قراءة رواية أنت لي كاملة

الجزء العاشر

ما أن خرجت من السور الضخم العملاق المحيط ببنايات السجن ، حتى وجدت سيارة تقف على الطريق المقابل ، و إلى جانبها يقف رجل عرفت فورا أنه صديقي الحميم سيف …
كنت أسير ببطء شديد ، خشية أن أفيق مما ظننته مجرد حلم … حلم الحرية …
أنظر إلى السماء فأرى الشمس المشرقة تبعث إلى بتحياتها و أشواقها الحارة
و أرى الطيور تسبح بحرية في ساحة الكون … بلا قيود و لا حواجز …
و أتلفت يمنة و يسرة فتلفحني أنسام الهواء النقية … عوضا عن أنفاس المساجين المختلطة بدخان السجائر …
لن أطيل في وصفي لشعوري ساعتها فأنا عاجز عن التصوير …
تعانقنا أنا و صديقي سيف عناقا حارا جدا و لا أعرف لماذا لم تنصهر دموعي ذلك الوقت !
أ لأنني قد استنفذتها في السنوات الماضية ؟؟
أم لأنني كنت في حالة عدم تصديق ؟؟
أم لأنني فقدت مشاعري و تحجر قلبي و تبلد إحساسي …؟؟

” حمد لله على خروجك سالما أيها العزيز ”

قال سيف و هو يعانقني وسط بحر من الدموع …

و يدقق النظر إلى تعابير وجهي الغريبة و عيني الجامدة
و أنفي كذلك !

قلت :

” عدا عن كسر بسيط في الأنف ! ”

و ضحكنا !

قلت :

” فعلها والدك ؟ ”

ابتسم و قال مداعبا :

” والدي و أنا ! بكم تدين لي ؟؟ ”

” بثمان سنين من عمري أهديها لك !”

ركبنا السيارة و ابتدأ مشوار العودة … الطويل
كان المقعد جلدي قد أحرقته الشمس ، و ما إن جلست عليه حتى سرت حرارته في جسدي فحركت فيه حياة كانت ميتة …
طوال الوقت ، كنت فقط أراقب الأشياء تتحرك من حولي …
الطريق …
الشارع …
الأشجار
كل شيء يتحرك …
بعد أن قضيت 8 سنوات من الجمود و السكون و الموت …

8 سنوات من عمري ، ضاعت سدى … فمن يضمن لي العيش ثمان سنوات أخرى …
أو أكثر
أو أقل ؟؟
دهشت لدى رؤية آثار الحرب و الدمار … تخرب البلد …
الطريق كان شاقا و الشوارع مدمرة ، و كان علينا عبور مناطق لا شوارع بها وقد حضر سيف بسيارة مناسبة للسير فوق الرمال .
بين الفينة و الأخرى ألقي نظرة على ساعة السيارة ، و دونا عن بقية الأشياء من حولي ،لا أشعر بها هي بالذات تتحرك …
إنني في أشد الشوق لرؤية أهلي … منزلي … مدينتي …
و شديد اللهفة إلى صغيرتي رغد !
آه يا رغد !
ها أنا أعود …
فهل أنا في حلم ؟؟

كانت الشمس قد استأذنت للرحيل على وعد بالحضور صباحا ، لحظة أن فتحت عيني على صوت يناديني …

” وصلنا ! انهض عزيزي ”

لم أشعر بنفسي حين نمت مقدارا لا أعلمه من الوقت ، إلا أنني الآن أفقت بسرعة و بقوة …
كان جسدي معرقا و ملتصقا بملابسي و بالمقعد … و مع ذلك لم أشعر بأي انزعاج أثناء النوم …

” وصلنا ! إلى أين ؟ ”

قلت ذلك و أنا أتلفت يمنة و يسرى و أرى الدنيا مظلمة … إلا عن أنوار بسيطة تتبعثر من مصابيح موزعة فيما حولي …

قال سيف :

” إنه منزلي يا وليد ”

حدقت بسيف برهة ، ثم قلت :

” خذني إلى منزلي رجاءا ! ”

سيف علاه شيء من الحزن و قال :

” كما تعرف يا وليد … أهلك قد غادروا … ستبقى معي لحين نهتدي إليهم سبيلا ”

قضيت تلك الليلة ، أول ليالي الحرية ، في بيت العزيز سيف .
هل لكم بتصور شعوري عندما وضعت أطباق العشاء أمامي ؟؟
طبخات لم أذقها منذ ثمان سنين ، شعرت بالخجل و أنا مقبل على الطعام بشراهة فيما سيف يراقبني و يبتسم !

” أنا آسف ! إنني جائع جدا ! ”

قلت ذلك و أنا مطأطئ بعيني نحو الأسفل خجلا ، إلا أن سيف ضحك و قال :

” هيا يا رجل كل قدر ما تشاء و اطلب المزيد ! بالهناء و العافية ”

رفعت بصري إليه و قلت :

” لو تعلم كيف كان طعامي هناك … ! ”

هز سيف رأسه و قال :

” انس ذلك … لقد كان كابوسا و انتهى ، الحمد لله ”

هل انتهى حقا … ؟؟

رغم أنه كان سريرا ناعما واسعا نظيفا و عطرا ، ألا أنني لم استطع النوم جيدا تلك الليلة …
كيف تغمض لي عين و أنا مشغول البال و التفكير … بأهلي …
و بعد صلاة الفجر ، و حينما عادت الشمس موفية بوعدها ، و اطمأننت إلى أنها صادقة و ستظهر لتشرق حياتي كل يوم ، فتحت النافذة لأسمح بأشعتها للتسرب إلى الغرفة و معانقة جسدي بعد فراق طويل …

رأيت أشياء كثيرة و مزعجة في نومي …
سمعت صوت نديم يناديني …

” انهض يا وليد ، جاء دورك ”

كان العساكر يقفون عند باب السجن ينظرون إلي … لم أشأ النهوض …
هززت رأسي معترضا ، لكن نديم ظل يناديني
أفقت ، و فتحت عيني لأنظر إليه ، و أرى السقف و الشقوق التي تملأه ، و تخزن عشرات الحشرات بداخلها …
لكنني رأيت سقفا نظيفا و مزخرف … منظر لم أعتد رؤيته … نهضت بسرعة و نظرت من حولي …

” وليد ! هل أفزعتك ! أنا آسف ! ”

كان صديقي سيف يقف إلى جانبي …
قلت و أنا شبه واع ، و شبه حالم :

” أنت سيف ؟ أم نديم ؟؟ هل أنا في السجن ؟ أم … ”

سيف مد يده و أمسك بيدي بعطف و قال :

” عزيزي … إنك في بيتي هنا ، لا تقلق … ”

خشيت أن يكون حلما و ينتهي ، حركت يدي الأخرى حتى أطبقت على يد سيف بكلتيهما ، و قلت :

” سيف ! أهي حقيقة ؟ أرجوك لا تجعلني أفيق فجأة فأكتشف أنه مجرد حلم ! هل خرجت أنا من السجن حقا ؟؟ ”

الآن فقط ، تفجرت الدموع التي كانت محبوسة في بئر عيني ّ

بعد ذلك ، أصررت على الذهاب للمنزل حتى مع علمي بأن أحدا لم يعد يسكنه
و كلما اقتربنا في طريقنا من الوصول ، كلما تسارعت نبضات قلبي حتى وصلنا و كادت تتوقف !
اتجهت نحو الباب و جعلت أقرع الجرس ، و سيف ينظر إلي بأسى
لم يفتحه أحد …
جالت بخاطري ذكرى تلك الأيام ، حينما كانت رغد و دانة تتسابقان و تتشاجران من أجل فتح الباب !
التفت إلى الخلف حيث يقف سيف ، و كانت تعابير وجهه تقول : يكفي يا وليد ، لكنني كنت في شوق لا يكبح لدخول بيتي …
نظرت من حولي ، ثم أقبلت إلى السور ، و هممت بتسلقه !

” وليد ! ما الذي تفعله !؟ ”

أجبت و أنا أقفز محاولا الوصول بيدي إلى أعلى السور :

” سأفتح الباب ، انتظرني ”

و بعد أن قفزت إلى الداخل فتحت الباب فدخل سيف …

” و لكن لا جدوى ! كيف ستدخل للداخل ؟ ”

بالطبع ستكون الأبواب و النوافذ جميعها مغلقة و موصدة من الداخل ، ألا أنني أستطيع تدبر الأمر !

قلت :

” سترى ! ”

و انطلقت نحو الحديقة …
لم تعد حديقتنا كما كانت في السابق ، خضراء نظرة … بل تحولت إلى صحراء صفراء جافة …
انقبض قلبي لدى رؤيتها بهذا الشكل …
أخذت أتلفت فيما حولي و سيف يراقبني باستغراب
وقعت أنظاري على أدوات الشواء التي نضعها في إحدى الزوايا ، في الحديقة
كم كانت أوقاتا سعيدة تلك التي كنا نقضيها في الشواء
توجهت إليها و أخذت أحفر الرمال …

” ما الذي تفعله بربك يا وليد ؟؟! هل أخفيت كنزا هناك ؟؟ ”

و ما أن أتم سيف جملته حتى استخرجت مفتاحا من تحت الرمال !

تبادلت أنا و سيف النظرات و الابتسامات ، ثم قال :

” عقلية فذة ! كما كنت دائما ! ”

و ضحكنا …
كنت أخفي مفتاحا احتياطيا في تلك الزاوية تحت الرمال منذ عدة سنوات …
و أخيرا دخلت المنزل
للحظة الأولى أصابت جسدي القشعريرة لرؤية الأشياء في غير أمكنتها …
تجولت في الممرات و شعرت بالضيق للسكون الرهيب المخيم على المنزل …
عادة ما كان البيت يعج بأصوات الأطفال و صراخهم …
صعدت إلى للطابق العلوي قاصدا غرفة نومي ، حيث تركت ذكريات عمري الماضي … و حين هممت بفتح الباب ، وجدتها مقفلة …

” تبا ! ”

توجهت بعد ذلك إلى غرفة رغد الصغيرة ، المجاورة لغرفتي مباشرة .. مددت يدي و أمسكت بالمقبض ، و أغمضت عيني ، و أدرت المقبض ، فلم ينفتح الباب …
كانت هي الأخرى مقفلة
أدرت المقبض بعنف ، و ضربت الباب غيظا … و ركلته من فرط اليأس …
أخذت أحاول فتح بقية الغرف لكنني وجدتها جميعا مقفلة
فشعرت و كأن الدنيا كلها … مقفلة أبوابها أمامي …
عدت إلى غرفة رغد و أنا منهار …
جثوت على الأرض و أطلقت العنان لعبراتي لتسبح كيفما تشاء …

” أين ذهبتم … و تركتموني ؟؟ … ”

أغمضت عيني و تخيلت …
تخيلت الباب ينفتح ، فأرى ما بالداخل …
على ذلك السرير تجلس رغد بدفاتر تلوينها ، منهمكة في التلوين …
و حين تحس بدخولي ترفع رأسها و تبتسم و تهتف : وليــــــــد !
ثم تقفز من سريرها و تركض إلي … فألتقطها بين ذراعي و أحملها عاليا !

” أين أنتم ؟ عودوا أرجوكم … لا تتركوني وحيدا … ”

كنت أبكي بحرقة و مرارة و عيناي تجولان في أنحاء المنزل و أتخيل أهلي من حولي … هنا و هناك …
و أتوهم سماع أصواتهم …
لقد رحلوا … و تركوا المنزل خاليا و الأبواب مقفلة … و وليد وحيدا تائها …
هل تخلوا عني ؟؟
هل أصبحت في نظرهم ماض يجب نسيانه ؟
مجرما يجب إلغائه من الحسبان ؟؟
كيف يمتنعون عن زيارتي و السؤال عني كل هذه السنين …
ثم يرحلون …
أخرجت الصورتين اللتين احتفظ بهما منذ سنين من أحد جيوبي … و جعلت أتأمل وجوه أهلي و أناديهم … واحدا تلو الآخر كالمجنون …
أبي …
أمي …
سامر …
دانه …
رغد …
لقد عدت !
أين أنتم ؟؟
أجيبوا أرجوكم …

سيف ظل واقفا يراقب عن بعد …
كنت لا أزال جاثيا عند باب غرفة رغد غارقا في الحزن و البكاء المرير … حين لمحت شيئا لم أكن لألمحه لو لم أجثو بهذا الوضع …
من بين دموعي المشوشة للرؤية أبصرت شيئا تحت باب غرفتي
مددت أصابعي و أخرجته ببعض الصعوبة ، فإذا به قصاصة ورق صغيرة مثنية ، و حين فتحتها وجدت التالي :

( وليد ، لقد ذهبت مع أمي و أبي و دانة و سامر إلى المدينة الصناعية . عندما تعود تعال إلينا . أنا أنتظرك كما اتفقنا . رغد )

لكم أن تعذروا سيف للذهول الذي أصابه حين رآني أنهض واقفا فجأة ، و أطلق ضحكة قوية بين نهري الدموع الجاريين !

” وليد !! ماذا دهاك ؟؟ ”

نظرت إليه و أنا أكاد أقفز فرحا و قلت :

” إنها رغد العزيزة تخبرني بأنهم في المدينة الصناعية ! هل رأيت شيئا كهذا ؟؟ ”

و أخذت أحضن الورقة و الصور بجنون !

سيف قال :

” عقلية … فذة … أظن ذلك ! ! ”

و ضحكنا من جديد .

و بعد يومين ، حين رتب سيف أموره للسفر ، انطلقنا أنا و هو بالسيارة ميممين وجهينا شطر المدينة الصناعية …
لقد تكبلنا مشاقا لا حصر لها أثناء الطريق ، إذ أن الشوارع كانت مدمرة و اضطررنا لسلك طرق ملتوية و مطولة جدا …
كما و أننا واجهنا عقبات مع الشرطة المحليين
إنني لمجرد رؤية شرطي ، ارتعش و أصاب بالذعر … حتى و إن كان مجرد شرطي مرور …
لن أطيل في وصف الرحلة ، لم يكن ذلك مهما … فرأسي و قلبي و كلي … مشغول بأهلي و أهلي فقط …
و أولهم … مدللتي الصغيرة الحبيبة …
رغد …
رغد …
أنا قادم إليك أخيرا …
قادم أخيرا …

وصلنا للمدينة الصناعية مساء اليوم التالث ، و قد نال منا التعب ما نال
لذا فإن سيف أراد استئجار شقة نقضي فيها ليلتنا لنبدأ البحث في اليوم التالي …

” ماذا ؟ لا أرجوك ! لا أستطيع الانتظار لحظة بعد ! ”

تنهد سيف و قال :

” يا عزيزي دعنا نبات الليلة و غدا نذهب إلى بلدية المدينة و نسألهم عن أهلك ! أين تريدنا أن نبحث الآن ؟؟ نطرق أبواب المنازل واحدا بعد الآخر ؟؟ ”

” أجل ! أنا مستعد لفعل ذلك ! ”

ابتسم سيف ، ثم ربت على كتفي و قال :

” صبرت كثيرا ! اصبر ليلة أخرى بعد ! ”

لم تمر علي ساعات أبطأ من هذه من قبل …
لم أنم حتى لحظة واحدة و أصابني الإعياء الشديد و الصداع
و في اليوم التالي ، وقفنا عند إحدى محطات الوقود ، و ذهب سيف لشراء بعض الطعام و هممت باللحاق به ، لكنني شعرت بالتعب الشديد …
عندما عاد سيف ، التفت نحوي مقدما بعض الطعام إلي :

” تفضل حصتك ! ”

هززت رأسيا ممتنعا ، فأنا لا أشعر بأي رغبة في الطعام فيما أنا قد أكون على بعد قاب قوسين أو أدنى من أهلي …
أسندت رأسي إلى المعقد و رفعت يدي إلى جبيني و ضغطت على رأسي محاولا طرد الصداع منه …

” أ أنت بخير ؟؟ ”

سألني سيف ، فأجبت :

” صداع شديد ”

” خذ تناول بعض الطعام و إلا فإنك ستنهار ! ”

و هززت رأسي مجددا …
ثم التفت إليه و قلت :

” هل لي ببعض المال ؟؟ ”

أخرج سيف محفظته من جيبه و دفعها إلي … فأخذتها ، و فتحت الباب قاصدا النزول و الذهاب إلى البقالة المجاورة …
ما كدت أقف على قدمي حتى انتابني دوار شديد فانهرت على المقعد …

” وليد ! ”

تركت رجلي متدليتين خارج السيارة و أنا عاجز عن رفعهما
سيف أسرع فعدّل من وضعي و سأل بقلق :

” أ أنت بخير ؟؟ ”

” دوار … ”

أسرع سيف فقرب عبوة عصير من شفتي و قال :

” اشرب قليلا ”

رشفت رشفتين أو ثلاث ، و اكتفيت . سيف كان قلقا و ظل يلح علي بتناول بعض الطعام ألا أنني لم أكن أشعر بأدنى رغبة حتى في شم رائحته …
بعد قليل ، زال الدوار جزئيا و فتحت عيني ، و مددت بالمحفظة إلى سيف و قلت :

” هل لي بعلبة سجائر ؟ ”

…تتمة…

…تتمة…

كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشر ليلا ، حينما أشار آخر شخص سألناه عن منزل شاكر جليل ، أبي وليد ، إلى منزل صغير يقع عند المنعطف التالي …

سأل سيف الرجل :

” أ أنت متأكد ؟ شاكر جليل المكنى بأبي وليد ، رجل قدم مع عائلته من وسط البلاد ؟”

” نعم إنه هو و يقيم هنا منذ سبع أو ثمان سنين ! ”

لم يكن الشيء الذي يهتز هو قلبي فقط ، بل و أطرافي ، و شعري ، و مقعدي بل و السيارة أيضا !
تبادلنا أنا و سيف النظرات … ثم تحرك بالسيارة ببطء حتى أصبحنا إزاء المنزل مباشرة …

” هيا يا وليد … ”

بقيت في مكاني و لم تخرج مني بادرة تشير إلى أنني أنوي النهوض

” وليد ! هيا بنا ! أم تفضل الانتظار حتى الغد فربما يكون الجميع نيام ! ”

قلت بسرعة :

” لا لا … مستحيل أن أنتظر دقيقة بعد … ”

و مع ذلك ، بقيت في مكاني بلا حراك ، عدا عن الاهتزازات التي تعرفون …

” ما بك ؟ قلق ؟؟ ”

” ماذا لو لم يكن المنزل المقصود أو العائلة المعنية ؟؟ هل نستمر في البحث أكثر ؟؟ أنا مجهد جدا ”

” هوّن عليك ، ربما وصلنا أخيرا . سنتأكد من ذلك ”

كيف لي أن أبقى صامدا قويا و أنا على وشك رؤية أهلي … ؟؟
في داخل هذا المنزل … يعيش أمي و أبي … و أخي و أختي … و الحبيبة رغد !
ربما هم نيام الآن !
لا بد أنهم سيفاجؤون لدى رؤيتي ….
كم أنا مشتاق إليكم جميعا …
إن هي إلا لحظات … و ألتقي بكم !
يا إلهي ! أكاد أموت من الشوق و القلق …
أخرجت الصورتين من جيبي و أخذت أتأمل أفراد عائلتي …
ثم ثبت ّ أنظاري على صورة رغد ، و هي تلون …
رغد …
يا حلوتي الصغيرة …
ها أنا قد عدت …

” دعك من الصورة … و هيا إلى الأصل ! ”

قال سيف و هو يفتح الباب و ينزل …
قرعنا الجرس مرارا … حتى خشيت أن يكون البيت قد هجر … و أهلي قد رحلوا … و أملي قد ضاع …

و لكن الباب انفتح أخيرا …

و أطل منه شاب يافع … طويل القامة … نحيل الجسم … مشوّه الوجه بندبة أكدت لي بما لا يقبل الشك … أنه شقيقي الوحيد … سامر ….

” سامر … يا أخي ! ”

دخلت في دوامة لا أستطيع وصفها … من الصراخ و الهتاف … البكاء و النحيب … الدموع و العناق …

تلقفتني الأيدي و الأذرع و الأحضان … و أمطرت بالقبل و امتزجت الدموع بالآهات و التهاليل بالولاول … و ما عدت أدرك إن كان أهلي من حولي حقا ؟ أم أنني توهمت خروجهم من الصورة …؟
لقد مضى وقت لا أعرف مقداره و أنا أدور بين أحضانهم في عناق تختلط فيه الدموع …

والدتي لم تقو على الوقوف من هول المفاجأة فجلسنا جميعا قربها و استحوذت على رأسي و ضمته إلى صدرها و جعلنا نبكي بحرارة
و أبي جالس قربي يكرر حمد الله و شكره و يجهش بكاءا
و أخي سامر ممسكا بذراعي من جهة ، و دانة من جهة أخرى
و لم يعد هناك مجال للكلمات …

لا أستطيع وصف المزيد
أنى لذاكرتي أن تستوعب حرارة كهذه دون أن تنصهر ؟؟
أطلقت والدتي سراح رأسي لبعض الوقت … فالتفت نحو دانة
كم كبرت و أصبحت … فتاة مختلفة !
فتحت فمي لأتكلم ، فإذا بالدموع الحارة تتسلل إلى داخله …
و ربما هذا ما منح لساني القدرة على الحركة و النطق …
لكن صوتي جاء مبحوحا خافتا ضعيفا ، كصوت طفل يختنق …

” رغد ؟؟ ”

هبت دانه واقفة ، و صعدت عتبات تلي المدخل عتبتين عتبتين ، و أسرعت الخطى ذاهبة لاستدعاء رغد
وقفت في قلق و وقف الجميع معي ، و هم لا يزالون يقتسمون حضني و ذراعي …
كنت أنظر إلى الناحية التي ذهبت إليها دانه … و لو لم أكن مربوطا بالجميع لذهبت خلفها …
لا …
بل لسبقتها …
الآن ستظهر رغد !
هل نفذ الهواء الذي من حولي ؟؟ أنا اختنق …
هل طلعت الشمس في غير موعدها ؟ إنني أحترق …
هل تهتز الأرض من تحت رجلي ؟؟ أكاد أنهار … لولا أنهم يمسكون بي …

ستأتي رغد … سأحضنها … و أحملها على ذراعي … و أؤرجحها في الهواء كما كنت أفعل دائما …

هيا يا رغد … اظهري … تعالي … أسرعي إلي …

و من حيث كنت أحدّق بصبر نافذ تماما ، ظهرت مخلوقة جاءت تركض بسرعة … و توقفت عند أعلى العتبات ….

كما توقفت هي ، توقف كل شيء كان يتحرك في هذا الكون فجأة … بما فيهم قلبي المزلزل …
توقفت عيني حتى عن سكب الدموع ، و عن الطرف …
و تثبتت فوق عيني الفتاة الواقفة أعلى العتبات … تنظر إلي بذهول … فاغرة فاها

هل جرب أحدكم أن يوقف شريط الفيديو أثناء العرض ؟
هكذا توقف الكون عند هذه اللحظة التي ربما تجاوزت القرون طولا …
وجها لوجه … أمام مخلوقة يفترض أن تكون رغد … و لم تكن رغد …
كنت انتظر أن تظهر رغد … تماما كما تركتها قبل ثمان سنين … طفلة صغيرة أعشقها بجنون … تركض نحوي بلهفة … و ترفع يديها إلي بدلال … و تقول :
وليـــد … احملني !

لم أعد أرى جيدا … أصبت بغشاوة من هول الصدمة المفاجئة … و المشاعر المتلاطمة بعنف …
أردت أن أخرج الصورة من جيبي … و أسأل الجميع … أهذه هي صغيرتي رغد ؟؟
لكنني بقيت جامدا متصلبا متخشبا كما أنا …
أول شيء تحرك كان فم الفتاة … ثم إصبعها الذي أشار نحوي ، و بصعوبة و بجهد و بحروف متقطعة قالت :

” و … لـ … يــ … ــد ؟؟؟ ”

ثم فجأة ، و دون أن تترك لي الفرصة لأستعد لذلك ، قفزت رغد من أعلى العتبات باندفاع نحوي فحررت ذراعي بسرعة من بين أذرع البقية و رفعتها نحو رغد التي هوت على صدري و هي تهتف

” وليـــــــــــــــــــــــــــــــــد ”

الآن فقط ، آمنت تماما بحقيقة دوران الأرض حول نفسها …
لقد كنت أنا المحور
و كانت الأشياء تدور من حولي بسرعة …
بسرعة …
بسرعة …

كدنا نهوي أرضا لو لم يسرع أبي و سامر لإسنادنا لكنني لم أكن قادرا على الوقوف
أما رغد …
صغيرتي التي كبرت … فقد كانت ممسكة بي بقوة جعلتني أشعر أنها ستخترق جسدي
بل اخترقته …
لثمان سنين فقط ، أريد لهذه اللحظة أن تستمر …
لثمان سنين ، عادت بي الذاكرة …
لذلك اليوم المشؤوم …
لتلك اللحظة الفظيعة ، التي كانت فيها رغد متشبثة بي بذعر و تكاد تخترق جسدي …
فيما عمّار واقف يبتسم ابتسامة خبيثة و هو يرمي إلي بحزام رغد …
لحظة تذكرت هذا ، أطبقت على رغد بقوة و كأنني أريد حمايتها من مجرد الذكرى الأليمة
و شددت ضغطي أكثر و أكثر … و لو كانت لجسدي قوته و عضلاته السابقة ، لربما سحقت عظامها بين ذراعي …
إلا أنني الآن أشعر بضعف شديد يسري في جسدي ، و أريد أن أنهار

أبعدت رأسها عني قليلا لأتأكد … أنها رغد …
رغم أنها كبرت إلا أن ملامح وجهها الدائري الطفولية ، لا زالت كما هي …

” رغد ! صغيرتي ! ”

لقد عشت لأراك ثانية …
و نجوت لأعود إليك …

” آه ”

أطلقت هذه الآهة ، ثم خررت أرضا …
أعتقد أنني أصبت بإغمائه لبضع دقائق
عندما فتحت عيني ، رأيت وجوه الجميع من حولي فيما أدمعهم تنهمر و تبلل وجهي و ملابسي الغارقة في العرق …
لم يكن لدي ما هو أغلى من دموع مدللتي رغد و حين رأيتها تسيل على خديها قلت

” لقد عدت ! لن أسمح لدموعك بأن تسيل بعد اليوم ! ”

ثم نقلت بصري بين أعينهم جميعا ، و قلت :

” أنا متعب جدا ”

و لحظتها فقط انتبهت لعدم وجود سيف …
لا أذكر أنني رأيته بعد قرعنا للجرس ! هل عاد للسيارة ؟ أم ماذا حدث ؟

قلت :

” أين سيف ؟ ”

أجاب سامر :

” غادر … قال أنه سيأتي غدا ”

و لأنني كنت متعبا جدا جدا ، فسرعان ما نمت بعدما أرخيت جسدي فوق سرير أخي سامر ، و الذي نام على الأرض إلى جواري في غرفته تلك الليلة …

عندما أيقظني سامر وقت صلاة الفجر ، لم أكن قد نلت ما يكفي من الراحة… لذا لم أرافقه و أبي إلى المسجد ، بل أديت صلاتي في الغرفة ذاتها …

أثناء غيابهما للصلاة ، تجولت في المنزل بحثا عن المطبخ فقد كنت شديد العطش و لم يكن البيت كبيرا لذا فإن غرفه و أجزائه متقاربة …
وصلت إلى المطبخ و هناك رأيت شخصا يقف أمام الثلاجة المفتوحة ، موليا ظهره إلي ، و يرتدي حجابا …

لم يكن من الصعب علي أن أستنتج أنها رغد ، من صغر حجمها

” رغد ؟ ”

التفتت رغد نحوي بفزع ، إذ أنها لم تشعر بدخولي المطبخ …

” أنا آسف … هل أفزعتك ؟؟ ”

أحنت رغد رأسها نحو الأرض و هزته قليلا …

قلت :

” أريد بعض الماء … رجاء ً ”

رغد تنحت جانبا موسعة المجال أمامي ، و عندما اقتربت رفعت رأسها فنظرت إلي برهة …

” لقد … كبرت ِ ! ”

لم تنطق بأي كلمة ، و نزلت ببصرها أرضا …

قلت :

” لكنك لم تتغيري كثيرا … ”

رفعت رأسها مرة أخرى و نظرت إلي ، ثم طأطأته من جديد …

قلت :

” و أنا ؟ هل تغيرت كثيرا ؟؟ ”

ترددت قليلا ثم قالت :

” هل بدّلت أنفك ؟ ”

ابتسمت ، بل كدت أضحك ، لكنني قلت :

” بدّله الزمن ! هل يبدو سيئا جدا ؟؟ ”

رغد قالت دون أن ترفع بصرها عن الأرض :

” على العكس ! ”

ثم أسرعت بالخروج من المطبخ …

استدرت و ناديت :

” رغد انتظري … ”

ألا أنها اختفت بسرعة !
و بسرعة شربت كمية كبيرة من الماء البارد شعرت بها تجري في فمي و حلقي و معدتي و حتى شراييني !

عدت إلى فراشي و أغمضت عيني …
إنه ليس مجرد حلم …
لقد عدت إلى أهلي أخيرا
عدت إلى رغد …
و حتى و أن كبرت و لم تعد صغيرتي المدللة ، فهي لا تزال محبوبتي التي أعشق منذ الصغر …
و التي أفعل أي شيء في سبيل إسعادها
و التي لا زلت مشتاقا إليها أكثر من أي شخص آخر …
و التي يجب أن أقربها مني أكثر من أي وقت مضى …
فهي …
صغيرتي الحبيبة المدللة …
حلم حياتي الأول …
محبوبتي منذ الطفولة …
قد كبرت أخيرا ….

error: