فحدسه دائما لا يخيب عقب امتداد وقت تفكيره لجمع الخيوط ببعضها !!
بعد طواف عشر دقائق في ملكوت الهواء الطلق وفسيح المكان ضوى وجهه بابتسامة ثقة زينت محياه وهو يثني على ذكائه الذي خدمه حقا بعد هداية خالقه لقلبه ..
رأها أخيرا في عزلة منفردة بعيد عن البشر تلجأ لسياج منتصف السفينة، تتأمل شاردة صفحة السماء القاتمة بنجومها المتلألئة وموج البحر الهائج، بينهما مصباحهما القمري المنير بقوة للمشهد أمامها .. تحمي جسدها من صقيع الليل في معطفها الذي يبدو بأنه لا يكفي غرض الحماية من برد البحر القارص، تاركه شعرها يداعبه الهواء في كافة الأنحاء ..
استنشق الكثير من الهواء ببطء روض قلبه المخفق بشدة حتى تباطئ خانعا، ثم حرك خطاه تجاهها إلى أن بات خلفها يفيض متشفيا بصوته لاغير :
– مساء الخير يا سنيوريتا !!!
ولقد كان محق حين أكتفى به كعقاب لفعلها !
فلقد سقط عليها كرعد ليلة عاصفة استرق سكينة القلوب و أخلفها بقايا دون شفقة، ونزع هالة الاطمئنان التي باركتها ما أن تحركت بها السفينة تودع يابسة المدينة، وبات قلبها يتعارك في جوف صدرها كمن يسوقه الأن للمقصة، وهي تهمس عند استدارتها من بين شفتيها المرتجفة دون إدراك :
– “ياسين” !!!
تقدم منها خطوة وهو يفيض بصوته الجهوري عليها :
– عليك نور دا أنا قلت يمكن نسيتي أهل إيطاليا كلهم ومسحتي ذاكرتك في الدقايق اللي أعلنتي فيها هروبك وفوزك عليا ..
تقهقرت للخلف نفس خطوته وهي تلجلج:
– ص..صــدقني ياااا “ياسين” أنا مقصدش أعمل فيك أنت كده .. القدر بس اللي حطك في خطتي وللأسف مكنتش أعرف أتراجع فغصب عني أذيتك في طريقي ..
مط شفتيه متهكما وهو يبتلع خطوة أخرى تجاهها :
– وكماااان ممثلة من العيار التقيل .. بجد دخل عليا نحنحتك دي زي ما دخل عليا حوار الحفلة والمغني اللي مستنياه بفارغ الصبر ..
وبخطوة ثالثة صاح حانقا :
– بس أحب انصحك لله بأنك معنتيش تلعبي بعد كده مع اللي أكبر منك أو بمعنى أصح مع شخص مبيستسلمش بسهولة زي ..
عادت للخلف حتى التصق ظهرها بالسياج تؤمئ رأسها بتتابع وهي تردد برجاء :
– حاضر .. حاضر .. وكمان هتأسفلك على اللي حصلك بسبي بس سيبني أكمل لرحلتي أرجوك للأخر ومتروحنيش ..
ثم ألتفت بعينيها حولها مردده لاستجلاب عطفه :
– وأصلا زي ما انت شايف إن خلاص السفينة أتحركت ومعدش ينفع رجوع .. فأرجوك سيبني أكمل هروبي ومتعرفش والدي دلوقت عشان ملقيش حد مستنيني هناك .. وأنا صدقني هقول أن مش شفتك خالص!!
اقترب بغتة يلتقط ظهرها المائل للمياة من فوق السياج الحديدي بطول ساعده قائلا في قربها :
– ما هو والدك مش هيعرف فعلا لا دلوقت ولا بعدين ..
استكانت في حصاره هامسة بعيونها الحالمة في قرب هيئته :
– بتتكلم جد يا “ياسين” مش هتعرف دادي!!
تطلع حولهما بنظرة خاطفة يتأكد من عدم متابعة أحدا لهما وهو يؤمئ بهزة طفيفة من رأسه مبادلها الهمس :
– أيوه بجد .. لأن للأسف هرجع بيكي دلوقت يا سنيورة ..
عادت برأسها للخلف تطالعه بذهول تتأكد مما تفوه به، فبغتت به يجذبها لصدره عنوة يغمرها بعناق مؤكد وهو يطيح بها من فوق السياج لعرض البحر صائحا :
– اااامسكي فيا كويس يا “مرام” وأوعي تسبيني !!!
جن جنونها مع اطاحتها في الهواء معه وبدون إدراك مدت ذراعيها تعقدهما حول عنقه بشدة وصوتها يصدح بريبة بعلو قوته :
– لاااااااااااااااااااا …..
————————–