قراءة رواية أنت لي كاملة

الجزء الأخير

النظرة الأخيرة

تركني وليد في حالة يرثى لها بعد خبر عزمه العودة إلى الوطن… إلى حيث الحرب والاعتداء والخوف والهلاك… إلى حيث الشقراء.. تنتظره… أنا يا وليد مستعدة للقبول بأي شيء مهما كان مقابل أن تبقيني إلى جانبك وتحت رعايتك أنت…
وفيما أنا غارقة في أفكاري جاءتني دانة تتفقدني..
“كيف أنت؟ يقولون أنك مضربة عن الطعام!”
وكل ما حصل هو أنني لم أتم عشائي البارحة ولم أتناول فطوري هذا الصباح.
قلت:
“من يقول ذلك؟”
أجابت:
“وليد! فهو قلق من أن يداهمك الإغماء بسبب الجوع! وأرسلني لتفقدك”
دغدغتني العبارة, لإحساسي بأن وليد يهتم بي…
قلت:
“أين هو الآن؟”
أجابت:
“خرج مع نوّار قبل قليل… ذاهبين إلى مكتب الطيران”
فوجئت بالجملة وشهقت وقلت:
“تعنين لشراء تذكرة السفر؟؟”
فأومأت بنعم, فجُنّ جنوني وصرّحتُ منفعلة:
“لن يغير موقفه… إذن سأذهب معه..”
والتفت نحو الهاتف وأتممت:
“سأتصل به وأطلب منه شراء تذكرة لي أنا أيضا”
وخطوت خطوتين نحو الهاتف حين استوقفتني دانة مادة يدها وممسكة بذراعي…
التفتُ إليها فوجدت الجد والحزم ينبعان من عينيها, ثم قالت:
“انتظري يا رغد… هل تظنين بأنه سيأخذك معه حقا؟”
اكفهرت ملامح وجهي وقلت مصرة:
“طبعا سيأخذني معه… أليس الوصي علي؟ ألست تحت عهدته؟”
فقالت بنبرة جادة:
“لقد… تنازل عن الوصاية لسامر”
حملقت فيها غير مستوعبة الجملة الأخيرة… فسألت:
“عفوا… ماذا قلت؟؟”
فقالت:
“كما سمعت… رغد”
فررت برأسي يُمنة ويسرة… كأنني أنفضه مما توهمت أذناي سماعه.. ثم هتفت:
“تكذبين!”
فنظرت إلي دانة متأثرة بتعبيرات الذهول الطارئة على وجهي ومن ثم تحولت جديتها إلى شفقة وأسى… وقالت:
“أخبرني بذلك بنفسه قبل قليل… قال أنه وكّل المحامي أبا سيف لإنجاز الإجراءات الرسمية أثناء مكوثه في المستشفى خلال الفترة الماضية”
رفعت يدي إلى صدري محاولة السيطرة على الطوفان الهمجي المتدفق من قلبي أثر الصدمة… وهززت رأسي غير مصدقة أن وليد قد فعلها… مستحيل… مستحيل..
“مستحيل”
أطلقت الصيحة وتابعت خطاي نحو الهاتف أريد الاتصال به والتأكد من الخبر على لسانه, غير أن دانة سحبت سماعة الهاتف من يدي وأجبرتني على النظر إليها والسماع إلى ما أرادت قوله..
“رغد! ماذا ستفعلين؟ هل ستطلبين منه إعادتك إلى كفالته؟ لا تعصبي الأمور يا رغد ودعيه يتصرف التصرف السليم والأنسب لظروفنا”
فهتفت منفعلة:
“الأنسب لظروف من؟ أنا لا ذنب لي في أن سامر يهدده الخطر إن عاد إلى الوطن. لا أريد البقاء هنا.. أريد العودة مع وليد والبقاء معه”
فسألت دانة منفعلة:
“إلى متى؟؟”
فقلت:
“إلى الأبد”
فإذا بدانة تمسك بيدي وتشد عليها وتقول:
“وليد لا يريدك أن تذهبي معه.. لم لا تفهمين ذلك؟ سيعود إلى خطيبته وربما يتزوجان قريبا.. لقد أعادك إلى سامر لتبقي مع سامر.. إنه أكثر شخص يحتاجك ويحبك يا رغد… إنه يمر بأزمة حرجة… لماذا لا تفكرين به؟”
سحبت يدي من بين أصابعها وابتعدت عنها وأنا أهتف بانهيار:
“أنا لا أريد العودة إلى سامر… لا تفعلوا هذا بي… لا تعيدوا الكرة… سأذهب مع وليد…”

************

كان لابد من حسم الأمور وبشكل نهائي حتى يحدد كل منا موقعه. كنت أفكر في الطريقة التي سأخاطب بها وليد هذا اليوم… وأطلب منه وضع النقط على الحروف وختم الصفحة.
كان الوقت ضحى وكنت جالسا في غرفتي أهيئ نفسي للمواجهة المرتقبة فأتتني شقيقتي دانة.
“صباح الخير سامر! ألم تنهض بعد؟؟”
“صباح الخير”
“تأخرت! رفعت أطباق الفطور”
سألتُ مباشرة:
“هل استيقظ وليد؟”
أجابت:
“نعم… وهو مع نوّار في مكتب الطيران الآن”
اضطربت تعبيرات وجهي وشردت بعيدا… ولما لاحظت دانة سألتني عما ألمّ بي, فما كان مني إلا أن أطلعتها على ما يدور في رأسي منذ الأمس… منذ أن أعلن وليد عن عزمه على العودة إلى الوطن… أخبرتها وبكل صراحة بأنني في حال رحيل أخي فسوف لن أتمكن من العيش مع رغد في مكان واحد وتولّي المسؤولية عليها, إلا إذا عاد رباطنا الزوجي الشرعي إلى سابق عهده… وإلا… فإن عليه اصطحابها معه وتخليصي من هذه الدوامة الفارغة. كنت صريحا جدا فقد اكتفيت من الهراء… ولن أستمر في لعب هذا الدور الأحمق…
“فإما أن يأخذها معه للأبد… أو يتركها معي وللأبد”
قلت ذلك منفعلا… ثم نظرت إلى دانة فرأيت على وجهها الأسى والقلق.. وكأنها تفكر في أمر ما..
“ما الأمر؟”
سألتها قلقا, فأجابت:
“آه… لقد… كنت مع رغد قبل قليل”
ففهمت أن لديها ما تقوله… فقلت:
“ماذا قالت؟؟”
فأجابت مترددة:
“تركتها تعد حقيبتها… مصرة على العودة إلى الوطن… مع وليد”
عن نفسي كنت أتوقع هذا… لم يفاجئني موقف رغد… لكنني أريد أن أحسم الوضع نهائيا مع وليد…
“إذن… سأطلب من وليد شراء تذكرة لها وأخذها معه, وننتهي”
وضربت الحائط من غيظي… وصحت:
“إنها لا تريده إلا هو… فليأخذها معه ويريحنا… أنا تعبت من هذا…”
كنت مجروحا من إصرار رغد على موقفها… ولا مبالاتها بي…
قالت دانة:
“لا تنفعل… دعه يعود… وسأتحدث أنا معه أنا أولا… لقد نقل الوصاية إليك كما أخبرني.. لن يأخذها معه.. سيقنعها بالبقاء معنا”
فقلت:
“وما الجدوى إن كانت ستبقى معنا وبالها معلق معه؟ ألم تري حالتها قبل حضوره؟ لا أريد أن يوليني المسؤولية على فتاة شبه حية… فليأخذها وليخلصني من هذا العذاب”
مدت دانة يدها وربتت على كتفي وقالت:
“هون عليك يا أخي”
فقلت منفعلا:
“أنا تعبت.. لقد كنت على وشك وضع نهاية لكل هذا.. هو من اعترض طريقي وجلبني إلى هنا.. هل سيتحمل هو عذاباتي؟”
صمتنا برهة.. ثم إذا بدانة تسأل:
“هل.. يعرف هو أنها…”
فأجبت مقاطعا:
“طبعا يعرف… وعليه هو أن يواجهها بحزم ويوقظها مما هي فيه.. إلى متى سيتركها تتعلق به وتجري متخبطة خلفه.. بينما هو متزوج ومشغول بزوجته؟”
قالت دانة متسائلة:
“هل… يحبها؟؟”
فاستغربت السؤال الدخيل وقلت:
“وما أدراني..؟!.. المهم أنه متزوج ومشغول بزوجته.. وليس شاغرا من أجل مشاعر رغد..”
قالت دانة موضحة:
“أعني… ماذا عن مشاعره هو؟؟”
فنظرت إليها باستغراب… وقلت مستفهما:
“مشاعره هو؟؟”
ورأيت نظرة ارتياب غريبة على عينيها أوحت إلي بأنها تلمح إلى شيء… فسألتها:
“ماذا تعنين بمشاعره هو؟؟”
فقالت مترددة:
“أعني… بما يشعر هو… نحو رغد”
فحملقت فيها تجتاحني الحيرة والدهشة… وقابلتني بنظرة جدية وكأنها تعتزم قول شيء مهم… وأخيرا قالت:
“سامر… سأخبرك بما قالته لي أمي رحمها الله… عندما زرتها بعد ليلة زفافي…”
أثار كلامها اهتمامي الشديد وسألتها بفضول:
“ماذا… قالت…؟؟”
فأجابت بنبرة جدية جعلتني أصغي بكل اهتمام وتركيز:
“عندما أخبرتها… عن قرار رغد المفاجئ بالانفصال عنك… وعن حالتها المتقلبة الغريبة تلك… بعيد سفر والديّ للحج… وعن بعض التفاصيل التي حصلت… قالت أن ذلك ما كانت تخشاه… وأنها… كانت قد لاحظت تغيّرات على رغد… بعد عودة وليد”
صمتت أختي لترى مدى تأثير الكلام علي حتى الآن… فحثثتها على المتابعة بلهفة:
“وبعد؟؟”
فتابعت:
“أنا بالفعل… لاحظت عليها تغيرات مزاجية كثيرة في تلك الفترة… لكنني لم أتوقع للحظة أن يكون السبب… هو وليد”
نعم وليد! وليد الذي ظهر فجأة… واستحوذ على قلب رغد… وأبعدها عني…
واسترسلت:
“كما لم أكن أبدا لأتوقع… أن…”
وصمتت مترددة وكأنها تخشى قول الجملة التالية. شجعتها وقلت:
“ماذا؟؟ أكملي؟؟”
قالت:
“لما أخبرتها عن ارتباط وليد المفاجئ بالفتاة بالمزرعة… حزنت وتألمت كثيرا… وأخبرتني أن وليد… كان أيضا يحب رغد كثيرا في صغره… كلنا نعرف ذلك… لكن… ما لم نكن نعرفه… هو أنه… حسب كلامها وحسبما تيقنت هي منه… أنه… حتى بعد عودته من السفر.. أعني من السجن.. كان لا يزال يحبها.. ويحلم بها.. وقد صُدم بزواجكما…”
حملقت في دانة بذهول… غير قادر على استيعاب ما تقول… بقيت مطرقا رأسي مذهول العقل منفغر الفاه… ثم نطقت مندهشا:
“مـــ… مـــ… ماذا تقولين؟؟!!”
فأجابت والمزيد من القلق يظهر على وجهها:
“ربما لم يكن يجدر بي قول هذا ولكن..”

ولم تتم…
فنظرت إليها بتشتت… واتسعت حدقتاي بدهشة بالغة… وقفزت إلى ذاكرتي فجأة كلمات أم حسام لي ذلك اليوم…
فإذا بلساني ينطق دون وعي مني:
“هذا… مـــ…. مستحيل!”
وإذا بدانة تقول:
“هذا ما قالته أمي… إنه كان لا يزال يحبها… وأنها وجدت صورة قديمة لرغد عنده ذات مرة”

************

كنت في الصباح.. قد ذهبت مع نوّار إلى مكتب الطيران واشتريت تذكرة سفر وأكدت رحلتي… والتي ستكون مباشرة إلى شمال الوطن.
حاولت الاتصال بالمزرعة وبهاتف أروى دون جدوى. لكنني اتصلت بالسيد أسامة واعتذرت له عن اختفائي المفاجئ وذكرت له أنني سأعود قريبا. كما اتصلت بسيف وطمأنته على أخباري…
وبعد عودتي للمنزل وفيما أنا أعبر الممر المؤدي إلى غرفة نومي رأيت سامر يقف في منتصف الطريق…
كان جليا عليه أنه واقف ينتظرني لأمر مهم… وأنا أعرف ما هو الأمر…
“مرحبا سامر… متى استيقظت؟؟”
سألته بمرونة فرد باقتضاب مباشرة:
“أريد أن أتحدث معك”
كان يبدو منفعلا… التوتر يخط تجاعيد متشابكة على قسمات وجهه…
قلت وأنا أسبقه إلى الغرفة وأفتح الباب:
“تفضل”
دخلنا الغرفة وتركنا الباب مفتوحا… دعوت أخي للجلوس لكنه وقف قرب الباب مستعجلا على الحديث فوقفت أمامه وسألت:
“خير؟؟”
نظر إلي سامر بنظر تمزج الحزن واللهفة… والغضب والقهر… ثم قال:
“وليد… سأسلك سؤالا… وأرجوك… أرجوك… أن تجيب عليه بمنتى الصراحة”
نبرته أصابتني بالقلق… فقلت:
“ماذا هناك؟؟”
فركز سامر نظرة إلي وقال:
“أجبني بكل صراحة يا وليد”
فقلت وقد تضخم قلقي من جدية نظرته:
“اسأل؟؟ لقد أقلقتني”
فإذا بسامر يزم شفتيه ثم ينبس قائلا:
“كيف تشعر… نحو رغد؟؟”
فاجأني السؤال… أذهلني… عصف بقدرتي على الاستيعاب… أو ربما لم أسمع جيدا… ماذا سأل أخي؟؟
قلت:
“عفوا؟؟”
فقال أخي وقد زاد توتره واحتدت نبرته:
“أقول كيف تشعر نحو رغد؟؟”
وكان يحملق بي بشدة راصدا كل انفعالات وجهي وتغيرات لونه… تكاد نظراته تسلخ جلدي لتقرأ ما هو أعمق منه… وفجأة إذا به يقول:
“أحقا… كنت… تحبها؟؟”
ولم أشعر إلا بالدماء تفور في وجهي فجأة… وتصبغه بلون شديد الاحمرار… حتى أنني خشيت أن تتصبب قطرات الدم من جبيني مصحوبة بزخات العرق…
لساني ألجمته المفاجأة… وعيناي قيدتهما عينا أخي وهما تتربصان بردي… كان أخي يكاد يلتهمني بنظراته ورأيته يعضض على شفته السفلى توترا… ويكاد يصرخ منفعلا…
عصرت لساني حتى خرجت الكلمات التالية منه عنوة:
“ما… ماذا تعني يا سامر! ما هذا السؤال؟؟”
وما كان من أخي إلا أن ركل الباب الذي نقف قربه بعنف وكرر سؤاله بعصبية:
“فهمتني يا وليد… وسؤالي واضح جدا… قل لي هل فعلا كنت تحب رغد؟؟ هل أنت تحبها الآن؟؟ أخبرني قبل أن أجن..”
وللحالة الرهيبة التي اعترت أخي… خشيت أن يحصل أي شيء… فقلت محاولا كبت مشاعري والتظاهر بالمرح:
“نعم أحبها!”
فرمقني أخي بنظرة حادة قاطعتها بقولي:
“أحبها مثل ابنتي تماما! أنا من تولى تربيتها مع والدينا”
محاولا أن يظهر ردي مرحا ومقنعا قدر الإمكان… أخي… نظر إلي بارتياب… ثم قال:
“هل هذا كل شيء؟؟ أجبني بصراحة”
فتظاهرت بالابتسام وقلت:
“طبعا هذا كل شيء!! سامر.. ما بالك تطرح سؤالا مضحكا كهذا!؟”
فأخذ يحدق بي… ثم يشتت أنظاره حولي… ثم يقول:
“لكن… دانة تقول… أن أمي أخبرتها قبل وفاتها… أنك… كنت تحب رغد منذ الصغر.. وتتمنى الزواج بها”
فكرت بسرعة… بسرعة… في تعبير يطمس الحقيقة في الحال… ولم أجد إلا الضحك… أخفي خلفه الألم المرير…
أطلقت ضحكة قوية… بل كانت قهقهة مجلجلة… ربما وصلت إلى أعماق الذكريات النائمة في قلبي وأيقظتها…
ضحكت وأنا أواري الدموع خلف طبقات من المشاعر الزائفة…
ولما انتهيت من نوبة الضحك المفتعلة قلت بسخرية مفتعلة:
“أضحكتني يا سامر! ماذا دهاك!؟ أنا أفكر في رغد هكذا!؟ هل سمعت عن أب يتمنى الزواج من ابنته!! أي سخافة هذه!!”
وقهقهت من جديد… لأنفض عن أخي أي غبار متبقٍ من الحقيقة… حتى أنني من شدة ضحكي بللت رموشي…
نظرت إلى أخي مفتعلا المرح… فرأيت الارتياب يتسرب خارجا من عينيه ويتسلل الارتياح إليهما… يبدو أنني أديت دوري بمهارة… وأقنعته بما قلت… أحسنت يا وليد!
كيف أطاعك لسانك على ذلك!؟!؟!
نظر أخي إلى الأرض, ثم إلي… وقال:
“هل هذه هي الحقيقة البحتة؟؟”
فقلت مباشرة مؤكدا:
“بربك يا سامر! لقد ساهمت في تربيتها وتربية دانة… ألا تذكر؟؟ كلاهما مثل ابنتيّ تماما”
ظهرت الحيرة والتردد على وجه أخي… ثم قال مستسلما:
“آسف… دانة أربكتني”
وسكت برهة ثم أضاف:
“أنا أيضا بدا كلامها لي غير معقول… لا بد وأنه كان سوء فهم”
وعاد يكرر:
“آسف وليد”
فابتسمت وقلت:
“لا عليك”
لا عليك! فأنا معتاد على تلقي طعنات من شتى الأنواع والمصادر… إلى قلبي… أصبحت لديه مناعة ضد الخناجر… لا عليك!
صمتنا قليلا ثم إذا به يقول:
“الآن… يجب أن تتحدث إليها بشكل حاسم… وتُفهمها بأنك تحبها وتقدم لها الرعاية والنصيحة كأب… وأن تقنعها بأن بقاءها هنا… معي ومع دانة… هو خير لها من العودة معك.. فهي تحزم أمتعتها للحاق بك”
شددت على قبضتي… وقلت:
“أحقا؟؟ ومن قال لها أنني سآخذها معي أصلا؟؟”
فقال أخي:
“هي تفكر هكذا… تريد أن تلحق بك أينما ذهبت”
ابتلعت المرارة في حلقي وقلت:
“أنا لم أعد وصيا عليها.. إنها تحت مسؤوليتك أنت الآن”
فقال راجيا:
“أرجوك.. أفهما هذا.. أخبرها بأن تتوقف عن عنادها وصدها لي.. إنها ليست بحاجة لمن يؤكد لها مقدار حبي لها.. أنا سأضعها في عينيّ.. قل لها ذلك يا وليد أرجوك”
كنت أشد على قبضتي.. أكاد أقطع أوتار يدي بأظافري لشدة ما ضغطت…
حاضر يا سامر.. سأفعل ما تطلبه.. أرجوك أنت… يكفي هذا… انصرف الآن…
قلت بصوت لم يخرج من حنجرتي:
“حاضر… سأفعل…”
ثم جذبت نفسا طويلا أجدد به الهواء المخنوق في صدري وأضفت بنبرة راجية:
“سأتحدث معها.. لكن… سامر.. أرجوك أنت… دعها تأخذ وقتها مهما طال.. في التأقلم مع الوضع الجديد.. لا تستعجلها ولا تلح عليها.. خصوصا الآن..”
فنظر سامر إلي نظرة عميقة وأومأ بالموفقة…
خرجت بعدها من غرفتي راغبا في الابتعاد عن أنظار وكلام سامر متظاهرا بعزمي الذهاب إلى رغد والتحدث معها… بينما كنت في الحقيقة أفتش عن صحراء شاسعة أطلق فيها صرخاتي أو جبال شامخة أدكها بقبضتي… وللمفاجأة… لأسخف مفاجأة في أسوأ توقيت… رأيتها هي رغد ذاتها… تقف في الخارج على مقربة…
“رغد!!..”
رمقتني بنظرة مخيفة… ورأيت وجهها يكفهر ويصفر… ورأسها يفتر يمينا وشمالا… ثم إذا بها تولي هاربة إلى الجناح الآخر….

***********

كنت ذاهبة لأتحدث معه وأطلب منه بل أتوسل إليه… أن يصطحبني معه إلى الوطن… كنت سأبوح له بمشاعري… ورغبتي في البقاء معه هو… أينما كان.. لم أكن لآبه بالشقراء… لن يهمني وجودها ما دمت مع وليد… لن أكترث للخطر… لن أكترث للحرب… لن أكترث للرعب… كنت مستعدة للتنازل عن أي شيء… والرضا بأي شيء… وفعل أي شيء… مقابل أن أظل برفقة وليد… أنعم برعايته وأحظى برؤيته… وأستسقي من فيض حنانه وعطفه اللذين لطالما غمرني بهما منذ الطفولة…
ولما اقتربت من غرفته… سمعته يتحدث ويضحك… كان الباب مفتوحا… وكان في الداخل يتكلم مع شخص ما… توقفت وهممت بالانصراف… فإذا بي أسمع صوته يقول:
(“أضحكتني يا سامر! ماذا دهاك!؟ أنا أفكر في رغد هكذا!؟ هل سمعت عن أب يتمنى الزواج من ابنته!! أي سخافة هذه!!”)
كان يسخر من مشاعري… ويستخف بحبي…
سمعته يضحك… ويذكر اسمي… ويقول بأنني كابنته تماما…
وليد قلبي… يسخر مني…!
بعد كل ذلك الحب الكبير… المشاعر الصادقة الخالصة.. التي أكننتها له كل ذلك الوقت.. بعد كل أحلامي وآمالي المتعلقة به هو.. هو وهو فقط… ألقاع يضحك ساخرا مني!
أنا يا وليد تفعل هذا بي…؟؟؟
أحسست بإهانة كبيرة… وحرج شديد غائر… وخذلان هائل… من أقرب وأحب الناس إلي…
جرحني ما سمعت الجرح الأكبر والأعمق والأشد عنفا وإيلاما في حياتي…
لم أستطع بعد سماع ذلك مقاومة فضولي… وبقيت أنصت إلى ضحكات وليد قلبي… الساخرة مني… وقلبي ينصفع… ويتزلزل… وينهار… والدهشة تسلبني المقدرة على الانسحاب…
كم كنت ملهوفة عليه… لكن… بعد موقفه الساخر مني… وبعد تنازله عني بهذه البساطة وكأنني قطعة أثاث بالية… لم أعد أرغب في رؤية وجهه… وسوف لن أتحدث معه ثانية… ولن أسمح له بالدخول مهما طرق…
لن أذهب معه… لن أودعه… لن أكترث به… ولن أفكر فيه بعد الآن…
لن أسامحك يا وليد… أبدا… أبدا…

أخيرا توقف الطرق… انصرف وليد… ولم أعد أشعر بوجوده خلف الباب… أشحت بوجهي إلى الناحية الأخرى…
لمحت اللوحة التي قضيت الساعات الطويلة… في الأيام الماضية… أُودِعُها كل طاقاتي ومواهبي لأرسمها مطابقة للواقع… لوجه وليد… حبيبي وليد… وهو ينظر إلي ويلوح بيده…
لم أطق رؤيتها والنظر إلى عينيه… ضحكاته لا تزال ترن في رأسي… قمت إلى اللوحة… ولطختها باللون الأسود… حتى جعلتها قطعة من الليل الذي لا ينتهي… وأوقعتها أرضا…
وبعثرت كل اللوحات التي رسمتها لوليد ولأبي ولأمي… ورميت بالصور الفوتوغرافية بعيدا وصفعت لوح الألوان بالجدار… ثم ارتميت على سريري أخلط بكائي بسعالي… وأنفاسي بآهاتي… وكلماتي بصرخاتي…
أنا… من اليوم فصاعدا…
“أكرهك يا وليد!”

**********

لما يئست من فتحها الباب, ابتعدت عن غرفة رغد وفتشت عن دانة. وصلت إليها عبر الهاتف المحمول, كانت في جناحها الخاص فطلبت أن نتقابل بمنأى عن الآخرين فدعتني إلى غرفة خاصة في جناحها.
كنت مشوشا إثر ما قاله أخي أولا… ثم هروب رغد مني وتلك النظرة القاتلة التي رمتني بها ثانيا…
أحسّت شقيقتي باضطرابي فسألتني مباشرة:
“هل تحدث سامر معك؟”
مما جعلني أيقن أنها تدرك ما جئت لأجله, فاختصرتُ الطريق وقلت مباشرة:
“ما ذلك الجنون الذي قلته لسامر يا دانة؟؟”
دانة نظرت إلي مطولا ولم تبادر بالإجابة.. لكنها فهمت ما أعنيه, فقلت بصوت جاد:
“اسمعيني يا دانة… ما كان يجدر بك نقل كلام كهذا إلى سامر… إنه يمر بظروف نفسية صعبة… أنت لا تعرفين شيئا عن الصعوبات التي واجهتها من أجل ترحيله عن الوطن… ليست لديك أدنى فكرة عن الأمور الفظيعة التي اضطررت للقيام بها كي أنقذه”
أخذت دانة تصغي إلي بجل الاهتمام, فتابعت:
“لا أريد أن يضيع كل هذا هباء… أنا لا تهمني تلك الأمور… إنما يهمني سلامة أخي وأمانه… ولست مستعدا لفقده… أو خوض مغامرة مشابهة… تتعرض حياته فيها للخطر… هل تفهمين؟”
وبدا عليها الارتياب والحيرة فقلت بتفصيل أدق:
“سامر ارتكب حماقة كبيرة بانضمامه إلى المنظمة المشاغبة في الوطن.. كان قاب قوسين أو أدنى من الهلاك الحتمي… لو يعود للوطن وتطاله أيدي السلطات أو الأيدي الخفية للمنظمة.. فسيعدم فورا… أنا أريده أن يستقر هنا معك… وينسى الماضي… ويبدأ حياته من جديد”
فتفوهت دانة أخيرا بين سؤال وإقرار:
“ومع رغد؟!”
عضضت على أسناني وشددت قبضتي… ثم قلت:
“إنه لن يجرؤ.. على المجازفة بحياته.. وهي تحت مسؤوليته.. سيحافظ على نفسه جيدا.. كي يحافظ عليها”
فنظرت إلي دانة نظرة مريرة ثم قالت:
“لكنها.. أعدت حقيبتها.. للسفر معك أنت”
أطلت النظر في عينيها ثم قلت:
“لن آخذها معي… مهما حاولت هذا أمر مفروغ منه”
ثم وقفت وقلت:
“أريدك أن تأتي معي الآن وتخبريها بأنني أرغب في حديث مهم معها”
فوقفت وهي تقول:
” وسامر؟؟”
فقلت محذرا:
“سامر اتركيه وشأنه.. ولا تحشي رأسه بأشياء خطيرة كهذه… من شأنها أن تعيدنا إلى الصفر”
واستدرت لأنصرف فإذا بي أسمعها تقول:
“إذن ما أخبرتني به أمي صحيح؟؟”
تسمرت في مكاني برهة.. ثم قلت:
“لا أعرف بماذا أخبرتك بالضبط ولا يهمني أن أعرف. فقط احتفظي بكلامها بعيدا عن سامر تماما”
وإذا بي أحس بشيء يمسك بذراعي.. ثم إذا بدانة تظهر أمام مرآي وتحدق في عيني بحرارة وتقول:
“أخبرني أنا… أعدك ألا أطلع سامر على شيء.. أدركت فداحة خطئي بإخباره.. هل حقا كنت تحب رغد وترغب في الزواج منها منذ صغرك؟؟”
تملكني الحنق من طرح السؤال الأشد إيلاما في حياتي.. وإجبار لساني على خيانة قلبي.. فقلت غاضبا:
“سخافة.. أحذرك… إياك أن تكرري قول شيء كهذا على مسامع سامر أو رغد..”
حملقت دانة بي كأنها تحاول قراءة ما يدور بخلدي… عيناها كانتا شبيهتين يعيني أمي… ما جعلني أشعر بحنين شديد إلى الغالية الفقيدة… خصوصا هذه اللحظة… وأنا أكتشف أنها كانت تفهمني وتفهم حقيقة مشاعري… في الوقت الذي كنت أشعر فيه… بأن الدنيا كلها قد تخلت عني.. ولم يعد أحد يكترث لي…
“وليد.. لماذا أنت غامض؟ لماذا لا أستطيع فهمك.. لماذا لا تصارحني.. مثل سامر؟ أنت أخي أيضا.. وأحبك كما أحبه.. وأتمنى أن تبقى معنا.. وأن تعيش سعيدا ومرتاحا”
لمست عطفا وحنانا فائقين في كلمات شقيقتي… مشاعر صادقة دافئة… لطالما استمت لأحظى بمثلها منذ سنين.. لم أجد من يمدني بعوض عنها غير أروى.. التي تجمدت علاقتي بها منذ زمن… مذ عرفت أنني قتلت عمار..
مددت يدي وشددت على يدي شقيقتي ممتنا… على لحظة العطف هذه.. وقلت:
“سعادتي وراحتي.. في أن تكونوا أنتم الثلاثة… بخير وفي أمان”
وعبثا حاولت دانة إقناع رغد بالسماح لي بالحديث معها… وانتهى ذلك اليوم.. واليومين التاليين, ورغد منزوية على نفسها في غرفتها… ترفض مقابلتي نهائيا…
وحل يوم الرحيل…
أنا الآن… أعد حقيبة سفري الصغيرة, التي جلبتها معي من الوطن… موشكا على المغادرة…
سأرحل.. وأترك عائلتي هنا.. قلبي هنا.. كل المشاعر.. وبقايا الأحلام المستحيلة.. سأحمل جروحي بعيدا.. إلى مكان أبرد من الثلج.. وأدفنها تحت الجليد..
أخيرا… آن الأوان.. لكلمة الوداع..
أخيرا… يا وليد…
كل لعبة قدر.. وأنت بخير!
فيما أنا أدخل يدي فيجوف الحقيبة, أمسكت بشيء ما… كان يتربع في قعرها.. شيء ذهلت حالما استخرجته ورأيته أمام عيني…
أتعرفون ما كان؟؟
صندوق أماني رغد!!!
يا للمفاجأة!!
أخذت أقلب في الصندوق محاولا التأكد منه.. إنه هو… وهل أتوه عنه!؟
ضحكت في نفسي!… بل أطلقت ضحكات لا أضمن لكم أنها لم تصل إلى مسامع أحد…
يا للمسكين! كيف لا يزال هذا الصندوق حيا…؟! هل لحق بي كل هذه المسافة… من شرق الأرض إلى غربها..؟؟ هل حملته معي دون أن أنتبه؟؟ أما زال هذا الصندوق مصرا على تذكيري بالأماني الخرافية الوهمية المستحيلة… التي حلمت بها ذات يوم؟؟
لقد عرفت…
شاءت الأقدار أن أجلبك معي… ولو بدون قصد… حتى أعيدك لصاحبتك.. قبل الوداع… الذي لن يكون هناك لقاء بعده..
أبدا.. لن تتحمل هذه المضخة التي تنبض في صدري منذ تخلقي في رحم أمي… أن تستمر في العمل لحظة واحدة… بعد أن تختفي رغد والأمل الواهم الذي تعلقت به منذ صغري… بأن تصبح لي…
أبقيت الصندوق بين يدي… أمام عيني… وأخذت أسترجع شريط الذكريات القديمة.. عندما جاءت طفلة صغيرة تحمل كتابها المدرسي وتطلب مني أن أصنع لها صندوقا مماثلا لذلك المصور في الكتاب.. ثم إذا بتلك الطفلة… تكتب أمنيتها الأولى… وتدسها بكتمان… في جوف الصندوق..
أنا مستعد.. لأن تستل روحي بعد دقيقة وأنتقل إلى العالم الآخر فورا.. مقابل أن تظهر الطفلة أمامي مجددا… لدقيقة واحدة.. واحدة فقط… أضمها إلى صدري… وأمسح على شعرها الحريري… وأقبل جبينها الناعم…
يا حبيبتي… يا رغد
دقيقة واحدة فقط…
الشوق المنجرف إليها جعلني أستخرج قصاصات صورتها القديمة.. وألملمها على سريري.. وأحدق فيها.. كدت أغرق في الوقت الضائع.. في الوقت الذي يجب فيه أن أستفيق.. أن أثبت أحسم الأمر… أن أتماسك لئلا أغرق السفينة بانهياري..
وداعا.. يا رغد..
لم أشعر إلا وأصابعي تطبق على القصاصات… تضمها إلى صدري قصاصة قصاصة.. ثم تطويها… وتدفنها داخل الصندوق..هناك.. حيث مقبرة الأماني الميتة.. التي لن تعود للحياة… ولم أعِ.. إلا وصورة رغد.. الصورة التي نامت تحت وسائدي أو فوق صدري… لتسع أو عشر سنين.. مئات الليالي وآلاف الساعات… قد اختفت من أمامي.. نهائيا..
وحانت لحظة المواجهة الأخيرة…
كنت سأذهب إلى المطار مع نوّار بعد قليل… وكان سامر و دانة سيرافقاننا.. أما رغد.. حبيبتي رغد.. ودعوني أقول حبيبتي قدر ما أشاء.. لأنني لن ألفظها بلساني يوما.. ولن أقولها في سري بعد هذا اليوم…
أقول أن حبيبتي رغد قد رفضت حتى أن تخرج من غرفتها لحظة.. لتودعني..
كانت آخر مرة رأيتها فيها صباح ذلك اليوم… عندما صادفتها قرب غرفتي… تنظر إلي النظرة الصفراء.. وتولي هاربة.. أظنها كانت قادمة إلي تريد التحدث معي وأظنها سمعتني أتحدث إلى سامر وأوصيه بها.. فتراجعت.. ثم رفضت أن تقابلني..
لم أستطع الخروج دون أن ألقي النظرة الأخيرة… لا يمكنني ذلك.. إنني لن أراها ولن أرى حتى صورتها بعد الآن… دعوني أقابلها ولو للحظة… للحظة ختامية.. نهائية…
لا أصعب من هذه الكلمة… لا أصعب من هذه اللحظة… لا أصعب من أن تحاول وصف ما لا يمكن وصفه… بأي شكل…
طلبت من شقيقيّ انتظاري في الصالة… وحملت صندوق الأماني وذهبت إلى غرفة رغد… طرقت الباب وسألتها الإذن بالدخول فلم تأذن لي… رجوتها وألححت عليها مرارا… حتى أني… أقسمت عليها وسألتها بالله أن تسمح لي بحديث أخير… وما كادت تسمح…
وأخيرا.. فتحت الباب…
كانت تجلس على سريرها مولية ظهرها إلي… لم تلتفت نحوي لتمنحني نظرة الوداع…
ناديتها فلم ترد علي… فتوغلت داخل الغرفة مقتربا منها أكثر…
عند ذلك انتبهت للوحات المصفوفة على الجدار… صورة أمي… صورة أبي… وصورة تخفي معالمها تحت سحابة من السواد… لم يكن من الصعب أن أعرف أنها صورتي أنا…
نظرت إلى رغد ولم أعرف ما أقول.. من أين أبدأ… وكيف أتكلم…
لطالما كانت رغد تعبر عن مشاعرها بالرسم.. أما أنا فبأي شيء سأعبر عن مشاعري الآن يا رغد..؟؟
أخيرا استجمعت شجاعتي وقلت:
“هل هذا السواد.. ما يحمله قلبك نحوي يا رغد؟؟”
لم ترد..
قلت:
“لا أريدك أن تكرهيني يا رغد.. صدقيني.. أما مضطر جدا.. لفعل هذا”
لم تتجاوب..

اقتربت منها أكثر وسألت:
“ألا تصدقينني يا رغد؟؟”
وأيضا لم تتجاوب… شعرت بالألم الشديد لتجاهلها لي.. في آخر اللحظات التي تجمعنا.. على الإطلاق..
انصهر صوتي وأنا أقول بخيبة شديدة:
“ألن تودعيني يا رغد؟؟.. سأذهب الآن… وقد… لا نلتقي ثانية…”
عندئذ… سمعت آهة تصدر من حنجرتها بمرارة… تلاها سعال مكبوت… ثم شهقات وزفرات شجية… كانت صغيرتي تبكي… وتخفي عني وجهها ودموعها… وكأنها لا تعلم بأنني أحس بها تقطر من قلبي قبل أن تسيل على خديها…
قلت متألما…:
“رغد… صغيرتي… يتمنى المرء منا أشياء كثيرة ولكن… ظروف الحياة لا تسمح بتحقيق كل أمانينا…”
وراقبتها فلم أر منها أي تفاعل…
واصلت:
“أنا… حاولت بكل جهودي… أن أوفر لك أفضل حياة.. أردت أن.. تكوني سعيدة ومرتاحة.. ومطمئنة إلى حاضرك ومستقبلك.. حاولت أن أكون.. وصيا وأبا جيدا.. لم أبخل عليك بشيء وإن كنت قد فعلت.. فأرجوك أن تسامحيني..”
فأطلقت رغد آهة بكاء قوية تذوب لها الحجارة… كيف لي أن أتحمل..؟؟
كانت لا تزال موشحة بوجهها عني.. مصرة على حرماني من النظرة الأخيرة..
توسلت إليها:
“رغد… انظري إلي”
لكنها لم تفعل…
“انظري إلي أرجوك”
لم تستجب, بل على العكس… رفعت كفيها وأخفت وجهها خلفهما.. لم يعد لدي أمل في أن أراها… تنهدت ورجعت خطوة للوراء… وتأملتها برهة… ثم قلت:
“سامر و دانة سيواصلان رعايتك.. وربما أفضل مني.. وأفضل من خالتك أو أي شخص كنت تتمنين أن.. يهتم بك”
هنا نطقت رغد فجأة قائلة:
“أنا لا أريد لأحد أن يهتم بي.. أنا لست طفلة كما تظنون.. ومن الآن فصاعدا سأتولى أنا الاهتمام بنفسي.. واتخاذ قراراتي.. وإذا حاول أحد التدخل بشؤوني.. أو فرض نفسه عليّ.. فسوف أوقفه عند حده”
وكان صوتها متألما.. وكلامها مهددا… قلت:
“لا أحد يفرض نفسه عليك يا رغد… لا أحد يجبرك على شيء…”
وأضفت:
“لكن… أحيانا… نجد أنفسنا نقدم التضحيات طوعا من أجل الأشخاص الذين نعزهم كثيرا… والذين يستحقون التضحية… وكم كنا لنشعر بأشد الندم… لو بخلنا عليهم…”
ولم تعلق… فقلت:
“أتفهمينني يا رغد؟؟”
انتظرت منها أن ترد علي… أن تلتفت لي… لكنها كانت أقسى من أن تمنحني الفرصة الأخيرة…
تراجعت إلى الوراء… خطوة تلو خطوة… وقفت عند الباب… وعيناي متشبثتان بها.. تكادان تقتلعان من مكانيهما.. وتبقيان هناك..
“وداعا… صغيرتي”
أخيرا نطقت… وأغلقت فمي… وأغمضت عينيّ… أبتلع المرارة الشديدة التي خلفتها الجملة الأخيرة.. وأمتص الدموع الحارقة التي كانت تغلي تحت جفوني…
فتحت عينيّ… ونظرت إلى صندوق الأماني الذي كان في يدي… وانعصر قلبي ألما…
وداعا أيها الصندوق…
كنت لي رفيقا شديد الغموض والكتمان… طوال السنين…
لقد حافظت على أسرارك منذ صنعتك بيدي… فهل ستكتم أمانيّ وأحلامي… وحبيبتي.. في جوفك… إلى الأبد؟؟
وضعت الصندوق بهدوء على المنضدة المجاورة للباب.
وأخيرا… أغلقت الباب… ببطء… ببطء شديد… إلى أن اختفت الفتحة… وانقطع حبل الرؤية الممتد من عيني… إلى رغد…
وفيما نحن نهبط السلالم أنا وسامر و دانة… خارجين من هذا الجناح في طريقنا إلى البوابة… وأنا مستمر في ترديد وتأكيد وصاياي لأخي… ولأختي… إذا بصوت ينادي بانفعال فيوقفنا:
“وليد”
التفتنا إلى الوراء… إلى الأعلى… إلى حيث كانت رغد تقف… وتنظر إلي…
لم تصدق عيناي أنهما تريانها… ما أسرع ما حلقتا إليها والتصقتا بعينيها…
أهذه أنت رغد… أجئت لوداعي؟؟ هل رأفت بحالي أخيرا؟؟…
“خذ”
هتفت رغد… وهي ترمي باتجاهي بشيء ما… يرتطم بصدري… ثم يقع أمام رجليّ…
أردت أن أنظر إلى ذلك الشيء… لكن عيناي رفضتا الانفكاك عن رغد…
وإذا بها تهتف:
“احتفظ به أنت… فأنا لم أعد طفلة لأحتفظ بشيء تافه وغبي كهذا”
وبسرعة البرق اختفت رغد…
لكن عينيّ ظلتا تحملقان في المكان الذي كانت تقف فيه… تفتشان عنها… أين اختفت فجأة؟؟ أين ذهبت؟؟
انتبهت من ذهولي وحملقتي على صوت دانة تقول:
“ما هذا؟”
التفت إليها فإذا بها تنظر باتجاه قدمي… طأطأت رأسي ونظرت… فهل تعلمون ماذا رأيت؟؟
نعم… لقد حزرتم…
صندوق الأماني!!

***************

“وليد!!”
اندهشت كثيرا عندما رأيته يقف أمامي… وبعد كل تلك المدة الطويلة التي غابها عني… عجبا! ألا يزال يذكرني؟؟
مد يده ليصافحني… فلم أمد يدي إليه… تصافحني يا وليد؟؟ بعد كل هذا الغياب… هذا التجاهل والهروب مني… تعود وتصافحني؟؟
“أروى!… ألن تسلمي عليّ؟؟”
سألني ويده لا تزال معلقة تنتظر مصافحتي… وخالي يقف جوارنا وعلى وجهه التوسل… لكنني لم أقبل…
أشحت بوجهي عنه وقلت:
“ما الذي أعادك؟؟”
سمعت خالي يهتف رادعا:
“أروى!”
فالتفت إليه وإلى وليد وقلت:
“وصلت متأخرا جدا…”
وليد طأطأ برأسه ليرني اعتذاره ومدى ندمه… وتكلم قائلا:
“مررت بأزمة حرجة جدا يا أروى… سأشرح لك”
فقلت:
“لست مضطرا…”
فعاد خالي يردعني… فقلت وقد أفلتت أعصابي:
“كل هذه المدة يا خالي وهو غير موجود… يسافر ويرحل… ويغيب كل هذا الزمن… دون خبر… دون كلمة.. متجاهلا لي.. متناسيا وجود زوجة في حياته… وتريد مني أن أستقبله بترحيب؟؟”
قال خالي:
“يهديك الله يا ابنتي نسمع منه ما حصل أولا”
فما كان مني إلا أن انسحبت من المكان وخرجت إلى قلب المزرعة.
بعد مرور فترة… جاء خالي إلي وطلب مني الذهاب معه للتحدث مع وليد فأبيت.
أخبرني بأن وليد شرح له الظروف الحرجة التي مر بها وأنها كانت بالفعل خطيرة, ورجاني أن أصغي إلى وليد وأسمع منه مبرراته. وافقت من أجل خالي الذي كان قلقا بشأن علاقتي مع وليد… والتي أعتبرها أنا… انتهت منذ زمن…
في المنزل… تركنا خالي بمفردنا وذهب ليصنع القهوة… وليد بدأ الحديث بالسؤال:
“كيف أنت يا أروى”
وحقيقة استفزني ذلك السؤال كثيرا… كيف تتوقع أن أكون وزوجي قد هجرني منذ فترة طويلة وأنا في أوج حزني على أمي الراحلة؟؟
لذا قلت بجفاء:
“أرجوك وليد… لا داعي لأي كلام جانبي… أخبرني فقط بما أخبرت به خالي واختصر ما أمكن”
نظر إلى وليد نظرة حزينة جدا تفطر القلب…
انتبهت الآن فقط… إلى أن شكله قد تغير… كأنه كبر عشرين عاما… كان شاحبا ذابلا منحني القامة… يبدو مريضا ومرهقا جدا… وكان شعر رأسه وذقنه طويل وغير مرتب.. عيناه كانتا غائرتين وجفونه مسودّة… شكله كان مقلقا..
قال:
“حسنا يا أروى… أنا لن أضغط عليك في شيء. لقد أخذتِ كفايتك من الوقت للنظر وإعادة النظر والتفكير والتقرير… سأكون تحت أمرك فيما ستقررين مهما كان… فقط اسمعي مني مبرراتي… وموقفي…”
قلت والاهتمام يغزوني:
“تفضل”
وبدأ وليد يقص علي ما حصل مع شقيقه ومعه.. ما اضطر لفعله وكيف تصرف وإلى من لجأ وكيف سارت الأمور معه منذ اللحظة التي فارقني بها تلك الليلة, ليلة أن حضّرت له عشاء مصالحة فتركني وذهب إلى أخيه… وإلى أن عاد إلي هذه اللحظة…
أحداث بدت أقرب إلى الأفلام منها إلى الواقع… عنف.. ذعر.. شرطة.. مطاردة.. هروب.. مرض.. مستشفى.. أحداث رهيبة اقشعر لها بدني.. وذاب لها قلبي وانصهرت مشاعري.. أمور فاقت أبعد توقعاتي واستصعب عقلي استيعابها دفعة واحدة…
كان وليد يتوقف من حين لآخر.. يلتقط أنفاسه.. ويشرب جرعة من كأس الماء البارد الذي طلبه من خالي.. ورغم أنني طلبت من الاختصار منذ البداية, إلا أنه ذكر الكثير من التفاصيل بل وحتى بعض الأيام والتواريخ والساعات.. وتفاصيل المبالغ المالية التي سحبها من المصرف وكيف وأين صرفها.. وأسماء بعض الأطباء الذين أشرفوا على علاجه وأسماء بعض الأدوية.
كنت أصغي إلى كل ذلك دون أن أقاطعه.. كنت أتجاوب معه عبر الانفعالات التي تطرأ على وجهي كلما ذكر شيئا مثيرا.. وحقيقة كان كل ما ذكره مثيرا ومربكا..
“ثم ماذا؟”
سألته بتشوق عندما رأيته يتوقف عن الكلام أخيرا وقد انتهى من سرد كل الأحداث… فأجاب:
“ثم استغليت سيارة أجرة وجئت مباشرة من المطار إلى هنا..”
سألت راغبة في المزيد من التأكد.. فقد يكون قد أغفل عن ذكر شيء هو لدي أهم من التفاصيل التي ذكرها:
“جئت بمفردك؟”
فأشار من حولي وقال:
“كما ترين..”
فصمت برهة أفكر وأتأمل.. ثم سألت:
“ثم ماذا؟؟”
فنظر إلي وقال:
“يعتمد عليك”
أتصدقون هذا؟؟
وليد الآن معي… بمفرده.. ترك محبوبته المدللة في آخر العالم وعاد إلي..! هل هذا صحيح؟؟ هل تخلى عنها من أجلي؟؟ هل تركها هناك.. وعاد ليبقى معي أنا؟؟

error: