قراءة رواية أنت لي كاملة
الجزء الخمسون
الفرار
طلبت من رغد أن تأوي على الفراش باكرا… لأننا سنرحل باكرا بُعيد صلاة الفجر مباشرة. كانت رغد مصرة على البقاء ساهرة على جانبي في غرفة المعيشة… مترقبة معي أي جديد… لكنني ألححت عليها بالذهاب على غرفتها ونيل حصتها من النوم… فما ينتظرنا في الصباح شاق وطويل…
كنت أشعر بالأسى لحال الصغيرة… فهي وجدت نفسها فجأة مضطرة للسفر ومعرضّة للخطر والإرباك… وهي مجرد فتاة صغيرة لا ذنب لها فيما يحصل ولا طاقة لها بتحمله…
للحظة استسغت فكرة أبي حسام في أن يصطحبها معه إلى الشمال… حيت تجد الاستقرار والأمان في بيت خالتها ومع أقاربها… لكنني خشيت أن يحصل معي ومع سامر أي شيء… يمنع عودتي إليها ويقطع اتصالي بها… كنت بين ألسنة النيران تحيط بي من كل جانب… ولم يكن لدي متسع من الوقت لإعادة التفكير وتغيير مجرى الخطة…المهم الآن أن أضمن سلامة سامر, وبعده… سأعيد النظر في كل شيء…
كنت جالسا على أحد المقاعد في غرفة المعيشة… أعيد إلى محفظتي القصاصات التي بعثرتها صباح اليوم… قصاصات صورة رغد… وأرتب النقود وخلافها في حقيبة اليد الصغيرة وأنا شارد التفكير… فيما أنا كذلك, قُرع جرس المنزل…
هببت واقفا فجأة… متوجسا خيفة…
قُرع الجرس مجددا… قرعا فوضويا… قرع قلبي معه… أسرعت إلى الهاتف الداخلي وسألت عن الطارق.
“المباحث. لدينا أمر بتفتيش المنزل. افتح الباب”
تلاحقت أنفاسي هلعا… الشرطة من جديد؟؟
لم أكن أريد أن أفتح الباب… لكن… كان لابد لي من ذلك… فتحت القفل الآلي للبوابة الخارجية وسرت نحو الباب الداخلي وما كدت أفتحه إلا وفوجئت بحشد كبير من العساكر يندفعون بقوة نحو الداخل… مصوبين فوهات أسلحتهم نحوي وفي كل اتجاه…
كانوا يرتدون زيا مختلفا عما رأيت مسبقا… مما حدا بي إلى الاستنتاج أنهم ليسوا عساكر مدنيين…
أخذني الفزع ولم أجسر على أي تصرف… وإذا بقائدهم يحدق بي ثم يشير إلى العساكر آمرا:
“ليس الهدف, انتشروا”
أخذ الجنود يتدفقون إلى الداخل… فهتفت وأنا أراهم ينفذون الأمر دون اعتبار لي:
“انتظروا… أنتم… كيف تقتحمون علينا المنزل… ما هذا؟؟”
والحشد يستمر بالتوغل غير آبه بكلامي.
التفتُ إلى القائد فإذا به يقول:
“لا تعترضنا. لدينا أوامر رسمية بتفتيش المنزل واعتقال المشبوهين”
فالتفت إلى العساكر ورأيت بعضهم يندفعون عبر الردهة إلى الممر الأيمن…فلحقت بهم بسرعة وركضت أسبقهم نحو غرفة رغد ووقفت عند بابها…
توزع العساكر فرقا في كل الاتجاهات… إلى اليمين في اتجاه المطبخ وغرفة المائدة… إلى الشمال في اتجاه المجلس وغرف الضيوف… إلى الدرج… إلى الطابق العلوي… انتشروا انتشار الجراد على الحقول… يدوسون بأحذيتهم العسكرية على أرضية وسجاد المنزل النظيف مخلفين آثارا قذرة كقذارة تصرفاتهم…
اقتربت فرقة منهم مني يريدون اقتحام الغرفة خلفي…
صرخت بهم:
“ما هذه الهمجية؟؟ ألا تراعون أن للبيوت حرمات؟؟”
رد أحدهم بوقاحة:
“لا تكثر الكلام. دعنا ننجز مهمتنا”
فقلت بغضب:
“هل تقبل بأن يقتحم أحد عليك بيتك بهذا الشكل؟؟”
حينها أقبل قائدهم ووقف أمامي واستخرج من جيبه ثلاث صور لثلاثة أشخاص… لمحت أخي من بينهم… وكانت الصورة قديمة له قبل إجراء عملية التجميل لعينه اليمنى…, ثم قال:
“نحن نبحث عن هؤلاء… أتعرفهم؟؟”
أجبت:
“لا يوجد في هذا المنزل من تريدون… لقد فتشتم أرجاءه كاملة هذا الصباح فماذا تريدون بعد؟؟”
وعوضا عن الشعور بالخجل من همجية عساكره, قال قائدهم:
“فتشوا الغرفة”
يقصد غرفة رغد التي أقف أنا عند بابها حائلا دون تقدمهم.
صرخت وأنا أنشر ذراعيّ سادا المعبر:
“إياكم والاقتراب… هذه غرفة فتاة ولا أسمح لكم بدخولها”
فقال القائد مصرا:
“فتشوها”
اقترب أحد العساكر مني فدفعته بيدي وأنا أهتف:
“قلت لكم لن تدخلوها… أليس لديكم أي اعتبار للحرمات؟؟ ابتعدوا”
فجأة… إذا بجميع العساكر من حولي يشهرون أسلحتهم في وجهي… وإذا بقائدهم يأمرهم:
“ابتعدوا”
ولم أر إلا سواعد غليظة قاسية تنقض علي محاولة جري بعيدا عن الباب…
حاولت أن أقاومهم… ضربت… ركلت… صرخت:
“رغد”
ثلاثة منهم أطبقوا على أطرافي وجروني إلى الأمام… وآخر تسلل من خلفي وأطبق على مقبض الباب وفتحه…
صرخت بكل حنجرتي:
“رغد… رغد”
وحررت إحدى يدي وأطبقت على الجندي الذي فتح الباب وسحبته من قميصه إلى الوراء بقوة… نظرت إلى الداخل فرأيت رغد تهب جالسة على سريرها وتنظر نحو الباب وتنطلق صرخاتها المفزوعة فورا…
هتفت:
“رغد”
ثم جررت بقية أطرافي بكل ما أوتيت من قوة من بين قبضات الثلاثة الآخرين وركضت مسرعا إليها…
كانت رغد تطلق الصرخة تلو الصرخة من فرط الفزع… قدمت إليها بسرعة وأحطتها بلحافها وطوقتها بذراعي وجذبتها إلي وأنا أهتف:
“أنا هنا يا رغد… هنا معك… أنا معك”
وهي مستمرة في نوبة الصراخ المفزوعة لا تكاد من شدّة فزعها أن تسمعني…
الغرفة كانت خافتة الأضواء… تستمد نورها من مصباح النوم المجاور للسرير…
اقتحمها جنود الأمن… بل جنود الرعب والفزع… وأخذوا يجوبون في أرجائها ويفتشون الدواليب… والستائر…
صرخت فيهم بأعلى صوتي:
“أيها الأوغاد… أيها الحقيرون… أيها الهمجيون الأراذل”
لكن صراخي لم يكن يهزّ في مشاعرهم المتبلدة أي شيء…
اقترب أحدهم منا… قاصدا تفتيش أسفل السرير فانفلتت أعصابي أشدّها… ونظرت من حولي فرأيت الهاتف الثابت موضوعا على المنضدة المجاورة… أطبقت عليه ثم رفعته ورميت به بقوة باتجاه الجندي فأصبته…
التفتت أعين بقية العساكر إليّ… ولم أر إلا حشدا غوغائيا متوحشا يهرع باتجاهي كي يهاجموني…
تركت رغد من بين يدي وهببت نحوهم أحول دون تقدمهم وأنتقم لانتهاك حرمة منزلي…
ضربت… ركلت… ولكمت… بثورة… بشراسة… بكل ما أوتيت من قوة… أو ما تبقى في جسدي من قوة بعد كل ما ألم به مؤخرا…
عددهم كان عشرة أو أكثر… كانوا مسلحين… أجسادهم ضخمة وقوية… تدربت على القتال العنيف… الفتاك…
أذاقوني فنونا لم أذقها أيام سجني… انقضوا علي انقضاض قطيع من الذئاب الجائعة على فريسة واحدة… قبل أن تنتهي الضربة تلقفني ضربة أخرى… وقبل أن أشعر بالألم في موضع, يصاب موضع آخر… وقبل أن أحرك أي جزء من جسمي, تجثوا علي أجسادهم الثقيلة فتشلني تماما…
أظنهم كسروا جمجمتي… ربما سحقوا دماغي… لأنني لا أستطيع أن أتذكر ما حصل… لم أعد أستطيع التذكر… لم أعد أستطيع الرؤية… لم أعد أستطيع التنفس… ولم أعد أستطيع سماع… صراخ رغد…
**********
أما أنا… فقد كنت أسمع صوت الضرب… وصوت وليد يصرخ متألما… وكنت أصرخ… وأصرخ… وأصرخ…
حسبت أنني مع صرختي الأخيرة… خرجت روحي مفارقة جسدي…
أبعدت اللحاف عن وجهي… هل لي بنظرة أخيرة على وليد؟؟ أين وليد؟؟ أين وليد؟؟ كان هناك… تحت كومة ضخمة من الأجساد البشرية… الوحشية… غارقا في الدماء…
لقد رأيته… يمد يده نحوي… يحاول أن يزحف باتجاهي… لم يكن ينظر إلي… كانت الدماء تغرق عينيه…لكنه يعرف أنني هنا… أنا هنا وليد… تعال إليّ… وليد أسرِع إلي… ابتعدوا عنه… أيها الأوغاد ابتعدوا عن وليد…
أمسكت بعكازي… ووقفت… لا أعرف كيف… وسرت خطوتين… فوليد لم يكن بأبعد من ذلك…
رفعت عكازي… وهويت به على رأس أحد الأشرار… هل أصبته؟؟ أم أخطأته؟؟ لا أدري… لكن العكاز لم يعد في يدي… لم أعد أستطيع أن أقف… كنت سأقع على حافة السرير, لكن شيئا ما قد ضربني وأوقعني أرضا…
صرخت…
“آآآآآآآآه…”
وسمعت صوت وليد يرد على صرختي:
“رغد”
صوته جاء أشبه بصدى مرتد عن بئر عميق…
اقترب الوحش الذي ضربته مني… ورفع قدمه ورفسني بقوة… رفسة ربما كسرت العظم الذي ما كاد ينجبر في يدي اليمنى… وأنا أطلق الصرخات… فزعا وألما…
“وليد… وليد…وليد”
تحركت يد وليد من تحت كومة الوحوش… ثم ظهر جسده وهو يستل من بين قيودهم بصعوبة… يقاوم هذا ويدفع هذا ويضرب ذاك… وهو يصرخ:
“ابتعدوا عنها أيها القذرون”
ويزحف على ركبتيه… حتى وصل إلى الوحش الذي ضربني وأطبق على ساقه وجذبها وأوقعه أرضا… وأسرع إليّ…
تشبثت به بقوة… وأنا أرتجف كالزلزال من الذعر… أبحث عن نقطة أمان بين يديه… كانت يداه تحاول أن تحتوياني… يقربني ويبعدني وهو يهتف باسمي مكررا:
“رغد… رغد…”
فجأة… رأيت عصا تحلق في الأعلى… ثم تحط بقوة على رأس وليد…
صرخت… وصرخ وليد… وأفلتٌ من بين يديه… ورأيت رأسه يهوي أرضا… ثم إذا به يبتعد عني… كانوا يسحبونه بعيدا…
صرخت… ومددت يدي نحوه وأمسكت بيده وأنا أناديه بفزع ما ضاهاه فزع… ورأيت يده تتحرك وتمسك بيدي… ثم تنفلت منها… وليد لم يكن ينظر نحوي… لم يكن يراني… لأنهم كانوا يقلبونه صدرا على ظهر… ويمينا على شمال… كانوا يمسكون برأسه… ويوشكون على كسر عنقه… كانوا يريدون أن يقطعوا نحره بحافة ذقنه… كانوا يحاولون خلع مفاصله وفصل أطرافه عن جسمه… رأيتهم… يدوسون على ذراعه الممدودة نحوي… ويركلون رأسه كما تركل كرة القدم…
وعصيهم كانت تنهال على ظهره وصدره بالضرب… وكأنهم يفتتون صخرة صلبة… تسد عليهم الطريق…
أولئك… لم يكونوا مخلوقات من هذا الكوكب… لم يكونوا يدركون… من هذا الذي يهمون بقتله… لا يعرفون أن هذا… هذا هو… وليد… وليد قلبي… كل حياتي…
أردت أن أنهض وأهب للذود عنه… لأفعل أي شيء… لأصد عنه ضرباتهم… بحثت عن عكازي… الذي طالما تحمل ثقلي طيلة الشهور الماضية وصار كجزء مني… أتعرفون أين وجدته؟؟؟
يطير في الهواء… ثم ينقض على ظهر وليد… يفصم فقراته…
صرخ وليد…
صرخت… وصرخت… وصرخت… وليد سمع صراخي فرفع رأسه يبحث عن الاتجاه… لم تعد أذناه تميزان اتجاه الأصوات… لقد زحف في الاتجاه الخاطئ… فزحفت نحوه أجر رجلي المجبرة جرا…
أخيرا أمسكت بيده… فشد علي… ورفع ذراعه وحاول أن يطوقني… المجرمون كانوا مستمرين في ضربه بالعصي… كانوا يرفسونه بأحذيتهم… ويدوسون عليه… لوحت بيدي وأنا أحاول إبعادهم عنه وأنا أهتف:
“كفى… أرجوكم كفى… كفى…”
لكن أحدهم… ركل بطن وليد بشراسة… وليد تأوه بشدة… وخرجت نافورة من الدم من فمه… ثم رفع رأسه وناداني… وأخيرا هوى بصدره نحو الأرض…
أحد الوحوش… أشهر مسدسه وصوب فوهته مباشرة إلى رأس وليد…
فزعت… ذهلت… انتفضت… صرخت بقوة:
“لا… لا… لاااااااااااا”
أطبقت على رأس وليد وضممته بين ذراعي…
نظرت إلى صاحب المسدس وصرخت:
“أرجوك لا… أرجوك لا… أرجوك لا”
وهو يهدد:
“ابتعدي”
فوضعت رأسي على رأس وليد… ولففته بذراعي أحول دون أن يفجروه…
“أرجوك لا… أرجوك لا… لا تقتله… لا…لا…لا…”
سمعت صوت أحدهم يقول:
“يكفي هنا. لم نؤمر بالقتل.انصراف”
أبعد صاحب المسدس مسدسه عن وليد… وسدد الرفسة الأخيرة إلى ظهره… فأطلق وليد أنة ضعيفة شبه ميتة… وفي ثوان… اختفى أنينه… واختفى صوت الجنود وصوت عصيهم… ولم أعد أسمع في المكان غير أنفاسي…
كنت آنذاك متصلبة على وضعي… وأنا أمسك برأس وليد وأدرعه بذراعي… وأضع رأسي عليه… وأغمض عيني بقوة… لأضمن عدم مشاهدة ما سيفعله الأوغاد به…
مر بعض الوقت… والهدوء مستمر من حولي… فيما الأعاصير القوية مستمرة في صدري… وفيما ذراعاي متيبستان حول رأس وليد… حتى فقدت القدرة على تحريكهما…
وبعد أن طال الهدوء… تشجعت وفتحت عيني بحذر… وجلت ببصري فيما حولي… ولم أر للوحوش أثرا… رفعت رأسي ومسحت بأنظاري كل أرجاء الغرفة… ولم أجد معي فيها غير وليد…
لقد انصرفوا…
كان وليد قربي مباشرة… مكبا على وجهه… وقد نزع قميصه ومزقت ملابسه… وتزاحمت الجروح والكدمات على جسمه… وكأنها تتنافس فيما بينها للنيل منه… وقد أغرقت الدماء ثيابه وما حوله…
كان رأسه لا يزال بين يدي… كاملا… متماسكا… لم يفجر… لكنه كان مبللا بمزيج من العرق والدم… وأشعر بالبلل يتخلل أصابعي مقطرا من شعره…
أدرته يمينا فيسارا… لأتأكد من أن ثقبا لا يخترقه أو أن رصاصة لا تنغرس فيه… فإذا بي أرى عينيه تسبحان في شلال من الدماء المتدفقة من جرح غائر في ناصيته…
وكان شلال آخر أشد غزارة يتدفق باندفاع من أنفه… وكأنه يفر هاربا من وحش الكهف الأسطوري… هذا… عدا النافورة العنيفة… التي تفجرت من فمه قبل قليل…
لم أكن أرى وجه وليد… حقيقة… لم أكن أرى غير طوفان من الدم الجارف يتدفق من كل مكان… ويصب في كل مكان…
صرخت:
“وليد… وليد…”
رأيته يحرك رأسه ويحاول فتح عينيه… غير أن الدماء كانت تغمرهما… سحبت لحافي المفروش على سريري بسرعة… وجعلت أمسح الدماء عن عينيه… وأنا أصرخ وأبكي بذعر:
“افتح عينيك… وليد أرجوك… انظر إلي”
فتح وليد عينيه ونظر إلي ونطق بأول حروف اسمي… ثم رفع ذراعه اليمنى وألقاها حول ظهري…
كان… لا يزال حيا…
بعد ذلك حاول أن يستند على يده الأخرى لينهض… لكنه ما إن رفع رأسه عن الأرض بضع بوصات حتى أطلق صرخة ألم وخر أرضا من جديد…
أظن… أن ذراعه اليسرى قد انفصلت عن جسده… فهو لم يستطع الارتكاز عليها… لا بد وأنهم خلعوا كتفه أو كسروا عظام يده… كان يتألم بشدة… بشدة… وليد قلبي يصرخ متألما… آآآآآآه… وليد… وليد…
اقتربت من رأسه وأحطته بذراعي مجددا وصرخت:
“أنت حي…؟؟ وليد… كلمني أرجوك…”
وشعرت به يتحرك… يحاول النهوض… ويعجز من فرط إعيائه… ثم حرك رأسه ونظر باتجاه الباب وتكلم…
“رغد… الباب”
وفهمت منه أنه كان يريد أن ينهض ليقفل الباب… فتشبثت به أكثر وقلت بفزع:
“لا تتركني”
حرك وليد يده اليمنى وأمسك بيدي وقال:
“الباب… اقفليه… رغد… بسرعة”
وشعرت به يشد على يدي بضعف… فأبعدت رأسي عن رأسه وسمحت لعينيه بالنظر إلى عينيّ… وما إن رآني حتى قال:
“الباب… بسرعة… لا أقوى على النهوض”
لم أكن أملك من الشجاعة ما يكفي لأن أبتعد عنه شبرا واحدا… وليس بي من قوة تعينني على الحراك حتى لو رغبت… وعوضا عن ذلك… شددت عليه أكثر وقلت:
“لا أقدر… خائفة”
فحرك وليد يده ومسح على رأسي وقال:
“أرجوك… أسرعي”
نظرت إليه فرأيته ينظر نحو الباب…
تلفتُ من حولي… بحثا عن عكازي… كان ملقى في الطرف الآخر من الغرفة أبعد علي من الباب… حررت رأس وليد وأومأت إليه بنعم, ثم… زحفت على يدي وأنا أجر رجلي المجبرة… شبرا شبرا… إلى أن وصلت إلى الباب فأغلقته ومددت يدي للأعلى وما إن أمسكت بالمفتاح حتى أقفلته وخررت على الأرض ألتقط أنفاسي…
كانت أنفاسي تخرج من صدري مصحوبة بأنين قوي… كنت أرتجف من الذعر وجسمي ينتفض بشدة… ويتعرق بغزارة… وكأنني قمت بمجهود كبير…
سمعت صوت وليد يناديني:
“رغد”
التفت إليه فوجدته وقد انقلب على ظهره ورفع رأسه وأسنده على قاعدة السرير…
ومد يمناه نحوي… ثم قال:
“تعالي”
لملمت فتات الطاقة المتبقية في أرجاء جسدي المشلول من الفزع… وزحفت عائدة إلى وليد… كان مشوارا طويلا… امتد بين المشرق والمغرب… استهلك مني كل عضلاتي وكل قوتي… وما زلت أزحف وأزحف… إلى أن صرت قربه… رميت برأسي في حضنه وغرست أظافري فيه…
لقد كنت أريد أن أفتح قفصه الصدري وأحتمي خلف ضلوعه… أظنني اخترقت ضلوعه فعلا… لا بد أنني داخل قلبي الآن… لأنني أسمعه ينبض بقوة… بسرعة… بثورة…
وكأنني أشعر بدمائه تبللني… وكأنني أشعر بأنفاسه تعصف بي… وكأنني أشعر بذراعيه تغلفانني…
دعوني أسترد أنفاسي… وأستجمع قواي… دعوني أسترخي وأغيب عن الوعي… دعوني أستعيد الأمان والسكون… داخل صدر وليد…
بعد فترة… أحسست بشيء يحاول إبعادي عن وليد… فتشبثت به بقوة أكبر… وصحت:
“لا”
وسمعت وليد يناديني… فقلت:
“أرجوك… دعني”
وبكيت بحرارة… وأنا أغوص بين ضلوعه… أعمق وأعمق…
وشيئا فشيئا… بدأت خفقات قلب وليد تتباطأ… وبدأت أنفاسه تهدأ… وبدأت ذراعه ترتخي من حولي… فتحت عيني… ورفعت رأسي قليلا ونظرت إليه… كان يغمض عينيه ويتنفس بانتظام… وصوت الهواء يصفر عند عبوره في أنفه المحتقن بالدماء… كانت الدماء المتخثرة ترسم على وجهه العريض خريطة متداخلة معقدة الملامح…
جلست ونطقت باسمه:
“وليد”
ولم يرد… لقد نام من شدة الإعياء… أو ربما فقد وعيه… لكنني عندما ربّتُ على وجنته انعقد حاجباه لثوان ثم استرخيا…
كان رأسه لا يزال مسندا إلى قاعدة السرير في وضع مؤلم… مددت يدي وسحبت إحدى وسائدي ووضعتها على الأرض… وحركت رأس وليد بحذر وأسندته إليها… ثم سحبت البطانية وغطيته بها…
وبقيت جالسة بجواره… أراقب أنفاسه وأي حركة تصدر عنه… وأنا أدقق السمع حتى خُيّل لي أنني سمعت صوتا ما من خارج الغرفة… فنظرت إلى الباب بفزع… ثم انحنيت قرب وليد وأمسكت بيده وشددتها إلي… طالبة الأمان…
************
تنبهت على صوت شيء مزعج… صوت يتكرر بانتظام… مرة بعد أخرى… كان صوت منبه…
أغمضت عيني بقوة… فأنا أسعر بحاجة مُلحّة لمتابعة السيارة… أشعر بأنني أستيقظ من أعماق أعماق نومي… ولا أريد أن أنهض…
لكن الرنين المتكرر المزعج أجبرني على فتح عيني والانتباه لما حولي…
اكتشفت… أنني كنت أنام على الأرض… في غرفة رغد… فتذكرت هجوم العساكر وانتقل دماغي فجأة من أعماق النوم إلى قمة اليقظة…
حاولت أن أهبّ جالسا فشعرت بشيء ما يربط يدي ويعيقني هن النهوض وداهمتني آلام حادة في جسدي كله… أعادتني إلى وضع الاضطجاع مرغما… التفت ببصري إلى اليسار… فوجدت رغد نائمة وهي في وضع الجلوس… ملاصقة لي… وقد استندت إلى سريرها وضمت يدي اليسرى بين يديها…
كان المنبه يتوقف عن الرنين قليلا ثم يعاود… ولكن رغد لم تنتبه عليه… ومع هذا… فإنني ما إن سحبت يدي حتى استيقظت ورفعت رأسها مفزوعة…
التقت نظراتنا… أنا الممدد على الأرض…بِخوْرِ قِوى… وهي الجالسة بقربي بفزع…
“وليد”
كانت هي أول من تكلم… بلهفة وقلق وهي تنحني نحوي وتحملق بعينيّ…
استخدمت يديّ الاثنتين لأنهض عن وضعي المضطجع… بكل ضعف… كعجوز طاعن في السن… مدقوق العظام مترهل البنية… واهن العضلات… كانت الآلام تقرص كل أجزاء جسمي قرصا… وكان أنفي شبه مسدود… بقطع الدم المتخثر في جوفه… وكان عنقي يؤلمني بشدة… وأنا عاجز عن تحريكه في أي اتجاه…
أخيرا أحسست بيد رغد تمسك بي… فأرغمت عنقي على الالتفات إليها ومددت يدي أشد على يدها وقلت:
“هل أنت بخير؟؟ هل تأذيت صغيرتي؟؟”
ورأيت الدموع تتجمع في عينيها بمرارة… فانهرت أكثر مما أنا منهار وأطلقت صوتي كالنحيب قائلا:
“آسف… سامحيني…”
فأي خزي وأي عار…أشد من أن يعتدى على حرماتك بشكل أو بآخر… وأنت ترى وتعجز عن الدفاع؟؟
طأطأت بصري عنها خجلا… لكنها اندفعت إلي كالسهم المصوب… إلى القلب…
رن المنبه من جديد… وكان إلى الجانب الآخر من السرير… فقامت رغد وزحفت على سريرها إليه وأوقفته.
قلت:
“كم الساعة؟؟”
فأجابت:
“الثالثة وأربعون دقيقة”
فاضطربت دقات قلبي قلقا… وأنا أتخيل سامر…
وقفت وأنا أستند إلى السرير… ولكنني سرعان ما أحسست بالكون يظلم من حولي فجلست عليه وهويت منكبا برأسي فوقه…
رغد هتفت بفزع وهي تنحني نحوي:
“وليد…”
فأجبت:
“دوار… انتظري قليلا”
وقد كانت الغرفة تدور من حولي… وقلبي يخفق بقوة… والهواء لا يكفي لملء صدري… أما يداي فقد كانتا ترتعشان… وما كنت قادرا على التحكم بهما…
استمر هذا الشعور بضع دقائق… ثم زال تدريجيا… ولكنه عاودني بصورة أخف عندما رفعت رأسي من جديد…
أظن… أنني نزفت دما كثيرا… ولهذا أشعر بالدوار والاختناق…
سمعت رغد تقول:
“أرجوك ابق مضطجعا”
فالتفت إليها بإعياء وقلت:
“يجب أن ننهض… سامر ينتظرنا”
رغد قالت منفعلة:
“أنت جريح… لديك إصابات كثيرة… لا يمكنك التحرك”
فقلت:
“سامر…”
والتفت ناحية الهاتف الثابت ورأيته مرميا على الأرض… ثم التفت إلى رغد وقلت:
“هاتفك”
وكان هاتفها المحمول موضوعا إلى جانب المنبه. ناولتني إياه فاتصلت بشقيقي ملهوفا للاطمئنان عليه…
“نعم رغد”
رد أخي… فقلت بصوت هامس:
“هذا أنا وليد… هل أنت والعم بخير؟؟”
“نعم. ننتظركما”
واطمأن قلبي على أخي فأنهيت المكالمة بسرعة ووضعت الهاتف على السرير… ووقفت ببطء وحذر… محاولا الاعتماد على رجليّ… اللتين كانتا تستصرخان من الألم… وعندما خطوت خطوة واحدة… تفاقم الألم في ظهري وشعرت بأن فقراته تكاد تتفكك وتتبعثر…
أطلقت أنة ألم من أعماق حنجرتي… وتصلبت في مكاني لا أقوى إلا على جذب الأنفاس…
رغد وقفت على رجليها… السليمة والمجبرة… وأمسكت بيدي وطلبت مني أن أجلس.
“يجب أن نذهب يا رغد… لا وقت لدينا”
قلت, فردت معترضة:
“كيف وأنت بهذه الحال؟ لماذا لا تخبره بما حصل؟”
فهتفت بسرعة:
“كلا… لا”
قالت:
“ولكن…”
فقلت مؤكدا:
“إن علم سامر بما حصل فسوف يأتي… أنا متأكد أنهم يراقبون المنزل الآن…”
شهقت رغد خوفا… ثم سألت:
“إذن… كيف سنخرج؟؟”
فقلت:
“سأتفقد الأمر”
تلفتت رغد من حولها بحثا عن عكازها… وعندما رأته… ذهبت سائرة على جبيرتها وتناولته… ثم قدمت إلي وسارت ملاصقة لي… نسير ببطء وحذر… إلى أن فتحنا الباب وخرجنا من الغرفة…
كان البيت يخيم عليه السكون… استنتجنا أنه لا أحد في داخله على الأقل… توجهت إلى باب المدخل وأوصدته… وعدت إلى رغد وقلت:
“لا احد هنا. سيُرفع الأذان الآن… سنخرج بعد الصلاة مباشرة… سأصعد للأعلى وأنظر من الشرفة”
قالت رغد بسرعة:
“ماذا؟؟ كيف ستصعد الدرجات وليد؟؟ أنت مصاب… ولا أريد أن أبقى وحدي هنا أرجوك”
قلت:
“تعالي… سأرافقك إلى غرفتك. ألزميها حتى آتيك”
كانت رغد تهز رأسها معترضة, متوسلة ألا أتركها وحدها… لكنني كنت أريد تفقد الشارع من الشرفة لأتأكد من أن الشرطة ليست في الجوار…
وعلى هذا أعتدها كارهة إلى غرفتها وأقفلت عليها الباب وحملت المفتاح معي, وتركتها لتستبدل ملابسها وتصلي… وصعدت الدرج خطوة خطوة… أكابد المشقة والألم… إلى الطابق العلوي…
لقد كنت أسير مستندا على كل شيء… السياج… الجدران… الأثاث… كنت مرهقا جدا… وآلام جسمي تكاد تقتلني…
ذهبت إلى الشرفة ألقيت بنظرة على الخارج… فرأيت الضباب يغمر الأجواء… ويحول دون رؤية شيء…
توجهت بعدها إلى غرفتي… والتي ترك رجال الشرطة بابها مفتوحا على مصراعيه, كما فعلوا ببقية أبواب غرف المنزل لدى تفتيشهم لها يوم الأمس…
كنت أريد أن أستحم وألبس ملابس نظيفة وأؤدي الصلاة… وكم هالني المنظر الفظيع المزري لوجهي حين رأيته في المرآة…
أنهيت استحمامي وضمّدت ما أمكن من جروحي على عجل, واضطررت لارتداء قبعة لإخفاء جرح ناصيتي… وبعد الصلاة ذهبت لألقي نظرة مرة أخرى من الشرفة… كان الضباب كثيفا… لكنني سمعت أو ربما توهمت سماع صوت صفارة سيارة شرطة يشتد ويقترب…
أصبت بالهلع… فهرولت مسرعا نحو الدرج وأنا أهتف:
“رغد”
هبطت السلالم بأسرع ما أمكنني… أتعثر بخطواتي… غير آبه بأوجاع رجلي… شبه متزحلق على قدمي… وتوجهت نحو غرفة المعيشة… ومنها أخذت الحقيبة اليدوية الحاوية للنقود والحاجيات الأخرى… وكذلك هاتفي وهرولت إلى غرفة رغد…
لم أطرق الباب… بل هتفت باسمها وأنا أدخل المفتاح في ثقبه وأقبض على المقبض ثم أديره وأدفع بالباب بسرعة وأندفع إلى الداخل…
كانت رغد تلبس رداء الصلاة… وتجلس على الكرسي في اتجاه القبلة… وفي يدها مسبحة… فهي بطبيعة الحال لم تكن تستطيع السجود على الأرض بسبب الجبيرة…
“رغد… هيا بسرعة… أظنهم عائدون”
قلت هذا وأنا أندفع نحوها بسرعة… وأمسك بيدها وأحثها على النهوض…
وقفت رغد على رجليها والهلع يجتاحها… وقالت بفزع:
“ماذا؟؟”
قلت:
“الشرطة قادمة… لنخرج بسرعة”
**********
أشرت إلى عكازي المرمي على الأرض وهتفت:
“عكازي”
فانحنى وليد وناولني إياه وهو يقول:
“بسرعة… بسرعة…”
ارتديت خفي المنزلي والذي كنت قد خلعته قبل الصلاة وتركته بجواري, ثم سرت خطوتين في الاتجاه المعاكس… نحو عباءتي… فسأل وليد:
“إلى أين؟؟”
قلت مشيرة إلى الشماعة:
“عباءتي”
فأسرع هو إليها وجذبها والوشاح من على الشماعة… وأقبل نحوي وناولني إياهما… أخذتهما على عجل ومن شدة ارتباكي أوقعت عكازي… وبدأت بارتدائهما فوق حجابي كيفما اتفق, وفي ذات اللحظة… سمعت صوت صفارة سيارة شرطة يزعق من خارج المنزل… هنا.. لم أشعر إلا برجليّ تطير فجأة عن الأرض… وإذا بوليد يهرول نحو المخرج الخلفي للمنزل… حيث المرآب… وهو يحملني… على كتفه… “عكازي!!”
هتفت ونحن نبتعد… لكن وليد لم يستجب… وسار منحني الظهر مترنحا يوشك على الوقوع بي, حتى وصلنا على الباب الخلفي فأقفله بسرعة وكاد ينزلق وهو يهبط العتبات…
أنزلني عن باب السيارة وفتحه ودفع بي إلى الداخل وأغلق الباب وجزء من ذيل عباءتي وطرف وشاحي يتدليان إلى الخارج…
ثم توجه بسرعة إلى الباب الآخر… وهو لا يزال محدودب الظهر مترنح الخطى… ففتحه ورمي بحقيبة كان يحملها إلى الداخل وقفز على المقعد وشغل السيارة وفتح بوابة المرآب واندفع خارجا بالسيارة بسرعة…
كل هذا في ثوان لم تكن كافية لأن أستوعب ما يجري…
وفوق ما أنا فيه فوجئت بأن الجو كان مغطى بضباب كثيف جدا… لم أكن معه أستطيع رؤية شيء في الشارع…
استمر وليد بالقيادة بسرعة لا تتناسب والضباب الكثيف… كان ينعطف يمينا ويسارا فجأة كلما ظهر شيء في طريقنا ولولا لطف من الله لانتهى المطاف بنا إلى حادث فظيع…
عندما ابتعدنا عن قلب المدينة إلى الشارع البري قال لي:
“اتصلي بسامر”
فقلت:
“هاتفي بقي في المنزل”
فأشار إلى الحقيبة التي جلبها معه وقال:
“هاتفي هنا”
فتحت الحقيبة فوجدت فيها مجموعة من الأوراق…وجوازات سفر… وتذاكر رحلات جوية… ورزم من الأوراق المالية…
ووجدت كذلك الهاتف…
كان على الشاشة ثلاث اتصالات فائتة, كلها كانت من سامر.
اتصلت به وما إن رد حتى سحب وليد الهاتف مني وخاطب سامر قائلا:
“نحن في الطريق إليك… ابق مختبئا على مقربة من البوابة وسلاحك في يدك… سأتصل حين نصل”
ثم قال:
“لا أعرف فالضباب شديد ولا أستطيع أن أسرع أكثر من ذلك…”
وأنهى مكالمته ثم التفت إلي وسأل:
“هل أنت بخير؟؟”
كنت أحاول أن أسحب عباءتي العالقة تحت الباب دون جدوى, خفف وليد السرعة وقال:
“افتحي الباب”
وسحبتها أخيرا… ولففت وشاحي حول رأسي…
لم تكن الشمس قد أشرقت بعد… والطريق يخيم عليه الهدوء… ووصلنا إلى جزء وعر منه ارتجت السيارة أيما ارتجاج وهي تعبره…
كنت أحاول النظر إلى الخلف خشية أن تكون سيارات الشرطة في تعقبنا, لكن الرؤية كانت مستحيلة ولم أسمع أي صفّارة…
وصلنا بعد ذلك إلى المخبأ الذي كان سامر وعمي أبو حسام يحتميان فيه. أوقف وليد السيارة وتناول الهاتف واتصل بسامر وقال:
“السيارة أمام البوابة… تعال فورا”
ومن بين الضباب رأيت سامر وأبا حسام يظهران أمامنا…
سامر فتح الباب الخلفي وركب السيارة بسرعة… وأبو حسام أقبل نحو النافذة إلى جانب وليد وهو يهتف:
“انطلقوا على بركة الله”
وليد قال وهو يدوس على كابح السيارة:
“أشكرك يا عم… لن أنسى صنيعك هذا”
فأشار أبو حسام وهو يهتف:
“اذهبوا هيا… يحفظكم الله”
وانطلق وليد بالسيارة وأبو حسام أخذ يلوح لنا وهو يقول:
“انتبهوا لأنفسكم يا أولادي… اتصلوا وطمئنوني عليكم… في أمان الله”
وكما ظهر وسط الضباب, اختفى وسط الضباب…
وليد التفت إلى سامر الجالس في الوراء وسأل:
“هل أنت بخير؟؟”
فرد سامر مندهشا:
“ماذا جرى لوجهك وليد؟؟”
فاستدار وليد إلى الأمام وركز النظر في الطريق…
عندها التفت أنا إلى سامر ونطقت:
“هاجمونا وضربوه حد الموت… العساكر الوحوش…”
ذهل سامر وحدق بي ثم بوليد بأوسع عينين…
فتابعت:
“ماذا كنا سنفعل لو أنهم قتلوه؟؟ ماذا كان سيحدث لي لو أنهم أطلقوا الرصاصة على رأسه كما كانوا يعزمون؟؟”
وسمعت صوت وليد يناديني زاجرا:
“رغد”
فالتفت إليه ورأيت في عينيه نظرة انزعاج… فقلت وأنا أمسك بطرف وشاحي في يدي وأقول:
“أيرضي أحد ما أنا فيه؟؟ ما الذي فعلته لأمر بكل هذا؟؟ إلى متى سأعيش هذا التشرد؟؟ أنا تعبت… تعبت”
وطأطأت رأسي ودفنته بين ثنايا الوشاح وجعلت أبكي بحرقة…
حل صمت طويل علينا… وانشغل كل منا بأفكاره الخاصة… إلى أن أحسست بسرعة السيارة تخف تدريجيا… ثم تتوقف.
نظرت إلى وليد فرأيته ملتفتا إلى سامر يخاطبه قائلا:
“تول القيادة… أنا مرهق”
ثم سمعت صوت الباب الخلفي ينفتح وينزل سامر… التفت وليد إلي وقال:
“اذهبي للخلف”
وخرجنا جميعا من السيارة لتبديل مقاعدنا. وقبل أن يركبا, منحاني فرصة لنزع حجاب الصلاة الأبيض وارتداء الوشاح والعباءة الأسودين… كنت ألقي بنظرة عليهما… وأرى وليد يقف محني الظهر… مستندا إلى السيارة… والتعب جلي عليه… أخذت أراقبه عبر زجاج النافذة دون أن ينتبه… وعندما ركب السيارة بادرت بسؤاله:
“هل أنت بخير وليد؟؟”
فأجاب وهو يسند رأسه إلى مسند السيارة:
“سأكون كذلك”
وسمعت سامر يقول:
“أنا آسف يا أخي”
فيرد وليد:
“لا عليك… انطلق بسرعة… يجب أن نصل في الموعد المحدد”
سار سامر بسرعة أبطأ من سرعة وليد… وعلل ذلك بعد اتضاح الرؤية أمامه… وبعد فترة بدأ الضباب ينقشع حتى زال تماما… قبل أن نصل على الحدود.
أظن أن وليد قد غفا لبعض الوقت من شدة إعيائه… وعندما اقتربنا من أول نقاط التفتيش عند الحدود سمعت سامر يخاطبه قائلا:
“وليد…وصلنا”
وكان صوت سامر مغلفا بالخوف والقلق… وليد تحرك من مقعده ثم أخذ يستخرج بعض الأوراق من جيوب سيارته فيما قلوبنا تخفق بشدة وأعيينا مفتوحة أوسعها متربصة بأي شخص يظهر في الصورة…
تناول وليد حقيبته اليدوية واستخرج الجوازات… وخاطب سامر بينما كان يوقف السيارة:
“أنا سأنزل لإتمام الإجراءات المطلوبة. وأنت ابق ملازما رغد. إياك والخروج لأي سبب. وإذا ما واجهت مشكلة لا قدر الله… فسأعطيك إشارة… وانطلق بالسيارة بأقصى سرعة ولا تأبه لشيء”
حملقنا في وليد بذعر ونحن نزدرد ريقنا متوجسين خيفة… قال سامر:
“ماذا؟؟”
فقال وليد:
“افعل ما قلته لك. إذا أحسست بالخطر فسأعطيك إشارة للهرب… وإن أعترضك أي شيء فاقتله… وأنا سأتكفل بالباقي”
ولم يترك لنا الموظف فرصة للاستيعاب, إذ به لوح بيده مشيرا إلينا… فنزل وليد من السيارة وقبل أن ينصرف قرب وجهه من النافذة وهو يقول:
“لا تنس ذلك”
وألقى علي نظرة… ثم انصرف إلى الموظف.
أخذت الوساوس تتلاقفني يمينا ويسارا… وأخذت أتضرع إلى الله من أعماق قلبي وبكل إلحاح… أن يسهل الأمر علينا ويخرجنا معا من دائرة الخطر سالمين…
رأيت سامر يمسك بشيء بين يديه وسرعان ما تبين لي أنه مسدس… فتفاقم الفزع في نفسي وكدت أخرّ مغشية من شدة الخوف…
مرة الدقائق التالية كالقرون… ونحن ننتظر عودة وليد وأعيننا محملقة عبر النوافذ في الاتجاه الذي سار فيه. وبعد هول الانتظار ظهر وليد أخيرا يتقدم نحونا يحفه اثنان من رجال الأمن, يرتدون زيا عسكريا. لدى رؤيتي لهم انفجر قلبي بقنبلة من النبضات الصارخة المدوية… كنت أشعر بها تصطدم بأسفل قدمي وربما تهز السيارة…
سامر بسرعة خبأ مسدسه تحت المقعد وتظاهر بأنه يستخرج أحد الأقراص المدمجة, وشغل المسجل… وأذكر أن القرص كان يبتهل ابتهالا خاشعا… كان وليد كثيرا ما يشغله أثناء مشاوير ذهابي وإيابي من الجامعة برفقة مرح.
وصل وليد ورجلا الأمن, وأشار أحدهما إلى سامر بأن يفتح حقيبة السيارة الخلفية… بينما طلب الآخر منه أن يفتح النافذة… وعندما فتحها ألقى بنظرة علينا ثم على جوازات السفر التي كانت في يده… وطلب من سامر أن يبرز بعض الوثائق الخاصة بالسيارة… ثم انصرف… وتبعه الرجل الآخر…
وليد اقترب من النافذة فتشبثت به أعيننا, قال:
“سأنهي الإجراءات وأعود… تسير الأمور بشكل جيد”
فجذبت نفسا عميقا… علّ ذلك يهدئ من سرعة خفقان قلبي ولو الشيء القليل…
وانصرف وليد, ثم عاد بعد قليل… وركب السيارة وقال:
“انطلق”
لم نصدق آذاننا لا أنا ولا سامر… لذا… بقينا متسمرين… ولم تتحرك السيارة… فنظر وليد إلى سامر وقال:
“هيا”
فسأل سامر:
“انتهى كل شيء؟؟”
فأجاب وليد:
“ليس بعد… لكننا تخطينا أول العقبات…”
وجملته الأخيرة أجهضت بذرة الطمأنينة التي ما كادت تنبت في قلبي… وتجاوزنا عقبتين أخريين, وخرجنا من حدود بلدنا… ودخلنا حدود البلدة المجاورة… وهناك طلب منا رجال الأمن الخروج من السيارة لتفتيشها…
تبادل وليد وسامر نظرة وإن خفيت عن رجال الأمن فهي لم تخف عني… سامر حاول أن يستخرج المسدس متظاهرا بأنه يعدل من وضعية مقعده… غير أن يده لم تطله… ربما فهم وليد حركة سامر… وكان رجال الأمن من حولنا… فأطل وليد عبر نافذته وقال:
“الفتاة لا تستطيع النهوض إذ أن رجلها مجبرة”
في محاولة للإفلات من التفتيش, غير أن أحد رجال الأمن قال:
“فليساعدها أحدكما على ذلك”
ولم يجد وليد بدا من أن يلتفت إلي ويقول:
“سأساعدك”
وكانت عيناه مضطربتين وقطرة من العرق سالت على جبينه نصف المخبأ تحت قبعته.
خرج وليد من السيارة وفتح الباب المجاور لي ومد يديه… وعندما خرجت من السيارة ووقفت على رجلي… راح يتلفت يمينا وشمالا بحثا عن مقعد… ووجدنا مقاعد حجرية على بضعة أمتار فقال:
“سأرفعك”
ثم التفت إلى سامر وقال:
“تعال معنا”
ولكن وليد وبعد أن سار بي خطوتين لا غير أحس بالتعب وهتف:
“أخي”
وسرعان ما رأيت ذراعيّ سامر تمتد وتحملني…
وصلنا إلى المقاعد فأجلسني سامر على أحدها وجلس وليد قربي مباشرة… وسمعناه يتنفس بقوة…
سامر سأل:
“أأنت على ما يرام؟؟”
فأومأ وليد بنعم وإن كان مظهره يثبت عكس ذلك… وأرسل أنظاره إلى رجال الأمن وهم يفتشون السيارة…
جلس سامر إلى الجانب الآخر مني وإذا بوليد يسأل:
“أهو معك؟؟”
فيجيب سامر:
“في السيارة”
فيرد وليد:
“تبا! أين تركته؟؟”
فيجيب سامر:
“تحت المقعد… لن يصعب عليهم العثور عليه”
فيقول وليد:
“أحمق… لماذا لم تخبئه جيدا أو حتى ترمي به من النافذة قبل وصولنا إلى هنا”
فيقول سامر:
“ألست من طلب مني إحضاره معي؟؟ لم يتسع المجال للتخلص منه”
فيعقب وليد:
“سيورطنا هذا المشؤوم… تبا.. من أين حصلت على مصيبة كهذه؟”
وما كاد ينهي جملته حتى رأينا رجال الأمن يكتشفون وجود سلاح مخبأ في قلب السيارة…
اشرأبت أعناقنا وجحظت أعيينا وجفت حلوقنا… ونحن نرى أحد رجال الأمن يقبل نحونا قابضا على السلاح بمنديل… كان ابنا عمي جالسين إلى جانبي ولما اقترب رجل الأمن وقفا واقتربا من بعضهما وسدا المرأى من أمامي… وسمعت صوت وليد يهمس:
“دعني أتصرف. لا تتفوه بشيء. لازم رغد”
ثم سمعت صوت رجل الأمن وقد صار على مقربة يسأل:
“لمن هذا الشيء؟؟”
مرت لحظة صامتة حسبت أنني فقدت السمع من طولها… ثم إذا بي أسمع:
“إنه… لي”
أتدرون صوت من كان؟؟
صوت وليد…
أو ربما… توهمت ذلك… إذ أنني مع هوسي بوليد… وفي حالتي هذه التي لا مثيل لها… أصبحت أتوهم كل شيء…
عاد صوت رجل الأمن يسأل:
“هل لديك تصريح رسمي بحمله وإدخاله إلى هنا؟؟”
“لم أجلب معي التصريح”
هذا صوت وليد… أنا واثقة من أنه صوت وليد.. لا يمكنني أن أخطئه… وليد قلبي!
“تعال معي لو سمحت”
قال ذلك رجل الأمن, ثم رأيت وليد يبتعد عني خطوة, ثم يلتفت إلى سامر ويقول:
“ابق مع رغد. إياك أن تبتعد عنها لأي سبب مهما كان”
فيرد سامر:
“وليد! ما الذي…”
ويقاطعه وليد قائلا:
“لازم الصمت. فقط ضع الفتاة نصب عينيك… أتفهمني؟”
ومال وليد بجسده قليلا لينظر إلي… ولم أستطع لحظتها حتى أن أتأوه… ورأيته يبتعد خطوة بعد خطوة… إلى أن توارى عن أنظاري…
حينها فقط أطلقت صيحة مكبوتة:
“وليد!!”
ومددت يدي إلى الأمام محاولة الإمساك بظله… لكنه تلاشى…
مرت نحو ساعة… ونحن عند المقاعد, أنا جالسة… وسامر يجلس تارة ويقف أخرى… في توتر فظيع…
بعد ذلك… أقبل إلينا أحد رجال الأمن وطلب منا مرافقته.
سأل سامر:
“أين شقيقي؟؟”
فأجاب الرجل:
“سيحوّل إلى لجنة التحقيق”
فزعت وشهقت رغما عني… نظر الاثنان إلي ثم إلى بعضهما البعض… وقال سامر:
“تحقيق؟؟”
فأجاب رجل الأمن:
“نعم. فهو يحمل سلاحا ويعبر به الحدود دون ترخيص”
قال سامر:
“ماذا ستفعلون به؟؟”
أجاب:
“سيخضع للتحقيق… لا أعرف تحديدا. المهم… هلاّ رافقتماني الآن؟؟”
سأل سامر:
“نرافقك إلى أين؟؟”
فأجاب:
“للتفتيش الشخصي أولا, وبعد التفتيش, سننقلكما إلى أقرب نقطة بعد الحدود ومن هناك تابعا طريقكما إلى المدينة في سيارة أجرة إذ أننا سنحتجز سيارتكم عندنا لحين انتهاء التحقيق وإجراء اللازم”
التفت سامر إلي… وكان وجهه مكفهرا محتقنا بالدماء… ولم يقل شيئا… أما أنا فقلت وأنا أحرك رأسي اعتراضا وتهديدا:
“أنا لن أبرح مكاني حتى يعود وليد”
فهم سامر قصدي, وخاطب رجل الأمن سائلا:
“أين شقيقي الآن؟ أريد أن أراه”
فأشار الرجل بيده إلى المبنى الذي اختفى وليد خلف جدرانه, فقال سامر:
“خذني إليه من فضلك أولا…”
فقال الرجل:
“لا بأس, تفضل”
عندها مددت يدي وأمسكت بمعطف سامر… أذكره بأنني هنا…
التفت سامر إلي ثم إلى الرجل وسأله:
“هل لديكم كرسي متحرك؟ الفتاة لا تستطيع المشي”
فرد الرجل:
“لا, للأسف”
وعندما نظر سامر إلي أعدت أقول:
“أنا لن أتحرك من مكاني قبل مجيء وليد”
فقال:
“دعيني أراه أولا وأعرف ما أفعل..”
واستخرج هاتفه من جيبه واتصل بوليد…فسمعنا صوت رنين هاتف على مقربة وعندما التفتنا إلى الصوت رأينا وليد يظهر وبرفقته شرطي, يسيران متقدمين إلينا…
وقفت من شدة هلعي على رجليّ… وكنت أرتدي خفا منزليا على قدمي اليمنى, بينما الأخرى مجبرة… وأحسست بحرارة الأرض تتخلل خفي وتلهب قدمي, حينما صار وليد أمامنا راح ينقل بصره بيننا ثم قال:
“اذهبا مع رجال الأمن. سيوصلونكما إلى أطراف المدينة. وبعد ذلك استغلا أي سيارة أجرة واتجها إلى المطار. التذاكر وكل ما تحتاجانه في حقيبتي اليدوية”
فقلنا معا:
“وأنت؟؟”
فقال بصوت خافت لا يتعدى بعدنا:
“سأسوى المسألة هنا وألحق بكما”
أنا قلت مندفعة:
“لن نذهب لأي مكان من دونك”
فأومأ لي وليد بنظرة من عينيه ثم قال:
“لا وقت لنضيعه في الكلام. الطائرة ستقلع بعد ساعتين. يجب أن تدركاها وترحلا بسلام”
ثم أخفت صوته وقال:
“أي تأخير سيبقيه في دائرة الخطر… عجلا”
هتفت:
“ولكن”
فقاطعني زاجرا:
“بدون لكن… أتفهمين؟؟”
وحدق بي لثوان… بنظرة زاجرة حادة…
ثم التفت إلى سامر وقال:
“انتبها لنفسيكما جيدا…”
ونطق سامر بنبرة حزينة توشك على البكاء:
“أخي…”
فرفع وليد يديه وحط بهما على كتفي سامر… كأنه يستند عليه, لا يسانده… ثم تنهد تنهيدة ألم مريرة… ربما لأن ذراعه شبه مخلوعة جريحة… أو ربما لشدة صعوبة المأزق الذي كنا فيه… قطب حاجبيه ثم أرخاهما وقال:
“اهتم برغد… إنها أمانتك أنت الآن…”
ثم نقل بصره فيما بيننا وقال أخيرا:
“في أمان الله”
لا أذكر… تفاصيل ما حدث بعد ذلك… لا أذكر… إلا وأنا في سيارة… أنظر عبر زجاج النافذة… ووليد في الخارج… يقف بين رجال الأمن… يلوّح إليّ… والسيارة تبتعد… وتبتعد… وتبتعد… ويتلاشى وليد… كما يتلاشى السراب…
فجأة… بين عشية وضحاها… بل بين لحظة واللحظة التي تليها… تحولت حياتي إلى شيء خال من وليد!
يختفي من حياتي فيما أنا أراقبه… وهو يبتعد… دون أن أملك القدرة على فعل شيء…
ابتعدت السيارة كثيرا… وعيني لا تزال تحدق عبر النافذة… تفتش عنه!…
وصورته الأخيرة… هو يلوح لي بيده… مودعا… هي الصورة الأكثر إيلاما… التي اختزنتها محفورة في ذاكرتي… كأقسى لقطة وداع فرّقتني عن وليد قلبي… من بين كل لحظات الفراق الأخرى في حياتي… على الإطلاق…
أصابتني حالة ذهول… فقدت القدرة على الكلام… القدرة على التفكير… القدرة على التصرف… وانقدت لما كان سامر يطلبه مني دون أن اعرف ما هو…
لم أستفق من حالة التيه… إلا عندما وجدت نفسي أهبط من الطائرة إلى مطار الوصول… وأفتش عن وليد بين المسافرين…
رأيت كل الناس… كل الأجناس… من كل العالم… كل البشر الذين خلقهم الله… كلهم من حولي… إلا وليد!
لم أر منه إلا لقطة أخيرة… وهو يلوح لي مودعا… وعيناي تشيعانه… عبر زجاج النافذة…
لم أشعر بنفسي إلا وأنا أصرخ في المطار كالمجنونة:
“أعيدوني إلى وليد”
************
اللقاء بدانة كان حميما وملتهبا جدا… امتزجت فيه دموع الشوق بدموع الذكريات الأليمة… بدموع القلق… لكن أكثر الدموع طغيانا كانت تلك التي فجرتها رغد حزنا وخوفا على وليد. سقتني كؤوس القلق والندم جرعة على مدى الفترة المفجعة التي تلت وصولنا إلى هذه البلد. فقدنا الاتصال بوليد… حتى أننا لم نطمئنه إلى أننا وصلنا بسلام… وما فتئنا نحاول الاتصال به بكل الأرقام وفي كل الأماكن الممكنة دون جدوى. لم نعرف إن كان لا يزال في البلدة المجاورة لبلدتنا أم أنهم قد رحّلوه إلى بلدنا… أم إلى مكان آخر…
وإن كان في قبضة الشرطة أم أنهم قد أخلو سبيله… اتصلنا حتى بالمنزل والمزرعة والمصنع.. بلا جدوى.. وتولى عمي أبو حسام مهمة تقصي أخباره في البلد واستخدم كل الطرق, دون نتيجة حتى الآن.
أخشى ما كنا نخشاه… هو أن تكون السلطات قد زجت به في السجن أو فعلت به شيئا… وأنا لن أسامح نفسي أبد على ما قد يكون شقيقي قد تعرض إليه بسببي.
وليد قدّم من أجلي تضحية كبيرة… ضحى بنفسه من أجل إنقاذي وفضلني على نفسه… وتحمل وزري نيابة عني…
أنا أيضا… مستعد الآن لأن أضحي بكل شيء… من أجل ظهوره وعودته إلينا سالما.
أقمنا في منزل دانة وعائلتها. وهو منزل كبير مؤلف من عدة أجنحة, كان يسكنه أمير أو ما شابه قبل أن يشتريه نوّار… زوج دانة… لاعب الكرة الشهير… والمليونير…
ولأنني عدمت خيارا آخر, فقد اضطررت للمبيت هنا مؤقتا لحين مجيء أخي أو إيجاد حل بديل.
نوّار وعائلته رحبوا بنا وخصّصوا لنا غرفتي نوم في أحد الأجنحة وضيّفونا بسخاء. واعتمدت على النقود التي تركها وليد في حقيبته لشراء الضروريات.
آه أجل…
لا بد وأنكم تتساءلون عن رغد… وما حل بها بعد وليد…أول ليلة قضتها في هذا المكان كانت أفظع من الوصف. كانت في حالة ذعر متواصل واضطرت دانة للمبيت إلى جانبها في الغرفة. كانت تصف لنا كيف هاجم رجال المباحث وليد وأوشكوا على قتله… وكانت تعتقد بأنه الآن في قبضتهم وأنهم سيقتلونه… كانت ستموت بهذا الاعتقاد… واضطررت لاحقا لأن أتفق مع عمي أبي حسام على أن يخبرها بأن وليد بخير ولا يزال محبوسا تحت التحقيق وأنه سيلحق بنا فور خروجه. ارتابت في كلام أبي حسام أولا ولكنها صدقته في النهاية حتى ولو من باب التعلق ببصيص الأمل…
صرنا لا نجرؤ على ذكر اسمه على مسمعها… خشية أن تفلت الحقيقة من ألسننا سهوا… وتعود للهستريا المرضية تلك… وبقينا نتظاهر بالاطمئنان والتفاؤل فيما أفئدتنا يمزقها القلق… والبحث ولاتصالات جارية… ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم…
“انظر سامر… هل هكذا زاوية أنفه؟.. ألا تبدو أقل حدة؟؟”
تسألني وهي واقفة أمام لوحة جديدة ترسمها لوليد… وهو يلوح بيده… وتقارنها بصورته…
كانت الساعة التاسعة ليلا… هكذا قضت ساعات الأمس واليوم… تكرر رسم وجوه أمي وأبي ووليد… من الصور الفوتوغرافية التي كانت بحوزة دانة… الصور التي تم التقاطها لنا ليلة زواجها… وأخرى التقطت لوالدي الراحلين… عندما ذهب العريسان لزيارتهما قبل هجرتهما إلى هذه البلدة…
أجبت:
“ألم تتعبي من الوقوف؟ أريحي رجليك قليلا… لا تزالين في فترة النقاهة”
وقد نُزعت جبيرة رجلها اليسرى مؤخرا, فقالت وهي محملقة في اللوحة:
“رجلاي اعتادتا الكسل طيلة الشهور الماضية. آن الأوان لتنشيطها”
وأخذت تتأمل اللوحة ثم قالت:
“لا…! لم أتقن رسم الأنف…”
وإذا بها تزيل اللوحة التي قضت ساعات في رسمها وتضعها جانبا… وتضع لوحة بيضاء جديدة استعداد للرسم من جديد…
نزعتُ اللوحة من العمود ووضعتها جانبا… ونظرت إلى رغد بحزم… فنظرت إلي وهي تعبس بانزعاج…
قلت لها:
“يكفي يا رغد… إلى متى ستظلين ترسمين هكذا؟”
فتبدلت تعبيرات وجهها ثم قالت:
“إلى أن… تظهر الأصول… ولا أحتاج إلى الصور”
ثم رمت بالفرشاة والألوان من يدها وسارت مسرعة إلى سريرها وأكبت على وجهها فوق الوسائد وأخذت تبكي…
التفتُ إلى دانة… التي كانت تجلس على المقعد أمام المرآة… تتابعنا من خلالها… وهززت رأسي أسفا وحزنا على رغد.
هممت بالاقتراب منها والتحدث إليها, غير أن دانة أشارت إلي بألا أفعل… فلذت بالصمت وبقيت أسمع صوت نحيبها المرير… وقامت دانة فاقتربت منها وحاولت تشجيعها ببعض الكلمات… فخرجتُ من الغرفة ووقفت قرب الباب بين رغبتين متعارضتين في البقاء إلى جوارها والابتعاد عنها.
وبعد قليل رأيت دانة تخرج من غرفة رغد وتغلق الباب من بعدها… وتنظر إلي والحزن يطلي وجهها بلون رمادي معتم.
فسألتها:
“ماذا قالت؟؟”
فأجابتني بحزن بليغ:
“سألتني عن كنت أملك أيضا…صورة لوالديها الحقيقيين… عمي وزوجته… رحمهما الله!”
ولم يكن قد سبق لرغد وأن طلبت شيئا كهذا ولم تكن تبوح بحنينها لوالديها أو تعبر عن أي مشاعر تكنها لهما… منذ كانت طفلة صغيرة… على الأقل هذا ما اعتقده…
أضافت دانة بأسى:
“لو أننا نعلم أين وليد الآن… إلى متى سنظل نجهل مصيره؟؟”
أشرت إليها أن تخفض صوتها… لئلا يصل إلى مسامع رغد وصمتٌ لبرهة ثم قلت هامسا وأنا أعقد العزم:
“سأذهب للبحث عنه بنفسي”
عندها تلاشت العتمة الرمادية عن وجه دانة وحل التوهج الأحمر على وجنتيها وقالت:
“تذهب أنت؟؟ لا! مستحيل”
فقلت:
“لا بد من ذلك يا دانة”
فإذا بها تمسك بذراعي وتهز رأسها اعتراضا وتقول منفعلة:
“كلا… لن أدعك تذهب يا سامر… الآن لدي أخ واحد موجود, هل تريد أن أفقدكما أنتما الاثنين؟؟”
فقلت:
“ولكن يا دانة”
ولم تدع لي المجال لإتمام الجملة بل أسندت رأسها إلى كتفي وقالت:
“لا تفكر يا سامر… أنا ما كدت أصدق… أنك معي الآن… ما أحوجنا… أنا ورغد إليك… أنت من تبقى لنا من العائلة… أرجوك لا تفكر في الذهاب”
علاقتي بشقيقتي دانة كانت قوية جدا منذ الصغر… كنا صديقين حميمين… وكنت أعتبرها أقرب الناس إلي… وكانت الوحيدة التي أبث لها بهمومي وأشكو إليها مخاوفي.
والآن… بعد اجتماعنا من جديد عقب كل ذلك الفراق, استعادت علاقتنا حرارتها ومتانتها… وأخبرتها بتفاصيل ما حصل معي ومع المنظمة… والشرطة… وبكل ما مر بي منذ ليلة زواجها وحتى الآن… بل وحتى عن العملية التي أُكريت لجفني… وعملية الاغتيال الفاشلة التي شاركت فيها… والمؤامرات التي حكناها وكنا على وشك تنفيذها…
وحالة اليأس التي اعترتني لدى فقد أحبتي… ورغبتي في الانتقام لمقتل والديّ… تفاصيل كثيرة ومريرة… أعارتني لسماعها الأذن الصاغية.. والصدر الرحب.. والقلب الحنون.. كعادتها دوما… ما ضاعف شعوري بالندم والخجل من أفعالي…
مسحت على رأسها مؤازرا… فنظرت إلي ببعض الرضا ثم قالت:
“كما أنني لا أستطيع تحمل مسؤولية رغد… تعرف أنه لا طاقة لي بمزاجها في الوضع الطبيعي, فكيف بها وهي في هذه الحال؟؟”
شردت قليلا.. وتذكرت شقيقي في يوم فرارنا… وهو يوصني برغد ويحذرني من الابتعاد عنها مهما حصل… وغزت ابتسامة ساخرة واهية زاوية فمي اليمنى… لاحظتها دانة فسألت:
“ما الأمر؟؟”
فأجبت:
“تذكرت وليد… وهو يوصيني على رغد… كأنه كان يعرف… أنه لن يواصل الطريق معنا”
وشردت برهة ثم تابعت:
“كانت آخر كلماته لي: (إنها أمانتك أنت الآن) …”
وأسندت رأسي إلى الجدار ونظرت للأعلى وخاطبت وليد الغائب في سري:
(هذه الأمانة… لا تريدني أنا يا وليد… بل تريدك أنت)
ثم صفعت برأسي في الجدار بمرارة…
عدت أدراجي إلى غرفة نومي… وما إن دخلتها, حتى سمعت صوت هاتفي يرن…أسرعت إليه متمنيا أن يحمل الاتصال خبرا جيدا… كان المتصل هو سيف الحازم… صديق وليد المقرب… يخبرني وللعجب والدهشة… أنه مع وليد الآن… في البلدة المجاورة لبلدتنا… في إحدى المستشفيات…
************
منذ أن تلقيت اتصاله يوم الجمعة هرعت إلى وليد… أنا مع والدي مسافرين برا إلى المدينة المجاورة. وليد كان معتقلا لدى سلطات البلدة لتورطه بقضية حمل سلاح بدون ترخيص. لم نحصل منه على تفاصيل عبر الهاتف ولدى وصولنا فوجئنا بمن يبلغنا بأنه قد نقل تحت الحراسة إلى إحدى المستشفيات نتيجة تدهور وضعه الصحي المفاجئ…
مفاجآت وليد هذه لا تنتهي ولم تكن لتخطر لأحد على بال…
تولى والدي-وهو محام كبير كما تعرفون- أمر القضية وحصلنا على إذن رسمي بزيارته داخل المستشفى يوم الاثنين. قابلنا الأطباء وسألناهم عن وضعه قبل زيارته فأخبرونا بأنه كان لديه نزيف حاد في معدته وتمزق في جدارها والتهاب شديد في أنسجة البطن… وأنهم اضطروا لإدخاله إلى غرفة العمليات وإجراء عملية عاجلة له… وإعطائه كمية كبيرة من الدماء…
تعلمون أن وليد يشكو منذ زمن من قرحة في المعدة ويظهر أنها اشتدت وتمزقت ونزفت بغزارة…
هذا تفسير معقول…
لكن الغير معقول والغير مصدق… هو ما قالوه أيضا… أنهم وجدوا علامات على جسده تشير إلى أنه تعرض للضرب أو التعذيب الشديد قبل ساعات من فحصه…
أما الأشد غرابة فهي ورطة السلاح… وهذا السفر المفاجئ لوليد… والغموض الشديد الذي يغلف القضية…
دخلنا غرفة وليد يسبقنا فضلونا للاطمئنان عليه ومعرفة التفاصيل… لكن ما إن وقعت أعيينا عليه حتى أطبقت على فمي كي لا أطلق شهقة قوية تثير بلبلة من حولي… وحملقت فيه مذهولا… وكذلك فعل والدي.
اقتربنا من سريره بخطى مترددة… إذ أننا لم نتيقن من كون هذا المريض هو بالفعل وليد… وأن القضية كلها ليست تشابه أسماء أو سوء فهم…
رباه… أحقا هذا وليد؟؟
اللهم نسألك اللطف والرحمة…
كان مغمض العينين, ربما نائم… ربما فاقد الوعي… أو ربما أسوأ من ذلك. جسمه ملفوف بالضماد في عدة مواضع والعديد من الأجهزة موصلة به. جهاز يراقب نبض القلب, جهاز يكشف مستوى الأوكسجين, جهاز يقيس ضغط الدم… وقارورة دم معلقة قربه… تقطر دما متدفقا عبر الأنابيب إلى وريده… كان يبدو مزريا… وكانت هناك ممرضة قابعة بجواره تراقب شاشات الأجهزة وأخرى تقف في الجانب الآخر وتعمل على تنظيف ما ظهر لنا أنه جرح في البطن. الغرفة تعبق برائحة الأدوية والمطهرات… ويدوي فيها طنين الأجهزة كأنه صفارة إنذار بالخطر…
اهتز قلبنا لدى مشاهدة المنظر وتبادلنا نظرات الاستغراب والأسف.
عندما نزعت الممرضة الضمادات عن الجرح رأينا حركة تصدر من الجسم الممدد على السرير تحت اسم صديقي وليد… قفزت أعيننا نحو عينيه ولكنه لم يفتحهما… بل حرك يده على السرير وكأنه يعتصر ألما…
قالت الممرضة:
“اصبر قليلا”
ثم نظرت الممرضة الأخرى إلى ساعة يدها وقالت:
“إنه موعد المسكن على أية حال”
وحقنت دواء ما عبر أنبوب المصل المغروس في ذراع وليد. أثناء جريان الدواء إلى وريد وليد كانت تعبيرات الألم ترسم على وجهه تجاعيد عابسة حزينة… اقترنت بانقباض يده واعتصار عينيه… على إثر هذا لم أتمالك نفسي وأقبلت نحوه بهلع وهتفت:
“وليد… وليد…”
رأيت وليد يفتح عينيه… ثم يحاول تحريك رأسه ببطء يمينا ويسارا يفتش عن مصدر الصوت… فمددت يدي إلى يده وشددت عليها وقلت:
“وليد… صديقي… أنا هنا… سيف”
التفت وليد إلي, وبدا أنه غير مصدق, أو مشوش الرؤية… وأحسست بأصابعه تحاول أن تشد علي.. إلا أنها سرعان ما ارتخت وسرعان ما أسدلت عينيه الجفون وغطت الرؤية. وعندما ناديته بعدها لم يجبني.
وسمعت الممرضة تقول:
“أعطيته للتو الدواء المخدر”
فالتفتُ إليها وسألت في ذات الوقت الذي سأل والدي:
“هل هو بخير؟؟”
فأجابت:
“يتحسن. غير أنه لا يزال بحاجة إلى المخدر للسيطرة على الألم”
بعدها ذهب والدي لمتابعة القضية وبقيت بجوار وليد أراقبه بتمعن واعد الثواني متزامنة مع قطرات الدم المتدفقة من القارورة… متناغمة مع طنين الأجهزة ومؤشر دقات قلب وليد… وأنا شديد الحيرة والقلق والتشويش… إلى أن استفاق وليد أخيرا بعد نحو ساعتين… فاقتربت منه وشددت على يده برفق وقلت:
“سلامتك… يا عزيزي… ماذا حل بك؟؟”
نظر وليد نحوي وشد بضعف على يدي وأومأ متجاوبا معي… ثم نطق والقلق يغطي تعبيرات وجهه:
“سيف… الهاتف”
وفهمت منه أنه يريد استخدام الهاتف… استخرجت هاتفي وفيما أنا أمده نحوه سمعت الممرضة تقاطعنا قائلة:
“ممنوع… لا للهواتف المحمولة هنا”
تلفت من حولي ولم أجد جهاز هاتف ثابت فسألت:
“إذن كيف يمكننا الاتصال؟؟”
فقالت:
“خارج المبنى”
عدت إلى وليد والذي اشتد القلق على وجهه وسألت:
“بمن تريدني أن أتصل؟؟ بزوجتك؟”
فأومأ برأسه نفيا ثم قال:
“سامر… رغد…”
حل والدي المسألة بطريقة ما وأُطلق سراح وليد رسميا بعد ثلاثة أسابيع أخرى… وكان لا يزال ملازما سرير المستشفى وبحاجة للرعاية الطبية, وكنا أنا ووالدي نتنقل بين البلدتين لعيادته من وقت لآخر… وكنت أقوم بدور المرسال بينه وبين شقيقه.. غير أنه وفور صدور أمر الإفراج عنه أصر على مغادرة المستشفى مخالفا أمر الأطباء… ورافقته بنفسي إلى مكتب الطيران حيث حجز مقعدا على متن أول طائرة تغادر البلدة متجها إلى عائلته…
وليد أخبرنا أنا ووالدي عن مشكلة تورط شقيقه في الشغب… وعن تعرضه للضرب من قبل السلطات… واتضحت لنا الأمور الغامضة… غير أنه حذرنا من تسريب أي معلومات لأي كان أو لأي مكان… وبالأخص للمصنع وموظفيه…
ولذلك فإنني لدى تلقي اتصال من أسامة يسأل فيه عن وليد الغائب فجأة منذ أيام… زعمت أنه اضطر للسفر إلى شقيقته لظروف عائلية خاصة…
للعلم فإن حالة وليد الصحية لا تزال متدهورة ومعظم الأطعمة محظورة عليه…
وهناك شيء أخر سأخبركم به أيضا… وليد طلب من أبي أن يباشر إجراءات التنازل عن الوصاية على ابنة عمه اليتيمة القاصر لصالح شقيقه الوحيد… سامر!
**********
تلقيت مكالمة من المحامي يونس المنذر الذي يعمل مع وليد في المصنع, يسألني فيه عن وليد… ثم أبلغني بأنه مختف منذ أيام!
وأبلغني أيضا… بأن ابنة أخيه والتي تدرس مع رغد في الجامعة أكدت أن رغد عاودت الحضور إلى الجامعة لبضعة أيام ثم اختفت أيضا وفٌقد الاتصال بها… وأنهم حاولوا الاتصال مرارا بوليد عبر هاتفه المحمول وعبر هاتف المنزل وحتى هاتف رغد دون جدوى… وكذلك زاروا منزل وليد أكثر من مرة في أوقات مختلفة وما من أحد…
أشعرني ذلك بقلق شديد وحاولت الاتصال به بنفسي ولم أفلح. كان خالي قد كلمه آخر مرة يوم الخميس… وحسب قول خالي, كان وليد متوترا وقال أنه مشغول وقطع المكالمة فجأة. تفاقم القلق في نفسي كثيرا… وبلغ ذروته حين أخبرني المحامي في اتصال لاحق بأنه لاحظ اختفاء مبالغ كبيرة من رصيد وليد الخاص, ورصيد المصنع, وتغيّر مجرى قلقي ومخاوفي حين علمنا بعد ذلك أنه سافر.
كان أبو فادي صديق وليد هو من أبلغنا بهذا الخبر وأكدته عائلة أم حسام, خالة رغد… قالوا… أنهم علموا أنه سافر مع أخيه وابنة عمه إلى الخارج لأمر طارئ… لكنهم قالوا أنهم يجهلون أي تفاصيل…
كنت أنتظر من وليد الحضور إليّ من أجل إعادة النظر في مشكلتنا الخاصة والتي هي أكبر وأهم من أن يماطل في حلها… فكيف تتوقعون
مني أن أفكر… لدى علمي بأنه قد تركني فيما أنا فيه… وسافر مع عائلته دون أي كلمة؟؟ وكأنني شيء جانبي في حياته أو على الهامش…
تفاقم إحساسي بالغيظ وخيبة الأمل من وليد… وفاق إحساسي السابق بالقلق… فتوقفت عن محاولة الاتصال به… وصممت على ألا أكلمه… حتى أقابله وجها لوجه… المقابلة الحاسمة…
***********
كعادتي كل يوم… أقضي الساعات في الرسم… إذ إنه لاشيء أمامي غيره…
لم أكن أرغب في مجالسة دانة وسامر أو التحدث معهما… لم أرغب في التواصل مع خالتي ونهلة وطمأنتهما على أحوالي… لم أبادر بمهاتفة مرح أو أي زميلة في الجامعة وإعلامها بما حصل معي…
لا شيء يثير اهتمامي… ويشغل تفكيري… غير وليد…
لم أكن أرى غير عينيه… في نظرته الأخيرة لي… عبر زجاج نافذة السيارة… وهو يلوح لي مودعا…
والصورة الأخيرة التي طبعتها في مخيلتي… ترجمتها بفرشاتي فصارت نصب عيني…
كدت قد تعلقت بأمل شبه ميت… بأنه بخير… وسيظهر… هكذا كان سامر وعمي أبو حسام يرددان كلما سألتهما… إلى أن اتصل بسامر أبو فادي, صديق وليد الحميم وأكد أنه مع وليد في تلك البلدة وأن أباه المحامي يعمل جاهدا على حل قضيته. وصار سامر على اتصال يومي به… ينقل إلينا الأخبار أولا بأول… ويطمئننا إلى أن وليد بخير… وسيُطلق سراحه قريبا…
الحمد لله…
الساعة التاسعة والنصف مساء… ولا أزال واقفة أمام لوحتي الجديدة… أدمج ألوانها بحذر… متمنية أن أنجح هذه المرة في تصوير ملامح وقسمات وجه وليد… تماما كما هي في الحقيقة… وتماما كما كانت لحظة أن ودعني ويده تلوح في الهواء…
لحظة فظيعة… فظيعة جدا!
أشعر بتعب… فأنا منهكة في الرسم منذ ساعات… هذا إلى أنني مصابة بالزكام الحاد نتيجة الجو البارد في هذه البلدة… وتداهمني نوبات متكررة من السعال الشديد…
يُطرق الباب, فأجبت بتملل:
“من هناك؟؟”
وأنا أعرف أن الطارق لن يكون غير واحد من اثنين… سامر… و دانة… وهما لم يأتيا ويربكا تركيزي- كعادتهما منذ ساعات…
وعلى أثر التكلم تنتابني نوبة سعال قوية…
“هل تأذنين لي بالدخول؟”
سمعت صوت سامر يتحدث… فوضعت لوح ألواني جانبا باستياء… وتناولت وشاحي واتجهت إلى المرآة وأنا لا أزال أسعل…
هنا سمعت صوت مقبض الباب يُدار وفوجئت به يفتح…
كيف تجرؤ!
التفت إلى الباب بسرعة وأنا أهتف بصوتي المبحوح:
“انتظر سامر”
فإذا بي أرى دانة تطل برأسها من فتحة الباب ثم تتسلل إلى الداخل…
نظرت إليها باستغراب… وأصابني القلق لدى رؤيتي سيلين من الدموع على وجنتيها وتعبيرات متداخلة قوية منقوشة على وجهها… ثم إذا بها تقول:
“الآن…؟؟”
وتلتفت إلى الناحية الأخرى وتقول:
“تفضل”
وتفتح الباب على مصراعيه…
كان موليا ظهره للباب… ثم تنحنح بخشونة… واستدار ليلقي نظرة على داخل الغرفة… وتقع عيناه على عيني… ويتهلل وجهه ويبتسم ويقول:
“صغيرتي!”
لا أصدق…
لا أصدق…
لا أصدق… لا أصدق…
شهقت… رفعت يدي إلى فمي… كتمت سعالي… تراجعت إلى الوراء بخطوات مبعثرة… أهز رأسي… ثم أؤرجح يدي… ثم أترنح على قدمي… ثم أتسمر في موضعي… ثم أطلق زفرة صارخة قوية:
“وليد!!!”
***********
كانت تقف على قدميها الاثنتين… أجل, فالجبيرة قد نُزعت عن رجلها اليسرى… وصارت تمشي بحرية…
لكنني لحظت العرج البسيط في مشيتها من أول خطوات سارتها أمامي… وسمعت بحة قوية في صوتها وهي تناديني…
يا لصغيرتي الحبيبة… يا لرغد…
إنني لا أكاد أصدق… أنني عدت لأراها من جديد…
لقد حسبت… القدر يلعب معي لعبته الجديدة… وأنتهي مرميا في السجن محروما من الحرية… من نور الشمس والهواء… ومن أهلي وأحبابي…
ما سجدت لله شاكرا… لن أستطيع أن أبلغ جزءا من ألف جزء… من واجب الشكر والامتنان للرحمن…
اللهم لك الحمد والشكر… بعدد ما تشاء وما ترضى… إلى ما تشاء وما ترضى…
فيما بعد… جلست على أحد المقاعد… وأحاط بي شقيقي من الجانبين, ووقفت الصغيرة أمامنا… فضممت أخوي إلي بحرارة… مرددا (الحمد لله) وداعيا ربي بأن يحفظ لي أخوي وابنة عمي… ويبقي لي عائلتي سالمة وبعيدة عن كل المخاطر…
المأزق الذي مررت به… محنة سامر هذه… شيّبت شعري وجعلتني أقفز إلى سن الشيخوخة… وأصبح كعجوز على فراش المرض يعد أواخر أيامه… ويلملم أفراد عائلته من حوله… ليودعهم…
ولأنه كان اجتماعي الأول بدانة بعد فراق طويل… منذ ليلة عرسها تلك… فإن مئات المشاعر لمئات الأسباب والأحداث تفجرت ليلتها… وأغرقتها في بحور عميقة لا بداية لها ولا نهاية…
وطبعا لم تكن المناسبة تمر دون أن نذكر والديّ رحمهما الله, ونقلّب المواجع على فقدهما… وقد كانت دانة هي آخر من رآهما قبل وفاتهما… عندما زارتهما هي وعريسها بعد زواجهما مباشرة, وقبل انتقالهما للعيش في هذه البلد…
يا للذكريات…
هدأت عواصف مشاعرنا المختلفة أخيرا… وبدأ الجميع يسألني عن تفاصيل ما حصل معي خلال الأيام الماضية… فأوجزت لهم الأحداث وطمأنتهم إلى سير الأمور على خير… واطمأننت بدوري عليهم وشعرت لأول مرة… بعد عناء طويل وانشغال كبير… براحة البال…
وأنا أرى سامر… ورغد… وكذلك دانة من حولي… لم أكن لأتمنى من هذه الدنيا إلا سلامتهم… شددت على يد سامر ونحن نحدق في بعضنا البعض… وكانت النظرات أبلغ وأفصح من أي كلمات…
الحمد لله…
ولأنني كنت مرهقا من عناء السفر الطويل… ولا أزال في فترة النقاهة… فقد أردت أن أخلد للنوم والراحة… أخذتني دانة إلى إحدى الغرف… في زاوية بعيدة بعض الشيء عن الجناح الذي يقيم فيه سامر ورغد… وتركني الجميع هناك لأستحم ثم آوي إلى الفراش…
بعدما أنهيت استحمامي وفيما أنا أستخرج أدويتي من الحقيبة لأتناولها سمعت طرقا على الباب.
“تفضل”
كانت شقيقتي دانة… تحمل معها بطانيات وألحفة.
“تدثر جيدا… لئلا تصاب بنزلة برد مثل رغد”
قالت وهي تضعها على السرير فابتسمت وقلت:
“شكرا”
“أتحتاج أي شيء؟؟ ألا أجلب لك طعاما؟”
سألت فأجبت:
“كلا شكرا. هل لي ببعض الماء فقط؟؟”
“بالتأكيد”
وهمّت بالانصراف فأضفت:
“ومصحف من فضلك”
فابتسمت وحانت منها التفاتة إلى المنضدة التي وضعت عليها الأدوية ثم نظرت إلي باستنكار وقالت وهي ترفع سبابتها:
“التدخين ممنوع!”
فضحكن ضحكة خفيفة وقلت:
“هذه أدوية معدتي! أقلعت والحمد لله”
وفيما بعد جلست على السرير ملتحفا بالبطانية… أتلو آيات من الذكر الحكيم… وأحمد الله مرارا وتكرارا في سريرتي… وما إن مضت بضع دقائق حتى عاد الطرق على الباب…
“نعم تفضل”
متوقعا أن تكون دانة… غير أنها كانت رغد…
بدا عليها التردد وعي تفتح الباب ببطء وتطل من فتحته… ثم تخطو خطوة أو اثنتين إلى الداخل… بمجرد أن وقعت عيناي على عينيها عرفت أن لديها الكثير لتقوله… لكنّ تعبيرات وجهها اضطربت وقالت:
“اعتذر على الإزعاج… فقط أردت أن… أسألك إن كنت بحاجة إلى شيء”
أنا؟!… أنا محتاج إلى كل شيء يا رغد!
أجبت:
“شكرا صغيرتي… لا شيء للآن”
فشتت أنظارها في أرجاء الغرفة ثم سألت بخجل:
“هل شُفيت إصاباتك؟؟”
تعني ولا شك… الهجوم الوحشي الذي تعرضنا له تلك الليلة… وهي ليلة أشعر بالخجل والعار كلما تذكرتها… غضضت بصري وأجبت محاولا التظاهر بالعفوية والمرح:
“نعم… كما ترين”
ولما رفعت بصري إليها رأيتها تبتسم ثم تقول:
“حسنا… تصبح على خير”
ثم سعلت لبضع ثوان وهي تتراجع للخلف… فقلت:
“سلامتك”
فاتسعت ابتسامتها… وتابعت سيرها إلى الوراء وهي ممسكة بمقبض الباب تغلقه ببطء إلى أن بقيت فتحة صغيرة بالكاد تسمح برؤية نصف وجهها فإذا بي أسمعها تقول:
“أنا سعيدة بعودتك سالما… كدت أموت خوفا عليك… سعيدة جدا”
وتغلق الباب!
في اليوم التالي اجتمعنا أنا وشقيقاي ورغد ونوّار حول مائدة الغداء… وحتى لو لم أشاركهم طعامهم, شاركتهم الدفء العائلي والإحساس بالانتماء… والجو الأسري الرائع الذي كثيرا ما أفتقده…
وفي وقت القيلولة… جلست مع أخي سامر في غرفته أسأله عن تفاصيل ما حصل معه ومع رغد بعد افتراقنا… وأناقش معه الخطط المستقبلية… دار بيننا حديث طويل… كنت من خلاله… أريد أن أستشف وضعه النفسي… وأعرف إلى أي مدى ارتفعت معنوياته واستعاد رباطة جأشه…
وبالطبع, تحاشيت تماما ذكر موضوع المنظمة… بل إنّي قد عاهدت نفسي ألا أكترث لما فعل أخي ولا لكيف فعل, لا حساب ولا عتاب ولا استجواب, إن هو نجا وخرج من المأزق الخطير سالما… وما دام أخي معي الآن… وأراه أمامي بخير… فلا يهمني النبش في الماضي…
“لم تحدق بي؟!”
سأل سامر وقد لاحظ شرودي وأنا انظر إليه… فابتسمت وقلت:
“آسف… كنت أفكر… كيف سنعثر على منزل مناسب لنشتريه…”
فقال:
“في الحقيقة كنت قد استفسرت من نوّار مسبقا… عمه يقيم في هذه البلدة منذ عشرين عاما ويستطيع مساعدتنا في تدبر أمر المنزل”
قلت:
“جيد. إذن سنسعى لذلك من الآن إذ أنه من المحرج مبيتنا هنا”
حتى ولو كانت عائلة نوّار ترحب بنا بشدة…
قال سامر:
“نشتري شقة مناسبة في مكان قريب من هذا المنزل”
قلت:
“أو منزلا مستقلا… صغيرا ويناسب وضعنا الراهن”
قال سامر وهو يركز النظر إليّ:
“إذن… هل… ستستقر هنا؟؟”
وهو أمر لم أكن أريد التطرق إليه الآن… وأفكاري غير مرتبة… وجسمي منهك… وأعرف أنه موضوع إن فُتح سيجر خلفه مواضيع لا طاقة لنا بها هذه الساعة, لذا تظاهرت بالنعاس وتثاءبت وقلت وأنا أقف:
“سأفكر لاحقا… أشعر بالنعاس… سأقيل قليلا”
وغادرت الغرفة.
ذهبت إلى الغرفة التي خصصتها دانة لي, واضطجعت على السرير… وتدثرت بكل الألحفة والبطانيات المفروشة فوقه, ناشدا الدفء الذي حصلت عليه… في هذا الجو البارد… في هذه البلدة الغريبة… في هذه الغرفة النائية… كان مصدره المحفظة التي تنام تحت وسادتي…
أشلاء صورة رغد…
************
تغمرني سعادة لا توصف… وأنا أواصل دمج الألوان في لوحة وليد الأخيرة… وأتذكر وجوده من حولي… وأطلق زفرات الارتياح…
تناولنا الفطور والغداء معا هذا اليوم… صحيح أن وليد لم يشاركنا الأكل بسبب معدته, لكنه شاركنا الجلوس حول المائدة والأحاديث المختلفة… وعلمت أنه كان راقدا في المستشفى منذ فارقنا وحتى وافانا بسبب نزيف قرحة معدته… وأنه خضع لعملية جراحية لعلاجها وهي حقيقة أخفاها سامر عني طيلة الوقت…
وليد قلبي بدا مريضا بالفعل… شاحب اللون وفاقد الحيوية ومنطفئ البريق الذي كان يشع من عينيه… لكن الأهم أنه معنا الآن… وفي أمان…
عند العصر سمعت صوت دانة تناديني من خلف الباب:
“رغد تعالي لتناول الكعك معنا… نحن في الصالة”
فرددت بسرور ومباشرة:
“قادمة”
وتركت فرشاتي وانطلقت تسبقني سعادتي إلى الصالة, حيث كان أبناء عمي الثلاثة يجلسون… اقتربت منهم واتخذت مجلسي بجوار دانة, واخترت أكبر قطعة من الكعك… وبدأت في تناولها باستمتاع…
دانة ماهرة في صنع الكعك كما تعلمون… أما أنا فماهرة في التهامه!
راقبت وليد خلسة فلاحظت أنه يكتفي بشرب الماء من الكأس الموضوع أمامه, ولا يلمس الكعك…
قلت:
“إنها لذيذة وخفيفة وليد”
فأجاب وهو يبتسم:
“لا شك عندي… لكن معدتي لن تتحمل”
قالت دانة:
“جرب قضمة واحدة صغيرة… هيا وليد… من أجلي”
فكرر وليد اعتذاره وقال:
“إن اشتعلت هذه فلا شيء يطفئها”
وهو يشير إلى معدته, أحسست بالألم والقلق لأجله… وأنا متأكدة أن ما هيّج قرحته وسبب نزيفها هو الضرب الوحشي الذي تلقاه على أيدي وأرجل العساكر الوحوش… تلك الليلة…
تذكر تلك الليلة… جعل يدي ترتجف, وتُوقعُ الشوكة من بين أصابعي…
نظرت على وليد وشعرت وكأنه قرأ الذكريات التي مرت في مخيلتي… فقلت لا شعوريا بصوت هامس:
“الحمد لله… أنك هنا الآن”
وكأن أحدا لم يسمع ما قلت, فسألت دانة:
“عفوا؟؟”
فانحنيت لالتقاط شوكتي وأنا أقول مغيرة الموضوع:
“ما رأيك في المنزل وليد…؟ أليس رائعا؟؟ دانة تتصرف كملكة فيه!”
فنظرت دانة إلي بتباه وقالت مداعبة:
“أنا بالفعل ملكة هنا! كل هذا تحت تصرفي!”
فقال وليد مبتسما:
“هنيئا لك”
فقالت دانة:
“وأنتم كذلك… اطلبوا ما تشاؤون”
فقال سامر بعد أن ابتلع آخر قطعة في فمه:
“لا عدمناك… يكفينا هذا الجناح مؤقتا إلى أن نشتري منزلا أو شقة”
والتفتَ إلى وليد يطلب تأكيد كلامه, فقال الأخير:
“نعم. وسنعمل على ذلك عاجلا”
فقالت دانة مستاءة:
“هراء! تبحثون عن منزل ولدينا كل هذا؟؟”
فرد وليد:
“بارك الله فيكم… ولكن لا بد من منزل مستقل… إن عاجلا أم آجلا”
فقالت دانة مخاطبة إياه بحنق:
“وكأن منزلنا لا يتسع لكم! سآمر الخدم بتنظيف وإعداد كل الغرف التابعة لهذا الجناح وننقل غرفة نومك إلى أي غرفة تختارها يا وليد… سيكون هذا الجناح منزلكم”
فقال وليد:
“أرجوك… لا تتكبدوا العناء… الجناح هكذا يفي بالغرض لحين شراء مسكن مستقل ينتقلان إليه… أنا هنا مؤقتا على كل حال”
الجملة أربكتني وجعلتني أحملق في وليد… ثم أسأله:
“ماذا تعني؟؟”
وتنقلت بأنظاري إلى سامر و دانة, ورأيتهما يحملقان في وليد أيضا…
وليد لم يتكلم لأنه شعر بأن الأعين تتربص به… بل بدا مرتبكا وكأن الجملة قد انفلتت من لسانه دون قصد ولم يستطع استدراكها… أعدت سؤالي:
“ماذا تعني… وليد؟؟”
فإذا به يتأتئ ويمسح على جبينه ثم يرد أخيرا:
“آه… أعني… أنني سأعود إلى الوطن عاجلا…”
شهقت وترددت بأنظاري بين وليد وسامر و دانة ثم قلت وغير مصدقة:
” تمزح وليد… ألست تمزح؟؟!!”
فابتسم بقلة حيلة وقال:
“لا أمزح! أعني أنني… أنا هنا… لأطمئن عليكم ثلاثتكم وها قد اطمأننت ولا بد من العودة”
أخذ التوتر يتفاقم على وجهي ولاحظ الجميع ذلك… ثم قلت والكلمة لا تكاد تخرج من ثغري:
“و… وأنا…؟؟”
فتبادل الجميع النظرات… ثم تسلطت أعيينا على وليد الذي لم ينطق مباشرة… كان مترددا غير أنه في النهاية قال:
“ستبقين هنا يا رغد”
لما لاحظ سامر الهلع يجتاح قسمات وجهي قال مخاطبا وليد ومحاولا تلطيف وقع النبأ:
“لكن… لن تسافر بهذه السرعة… تعني بعد بضعة أسابيع؟…”
فالتفتَ إليه وليد وقال:
“بضعة أيام لا أكثر… تعرفون… لدي زوجة في انتظاري”
عند هذا الحد… وشعرت برغبة مفاجئة في التقيؤ… فوقفت بسرعة وأنا أسد فمي بيدي وهرولت إلى دورة المياه…
عندما خرجت من الحمام –أكرمكم الله- وجدت دانة تقف في الجوار في قلق… وسألتني:
“أأنت بخير؟؟”
ولم أجب.
فأضافت:
“هل كانت الكعكة سيئة أو ماذا؟؟”
التفتُ إليها وقلت:
“ألم تسمعي ما قال؟ يريد العودة إلى الوطن… بعد كل الذي تكبدنا من أجل الفرار… إنه يريد العودة إلى الخطر”
بدا على دانة تفهم مشاعري… ثم قالت:
“لم يقرر… بل يفكر”
قلت بعصبية:
“كيف يفكر في العودة إلى الجحيم؟؟ ألم يكفه ما فعلوا به؟؟ ألا يكفي هذا؟؟”
وذهبت منزعجة إلى غرفتي… و انعزلت فيها لبعض الوقت.
************
“ما كان يجب أن تذكر هذا الآن”
قال سامر يخاطبني بشيء من اللوم… وأنا أدرك أنني فاجأت الجميع بما قلت.. فلم أعلّق. فتابع هو:
“تذكر عودتك العاجلة إلى الوطن… وإلى زوجتك… وأنت بالكاد وصلت البارحة!؟ إنها… كانت قلقة عليك حد المرض”
مشيرا إلى رغد
صمتٌ قليلا ثم قلت:
“ولكن… في الحقيقة هذا ما يجب أن يحصل عاجلا”
نظر إليّ أخي نظرة لم أفهم معناها, أو بالأحرى… لم أرد أن أفهمها… ثم إذا به يقول:
“إذن… إذن… لن تقيم معنا ها هنا؟؟”
وهذا السؤال كان يشغل بال شقيقي منذ الصباح أو ربما منذ زمن… وأعرف ما خلفه…
قلت:
“وأترك زوجتي… وعملي… هناك؟؟!”
أراد سامر قول شيء لكنه تردد… أنا أعرف ما الذي تريد الوصول إليه يا سامر… لكن أرجوك… دعني أسترخي ليوم آخر… ولا تشغل بالي وتشعل النار في داخلي الآن…
أخيرا قال سامر:
“و… والمنزل؟؟ هل سنقيم فيه أنا ورغد بمفردنا؟؟”
وكأنه يستل خنجرا من صدري… آه… كم أتألم…
عضضت على أسناني لأمتص بعض الألم… ثم قلت محاولا الهروب:
“لكل حدث حديث… ننتظر شراء المنزل أولا”
وكانت محاولة فاشلة… إذ إن سامر عاد يسأل:
“وإذا حصلنا على المنزل غدا…؟؟ فهل..”
ولم يتم السؤال…
مسحت على وجهي مضطربا ونظرت يمينا ويسارا باحثا عن مهرب… ثم عدت إلى أخي فرأيته ينظر إليّ باهتمام وقلق… ينتظر ردي…
مددت يدي وربت على كتفيه بعطف… وقلت والدماء تحتقن في وجهي: “لا تستعجل… تريث قليلا… ودعنا نلتقط بعض الأنفاس… أنا مرهق جدا…”
وما كان من أخي إلا أن أومأ تفهما وأغلق الحوار…
وفي المساء… على مائدة العشاء… والتي التففنا حولها نحن الثلاثة, أنا وشقيقي وابنة عمي… تحركت أيدينا بالملاعق, بينما أفواهنا صامتة عن الكلام… كان الوجوم مخيما على وجه رغد… الذي صار كتابا متقلب الحروف والرموز… يشغلني فكُ طلاسمه…
وفيما أنا أتناول حسائي البارد ببطء وأرسل النظرات إليها بين الفينة والأخرى,كانت هي محملقة في طبقها تتحاشى النظر باتجاهي…
أما سامر… فكان يتظاهر بالاهتمام بالمباراة التي تعرض على التلفاز والتي يشارك فيها نوّار…
“الحمد لله”
قالتها رغد ووقفت هامّة بالمغادرة… وأطباقها بالكاد لُمست…
قلت:
“إلى أين؟؟ لم تنهي عشاءك”
قالت دون أن تنظر إلي:
“اكتفيت”
فقلت:
“اجلسي يا رغد… وأتمّي عشاءك”
هنا نظرت إليّ… نظرة حزينة مؤلمة…فيها العتاب واللوم… والرجاء واليأس سوية…
همست:
“رغد…”
فإذا بها تطلق الكلام الذي كانت تكبته في صدرها منذ ساعات دفعة واحدة:
“كيف تفكر في العودة للخطر يا وليد؟؟ نحن ما كدنا نصدق أننا نجونا… ما كدنا نطمئن على سلامة بعضنا البعض… أتريد أن تعرض نفسك للهلاك من جديد؟؟”
ولم تعطني فرصة للإجابة بل قالت بصوت شديد الرجاء:
“أرجوك وليد… لا تذهب… أرجوك”
تأوهت وقلت:
“لا بد لي من الذهاب يا رغد… لا بد”
ورأيتها تعض على شفتها السفلى ثم تقول:
“يمكنك إحضارها إلى هنا… ونستقر عن الخطر والحرب”
تعني أروى…
قلت:
“صعب جدا… أروى لن يعجبها ذلك… ثم إن المنزل والمزرعة والمصنع… وكل شيء هناك…”
فأومأت برأسها اعتراضا فأضفت:
“إنهم لا يلاحقونني أنا… لا تخشي علي… صغيرتي”
فانفجرت قائلة:
“كيف لا أخشى عليك؟؟ لقد رأيت ما فعلوه بك بأم عينيّ… هل تريد أن تيتمني للمرة الثالثة بعد؟؟ أنت لا تعمل حسابا لي”
وانصرفت مسرعة إلى غرفتها…
انتظرت لحظة… في حيرة من أمري… ثم وقفت وقلت مخاطبا أخي:
“سأتحدث معها”
ولم يبد أخي أي ردة فعل…
لحقتُ بالصغيرة وحصلت على إذنها بدخول الغرفة… وما إن دخلت حتى وقعت عيناي على مجموعة من اللوحات إلى جانب بعضها البعض… عند الجدار المقابل للباب… صورة لوالدي وأخرى لوالدتي رحمهما الله… وصورة لي أنا… وأنا رافعٌ يدي… موضوعة على عمود الرسم…
لدى رؤية صورتي والديّ لم أتمالك نفسي… وسرتُ باتجاهها وحملقت فيهما وانتابني الأسى والمرارة…
خاطبتهما سرا… ألا تخرجان من اللوحتين… وتريان ما نحن فيه… وتحلان مشكلتنا؟؟ أنا وشقيقي نحب فتاة واحدة تعني لكلينا كل شيء وعلى أحدنا أن يُميت قلبه ليُحيي الآخر… أنا يا أمي ويا أبي… أفضّل اللحاق بكما على أن يمس شقيقي أي أذى… سامحاني لأنني كنت أنانيا جدا… لم أتفهم مشاعره ولم أقدّرها… حسبت أن رغد شيء يخصني أنا وأنه هو من سرقها مني…
والتفتُ نحو رغد والتي كانت مطأطئة بصرها بحزن نحو الأرض.. فخاطبتها في سري بلهفة… ألست شيئا يخصني أنا يا رغد؟؟ ألست فتاتي أنا؟؟ ألست لي؟؟ ألن تكوني لي؟؟ ألا يجب أن تكوني لي أنا؟؟
ربما أحست رغد بنظراتي المسلطة عليها أو استبطأت كلامي… أو حتى سمعت خطابي السري في نفسي… فإذا بها تلتفتُ إلي وترمقني بنظرة أرسلتني إلى عالم التيه والضياع…
ثم إذا بتعبيرات الرجاء الشديد بل التوسل تزحف إلى قسمات وجهها الحزين وتخرج من لسانها بقول:
“أرجوك وليد.. تخلّ عن الفكرة.. ودعنا نعيش هنا معا بسلام.. أنا تعبتُ من الحرب والتشرد واليتم والضياع والصراع.. ألا تفعل هذا من أجلي؟؟”
تفطر قلبي لكلامها ونزف كثيرا… إنك تطلبين المستحيل يا رغد…
اقتربت منها وقلت مغدقا عطفي وحناني ومتحججا بمسؤولياتي:
“يا رغد… يا صغيرتي العزيزة… ومن يتولى الأمور هناك في الوطن؟؟ لديّ مسؤوليات جدية وكبيرة في انتظاري”
فقالت:
“وأنا؟ ألست جزءا جديا من مسؤوليتك أنت؟؟ كيف تتركني وحدي وتذهب عني؟؟”
قلت:
“كيف تقولين وحدك؟؟ أتركك مع دانة وسامر”
فأجابت منفعلة:
“لكنك أنت الوصي علي… المسؤول عني شرعيا… ويفترض أن تبقيني معك وتبقى معي… أليس كذلك؟ أليس هذا من واجبك؟”
لم أجب مباشرة… ثم قلت:
“بلى… و… كذلك… أنا المسؤول عن أروى… ومن واجبي العودة إليها”
وكنت أتوقع أن يزعجها ذكر أروى… بل كنت أتعمد أن أذكرها حتى أستفيق أنا من حالة التيه في بحر رغد, وأعود إلى الواقع وأقطع الحبال المتشدقة بسفينة رغد… نعم كنت أتوقع أن تنزعج رغد من ذكر أروى –كعادتها- لكنني لم أتوقع أن تأتي ردة فعلها بهذا الشكل…
صرخت منفعلة منفلتة:
“إذن عُد إليها… هيا عُد… لا شك أنك متلهف لعينيها الزرقاوين وشعرها الحريري الأشقر… من يتنازل عن الحسناء الثرية؟؟ هنيئا لك بمن اخترت.. اذهب!”
وأشاحت بوجهها عني… وعندما ناديتها هتفت زاجرة:
“اذهب الآن”
وما كان مني إلا أن غادرت الغرفة.
عندما عدت إلى حيث كنا نتناول العشاء قبل قليل… لم أجد أخي هناك… بحثت عنه في غرفته وفي الجوار ولم أجده… ووجدت هاتفه موضوعا على سريره… سألت عنه دانة فأخبرتني أنها لم تره مذ كنا نتناول الكعك عصرا…
قضيت الساعتين التاليتين واقفا على أطراف أعصابي المشدودة… حتى إذا ما ظهر أخيرا… قادما من الخارج… قدمتُ نحوه وبادرت بالسؤال:
“إلى أين ذهبت؟؟”
ظهر الانزعاج من السؤال على وجه أخي وقال:
“عفوا؟؟”
فتراجعت وقلت مخففا سؤالي:
“أعني… في هذا الطقس البارد؟؟”
فرد سامر:
“تمشيت في الجوار…”
وبعد برهة صامتة قلت وأنا أهم بالانصراف:
“سأخلد للنوم”
استوقفني سامر بسؤاله:
“ماذا أحرزت مع رغد؟”
فشددت على قبضتي… ثم قلت:
“لا شيء…”
وتابعت:
“لا تقدر مسؤولياتي الأخرى… تتوقع مني أن… أتفرغ لرعايتها”
رأيت ابتسامة شبه ساخرة على زاوية فمه اليمنى… ثم حل الجد مكانها وإذا بأخي يقول:
“إنها… متعلقة بك”
تدفقت الدماء إلى وجهي… ورأيت أخي ينظر إلى عينيّ ينتظر تعليقا… فأبعد نظري عنه, ثم قلت:
“… أعرف…”
فقال:
“إذن..؟؟”
فالتفت إليه وقرأت في عينيه جدية واهتماما بالغين… ولم أعرف بم أقابلهما… فقال أخي وقد اصطبغ صوته بالانزعاج:
“لم لا ترد؟ لقد جئت بي من آخر العالم إلى هنا ووضعتها نصب عيني… أعدتني إلى ما كنت على وشك الخلاص منه… وها أنت تريد أن ترحل وتتركني في نفس الدوامة… فهلا حللت قضيتي مع رغد أولا؟؟”
تضاعف ضخ الدماء الحارة إلى وجهي… واشتعلت النار التي لا تكاد تهدأ في معدتي… وبدأ العرق يتصبب مني رغم برودة الجو…
قلت أخيرا:
“صبرا يا سامر… أعطنا فترة نقاهة مما حصل مؤخرا… رويدك”
ورأيت أخي يمد سبابته اليمنى نحو وجهي ويضيّق عينيه ويضغط على أسنانه وهو يقول مهددا:
“لا تتلاعب بي يا وليد”
فأفلتت أعصابي من سيطرتي وقلت حانقا:
“وماذا تريد مني أن أفعل الآن؟؟ أرغم الفتاة على العودة إليك؟؟ أليس لديك اعتبارا لمشاعرها هي وإرادتها ورغبتها هي؟؟”
فرد مباشرة:
“أنا أكثر منك معرفة… بمشاعرها هي.. وإرادتها هي.. ورغبتها هي.. وأنت.. أنت.. يجب عليك أن تتدخل لوضع حد لهذا.. يجب أن تُفهمها ما لا تريد هي أن تفهمه.. يجب أن تجعلها تستيقظ من أحلامها المستحيلة التي لا تسبب لها إلا الأذى وتتوقف عن هدر مشاعرها على الشخص الخطأ”
فوجئت بكلام أخي للحد الذي لزمني زمن طويل حتى أستفيق من طور المفاجأة… ولما استفقت, كان أخي قد انصرف…
ذهبت إلى غرفتي… وجلست على سريري… واستخرجت قصاصات صورة رغد من محفظتي المخبأة تحت الوسادة… وجمعتها… ونظرت إلى وجه رغد… وتأوهت…
هل آن الأوان… لأن ينتهي كل شيء يا رغد؟؟؟
هل يعقل… أنني سأضطر للتخلي عنك… بعد كل هذا؟؟
إنه يساومني على حياته يا رغد… هل سأضحي بك من أجله؟؟ هل سأفعل ذلك يا رغد؟؟ هل سأجرؤ؟؟
هل أنا أستطيع ذلك؟؟
وضممت الصورة إلى صدري وعصرتها بقبضتي وهتفت…:
“لا أستطيع… لا أستطيع…”
*********