قراءة رواية أنت لي كاملة

الجزء الخامس عشر

أكاد أطير من الفرح … لأن وليد سيأتي اليوم …

إنني منذ وقعت عيناي عليه يوم حضوره قبل شهر ، و أنا أحس بشيء غريب يتحرك بداخلي !

أهي كريات الدم في عروقي ؟؟

أم شحنات الكهرباء في أعصابي ؟؟

أم تيارات الهواء في صدري ؟؟

بين الفينة و الأخرى ، أخرج إلى فناء المنزل … و أترقب حضوره

متى سيصل ؟؟

سامر أيضا سيعود هذه الليلة ، فمنذ سافر للمدينة الأخرى قبل أسابيع من أجل العمل لم نره …

استدرت للخلف ، فإذا بأمي واقفة عند المدخل الرئيسي ، تنظر إلي !

” رغد … ما ذا تفعلين ؟؟ ”

اضطربت قليلا ، ثم قلت :

لا شيء …

والدتي ابتسمت ، و قالت :

” لقد قال سامر إنه سيصل ليلا ! لا تُقلقي أعصابك ! ”

شعرت بغصة في حلقي و كدت أختنق !

إنني لم أر سامر منذ أسابيع … و أعلم أنه سيعود ليلا … لكنني … لكنني كنت أرتقب وليد !

كان هذا يوم الأربعاء … ، و في هذا المساء سيتم عقد قران دانة …

إنها مشغولة جدا هذا اليوم ، و كذلك هي أمي … و الاضطراب يسود الأجواء …

” تعالي و ساعدينا ! ”

ألقيت نظرة على الباب الخارجي للمنزل ، و مضيت مذعنة لطلب أمي !

كانت دانة تجفف شعرها بمجفف الشعر الكهربائي المزعج ، قلت :

” فيم أساعدك ؟؟ ”

و يبدو أن صوته الطاغي منعها من سماعي ، فكررت بصوت عال :

” دانة فيم أساعدك ؟؟ ”

انتبهت لي أخيرا ، و قالت :

” تعالي رغد و جففي هذا المتعب ! ”

دانة كان لها شعر طويل و كثيف مع بعض التموج ، على العكس من شعري القصير الأملس الناعم !

تناولت المجفف الساخن من يدها و بدأت العمل !

صوت هذا الجهاز قوي و أخشى أن يعيق أذني عن سماع صوت جرس الباب !

مرت الدقائق و أنا أحاول الإسراع من أجل العودة للفناء !

” رغد ! جففي بأمانة ! ”

قالت ذلك دانة و هي تنظر إلي عبر المرآة … فابتسمت !

فستان دانة كان جميلا و أنيقا جدا ، و موضوعا على سريرها بعناية
لدانة ذوق رائع جدا في اختيار الملابس و الحلي و أدوات التجميل !

لدى عبور هذه الفكرة برأسي تذكرت طقم الحلي الذي رأيته ليلة الأمس و أثار إعجابي الشديد و أردت اقتنائه ، غير أن نقودي لم تكن كافية فأجلت الأمر لهذا اليوم

” يجب أن أذهب مع آبى لشراء ذلك الطقم قبل أن يحل الظلام ! ”

” حقا ستشترينه ؟ إنه باهظ الثمن ! ”

” طبعا سأشتريه ! ماذا سأضع هذه الليلة إذن ؟؟ ”

” لم لا تضعين العقد الذي أهدتك إياه والدتي قبل أسابيع ؟؟ ”

لم تعجبني الفكرة ، فلقد رأته لمياء ـ شقيقة نوّار ، خطيب دانة ـ يوم حفلة تخرجي !

إنها أمور نكترث لها نحن الفتيات !

أو على الأقل ، معظمنا !

قلت :

” بل سأشتري شيئا جديدا ! يليق بقرانك ! ”

و ضحكنا !

لمحت والدتي مقبلة من ناحية الباب فأوقفت تشغيل الجهاز و قلت بسرعة :

” هل حضر ؟ ”

ثم أضفت بسرعة ، تغطية على الحقيقة :

” أقصد والدي ؟ أريد أن يصحبني لسوق المجوهرات ! ”

قالت والدتي :

” ماذا تودين من سوق المجوهرات ؟؟ ”

” سأشتري عقدا جديدا أرتديه الليلة ! ”

بدا على والدتي بعض الاستياء … ثم قالت :

” أليس لديك ما يناسب ؟ سأعيرك مما عندي إن شئت ”

عرفت من طريقة كلامها أنها لا تريد مني شراء المزيد .

أعدت تشغيل الجهاز و واصلت تجفيف شعر دانة الطويل حتى انتهيت … بصمت …
بعدها خرجت من الغرفة قاصدة الذهاب إلى غرفتي ، إذ أن بي شحنة استياء أريد إفراغها …

و أنا أمر من والدتي قالت :

” رغد اذهبي للمطبخ و أتمي تحضير الكعك ، سأوافيك بعد قليل ”

أذعنت للأمر … و قضيت قرابة الساعة في عمل المطبخ الممل ، حتى أتت والدتي وتقاسمنا العمل …

بعد فترة همت بالانصراف ، فبالي مشغول بانتظار وليد ، و حين رأتني أمي سائرة نحو الباب :

” إلى أين رغد ؟؟ ”

” سأذهب للاستحمام ! ”

” انتظري ! تعرفين ما من مساعد لي غيرك اليوم … ! اغسلي الأطباق و الصواني و رتبي الأواني في أماكنها ، ثم تولي كي و طي الملابس ! العمل كثير هذا اليوم ! ”

شعرت بالضيق ! لم أكن أحب العمل في المطبخ و كنت أتولى أقل من ثلث العمل المقسم بيننا نحن الثلاث ، أمي و دانة و أنا ، لكنني اليوم مضطرة للتضحية بنعومة يدي !

أثناء ترتيبي للأواني سمعت صوتا مقبلا من جهة مدخل المنزل الرئيسي

ربما يكون وليد !

أسرعت بوضع الأواني على عجل فانزلق من يدي بعضها و تحطم على الأرضية الملساء الصلبة !

” أوه رغد ! ماذا فعلت ! ”

والدتي نظرت إلي بانزعاج ، فزاد ضيقي ..

” انزلقت من يدي ! ”

و تركت كل شيء و هممت بالانصراف

” إلى أين ؟؟ ”

” سأرى من عند الباب أمي ! ”

و لم أكد أغادر ، إذ أن والدي قد وصل ، و دخل المطبخ يحمل الكثير من الأغراض

عدت إلى الأواني المحطمة أرفعها عن الأرض و أنظف الأرضية من شظايا الزجاج

ثم كان علي ترتيب الأغراض التي جلبها أبي في أماكنها المخصصة … و الكثير الكثير قمت به فيما دانة في غرفتها ، تسرح شعرها و تتزين !

حالما انتهيت من جزء من عمل المطبخ ، قلت لوالدي و الذي كان يجلس على المقعد عند الطاولة يكتب بعض الملاحظات على ورقة صغيرة :

” أبي … هل لا اصطحبتني إلى أحد محلات الحلي ؟ لي حاجة سأشتريها و أعود ”

أمي نظرت إلي و قالت مباشرة :

” عدنا لذلك ؟ خذي ما تشائين من حليي و لا داعي لإضاعة المال و الوقت ! لدينا الكثير لنفعله الآن ! ”

قلت :

” و لكن … إنه جميل جدا و أريد أن أرتديه الليلة ! ”

قالت :

” هيا يا رغد ! عوضا عن ذلك رتبي الملابس أو غرفة الضيوف و الصالة … النهار يودعنا ”

لم أناقش أمي ، بل نظرت إلى أبي و هو منهمك في تدوين كلمات على الورقة و قلت :

” أبي … لن أتأخر ! سأشتريه و نعود فورا ! ”

والدي قال دون أن يرفع عينيه عن الورقة :

” فيما بعد رغد ، لدي مهام أخرى أقوم بها الآن ”

خرجت من المطبخ و أنا أشعر بالخيبة و الخذلان … و ذهبت إلى الغرفة الخاصة بالملابس ، أكويها و أطويها و أرتبها ، و دمعة تتسلل من بين حدقتي من حين لآخر …

كنت أكوي فستاني الجديد الذي سأرتديه الليلة بشرود و أسى …

لماذا علي أن أعمل بهذا الشكل !؟

لماذا لا يجلب والدي خادمة للمنزل ؟؟

هنا سمعت صوت جرس الباب يقرع …

لابد أنه وليد !

تركت كل شيء بإهمال و طرت نحو باب المخرج ، في نفس اللحظة التي أقبل فيها والدي نحو الباب …

قال :

” اذهبي و ارتدي الحجاب ، قد يكون وليد ! ”

رجعت فورا إلى غرفة الملابس و سحبت حجابا لي من كومة الملابس
( المجعدة ) و لبسته كيفما اتفق ، و هرعت نحو المدخل …

فتحت باب المدخل لأطل على الفناء الخارجي ، و أرى أبي و وليد متعانقين عند البوابة الخارجية …

أقبلت أمي مسرعة و فتحت الباب و خرجت مهرولة إلى وليد …

وقفت أنا عند الباب الداخلي أنظر و دموعي تفيض من عيني رغما عنها …

لقد كان وليد واقفا بطوله و عرضه و جسده العظيم ، يحجب أشعة الغروب عن وداع ما غطاه ظله الكبير ، يضم والديه إلى صدره و ينهال برأسه البارز على رأسيهما بالقبل …

وقفت أراقب … و أنتظر …

لقد طال العناق و الترحيب … و لم يلتفت أو لم ينتبه إلي !
و فيما أنا كذلك ، و إذا بالباب يفتح ، و تنطلق منه دانة مسرعة كالقذيفة الموجهة نحو وليد !

تعانقا عناقا حميما جدا ، و دانة تقول بفرح :

” كنت واثقة من أنك ستحضر ! كنت واثقة من ذلك ”

و وليد يضمها إلى صدره ثم يقبل جبينها و يقول :

” طبعا سآتي ! كم شقيقة لدي ؟؟ … ألف مبروك عزيزتي ”

كل هذه الحرارة المنبعثة من اللقاء الحميم أمام عيني جعلتني أنصهر !
و بدا أن دموعي على وشك التبخر من فرط حرارة خدي ّ
وليد !
من أي طينة خلقت أنت ؟؟ و لماذا تنبعث منك حرارة حارقة بهذا الشكل !
ألا تحس الأشجار أن الشمس قد ارتفعت بعد الغروب !؟
و أخيرا ، تحرك الثلاثة مقبلين نحوي … نحو المدخل …

أخيرا لامست نظراتي الجمرتين المتقدتين ، المتمركزتين أعلى ذلك الرأس … مفصولتين بمعقوف حاد ، يزيدهما شرارا … و حدة … و اشتعالا !

توهج وجهي احمرارا و تلعثم قلبي في نطق دقاته المتراكضة … و شعرت بجريان الأشياء الغريبة في داخلي …
الدماء
سيالات الأعصاب
و الأنفاس !

و هو يخطو مقتربا ، و حجمه يزداد … و رأسه يعلو … و عنقي يرتفع !

سقطت أنظاري فجأة أرضا و كأن عضلات عيني قد شلت ! لم أستطع رفعهما للأعلى لحظتها …

و جاء صوته أخيرا يدق طبلتي أذني …

بل يكاد يمزقهما !

” كيف حالك صغيرتي ؟؟ ”

و كلمة صغيرتي هذه تجعلني أحس أكثر و أكثر بصغر حجمي و ضآلتي أمام هذا العملاق الحارق !

رفعت عيني أخيرا ببعض الجهد و أنا أضم شفتي مع بعضهما البعض استعدادا للنطق !

” بخير … ”

و لكن … حين وصلت عيناي إلى جمرتيه ، كانتا قد ابتعدتا …

لم يكن وليد ينظر إلي ، و لا حتى ينتظر جوابي !

لقد ألقى سؤاله بشكل عابر و أشاح بوجهه عني قبل أن يسمع حتى الإجابة … و هاهي دانة تفتح الباب … و هاهو يدخل من بعدها … و يدخل والداي من بعده … و ينغلق الباب من بعدهم !

وقفت متحجرة في مكاني لا شيء بي يتحرك … حتى عيناي بقيتا معلقتين في النقطة التي ظنتا أنهما ستقابلان عيني وليد عندها …

مرت برهة … و أنا أحدق في الفراغ !

هل كان وليد هنا ؟؟

هل مر وليد من هنا ؟؟

هل رأته عيناي حقا ؟؟؟

لم أجد جوابا حقيقيا …

بدا كل شيء كالوهم و الخيال !

أفقت من شرودي و استدرت ، و فتحت الباب فدخلت … و وصلتني أصوات أفراد أسرتي من غرفة المعيشة …
حركت قدمي بإعياء شديد متجهة إلى حيث هم يجلسون …
كان وليد يجلس على مقعد كبير ، و هم إلى جانبيه … لا أظن أن أحدا انتبه لوجودي ! وقفت عند مدخل الغرفة أراقبهم و جميعهم مسرورون و أنا تعيسة !

بعد قليل ، أمي قالت فجأة :

” أتشمون رائحة شيء يحترق ؟؟ ”

الشيء الذي قفز إلى رأسي هو المقعد الذي يجلسون عليه ! ربما احترق من حرارة وليد !

و بالفعل شممت الرائحة !

” إنها قادمة من هناك ! ”

و أشارت والدتي نحوي … طبعا كانت تقصد من خارج الغرفة إلا أنني ألقيت نظرة سريعة على ملابسي لأتأكد من أنها لا تقصدني !

و قفت أمي و كذلك وقف الجميع ، و أقبلت هي مسرعة قاصدة التوجه نحو المطبخ …

لم تجد ما يحترق هناك … ثم سمعت صوتها تنادي بقوة:

” رغد تعالي إلى هنا ”

ذهبت إليها ، كانت في غرفة الملابس … تفصل سلك المكواة عن مقبس الكهرباء !

صحت :

” أوه ! يا إلهي ! ”

و أسرعت إلى الفستان الذي نسيت المكواة فوقه و خرجت مسرعة لاستقبال وليد !

” انظري ما فعلت ! سترتدينه الليلة محروقا بهذا الشكل ! ”

أخذت الفستان و جعلت أدقق النظر في البقعة المحروقة ، و أعض شفتي أسفا و حسرة …

” ماذا سأفعل الآن ؟؟ ”

قلت بيأس … فأجابت أمي بغضب :

” ترتدينه محروقا ! فنحن لم نشتره لنرميه ”

عند هذا الحد … و لم أتمالك نفسي …

و انخرطت في بكاء شديد رغما عني …

في نفس اللحظة التي كانت أمي تغادر فيها الغرفة كان البقية مقبلين يتساءلون عما حدث و ما احترق …

والدي قال :

” ماذا حصل ؟؟ ”

أمي أجابت باستياء :

” تركت فستانها يحترق ! و قبل قليل كسرت الأطباق ! لا أعرف متى ستكبر هذه الفتاة ”

كان الأمر سيغدو مختلفا لو أن وليد لم يكن موجودا يرى و يسمع …
كم شعرت بالحرج و الخجل …
إنني لست طفلة و مثل هذه الأمور لم تكن لتحدث لو أنني لم أكن مضطربة و مشتتة هذا اليوم … كما و أن أمي لم تكن لتصرخ بوجهي هكذا لو لم تكن هي الأخرى مضطربة و قلقة ، بسبب الليلة …

رميت بالفستان جانبا و أسرعت الخطى قاصدة الهروب و الاختفاء عن الأنظار …

كان وليد يقف عند الباب و يسد معظمه ، و حين وصلت عنده لم يتحرك …

كنت أنظر إلى الأرض لا أجرؤ على رفع نظري إلى أي منهم ، إلا أن بقاء وليد واقفا مكانه دون أن يتزحزح جعلني أرفع بصري إليه ….

الدموع كانت تغشي عيني عن الرؤية الواضحة …

وليد نظر إلي نظرة عميقة دون أن يتحرك …

” إذا سمحت … ”

قلت ذلك ، فتنحى هو جانبا ، و انطلقت أسير بسرعة نحو غرفتي …

في غرفتي ، أطلقت العنان لدموعي لتفيض بالقدر الذي تريد
كان يومي سيئا ! كم كنت سعيدة في البداية !
و الآن …
حزينة … محرجة … مجروحة الخاطر … مخذولة …
بدموع جارية … و قلب معصور … و فستان محروق ! و بلا حلي !

أكثر ما أثر بي … هو الاستقبال البليد الذي استقبلني به وليد …
و أنا من كنت أحترق شوقا لرؤيته !

غمرت وسادتي البريئة من أي ذنب بالدموع الحارة المالحة … و بقيت حبيسة الألم و الغرفة فترة طويلة ….

بعد مدة سمعت طرق الباب … قمت بتململ و فتحته ، فرأيت أمي …

تحاشيت النظر إليها ، فأنا خجلة منها و لست مستعدة لتلقي أي توبيخ هذه الساعة …

أمي قالت :

” رغد ! على الأقل ابدئي الاستعداد ! ألم تستحمي بعد ؟؟ ”

وجدت نفسي أقول بغضب و انفعال :

” لن استحم ، و لن أحضر معكم و سأنام حتى الغد ”

أمي صمتت قليلا ثم قالت بنبرة عطوفة :

” يا عزيزتي لم أقصد توبيخك ، لكنك تتصرفين بشكل غريب اليوم ! هيا ابدئي الاستعداد … ”

رفعت رأسي إليها و قلت :

” بم ؟ لا فستان و لا حلي ! ”

تنهدت أمي و قالت :

” ارتدي أي شيء ! ما أكثر ما لديك ”

لم اقتنع ، فأنا أريد أن أظهر جديدة في كل شيء الليلة ! أليست ليلة مميزة؟ إنه عقد قران أختي دانه !

قلت :

” لن أحضر دون فستان جديد و مجوهرات ! دعوني أبقى في غرفتي فهذا أفضل و متى ما انتهيتم سأساعدكم في تنظيف المنزل ”

و بكيت

بكيت بشدة ، و ليس سبب بكائي هو الفستان أو الأواني المكسورة ! إنه قلبي الذي يعتصر ألما من تجاهل وليد لي بهذه الطريقة !

لماذا فعل ذلك ؟؟

ألم أعد مهمة لديه ؟؟

ألم يعد بألا يسمح لدموعي بالانهمار ؟؟

إنه الذي يفجرها من عيني بغزارة هذه اللحظة …

أعرف أن أمي تحبني و تدللني ، مثل أبي … و هذا ما اعتدته منهما … لذلك حين قالت :

” حسنا … اذهبي بسرعة مع أبيك لشراء شيء مناسب على عجل ”

لم أفاجأ ، بل مسحت دموعي مباشرة خصوصا و هي تنظر إلى الساعة بقلق …

أخرجت حقيبتي من أحد الأدراج … و قلت :

” لا أملك مبلغا كافيا ”

ذهبت أمي و عادت بعد قليل تحمل بعض الأوراق المالية ، و قالت :

” سأخبر أبيك كي يشغل السيارة ، أسرعي رغد ”

و ذهبت ، و ارتديت عباءتي و خرجت بعدها …

و فيما أنا أجتاز الردهة ، إذا بها مقبلة نحوي تقول :

” لا فائدة يا رغد لقد خرج والدك ! ”

كان والدي مشغولا طوال اليوم ، و ها قد غادر من جديد …

أطلقت تنهيدة يأس مريرة و رميت بالحقيبة جانبا و قلت :

” قلت لك أنني لن احضر … دعوني و شأني ”

و أوشكت على البكاء

أمي قالت :

” قد يعود بعد قليل … ”

لكنني كنت قد فقدت الأمل !

جلست على المقعد و أسندت خدي إلى يدي في أسى …

” أيمكنني فعل شيء ؟؟ ”

كان هذا صوتا رجاليا جعلني أسحب يدي فجأة من تحت خذي فينحني رأسي للأسفل ثم يرتفع للأعلى …

للأعلى …

للأعلى !

العملاق وليد !

أمي و وليد تبادلا النظرات ، ثم قالت أمي :

” ننتظر أن يعود والدك ليصحبها إلى السوق ! ”

قال :

” لدي سيارة … إذا كان الأمر طارئا … ”

الأشياء الغريبة الثلاثة بدأت تجري في داخلي و تتسابق !

أمي قالت :

” أنت … قدمت لتوك ! اذهب و نم قليلا في غرفة سامر … ”

” لست متعبا جدا ”

” … ثم أنك لا تعرف المنطقة ! ”

قال و هو ينقل بصره بيني و بين أمي :

” لكنكما تعرفان ! ”

أي نوع من الأفكار تعتقدون أنني رأيتها ؟؟

مجنونة !

قالت أمي بتردد :

” إنني مشغولة في المطبخ ”

فاستدار وليد إلي و قال :

” و أنت ِ ؟أ تحفظين الطريق ؟؟ ”

ربما كان سؤاله عاديا

أو ربما استهانة بي ! فهل أنا طفلة صغيرة لا أعر ف الطرق ؟؟

قلت :

” نعم ! طبعا ”

ثم نظرت إلى أمي أحاول قراءة رأيها من عينيها …

أمي بدت مترددة … لكنها قالت بعد ذلك موجهة كلامها لي أنا:

” ما رأيك رغد ؟؟ ”

أنا أقرر قبل أن أفكر في أحيان ليست بالقليلة ! قلت :

” حسنا ”

و وقفت و سحبت حقيبتي …

التفتت أمي نحو وليد و قالت :

” انتبه لها ”

وليد دخل إلى غرفة المعيشة و أحضر مفتاح سيارته ، و الذي كان قد تركه على المنضدة …

تقدمت نحو باب المنزل و وقفت في انتظاره ، حتى إذا ما أقبل فتحت الباب و خرجت قبله !

خطواتي أنا قصيرة و بسيطة ، كيف لها أن تضاهي خطواته الواسعة الشاسعة !؟

سبقني و خرج من البوابة الخارجية لفناء المنزل … و سمعت صوت باب سيارة ينفتح …

ما إن خرجت من البوابة ، حتى وقعت عيناي على سيارة وليد … نفس السيارة التي كان يقودها منذ سنين …

المرة الأخيرة التي ركبت فيها هذه السيارة كانت في أسوأ أيام حياتي …

شعرت بقشعريرة شديدة تجتاحني و ثبت في مكاني و لم أجرؤ على المضي خطوة للأمام …

وليد شغل السيارة و انتظرني … و طال انتظاره !

التفت نحو الباب فوجدي واقفة هناك بلا حراك

ضغط على بوق السيارة لاستدعائي لكنني لم أتحرك

الشيء الذي تحرك هو شريط الذكريات القديمة البالية … الموحشة البائسة … التي طردتها من خيالي عنوة …

وليد فتح الباب و خرج من السيارة و نظر باتجاهي و قال :

” ألن تذهبي ؟؟ ”

تحركت قدماي دون إدراك مني و اقتربت من السيارة

مددت يدي فإذا بها تلقائيا تتوجه إلى الباب الأمامي ، فأجبرتها على الانحراف نحو الباب الخلفي ، فتحته و جلست على المقعد الخلفي
فيما وليد يجلس في المقدمة و إلى اليسار مني … يكاد شعره الكثيف يلامس سقف السيارة !

عندما كنا صغارا ، أنا و دانة … كنا نتشاجر من أجل الجلوس على المقعد الذي أجلس خلفه مباشرة الآن !

وليد انطلق بالسيارة نحو الشارع الرئيسي ثم سألني و هو يراقب الطريق :

” أين نتجه ؟ ”

سار وليد ببطء نسبيا يسألني عن الطرق و المنعطفات ، و أرشده إليها حتى بلغنا المكان المطلوب .

كان سوقا صغيرا مليئا بالناس …

أوقف وليد السيارة ، ففتحت الباب و خرجت و تقدمت للأمام

وليد لم يخرج ، و سمعت صوته عبر نافذة الباب الأمامي المفتوحة يقول :

” كم ستبقين ؟؟ ”

تعجبت ، فقلت و أنا أقرب وجهي من النافذة بعض الشيء :

” ألن تأتي معي ؟؟ ”

وليد صمت قليلا ، و ربما ارتبك ، ثم قال :

” و هل يجب أن آتي معك ؟؟ ”

قلت :

” نعم ! ”

قال :

” سأنتظرك هنا … هذا أفضل ”

بقيت واقفة في مكاني لحظة ، فعاد يقول :

” هل يجب أن أرافقك ؟؟ ”

قلت :

” أو تعيدني للبيت ”

و تراجعت للوراء و مددت يدي قاصدة فتح الباب الخلفي …

وليد فتح بابه و نزل و دار حول السيارة نصف دورة حتى صار إلى جانبي

قلت :

” من هنا ”

و سرنا نحو بوابة المجمع الصغير ، هو مجمع اعتدنا أنا و دانة و أمي شراء حاجياتنا منه

حينما بلغنا المتجر المقصود ، و هو متجر للملابس ، و كان يعج بالكثيرين، دخلته و توجهت نحو زاوية معينة …

التفت إلى الخلف فوجدت وليد واقفا في الخارج ينظر من خلال زجاج المتجر …

عدت أدراجي إليه بسرعة … ثم قلت :

” ألن تدخل معي ؟؟ ”

وليد بدا مترددا حائرا … ربما هو غير معتاد على ارتياد الأسواق !

لذا تحرك ببطء …

لأنني قمت بزيارة المتجر يوم أمس فأنا أعرف ما يوجد و ما يناسب ، لذا لم استغرق سوى دقائق حتى اشتريت فستانا مختلفا عن فستاني المحروق !

إنه أجمل و أغلى !

حينما هممت بالمحاسبة أخرج وليد محفظته ، و دفع الثمن !

كم أنا خجلة منه ! آمل ألا يفعل ذلك في متجر المجوهرات !

لم يكن وليد يتحدث ، بل كان يسير على مقربة مني بصمت و اضطراب …

أنا أيضا كنت خرساء جدا !

أقبلنا نحو متجر المجوهرات ، و كان الآخر مزدحما بالناس ، و معظمهم سيدات

دخلناه و أخذت عيناي تفتشان عن الطقم الجميل الذي أغرمت به يوم أمس … لم يكن موجودا في مكانه فخشيت أن تكون سيدة ما قد سبقتني بشرائه !

جلت ببصري في المتجر حتى وجدت ضالتي ، التفت للوراء فلم أجد وليد …

تلفت يمنة و يسرة و لم أجده …

أقبل صاحب المتجر يسألني :

” ماذا أعجبك سيدتي ؟ ”

أسرعت مهرولة نحو الباب و نظرت من حولي فوجدت وليد واقفا يتأمل بعض التحف المعروضة في متجر مجاور …

” وليد ”

نادينه و أنا مقبلة إليه أحث الخطى …

التفت إلي :

” هل انتهيت ؟ ”

” لا ”

تعجب ! و قال :

” إذن ؟؟ ”

قلت :

” لا تبتعد عني ”

بقى متعجبا برهة ثم أقبل معي و عدنا لذلك المتجر …

اشتريت الطقم الباهظ الثمن و حين سمع وليد بالسعر اضطرب قليلا

فتح محفظته ليلقي بنظرة على ما بداخلها إلا أنني أسرعت بإخراج النقود من حقيبتي و دفعتها إليه

قبل أن نغادر المتجر قال وليد :

” أي شيء يصلح هدية صغيرة لدانة ؟ فأنا لا أعرف ماذا تحب ! ”

أما أنا فاعرف ماذا تحب !

اعتقد أن الرجال لا يحتارون كثيرا في اختيار هدية لامرأة ! لأن المجوهرات موجودة دائما … و تتجدد دائما … و غالية دائمة … و نعشقها دائما !

اخترت شيئا جميلا و بسيطا ، و معتدل السعر ، فاشتراه وليد دون تردد

خرجنا بعد ذلك من المتجر متجهين نحو البوابة ، و أثناء ذلك عبرنا على أحد محلات الأحذية الرجالية فقال وليد :

” سألقي نظرة ”

و سار خطى سريعة نحو المدخل …

كان في المتجر عدد من الرجال و الأطفال …

و أنا أرى وليد يبتعد … و يهم بدخول المتجر … و المسافة بيننا تزداد خطوة بعد خطوة … و الناس يتحركون من حولي … ذهابا و إيابا …
و رجال يدخلون … و رجال يخرجون … و وليد يكاد يختفي بينهم ، ناديت بصوت عال :

” وليد ”

و رغم الازدحام و الضوضاء الصادرة من حركة الناس و كلامهم ، سمعني وليد فالتفت إلي …

أنا أسرعت الخطى المضطربة باتجاهه … و هو اقترب خطوتين … و حين أصبحت أمامه قلت :

” لا تتركني وحدي ”

وليد يعلوه الاستغراب ، قال مبررا :

” سألقي نظرة سريعة فحسب … لدقيقة لا أكثر ”

عدت أقول :

” لا تتركني وحدي ”

عدل وليد عن فكرة إلقاء تلك النظرة ، و قال :

” هل تريدين شيئا آخر ؟؟ ”

قلت :

” كلا ”

قال :

” إذن … هيا بنا ”

عندما عدنا إلى المنزل ، و قبل أن يفتح لنا الباب بعد قرع الجرس ، التفت إليه و قلت :

” شكرا … وليد ”

لكن أذهلني الوجوم المرسوم على وجهه !

كأنه مستاء أو أن مرافقتي قد أزعجته

إنني لم أطلب منه ذلك بل هو من عرض المساعدة !

دخلنا إلى الداخل ، فتوجه هو تلقائيا نحو المطبخ ، فسرت خلفه …

والدتنا كانت لا تزال منهمكة في العمل ، حين رأتنا بادرت بسؤالي :

” هل وجدت ما أردت ؟؟ ”

و أخذت تنظر إلى الكيس الذي أحمله …

” نعم ”

و فتحت الكيس ، و أخرجت منه كيسا آخر صغير يحتوي على علبة المجوهرات …

ما أن رأتها أمي حتى هزت رأسها اعتراضا و استنكارا … فهي لم تكن تشجعني على شراء المزيد ، فقلت بسرعة مبررة :

” إنه طقم رائع جدا ! انظري … ”

و قربته منها فتأملته و قالت :

” نعم رائع و لكن … ”

لم تتم الجملة ، بل قالت :

” و لكنك اشتريته على أية حال ! ”

ابتسمت ابتسامة النصر !

و التفت نحو وليد الذي كان يتابع حديثنا و قلت :

” أليس رائعا ؟ ما رأيك ؟؟ ”

وليد بدا مضطربا بعض الشيء ، ثم قال :

” لا أفهم في هذه الأمور ، لكن … نعم رائع ”

و توجه نحو أحد المقاعد و جلس باسترخاء …

أمي قالت :

” بني … اذهب و استرخ في غرفة سامر لبعض الوقت ! إنك مجهد ”

الآن وليد ينظر باتجاه والدتي ، و لا أقع أنا في مجال الرؤية لديه … باستطاعتي أن ادقق النظر في أنفه المعقوف دون أن يلاحظ !

ما حكاية هذا الأنف يا ترى !؟

أخذت أتخيل شكل وليد قبل أن يسافر … كم يبدو مختلفا الآن !

” رغد ألن تستعدي ؟؟ ”

انتبهت على صوت والدتي تكلمني ، أجبت باضطراب و كلي خشية من أن تكون شاهدتني و أنا أتأمل ذلك الأنف !

” حاضر ، نعم سأذهب ”

و انطلقت نحو غرفتي …

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

بعد أن غادرت رغد ، هممت بالذهاب إلى غرفة أخي سامر و تأدية الصلاة ثم الاسترخاء لبعض الوقت …

إنني متعب بعد مشوار الحضور الطويل

نظرت إلى فتحة الباب لأتأكد من أن رغد قد ابتعدت ، ثم قلت :

” أمي … لم كانت رغد تبكي ؟؟ ”

أمي كانت تزين قالب الكعك بطبقة من الشيكولا ، و كانت الكعكة شهية المنظر !

قالت أمي :

” لأنها أحرقت فستانها كما رأيت ! تصور ! لقد اشترته يوم الأمس بمبلغ محترم … ! ”

صمت برهة ثم قلت :

” و الآخر أيضا غال الثمن ، و حتى هذا الطقم ”

ابتسمت والدتي و قالت :

” إنها تبذر النقود ، هذا أحد عيوبها ! ”

أوه هكذا ؟ جيد … !
لقد عرفت شيئا جديدا عن طفلتي … أصبحت مبذرة للمال أيضا ؟؟ و ماذا بعد …؟؟

قلت بتردد :

” هل … هل … تحسنون معاملتها ؟؟ ”

رفعت أمي بصرها عن الكعكة و نظرت نحوي باستغراب … ثم قالت :

” طبعا ! بالتأكيد ! بل إننا … ندللها كثيرا ! ”

تنهدت بارتياح نسبي ، و عدت أقول :

” إذن … لماذا كانت تبكي ؟؟ ”

أمي تعجبت أكثر ، و قالت :

” قلت لك … بسبب الفستان ! ”

قلت :

” لا أمي … أعني قبل ذلك ”

” قبل ذلك ؟؟ ”

” عندما خرجت لاستقبالي فور وصولي … ”

في غرفة أخي سامر ، و الذي سيصل بعد قليل قادما من المدينة الأخرى حيث يعمل ، اضطجعت على السرير و سبحت في محيط لا نهائي من الأفكار …

الشيء الذي أثار قلقي هو الطريقة التي وبخت فيها والدتي رغد بعد وصولي بقليل …

فهل حقا يحسن الجميع معاملتها و يدللها ؟؟

لم أتحمل رؤيتها تبكي …

عندما كنا في منزلنا القديم ، لم أكن لأسمح لأحد بأن يحزنها بأي شكل من الأشكال ، مهما فعلت

كانت دانه دائما تتشاجر معها أو تضربها ، و كنت دائما أقف في صف صغيرتي ضد أي كان …
ترى … هل تذكر هي ذلك ؟؟ أم أنني أصبحت من الماضي المنسي … و الأحلام الوهمية … و الذكريات المهجورة ؟؟

حاولت النوم و لم استطع ، لذا عدت إلى غرفة المعيشة فوجدت والديّ و رغد هناك …

تبادلنا بعض الأحاديث عن عريس دانة ، و هو لاعب كرة ذاع صيته و اشتهر في الآونة الأخيرة …

قلت :

” و لكن ألا تفكر في متابعة دراستها ؟ إنها لا تزال صغيرة على الزواج ! ”

قال أبي :

” لا تريد الدراسة ، و هو عريس جيد ! كما و أنها في سن مناسب ! فليوفقهما الله ! ”

لحظات و إذا بسامر يحضر ، و يحظى بترحيب لا يقل حرارة عن ترحيبهم بي …

بدأ سامر بأكبرنا ، ثم حين جاء دوري ، صافحني بحرارة و شوق كبيرين جدا … و أطال عناقي الأخوي …

أشعرني هذا بقربه مني ، بعدما فرقت السنين بيننا … و بأنني لازلت أملك عائلة تحبني و ترغب في وجودي في أحضانها …

شيء رفع من معنوياتي المتدهورة

لكن …

سرعان ما انحطت هذه المعنويات و اندفنت في لب الأرض تحت آلاف الطبقات من الحجر و الحديد و الفولاذ ، حين أقبل إلى رغد يصافحها و يضمها إلى صدره و يقبل جبينها بكل بساطة …

لو كنت بركانا … أو قنبلة … أو قذيفة نارية ، لكنت انفجرت لحظتها و دمرت كوكب الأرض بأسره و نسفته نسفا و حولته إلى مسحوق غبار

لكنني كنت وليد

أو بالأصح …

شبح وليد …

ما الذي دعاني لتمالك نفسي ؟؟ لا أعرف …

لقد كان باستطاعتي أن أحطم رأس أي مخلوق يقف أمامي شر تحطيم

و لو ضربت الجدار بقبضتي هذه لسببت زلزالا مدمرا و لهوى السقف و قضى علينا جميعا …

لكنني اكتفيت بان أحفر أسناني من شدة الضغط ، و أمزق أوتار يدي من قوة القبض …

ليت أمي لم تلدك يا سامر

ليتك تتحول إلى أي رجل آخر في العالم ، لكنت استأصلت روحك من جسدك و مزقتك خلية خلية …

” أين العروس ؟؟ ”

سأل أخى و هو لا يزال ممسكا بيد رغد …

” في غرفتها ! تتزين ! ”

قالت رغد ، فقال :

” سأذهب لرؤيتها ”

و شد رغد يحثها على السير معه … و ذهب الاثنان و غابا عن ناظري …

ليتني لم أعد

أي جنون هذا الذي جعلني أعود فاحترق ؟؟ إنني أكاد انفجر

هل يحس أحد بي ؟؟

سمعت أمي تقول :

” ما بك وليد ؟ أ أنت متعب بني ؟؟ ”

متعب ؟؟

فقط متعب ؟؟

ابتعدوا عني و إلا فأنني سأحرقكم جميعا !

رميت بجسدي المشتعل على المقعد و أخذت أتنفس بعمق أنفاس متلاحقة عل الهواء يبرد شيئا مما في داخلي

مرت لحظة صامته إلا عن تيار الهواء المتلاعب في صدري

أمي و أبي لا يزالان واقفين كما هما … و أنا أشعر بحر شديد و أكاد أختنق ….

رفعت رأسي فإذا بهما يراقبانني … أظن أن وجهي كان شديد الاحمرار و يتصبب عرقا …

القلق كان باد على وجهيهما

قلت :

” الجو حار … ”

أمي سارت نحو المكيف و زادت من قوة دفعه للهواء …

التفت إلى أبي و قلت :

” و هذان ؟؟ متى ارتبطا ؟؟ ”

لم يجب أبي مباشرة ، ثم قال :

” عقدنا قرانهما قبل ما يزيد عن السنوات الثلاث ”

مزيد من الاختناق و الضيق … كأن الهواء قد سحب من الغرفة تماما …

قلت :

” ألا ترى يا والدي أنهما لا يزالان صغيرين ؟ على الأقل رغد … صغيرة جدا ”

أبي قال :

” إننا لن نزوجهما قريبا على أية حال ، فرغد تود الالتحاق بالجامعة أولا و لا أدري إن كان سامر سيفلح في إقناعها بغير ذلك ”

أثارت الجملة اهتمامي ، قلت :

” غير ذلك ؟؟ ”

قالت أمي :

” قد نزوج الثلاثة في ليلة واحدة قريبا ! ”

و ابتسمت ، ثم قالت :

” و يأتي دورك ! ”

وقفت مستاء ، و يممت وجهي شطر المطبخ فأنا أحس بعطش شديد و بحاجة لنهر كامل ليرويني و يخمد نيراني … و تركت والدي ّ في حيرة من أمرهما …

تتمه

تم عقد القران و انتهت الليلة بسلام أخيرا !

لقد بذلت جهودا مضاعفة في تنظيف المنزل بعد مغادرة الضيوف !

أما دانه فكان القلم مرفوعا عنها هذا اليوم !

طلبت من أمي أن تذهب للراحة و توليت أنا ، مع سامر تنظيف الأطباق …

أما الرجل الناري فلا علم لي بأي أرض يحترق هذه الساعة !

كنت واقفة أمام صنبور الماء البارد أغسل الأطباق ، و سامر إلى جانبي …

سألته :

” كيف بدا العريس ؟؟ ”

أجاب :

” مهذبا و خلوقا و بشوشا ! ”

قلت :

” لا يعجبني ! ”

ابتسم سامر و قال :

” و لكن لم ؟؟ ”

أجبت :

” لا أعرف ! لكنني أجده ثقيل الظل ! إنه مغرور و يتحدث عن نفسه بزهو و خيلاء أمام الكاميرات ! كيف تتحمل دانه زوجا كهذا ؟؟ ”

سامر ضحك ، فضحكت معه …

قال :

” ليس المهم رأيك أنت به ! المهم رأي العروس به ! ”

ثم غير نبرة صوته حتى غدت أكثر لطفا و رقة ، و قال :

” و رأيك بي أنا … ”

ارتبكت .. و اضطربت تعبيرات وجهي ، و أخفيت نظراتي في حوض الغسيل !

وصلنا هذه اللحظة صوت حركة عند الباب ، فالتفتنا للخلف فإذا به وليد …

و صدقوني ، شعرت بماء الصنبور يحرقني !

تبادلنا النظرات …

قال وليد :

” هل لي بلحاف ؟ سأنام في غرفة الضيوف ”

نظف سامر يده و استدار نحو وليد قائلا :

” أوه كلا يا أخي ، بل ستنام في غرفتي و على سريري ، سأنام أنا على الأرض أو في غرفة الضيوف أو أي مكان ! ”

لم يظهر على وليد أنه يرحب بالفكرة أو حتى سماعها !

قال :

” أريد لحافا لو سمحت ”

كان وجهه جامدا صارما ، و رغم أن سامر كان يبتسم ، ألا أن وليد كان عابسا …

قال سامر :

” أرجوك استخدم غرفتي ! أنا سأسافر بعد الغد على أية حال ”

قال وليد :

” و أنا كذلك . هل لا أحضرت لحافا الآن ؟؟ ”

وليد شخص غريب … نعم غريب !

نحن لا نعرفه ! و لا نعرف كيف هي طباعه و لا كيف كانت حياته في الخارج … ربما كان صارما جدا … قلما رأيته يبتسم مذ عودته !

انتهى الأمر بأن نام وليد في غرفة الضيوف ، على المقعد الكبير ، الذي نمت عليه ذلك اليوم ! أتذكرون ؟؟

توقعت أن أجد صعوبة في النوم … طالما تفكيري مستعمر من قبل وليد … ألا أنني نمت بسرعة مدهشة !

في اليوم التالي ، اجتمعت العائلة في غرفة الطعام لتناول الفطور الصباحي ، في ساعة متأخرة من الصباح !

أعددنا الأطباق في غرفة المائدة ، و جاء الجميع ليتخذوا مقاعدهم …

كالعادة جلس والداي على طرفي المائدة ، و دانة إلى يمين أبي ، و سامر إلى يساره ، و هممت بالجلوس على مقعدي المعتاد يمين أمي ، لكنني انتظرت وليد …

وليد حرك ذات المقعد و قال :

” مقعدك … ”

و تركه و ذهب للجهة المقابلة و جلس إلى يسار أمي …

جلست أنا على مقعدي المعتاد ، و صار وليد مواجها لي … وضع يسمح للأشعة المنبعثة من ناحيتة لاختراقي مباشرة !

فجأة ، وقف وليد … و خاطب دانة قائلا :

” هل لا تبادلنا ؟؟ ”

و تبادلا المعقدين …

ربما رأى الجميع هذا التصرف عاديا … و فسروه بأن وليد يرغب بالجلوس قرب والده …. أو أي تفسير آخر … ألا أنني فسرته بأن وليد لا يرغب في الجلوس مقابلا لي …

صار هذا الوضع هو الوضع الذي نجلس عليه خلال الأيام التي قضاها وليد معنا …

وليد كان يلتزم الصمت ، و أنا أريد أن أسمع منه أخباره ، و لا أجرؤ على طرح الأسئلة عليه …

بين لحظة و أخرى ، ألقي نظره باتجاهه ، لكن أعيننا لم تلتق مطلقا …

بعد الفطور ، ذهب الجميع إلى غرفة المعيشة ، والدي يطالع الصحف و سامر يقلب قنوات التلفاز ، و دانه شاردة الذهن … فيما وليد و أمي يتبادلان الحديث ، يشاركهما البقية بتعليق أو آخر من حين لآخر

تركت الجميع كما هم ، و ذهبت إلى غرفة الضيوف لرفع اللحاف و ترتيب ما قد يكون مضطربا …

دخلت الغرفة ، فوجدت اللحاف مطويا و موضوعا على المقعد الكبير ، و على المنضدة المجاورة وجدت سلسة مفاتيح وليد ، و محفظته …

مشيت بخفة حتى صرت أمام المنضدة و جعلت أحدق في المحفظة بفضول !

و انتقل فضولي من عيني إلى يدي ، فمددتها و نظرت من حولي لأتأكد من أن أحدا لا يراقبني !

انفتحت المحفظة المثنية ، فظهرت بطاقة وليد الشخصية و فيها صورة حديثة له !
بأنفه المعقوف !
و الآن … ما هي الفكرة المجنونة التي قفزت إلى رأسي ؟
سأرسمه !
لم أدع أي فرصة لعقلي ليفكر ، و أخذت المحفظة و طرت مسرعة إلى غرفتي

و بدأت أرسم رسمة سريعة خفيفة لمعالم وجهه و أنظر للساعة في وجس و خوف …

ما أن انتهيت ، حتى أسرعت الخطى عائدة بالمحفظة إلى غرفة الضيوف … و توقفت فجأة و اصفر وجهي و ارتجفت أطرافي … حين رأيت وليد في الغرفة مقبلا نحو الباب ، يحمل في يده سلسلة المفاتيح …

أول شيء وقعت عينا وليد عليه هو محفظته التي تتربع بين أصابع يدي !

رفع وليد بصره عن المحفظة و نظر إلي ، فأسرعت بدفن أنظاري تحت قدمي قال باستنكار :

” أظن أنها … تشبه محفظتي المفقودة تماما ! ”

ازدردت ريقي و تلعثمت الكلمات على لساني من شدة الحرج و الخجل …

قال وليد :

” خائنة … مبذرة … و ماذا بعد ؟ هل تسرقين أيضا ؟؟ ”

رفعت نظري إليه و فغرت فاهي بذهول … من هول ما سمعت !

error: