قراءة رواية أنت لي كاملة

الجزء الثامن والثلاثون

وجهت ْ إلي ّ سؤالا مباشرا و لكنني تهربت ُ منه ثم وعدت ُ أروى بأن أخبرها بالأمر فيما بعد…
و رغم الحيرة ِ و الشكِ اللذين طغيا عليها طيلة الفترة التالية، لم تصر على معرفة ما علاقة رغد بعمّار…

في صبيحة اليوم التالي عدت إلى مكتب إدارة المصنع الرئيسي… لإتمام المهام المتبقية دون مرافقة من أحد…
يومها وقفت أتأمل صورتـَي عاطف و عمّار قليلا … و ابتسمتُ ابتسامة النصر…

ها هي يا عمار ثروتك الضخمة… تصبح بين يدي… و المصنع الذي كنت تتباهى به و تطلب منّي العمل فيه ساخرا… أصبحت ُ أنا سيّده…

يا للأقدار…

بعدها أمرت بنزع الصورتين و علّقت عوضا عنهما لوحات ٍ لمناظر طبيعية… و أخذت أتصرّف و كأنني سيّد المكان و مالكه..
و من الخزانة الرئيسية للأموال المتداولة، و ما أكثرها، أخذت ُ مبلغا كبيرا كنا أنا و أروى قد اتفقنا على سحبه لتغطية بعض المصاريف…
أما عن أوّل شيء خطر ببالي آنذاك، فهو إعادة المبلغ الذي استلفته من صديقي سيف قبل عام…
و انطلاقا من هذا اليوم بدأت أتصرف في النقود بتصريح من أروى و أدون و أراجع الحسابات و احتفظ بسجلات المصاريف و أطلعها عليها…

كان لا يزال أمامي وقت طويل حتى أتمكّن من وظيفتي الجديدة و رتّبت الأمور بحيث يظل المصنع تحت إدارة المشرف العام ذاته– السيد أسامة- إلى أن أستلم المنصب بعد بضعة أسابيع…
و السيد أسامة بشهادة من سيف و والده و المحامي يونس المنذر هو رجل أمين نزيه الذمّة… و كان هو الساعي وراء تسليم الثروة للوريثة الوحيدة…

كانت خطّتنا تقتضي العودة بأهلي إلى المزرعة أولا…
أما فكرة أروى فكانت الزواج ثانيا!
أما عن نفسي فأنا أريد تأجيل هذا الأمر… حتى إشعار آخر…

عندما عدت ُ إلى المنزل وقت الزوال… و دخلت من ثم إلى غرفة نومي، دهشت !
لقد كانت نظيفة و مرتبة و منظمة تماما كما كانت أيام الصبا… حين غادرتها ذاهبا إلى السجن…
نظرت من حولي مبتهجا… ثم سمعت صوت أروى مقبلا من ناحية الباب:

” هل أعجبتك ؟ ”

التفت ُ إليها فإذا بي أراها مبتسمة مسرورة بما أنجزت…

قلت :

” عظيم ! لكن لابد أنّك أجهدت ِ نفسك كثيرا لإزالة أكوام الغبار ! ”

” ساعدتني أمّي و لم تكن مهمّة صعبة ! ”

أعدت النظر من حولي مسرورا… كل شيء يبدو نظيفا و منظما… بدأت أشم رائحة الماضي… و استعيد الذكريات…

هذا سريري الوثير… و هذا مكتبي القديم… و هذه مكتبتي الكبيرة… و هذه كتبي الدراسية و الثقافية … مرصوصة إلى جانب بعضها البعض بكل شموخ… و كأن تسع سنين و أكثر لم تمض ِ على هجرها و إهمالها… ها هي تقف في أرففها معززة مكرمة من جديد !

فجأة… انتبهت ُ إلى شيء مهم…

اقتربت من المكتبة و وزعت نظراتي على جميع أجزائها … ثم التفت إلى أروى و سألت بقلق :

” أين الصندوق ؟ ”

نظرت إلى أروى بعدم فهم :

” أي صندوق ؟؟ ”

قلت موضحا :

” صندوق الأماني … اسطوانة ورقية مغطاة بالطوابع… كانت هنا ”

و أشرت إلى الموضع الذي كنت قد تركته فيه ليلة أن أبت رغد فتحه…

بدا على أروى الفهم فقالت :

” تقصد ذاك الشيء المجعّد البالي ؟ ”

” نعم . أين هو ؟؟ ”

كانت أروى تنظر إلي باستغراب ثم قالت :

” رميتـُه ! ”

دهشت… هتفت بانفعال :

” رميتـِه !! ”

” نعم…ظننته قمامة و … … ”

~~~~~~~

لم أتم جملتي … إذ أن وليد هتف غاضبا :

” أي قمامة ؟ لم فعلت ِ ذلك ؟؟ ”

ثم خرج من الغرفة باحثا عنه و استخرجه من سلة المهملات !

بدا الموقف سخيفا لكنه أثار فضولي و دهشتي… سألته مستغربة :

” لم تحتفظ بشيء كهذا ؟؟ ”

أجاب بحنق :

” إياك و لمسه ثانية يا أروى… ”

و لما رأى منّي نظرات الاستنكار عاد يقول بحدّة :

” إياك … أتفهمين ؟ ”

حقيقة أنا لم أفهم شيئا… لكن فضولي قد تفاقم خصوصا و أنا أراه ينفعل بهذا الشكل… ثم يعيد ذلك الشيء المجعد تماما إلى المكان الذي كان فيه !

استغرب … ما أهمية علبة ورقية مجعدة مغطاة بطوابع طفولية قديمة … لرجل في الثامنة و العشرين من عمره… على وشك إدارة أكبر مصنع في هذه المنطقة ؟؟

لابد أن أعرف…

في وقت لاحق، تسللت إلى غرفة وليد خلسة و تناولت تلك العلبة… و تأملتها…

اكتشفت وجود هذه الجملة مكتوبة عليها : ( صندوق الأماني ) … و اكتشفت أنها تحوي فتحة صغيرة في أحد طرفيها و بأن في داخلها أوراق ما!

تملكني الفضول الشديد لفتح العلبة و معرفة محتواها… و ليتني فعلت!
تذكرت تحذير وليد و احتراما و طاعة لأوامره… تراجعت في آخر لحظة و أعدت العلبة إلى مكانها…
لكن… ألا يتملككم الفضول مثلي لمعرفة… قصّة هذه العلبة ؟؟

و لو علمت قصّتها الآن… لتغيرت أمور كثيرة لم أدركها… إلا بعد زمن طويل…

~~~~~~~~~~

” متى ستتزوج ؟ ”

سألني صديقي سيف هذا السؤال بعد تناولنا العشاء في منزله… كان قد دعانا جميعا هو و زوجته للعشاء معهما تلك الليلة

كنت أداعب ابنه الصغير – فادي – بين يدي… و أشعر ببهجة لا توصف!
ما أجمل الأطفال و ما أمتع اللهو معهم …!

أضاف معقبا :

” و نفرح بأطفالك يا وليد ؟؟ ”

ابتسمت ابتسامة واهية… و أنا أرى الفكرة أشبه بالحلم البعيد…

قلت :

” لا يزال الوقت مبكرا ! ”

استنكر سيف و قال :

” خير البر عاجله يا رجل… ها قد مضت فترة لا بأس بها على… ”

و غض بصره و أضاف بصوت خافت :

” وفاة والديك… رحمهما الله ”

انتفضت… و كأنني أسمع نبأ وفاة والدي ّ للمرة الأولى… و نظرت إلى سيف الذي عاد ببصره إلي… تكسوني علامات الحزن المرير…

تنهّدت تنهيدة عميقة… فالذكرى التي لا يمكن أن تمحى… لا تزال تثير في صدري آلاما قاتلة…

الصوت المبهم البريء الذي انطلق من حنجرة الطفل الصغير بين يدي، كان هو ما جعلني أبعثر الذكرى الماضية و أعود للحاضر

” لم يئن الأوان بعد يا سيف… يجب أن أرتب أوضاعي و أوضاع عملي الجديد و حياتي الجديدة… و أوضاع أروى… و رغد ”

التزم سيف الصمت لكني كنت أرى التساؤل يكاد ينسكب من عينيه…

قلت :

” تعرف… أصبحت المسؤولية الملقاة على عاتقي… كبيرة … ”

قال :

” ماذا عن شقيقك ؟ ”

أجبت ببعض الأسى:

” لا يزال يقيم في الشمال … و بعد موت والدي ّ و انفصاله عن رغد… أصبحت هي ضمن مسؤولياتي… أما هو… فقد طلب منّي ألا آتي بها لزيارته ثانية…”

و استطرت ُ :

” و أنا… لا يمكن أن أتزوّج و رغد الصغيرة… تحت وصايتي ”

ثم مسحت على رأس الصغير و ابتسمت بعذوبة و قلت و كأني أسر إليه:

” و حينما تكبر و تصبح امرأة… سوف أتزوّجها ! ”

علت الدهشة وجه سيف و قال فاغرا فاه :

” ماذا ؟؟!! ”

ضحكت ضحكة خفيفة و أنا أضم فادي إلى صدري و أقول بمرح :

” إنها قدري يا سيف ! و مهما ابتعدت ستعود إلي ! ”

لم يعلّق سيف و لكنّه ظل في حيرة من أمري… و أنا واثق من أن عشرات الأسئلة المبهمة كانت تدور في رأسه آنذاك…
و ربما تدور في رؤوسكم أنتم أيضا !

أما أنا فسأستمر في مداعبة الطفل الرائع… و أتمنّى من الله أن يرزقني طفلا مثله ذات يوم !

سددت لصديقي الديون التي لحقت بي منذ خروجي من السجن… و شكرته كثيرا على الدعوة الممتعة و ودّعته على أمل اللقاء به بعد عودتي من المزرعة ذات يوم…

استعنا بالله و انطلقنا باسمه متوكلين عليه عائدين إلى المزرعة…
و كان مشوار العودة أكثر ابتهاجا و مرحا و راحة من مشوار الحضور… بالطبع… فقد أنجزنا بحمد الله كل شيء و حملنا معنا جزء ً قيما من النقود…

كان في رؤوسنا خطط كثيرة و أفكار عدّة و قطعنا الطريق و نحن نتداولها
أعني بالرؤوس رأسي و رأس أروى و الخالة
أما رأس الصغيرة الجالسة خلفي في صمت مغدق، فالله وحده الأعلم أي أفكار و خطط كانت تدور فيه !

دعوني أخبركم بأن رغد و أروى لا تزالان متخاصمتين منذ رمت الأولى الثانية بهاتفي المحمول ذلك اليوم… و لم تزد حقيقة ُ علاقة أروى بعمّار… رغد َ إلا نفورا منها…
و يبدو أن وضع الخصام ناسبهما جدا و أراحهما من التصادم، و أراح رأسي أنا بالتالي من الصداع !
لكن إلى متى …؟؟
كما و إن رغد على ما بدا منها قد تنازلت عن جزء من دلالها و أحسنت التصرّف طوال رحلة العودة…
ألا يريبكم تصرفها هذا ؟؟
بقيت هادئة لأنها كانت مطمئنة إلى أنني سأعيدها إلى خالتها… كما وعدتها… و كما نصحتني خالتي ليندا… من أجلها هي…

كانت الأمور تسير بشكل هادئ جدا… و السعادة تغمر قلب أروى…
أما أنا فبالرغم من سعادتي شعرت بقلق قهري…
فالأقدار علّمتني ألا أفرط في الفرح بما بين يدي… خشية مصائب المستقبل…

” دعنا نقيم حفلة كبيرة فور وصولنا يا وليد… أريد أن يشاركني الجميع فرحتي هذه ”

قالت أروى… فردّت أمها :

” زادك الله فرحا و نعيما بنيّتي ”

ثم أضافت :

” و بلّغني رؤية أبنائك قريبا يا رب ”

أروى طأطأت رأسها ببعض الخجل ثم قالت :

” قولي لوليد ! فهو من يؤجل الأمر ! ”

كنت ُ أراقب الشارع… و لم أعلّق … فقالت الخالة ليندا :

” خيرا تفعلان إن تتزوجا مباشرة يا عزيزي… خير البر عاجله يا وليد.. دعنا نتم الفرحة و نحتفل بالزواج ! ”

تضايقت من حديثها.. فموعد زواجي مؤجل إلى أجل غير مسمى… كما و إن ذكرى وفاة والدي ّ لم تخمد نارها بعد…

قلت ُ مجاريا :

” سأفكر في الأمر لاحقا ”

لماذا يلح علي الجميع بالزواج !؟؟
ألا يوجد رجل خاطب غيري في هذه البلاد ؟؟
و ظل الحديث عن زواجنا أنا و أروى المسيطر على الأجواء لفترة من الزمن… أما رغد الصامتة، فكلّما ألقيت عليها نظرة رأيتها تسبح في بحر من الشرود …

لقينا بعض العقبات في طريقنا خصوصا مع الشرطة… و كان التفتيش مشددا جدا على بعض الطرق و المداخل… و الوضع الأمني في تدهور مضطرد.. و كثيرا ما تحظر الرحلات إلى و من بعض المدن، جوا أو برا…

و أخيرا… وصلنا إلى المدينة الصناعية المدمّرة…
و أخيرا بدأ وجه رغد يتهلل و الابتسامة ترتسم على شفتيها… وإن اقترنت بوجوم عام للمرأى المحزن…
تعمّدت أن أسلك طريقا بعيدا عن بيتنا المحروق، خشية أن تقفز الذكريات المؤلمة من جديد إلى قلبينا فتدميهما…

عندما وصلت إلى بيت أبي حسام، أوقفت السيارة و بقيت ساكنا لبعض الوقت…

استدرت إلى رغد فوجدتها تنظر إلي ربما بنفاذ صبر…
قالت:

” هل أنزل ؟ ”

قلت :

” تفضلي… ”

و سرعان ما خرجت من السيارة و اتجهت إلى بوابة المنزل تقرع الجرس…

” كم سنبقى ؟ ”

التفت إلى أروى التي طرحت السؤال و قلت :

” بعض الوقت… نلقي التحية و نسأل عن الأخبار ”

قالت :

” أرجوك وليد لا تطل المكوث… نحن متعبون و نريد الوصول إلى المزرعة و النوم… ”

كان الوقت آنذاك أوّل الليل و لا يزال أمامنا مشوار طويل حتى نصل إلى المزرعة…

عندما خرجنا من السيارة كانت البوابة قد فتحت و ظهر منها أبو حسام و ابنه مرحبـَين…

و رغم ذلك لم تخل ُ نظراتهما إلي ّ من الريبة و الاتهام… و لابد أنكم تذكرون الطريقة التي غادرنا بها هذا المنزل قبل ذهابنا إلى لمدينة الساحلية…

اعتذرنا عن دعوة العشاء التي ألحت علينا عائلة أبي حسام لقبولها… متحججين بطول السفر…
رغد بدت مرتاحة و سعيدة بلقاء أهلها كثيرا… منذ الطفولة و هي تحب خالتها و عائلتها و كانت ستربى في حضنها لولا أن الظروف المادية و العائلية لم تكن تسمح آنذاك…

و أخيرا حانت لحظة الفراق…
كنت أدرك… أنني لم أكن لأتحمّل ذلك و لكنني أردت أن أحقق لرغد رغبتها و أنجز وعدي … بتركها مع خالتها لبضعة أيام…

قبيل انصرافي طلبت منها مرافقتي لجلب أغراضها من السيارة و كان قصدي أن أتحدّث معها منفردين…

حملت ُ حقيبتـَي سفرها الصغيرتين إلى داخل السور الخارجي لحديقة المنزل و وضعتهما على مقربة و توقفت … و التفت إلى رغد…

كانت تسير إلى جواري… تسبقني بخطوتين أو ثلاث… حاملة ً كيسا…

ناديتها :

” رغد ”

التفتت نحوي و توقفت عن السير…

ترددت ُ قليلا ثم قلت:

” رغد.. تعلمين أنه… أنني … ما كنت ُ لأتركك لولا إلحاحك الشديد بالبقاء هنا و لو تـُرك الأمر لي … لأخذتك و عدنا جميعا إلى المزرعة… ”

رغد نظرت إلى الأرض…

قلت متعلقا بأمل أخير :

” هل هذه رغبتك فعلا يا رغد ؟؟ ”

و هزت رأسها إيجابا… لم يكن باستطاعتي إلا أن أنفّذ هذه الرغبة من أجلها هي…

قلت :

” حسنا… لكن… في أي لحظة تبدلين فيها رأيك و مهما كان أعلميني فورا…”

نظرت إلي نظرة شبه مشككة فقلت :

” و سآتي لأخذك في الحال… أتعدين بذلك ؟ ”

كأنها ترددت لكنها أخيرا قالت :

” سأفعل ”

قلت مؤكدا :

” اتصلي بي في أي وقت… و متى ما احتجت ِ لأي شيء… سأترك هاتفي المحمول مفتوحا على مدار الساعة… لا تترددي لحظة … أتعدين بذلك يا رغد ؟؟ ”

ارتسمت علامة غريبة المعنى على وجهها … أهي ابتسامة ؟ أم هو حزن؟ … أهو رضا … أم غضب ؟؟ أهي راحة أم ندم ؟؟ لست أدري…

” عديني يا رغد ؟ ”

” أعدك… ”

شعرت بالطمأنينة لوعدها… ثم قلت :

” سأجلب شيئا… انتظري… ”

و حثثت الخطى خارجا إلى السيارة، حيث استخرجت ظرفا يحوي أوراقا مالية كنت قد أعددته من أجل رغد…

عدت إليها فوجدتها لا تزال عند نفس الموضع و على نفس الوضع…
اقتربت ُ منها و مددت ُ إليها بالظرف قائلا:

” احتفظي بهذا لك ”

سألتني :

” ما هذا ؟ ”

” إنها بعض النقود… انفقي منها كيفما شئت ِ و إذا ما نفذت فابلغيني ”

رغد طأطأت برأسها و نظراتها ربما حرجا … فهي المرة الأولى التي أقدّم فيها إليها ظرفا ماليا…

” تفضلي يا رغد ”

و لكنها لم تبادر بأخذه !

قلت مازحا :

” هيا صغيرتي ! لا يجب أن تشعر الفتاة بالخجل من أبيها ! ”

هنا نظرت إلي رغد بسرعة و المزيج المرتسم على وجهها حاو ٍ على الدهشة و الضحك و الاستنكار معا !

تشجّعتْ و مدّتْ يدها أخيرا و أخذت الظرف !

ابتسمت ُ مشجعا و قلت :

” اتصلي بي إذا احتجت ِ المزيد … و لا تنتظري شيئا من الآخرين أو تعتمدي عليهم … أتعدين بذلك يا رغد ؟ ”

هزّت رأسها إيجابا …

و وضعت الظرف داخل الكيس… و استدارت متابعة طريقها نحو المنزل…

و هي تبتعد… و أنا أشعر بأشياء تتمزّق في داخلي… أشعر بأن حزمة كبيرة من الأعصاب الحسية كانت تربط فيما بيننا… و مع ابتعادها أخذت تتقطع عصبا عصبا … و تحدث في قلبي ألما فظيعا مهلكا…

كيف أطاعني قلبي…
مددت يدي محاولا الإمساك بذرات الهواء التي تبعتها… و عادت إلي يدي خالية الوفاض…

هتفت :

” رغد … ”

توقفت ْ و استدارت ْ نحوي… فحال الظلام دون رؤية عينيها…
أو ربما حال دون ذلك… عبرة ولدت للتو… من أعماق عيني…

حملت ُ الحقيبتين و أقبلت ُ نحوها فلما صرت ُ قربها قلت :

” اعتني بنفسك جيدا … يا صغيرتي… ”

رغد… ربما تفهمت قلقي و رأت في وجهي ما لم نستطع لا أنا و لا الظلام إن نخفيه…
ابتسمت ْ و قالت مطمئنة:

” اطمئن يا وليد… سأكون بخير… وسط أهلي”

و هبطت ببصرها للأسفل و نظرت إلى الكيس الذي كانت تحمله مشيرة إلى ظرف النقود و أضافت بصوت خافت كالهمس:

” شكرا… بابا وليد !! ”

ثم استدارت و أسرعت نحو الداخل !

آه يا رغد !

أتسخرين منّي ؟؟

ليتك تعلمين كيف أشعر تجاهك… !

آه لو تعلمين !

فيما بعد… و نحن نهم ّ بالمغادرة… وجهت كلامي لأم حسام موصيا:

” أرجو أن… تعتنوا برغد جيدا… و إن احتجتم لأي شيء فأبلغوني”

” لا داع لأن توصيني بابنتي يا وليد… سافر مطمئنا في أمان الله ”

” شكرا يا خالتي… سأعود قريبا… أرجوك… ارعي الصغيرة جيدا باركك الله ”

الجميع بدأ يتبادل النظرات إن سرا أو علنا… إن تضامنا أو استنكارا…
و لكنني واصلت سرد وصاياي حتى آخر لحظة

بعد ذلك… و أنا أغادر البوابة الخارجية ألقيت النظرة الأخيرة على رغد…
و قلت أخيرا :

” أستودعك من لا تضيع ودائعه… ”

~~~~~~~~~

لم يظهر على وليد أنه عازم أصلا على الرحيل!
و ربما لو ترك الأمر له وحده لجعلنا نبات في ذلك المنزل أو نقضي بضعة أيام في المدينة قرب رغد!

اهتمامه الزائد بها يثير انزعاجي… وقد أصبحت أشعر بها و كأنها شريكة لي في وليد… و هو أمر لا احتمل التفكير به فضلا عن حدوثه…

أخبرني بعد ذلك بأنه قد دفع إليها بجزء من النقود التي أخذها من الخزانة، و بدا و أن رغد ستشاركني أيضا في ثروتي …

بالنسبة لي فقد أعطيت وليد مطلق الحرية في التصرف بالنقود و الممتلكات…
وليد كان قد أخبرني مسبقا بأنه كان في الماضي يحلم بأن يصبح رجل أعمال مثل والده – رحمه الله – و أن دخوله السجن قد غير مجرى حياته… و الآن… و بقدرة قادر… تحقق الحلم !

لمست ُ تغيرا كبيرا و رائعا على وليد و نفسيته … أصبح أكثر سعادة و إقبالا على الحياة بروح متفائلة مرحة… و رغم أن الساعات التي صار يقضيها في العمل و الدراسة قد تضاعفت، وجدنا الوقت الكافي و المناسب جدا لنعيش حياتنا و نستمتع بخطوبتنا التي ما كندنا نهنأ بها… في وجود ورغد !

و بالرغم من أنها ابتعدت أخيرا… ظل اسم رغد و ذكرها يتردد على لسان وليد يوميا في المزرعة… و كانت هي من يكدر صفو مزاجه… و يثير قلقه… و ما فتئ يهاتفها هي و أهلها من حين لآخر و يمطرهم بالوصايا حتى بدأت ُ أشعر أنا بالضيق !

لكني مع ذلك أحسست بالفخر… بأن يكون لي زوج يعرف معنى المسؤولية و يقدّرها جل تقدير…

بعد شقائي و عنائي الكبير و حرماني من أبي و قسوة الحياة علي ّ كل تلك السنين… وهبني الله نعمتين عظيمتين يستحيل أن أفرّط بأي ٍ مهما كان السبب…

وليد الحبيب… و الثروة الضخمة…

و لم يبق أمامنا إلا أن نتم زواجنا و نبهج قلوب أهلنا و نواصل معا مشوار الحياة الزوجية السعيدة… بإذن الله

~~~~~~~~~~

مرت أيام مذ وصلنا إلى المدينة الزراعية الشمالية… و بدأت بتنفيذ الخطط التي رسمتها خلال الأيام الماضية…

وظفت المزيد من العمّال من أجل العناية بالمزرعة و محصولها و نظّمت برنامجا خاصا للإشراف عليها

في كل صباح تقريبا كنت أتصل بمنزل أبي حسام و أتحدّث إلى رغد و أطمئن على أحوالها… و من خلال نبرة صوتها استنتج أنها مرتاحة و بخير…

و بالرغم من ذلك، كنتُ لا أتوقّف عن التفكير فيها ساعة واحدة…
أجرينا بعض الإصلاحات في المنزل الصغير و جددنا بعض الأثاث…
انشغلت كثيرا بأعمال متعددة، ما جعل الأيام تمضي… و الفراق يطول… و الشوق يزداد…

و بدأت أشعر بالحرج من اتصالي المتكرر لمنزل أبي حسام و طالبت رغد بأن تهاتفني كل يومين على الأقل، لكنها لم تكن تفعل إلا قليلا…

أما عن أروى فقد كانت مهووسة بفكرة الزواج التي ما فتئت هي و الخالة ليندا تلاحقاني بها حتى ضقت ذرعا…

و لمرة أخرى أصيبت الخالة بانتكاسة صحية و نقلناها للمستشفى… الأمر الذي أجل سفري لفترة أطول…

ذات يوم، اتصلت بمنزل أبي حسام بعد أن تملكتني الهواجس للحديث مع صغيرتي البعيدة…
إن شمسا تشرق و تغرب دون أن تريني إياها هي ليست شمسا… و إن قمرا يسهر في كبد السماء دون أن يعكس صورتها… هو ليس قمرا…
و إن يوما يمر … دون أن اطمئن عليها… هو ليس محسوبا من أيام حياتي…

” مرحبا…أنا وليد”

” نعم عرفتك… مرحبا… لكن رغد ليست هنا الآن”

كان هذا حسام، و كان يتحدّث بضيق أشعرني بالخجل من نفسي…

” إلى أين ذهبت؟ ”

” لزيارة بعض المعارف فهل تريد أن أبلغها شيئا ؟”

” أبلغها أنني انتظر اتصالها لو سمحت… و عذرا على الإزعاج”

و انتظرت طويلا حتى انتصف الليل، و لم تتصل… فبت ّ أبث ّ للقمر همّي… و أصبحت ّ أعرب للشمس عن نيّتي للذهاب إليها اليوم مهما كان…

نهضت عن فراشي باكرا و خرجت إلى المزرعة راغبا في استنشاق بعض الهواء المنعش… ذاك الذي يطرد من الصدر الهموم المكبوتة…

هناك… وجدت العم إلياس و أروى يحرثان الأرض… اقتربت منهما و هتفت محييا:

” صباح الخير”

التفتا إلي ّ باسمين و ردا التحية … قلت مستغربا مستنكرا :

” ما الذي تفعلانه ! انتظرا حضور العمّال ”

العم إلياس قال :

” في الحركة بركة يا بني ”

” الوقت باكر… دعا مهمة حرث الأرض الشاقة عليهم ”

و اقتربت من أروى أكثر…

ابتسمت لي و قالت :

” لا تظن يا وليد أنني سأتخلى عن هذه المزرعة يوما ! لقد ولدت مزارعة و سأعيش مزارعة و إن ملكت كنوز الأرض… ”

و مدت ذراعيها إلى جانبيها مشيرة إلى ما حولها قائلة :

” هذه المزرعة هي… حياتي ! ”

العم إلياس فرح بقولها و راح يدعو :

” بارك الله فيك يا بنيّتي … و في ذريتك ”

ثم وجه حديثه إلي قائلا :

” هذه الأرض عليها عشنا و من خيراتها كبرنا و لن نترك العمل فيها حتى يحول الموت دون ذلك ”

لم أتعجّب كثيرا من كلام العم، فتعلّقه بالمزرعة أشبه بتعلّق السمكة بمياه البحر… أما أروى فعارض كلامها خططي المستقبلية…

قلت :

” أطال الله في عمرك يا عمّي ”

قال متما :

” حتى أحمل أطفالكما فوق ذراعي ّ … تزوجا و أفرحا قلوبنا عاجلا يا عزيزاي ”

أروى ابتسمت بخجل، أما أنا فنظرت إلى السماء أراقب سرب عصافير يدور فوق رؤوسنا !

آه لو كنت أستطيع الطيران !

أروى كانت تريد العيش في المزرعة مع والدتها و خالها بقية العمر… أما أنا فقد كنت أخطط للعودة إلى المدينة الساحلية و تجديد منزلنا القديم و العيش فيه… قريبا من مصنع أروى و ممتلكاتها… حتى يتسنى لنا إدارة و مراقبة كل شيء…

و بدا أن الموضوع سيثير صداعا أنا في غنى تام عنه خصوصا و أنني لم أنم جيدا ليلة أمس لكثر ما فكرت في رغد…

قلت مخاطبا أروى و مغيرا منحى الحديث :

” سوف أذهب إلى المدينة الصناعية هذا اليوم… ”

و لا أدري لم شعرت بأن جملتي أصابت أروى بخيبة الأمل !

~~~~~~~

نظل ساهرات حتى ساعة متأخرة من الليل، الأمر الذي يجعل نشاطنا و حيويتنا محدودين في النهار التالي…
أنا و ابنتا خالتي نهلة و سارة لا نجد ما نفعله إلا الحديث و مشاهدة التلفاز و قراءة المجلات!

” أوف ! أشعر بالضجر ! نهلة ما رأيك في الذهاب إلى السوق ؟ ”

قلت و أنا أزيح المنشفة عن شعري بملل …

تفكّر نهلة قليلا ثم تقول :

“في هذا الصباح؟؟…إمممم… حسنا… تبدو فكرة جميلة!! ”

و تسارع سارة بالقول :

” سأذهب معكما ”

و هذه الـ سارة تلازمنا ما لا يكاد يقل عن 24 ساعة في اليوم !

قالت نهلة:

” إذن تولي أنت ِ إخبار أمّي و إقناع حسام بمرافقتنا ! ”

و لم تكد نهلة تنهي جملتها إلا و سارة قد ( طارت ) لتنفيذ الأوامر!

ضحكنا قليلا… ثم باشرت بتسريح شعري أمام المرآة… كنت قد أنهيت حمامي الصباحي قبل قليل و تركت قطرات الماء تنساب من شعري على ظهري بعفوية…

وقفت ابنة خالتي خلفي تراقبني…

” طال شعرك رغد… ألن تقصّيه ؟ ”

و قد كنت معتادة على قص شعري كلما طال، فالشعر الطويل لا يروق لي و لا يناسب ملامح وجهي ! هكذا كانت دانة تقول دوما…

” لم يكن بإمكاني ذلك قبل الآن…”

و أضفت :

” آه … لقد كنت حبيسة الحجاب طوال شهور ”

و أنا أسترجع ذكريات عيشي في المزرعة تحت أنظار وليد و العجوز
لقد كان المنزل صغيرا و لم أكن استطيع التجوّل بأرجائه بحرية و لم أكن أغادر غرفة النوم إلا بحجابي و عباءتي … و جواربي أيضا !

أما هنا… فأنا أتحرّك بحرية في الطابق العلوي بعيدا عن أعين حسام و أبيه…

أما عينا نهلة فلا تزالان تتفحصانني!

قالت :

” و يبدو أنك كذلك نحفت ِ بعض الشيء يا رغد ! أنظري… تظهر ندبتك و كأنها قد كبرت قليلا”

و هي تمسك بذراعي الأيسر مشيرة إلى الندبة القديمة التي تركها الجمر عليها عندما أحرقني قبل سنين…

” مع أنني كنت آكل جيدا في المزرعة ! ”

” كيف كانت حياتك في المزرعة ؟ ”

تنهّدت تنهيدة طويلة و رفعت رأسي إلى السقف… كم من الوقت مضى و أنا سجينة هناك !
و بالرغم من قربي من وليد، لم أكن أشعر إلا بالضيق من وجود الشقراء الدخيلة… و لم تكن الأيام تمر بسلام…

” آه يا نهلة… حياة بسيطة جدا… ليس فيها أي شيء… هم يعملون في المزرعة و أنا أرسمها!… كانت جميلة و لكن العيش فيها أشبه بالعيش في السجن ”

و وصفت لها شيئا من أحوالي هناك و كيف أنني افتقدت الحرية حتى في أبسط الأشياء و عانيت من الغربة و بعض المشاكل مع أروى

و حالما جئت بذكر اسم هذه الأخيرة عبست ُ بوجهي !

لاحظت نهلة ذلك… ثم قالت :

“إنها جميلة جدا! كم هو محظوظ ابن عمّك ! ”

و لا أدري إن قالت ذلك عفويا أو عمدا لإزعاجي ! رفعت فرشاة شعري أمام وجهها و هددتها بالضرب !

نهلة ضحكت و ابتعدت بمرح… أما أنا فتملكني الشرود و الحزن، و لما رأت ذلك نهلة أقبلت و أخذت تداعب خصلات شعري المبلل و تربت علي ّ و تقول :

” أنت ِ أيضا جميلة يا رغد… الأعمى من لا يلحظ ذلك !”

قلت :

” لكنها أجمل منّي بكثير… و عندما تتزين تصبح لوحة فنيّة مذهلة… لا يمكن المقارنة بيننا ”

قالت:

” و لم أصلا المقارنة بينكما ؟ أنت رغد و هي أروى ”

قلت بصوت منكسر :

” نعم… أنا رغد اليتيمة المعدومة… لا أم و لا أب و بيت و لا مال… و هي أروى الحسناء الثرية صاحبة أكبر ثروة في المدينة الساحلية و إحدى أجمل المزارع في المدينة الزراعية… من سيلتفت إلي إزاء ما لديها هي ؟؟ ”

و رميت بالفرشاة جانبا في غضب…

نهلة نظرت إلى مطولا ثم قالت :

” و ماذا بعد ذلك؟ هل ستتوقفين عن حب ابن عمّك هذا ؟ ”

أتوقف؟
و كأن الأمر بيدي… لا أستطيع …
أغمضت عيني في إشارة منّي إلى العجز…

” إذن… ماذا ستفعلين؟ الأمر تعقد الآن و الرجل قد تزوج ! ”

قلت بسرعة :

” لا لم يتزوج … خطب فقط… و يمكن أن ينهي علاقته بالشقراء في أي وقت ”

و لأن نظرات الاستنكار علت وجه نهلة أضفت :

” فأنا بعد أكثر من أربع سنوات من الخطوبة الحميمة انفصلت عن خطيبي ”

نهلة هزت رأسها بأسى… ثم قالت :

” رغد… هل تعتقدين أن هذه الفكرة هي التي تدور برأس ابن عمّك؟ الرجل قد ارتبط بفتاة أخرى و ربما هو يحبها و يعد للزواج منها ! ”

قلت بغضب:

” و ماذا عنّي أنا ؟؟ ”

نظرت إلى بتمعن و قالت و هي تشير بسبابتها اليمنى :

” أنت أيضا… ستتزوجين رجلا يحبّك و يحترمك كثيرا… وينتظر منك الإشارة ”

و هنا أقبلت سارة تقول :

” حسام موافق ! ”

اصطحبنا حسام بسيارته الصغيرة الضيقة إلى السوق و ظل مرافقا لنا طوال الوقت…
قضينا فترة لا بأس بها هناك ومع ذلك لم يبدِ تذمرا! بل كان غاية في اللطف و التعاون، و السرور كذلك…!
اشتريت العديد من الأشياء…
تعرفون أنه لم يعد عندي ما يكفي من الملابس و الحاجيات … و أن أشيائي قد احترقت في بيتنا الحزين… و أن القليل الذي اقتنيته لاحقا تركته في المزرعة
كنت أنفق بلا حساب! فالمبلغ الذي تركه وليد معي… كبير و مغر ٍ…
حقيقة شعرت بالخجل و أنا آخذ ظرف النقود منه، و لكنني بالفعل بحاجة إليها… و حتى النقود التي تركها لي أبي رحمه الله قبل سفره إلى الحج، و التي لم أنفق منها ما يذكر، احترقت في مكانها في البيت…
و حتى بقايا رماد البيت المحروق… لم يكن لي نصيب في ورثها…

بعد أن فرغنا من مهمة التسوق اللذيذة عدنا إلى المنزل و ارتديت بعضا من أشيائي الجديدة شاعرة بسعادة لا توصف

فيما بعد… قررنا أنا و خالتي و أبناؤها التنزه في حديقة المنزل…

أبو حسام كان يحب حديقة منزله و يعتني بها جيدا، و بعد أن احترقت شجيراتها في القصف الجوي آنفا، أعاد زراعة و تنظيم الأشجار و العشب… و دبّت الحياة في تلك الحديقة مجددا..

كنت قد اخترت من بين ملابسي الجديدة جلابية زرقاء فضفاضة طويلة الكمين، و وشاحا طويلا داكن اللون، و خاتما فيروزيا براقا لأقضي بهم نزهتي داخل حديقة المنزل…

الجو كان لطيفا و أنسام الهواء عليلة و نشطة… الشمس قد احمر ذيلها في الأفق… و تسابقت غيوم خفيفة على حجب حمرتها الأخاذة عن أعين الناظرين… بينما امتدت الظلال الطويلة على العشب… مضفية عليه خضرة نضرة…
المنظر من حولي خلاب و مبهج للغاية… إنها بدايات الشتاء…

فرشنا بساطا كبيرا على العشب الرطب، و جلسنا نحن الخمسة فوقه نتناول المكسرات و نتبادل الأحاديث… و نتسلى بلعبة الألغاز الورقية !
لقد كنت آنذاك مسرورة و مرتاحة… و غاية في الحيوية و المرح !

~~~~~~~~~~

عندما فـُتـِحت البوابة، وجدت ُ حسام في استقبالي…

تبادلنا التحية و لم يحاول إخفاء علامات التعجب و الاستنكار الجلية على وجهه و هو يستقبلني دون سابق إعلام…

دعاني للدخول، فسرت إلى جانبه و أنا أشعر ببعض الحرج من زيارتي المفاجئة هذه…

هنا وصلتني أصوات ضحكات جعلتني التفت تلقائيا نحو المصدر…

على بساط مفروش فوق العشب في قلب الحديقة كانت أربع نسوة يجلسن في شبه حلقه مستديرة…

جميعهن التفت إلي ّ لدى ظهوري في الصورة و جميعهن أخرسن ألسنتهن و بدين مندهشات !

غضضت بصري و تنحنحت ثم ألقيت التحية… و سمعت الرد من أم حسام مرحبة بي…

” تفضّل يا وليد… أهلا بك… ”

قال حسام :

” تعال شاركنا ”

و هو يحثّني على السير نحو البساط… و أضاف :

” كنا نتسلى بالألغاز ! الجو منعش جدا ”

وقفت شقيقة حسام الكبرى ثم الصغرى هامتين بالانصراف فقلت :

” كلا… معذرة على إزعاجكم كنت فقط أود إلقاء التحية و الاطمئنان على ابنة عمّي”

أم حسام قالت مباشرة :

” أي إزعاج يا وليد؟ البيت بيتك و نحن أهلك… تفضّل بني ”

” شكرا لك خالتي أم حسام… أدام الله عزك ”

كل هذا و عيني تحدّق في العشب في خجل…

و تمكنت من رفعهما أخيرا بحثا عن رغد… و رأيتها جالسة بين ابنتي خالتها… و هي الأخرى تبعثر نظراتها على العشب !

يا إلهي كم اشتقت إليها !… لا أصدق أنها أمامي أخيرا…

” كيف حالك يا رغد ؟ ”

التفتت رغد يمنة و يسرة كأنها تبحث عن مصدر الصوت!

هذا أنا يا رغد ! هل نسيت صوتي ؟؟

ثم رأيتها تبتسم و يتورد خداها و تجيب بصوت خافت :

” بخير ”

لم يكن جوابا شافيا ! أنا أريد أن أعرف تفاصيل كل ما حصل مذ تركتك ِ هنا تلك الليلة و حتى هذه اللحظة ! ألا تعلمين كم كنت مشغول البال بك ؟؟

” كيف تسير أمورك صغيرتي ؟ ”

و ابتسمت ابتسامة أكبر… و قالت :

” بخير ! ”

بخير … بخير !

كل هذا و هي لا ترفع نظرها عن العشب الرطب…

قلت :

” الحمد لله… ”

قالت أم حسام :

” تفضّل بالجلوس ”

قال حسام :

” سأصطحبه إلى المجلس … ”

و خاطبني :

” تفضّل وليد ”

لم أجد بدا من مرافقته … فذهبت تاركا عقلي مرميا و مبعثرا هو الآخر فوق ذات العشب !

في ذلك المجلس كان أبو حسام يشاهد الأخبار … و بعد الترحيب بي فتحنا موضوع المظاهرات و العمليات الاستشهادية النشطة و عمليات الاعتقال و الاغتيالات العشوائية التي تعيشها البلدة بشكل مكثف في الآونة الأخيرة…

و كذلك المنظمات السرية المعادية التي يتم الإيقاع بعملائها و زجّهم إلى السجون أو قتلهم يوما بعد يوم…

الأنباء أثارت في نفسي كآبة شديدة و مخاوف متفاقمة خصوصا بعد أن علمت من أبي حسام عن تورط بعض معارفه في إحدى المنظمات المهددة بالخطر…

و حكيت له الصعوبات التي واجهناها مع السلطات أثناء رحلتـَي ذهابنا و عودتنا إلى و من المدينة الساحلية…

و تعرفون كم أكره الشرطة و أرعب منهم…

فيما بعد… خرجنا نحن الثلاثة من المنزل قاصدين الذهاب إلى المسجد…

و نحن نعبر الحديقة رأيت رغد مع ابنتي خالتها و هن لا يزلن يجلسن على ذلك البساط و يلهون بأوراق الألغاز…

حسام هتف سائلا :

” من فاقكن ذكاء ؟ ”

أجابت شقيقته الصغرى :

” رغد ! إنها ذكية جدا ”

ضحك حسام و قال :

” استعيري شيئا منها ! ”

و انطلقت ضحكة عفوية من رغد…

حسام قال بمرح :

“… سأغلبك ِ في الجولة المقبلة يا رغد ! استعدّي ”

قالت رغد و هي تنظر إله بتحد :

” قبلت التحدّي ! ”

حسام ضحك و قال بإصرار :

” سترين أنا عبقريتي… انتظري فقط ! ”

و ضحكت رغد بمرح…

كل هذا و أنا… واقف أسمع و أتفرج و أخرس لساني و أكتم في صدري غضبا شديدا…

~~~~~~~~

” فيم تحدّقين ؟ ”

سألتني نهلة و هي تراني أحملق في البوابة… التي أغلقها حسام بعد خروجه و أبيه و وليد قبل قليل…

قلت :

” هل رأيت ِ كيف يبدو حسام إلى جانبه ؟ كواحد من الأقزام السبعة ! ”

تعجّبت نهلة و بدا أنها لم تفهم شيئا !

قلت:

” أراهن أنه سيلحق بهما بسيارته… يستحيل على هذا الشيء أن يدخل سيارة شقيقك تلك! إلا إذا أخرج رأسه من فتحة السقف ! ”

و أخذت سارة تضحك بشدّة !

لا أدري إن لشيء فهمته أو لشيء لم تفهمه!

وقفت ُ بعد ذلك و أخذت ُ أمدد أطرافي و استنشق الهواء العليل… شاعرة بسعادة تغمر قلبي… و برغبة هوسية في معانقة الهواء!

أخذت ُ أدندن بمرح… و أمشي حافية على العشب بخفة… كعصفور على وشك الطيران…

نهلة أصدرت أصواتا خشنة من حنجرتها للفت انتباهي فاستدرت إليها و وجدتها تراقبني باهتمام…

إنني أشعر بالدماء تتحرك بغزارة في شعيرات وجهي… و متأكدة من أنني في هذه اللحظة حمراء اللون !

” رغد يا صغيرتي كيف تسير أمورك ؟ ”

قالت ذلك نهلة و هي تهب واقفة على أطراف أصابعها و تنفخ صدرها و ترفع كتفيها و تضغط على حبالها الصوتية ليظهر صوتها خشنا، فيما تقطب حاجبيها لتقلّد وليد !

و مرة أخرى تنفجر سارة ضحكا… و تثير عجبي!

إنها غبية في أحيان كثيرة و لكن يبدو أن ذكاءها محتد هذا الساعة !

قلت موضحة :

” إنه يناديني بالصغيرة منذ طفولتي ما الجديد في ذلك ؟ ”

و نهلة لا تزال قاطبة حاجبيها و تردد :

” رغد يا صغيرتي ! رغد يا صغيرتي ! رغد يا صغيرتي ”

و سارة لا تزال تضحك !

قلت :

” و لأني يتيمة… فهو يعاملني كابنته! و طلب منّي اعتباره أبي ! ”

و نظرت الفتاتان إلى بعضهما و ضحكتا بشدة !

قلت و أنا أولي هاربة :

” أوه… خير لي أن أذهب لتأدية الصلاة ! أنتما لا تطاقان ! ”

لم يكن لحضور وليد قلبي أي هدف غير الاطمئنان علي، لذا فإنه هم بالمغادرة بعد ذلك مباشرة لولا أن العائلة ألحت عليه لتناول العشاء معنا…

أنا أيضا كنت أريد منه أن يبقى فمجرد وجوده على مقربة… يمنحني شعورا لا يمكن لأي إنسان منحي شعورا مماثلا له

آه لو تعلمون…

كم في البعد من شوق و كم في القرب من لهفة…

كيف سارت حياتي بدونك يا وليد؟؟

كيف استطعت العيش طوال هذه الأيام بعيدة عنك؟؟

و كيف سأتحمّل رحيلك… و كيف سأطيق الذهاب معك ؟؟

بعد العشاء، وليد و حسام و أبوه خرجوا و جلسوا في الحديقة على نفس البساط الذي كنا نجلس عليه…

كان الجو رائعا تلك الليلة، لا يقاوم…

و من داخل المنزل فتحت النافذة المطلة على الحديقة سامحة لنسمات الليل و ضوء القمر، و الأصوات كذلك، بالتسلل إلى الداخل… بينما أنا أراقب عن كثب… تحركات وليد !

كان وليد غاية في الأدب و اللباقة… كان قليل الحديث أو الضحك… مغايرا لحسام المزوح الانفعالي…

و بدا فارق السن بينهما جليا في طريقة حديثهما و تحركهما بل و حتى في الطريقة التي يشربان بها القهوة !

بإدراك أو بدونه… كنت أسترق السمع إلى أي كلمة تخرج من لسان وليد و أراقب حتى أتفه حركة تصدر منه… بل و حتى من خصلات شعره الكثيف و الهواء يعبث بها …

” ما الذي تراقبه الصغيرة الجميلة ؟ ”

قالت نهلة و هي تنظر إلي بمكر… فهي تعرف جيدا ما الذي يثير اهتمامي في قلب الحديقة !

قلت بتحد :

” بابا وليد ! ”

كادت تطلق ضحكة كبيرة لولا أنني وضعت كفي فوق فمها و كتمت ضحكتها

” اخفضي صوتك ! سيسمعونك ! ”

أزاحت نهلة يدي بعيدا و مثلت الضحك بصوت منخفض و من ثم قالت :

” مسكين وليد ! عليه أن يرعى طفله بهذا الحجم ! ”

و فتحت ذراعيها أقصاهما… كنت ُ أعرف أنها لن تدعني و شأني … هممت ُ بإغلاق النافذة فأصدرت صوتا… فرأيت حسام يلوّح بيده نحونا و يهتف :

” رغد… تعالي ”

تبادلت و نهلة النظرات و بقيت مكاني…

قال حسام :

” وليد يرغب في الحديث معك ”

عندها ابتعدت عن النافذة و وضعت يدي على صدري أتحسس ضربات قلبي التي تدفقت بسرعة فجأة…

نهلة نظرت إلي من طرف عينيها و قالت مازحة ساخرة :

” هيا يا صغيرتي المطيعة … اذهبي لأبيك ”

و لما لم تظهر على وجهي التعبيرات التي توقعتها بدا الجد في نظراتها و سألتني:

” ما الأمر ؟؟ ”

قلت و أنا مكفهرة الوجه و يدي لا تزال على صدري :

” لا بد أنه سيغادر الآن… ”

نظرت إلي نهلة باستغراب… بالطبع سيغادر… و جميعنا نعلم أنه سيغادر!… ما الجديد في الأمر…؟؟

قلت :

” لا أريده أن يبتعد عني يا نهلة… لا أحتمل فراقه… أريده أن يبقى معي… و لي وحدي… أتفهمين ؟؟ ”

في وسط الحديقة… على العشب المبلل برذاذ الماء… و بين نسمات الهواء الرائعة المدغدغة لكل ما تلامسه… و تحت نور باهت منبعث من القمر المتربع بغرور على عرش السماء… وقفنا وجها لوجه أنا و وليد قلبي…

لأصف لكم مدى لهفتي إليه… سأحتاج وقتا طويلا… و لكن الفرصة ضئيلة أمامي… و العد التنازلي قد بدأ…

حسام و أبوه دخلا المنزل تاركـَين لنا حرية الحديث بمفردنا… و إن كنت لا أعرف أي حديث سيدور في لحظة كهذه …؟

نسمات الهواء أخذت تشتد و تحوّلت دغدغاتها إلى لكمات خفيفة لكل ما تصادفه

وليد بدأ الحديث من هذه النقطة :

” يبدو أن الريح ستشتد… إنه إنذار باقتراب الشتاء ! ”

” نعم… ”

” المكان هنا رائع… ”

و هو يشير إلى الحديقة من حوله…

” أجل… ”

و نظر إلي و قال :

” و يبدو أنك تستمتعين بوقتك هنا… ”

هززت رأسي إيجابا…

قال بصوت دافئ حنون :

” هل أنتِ … مرتاحة ؟ ”

قلت بسرعة :

” بالطبع… ”

ابتسم برضا … ثم قال :

” يسرني سماع ذلك… الحمد لله ”

هربت من نظراته و سلطت بصري على العشب… ثم سمعته يقول :

” ألا… تريدين… العودة إلى المزرعة ؟ ”

رفعت رأسي بسرعة و قد اضطربت ملامح وجهي…

وليد قال بصوت خافت :

” لا تقلقي… فأنا لن أجبرك على الذهاب معي… ”

ثم أضاف :

” أريد راحتك و سعادتك يا رغد… و سأنفذ ما ترغبين به أنت ِ مهما كان… ”

قلت موضحة :

” أنا مرتاحة هنا بين أهلي… ”

و كأن الجملة جرحته … فتكلّم بألم :

” أنا أيضا أهلك يا رغد… ”

تداركت مصححة :

” نعم يا وليد و لكن … و لكن … ”

و ظهرت صورة الشقراء مشوهة أي جمال لهذه اللحظة الرائعة …

أتممت :

” ولكنني… سأظل أشعر بالغربة و التطفل هناك… لن يحبني أحد كما تحبني خالتي و عائلتها… و لن أحب أحدا لا تربطني به دماء واحدة …”

نظر إلي ّ وليد بأسى ثم قال :

” تعنين أروى …؟ ”

فلم أجب، فقال :

” إنها تحبك و كذلك الخالة… و هما تبعثان إليك بالتحيات ”

قلت :

” سلّمهما الله… أنا لا أنكر جميلهما و العجوز علي… و لو كان لدي ما أكافئهم به لفعلت… لكن كما تعلم أنا فتاة يتيمة و معدومة… و بعد رحيلهما لم يترك والداك لي شيئا بطبيعة الحال… ”

و هنا توتر وليد و قال باستنكار :

” لم تقولين ذلك يا رغد ؟؟ ”

قلت مصرة :

” هذه هي الحقيقة التي لا يجدي تحريفها شيئا… أنا في الحقيقة مجرّد فتاة يتيمة عالة على الآخرين… و لن أجد من يطيقني و بصدر رحب غير خالتي ”

و ربما أثرت جملتي به كثيرا… فهو قد لاذ بالصمت لبعض الوقت… ثم نطق أخيرا:

” على كل… لا داعي لأن نفسد جمال هذه الليلة بأمور مزعجة… ”

ثم ابتسم ابتسامة شقّت طريقها بين جبال الأسى و قال:

” المهم أن تكون صغيرتي مرتاحة و راضية… ”

ابتسمت ممتنة…

قال :

” حسنا… يجب أن أذهب الآن قبل أن يتأخر الوقت أكثر… ”

تسارعت ضربات قلبي أكثر… لم أكن أريده أن يرحل… ليته يبقى معنا ليلة واحدة…أرجوك لا تذهب يا وليد…

قال :

” أتأمرين بأي شيء ؟ ”

ليتني أستطيع أمرك بألا ترحل يا وليد !

قلت :

” شكرا لك ”

كرر سؤاله :

” ألا تحتاجين لأي شيء ؟ أخبريني صغيرتي أينقصك أي شيء؟؟ ”

” كلا… ”

” لا تترددي في طلب ما تحتاجينه منّي… أرجوك رغد… ”

ابتسمت و قلت :

” شكرا لك… ”

وليد أدخل يده في جيبه ! أوه كلا ! هل يظن أنني أنفقت تلك الكومة من النقود بهذه السرعة ؟ لست مبذرة لهذا الحد !

كدت ُ أقول ( كلا ! لا أحتاج نقودا ) لكنني حين رأيت هاتفه المحمول يخرج من جيبه حمدت الله أن ألجم لساني عن التهور !

و للعجب… وليد قدّم هاتفه إلي ّ !

” ابقي هذا معك… اتصلي بي في المزرعة متى احتجت لأي شيء…”

نظرت إليه باندهاش فقال :

” هكذا استطيع الاتصال بك و الاطمئنان على أوضاعك كلما لزم الأمر دون حرج”

بقيت أحدق في الهاتف و في وليد مندهشة …

” و … لكن … !! ”

صدر التلكين منّي فقال وليد :

” لا تقلقي، سأقتني آخر عاجلا… يمكنني الاستغناء عنه الآن … خذيه ”

و بتردد مددت يدي اليمنى و أخذت الهاتف فيما وليد يراقب حركة يدي بتمعن !

قال :

” لا تنسي… اتصلي بي في أي وقت… ”

” حسنا… شكرا لك ”

وليد ابتسم بارتياح… ثم بدا عليه بعض الانزعاج و قال :

” سأنصرف الآن و لكن… ”

و لم يتم جملته، كان مترددا و كأنه يخشى قول ما ود قوله… تكلمت أنا مشجعة :

” لكن ماذا وليد ؟؟ ”

أظن أن وجه وليد قد احمر ! أو هكذا تخيّلته تحت ضوء القمر و المصابيح الليلية الباهتة…

وليد أخيرا نظر إلى عيني ثم إلى يدي الممسكة بالهاتف ثم إلى العشب… و قال:

” ارتدي عباءتك حينما يكون حسام أو أبوه حاضرين ”

ذهلت… و كاد قلبي يتوقف… و حملقت في وليد باندهاش …

وليد تراجع ببصره من العشب، إلى يدي، إلى عيني ّ و واصل :

” و لا داعي لوضع الخواتم في حال وجودهما… ”

الدماء تفجرت في وجهي … طأطأت ُ برأسي نحو الأرض في حرج شديد… توقفت أنفاسي عن التحرك من و إلى صدري و إن ظلّت الريح تعبث بوجهي و وشاحي الطويل… في حين حاولت يدي اليسرى تغطية خاتمي الفيروزي الجديد في يدي اليمنى …

وليد حاول تلطيف الموقف فقال مداعبا :

” و لكن افعلي ما يحلو لك ِ في غيابنا ”

ثم قال مغيرا المسار و خاتما اللقاء :

” حسنا صغيرتي… أتركك في رعاية الله … ”

~~~~~~~~

توالت الأيام، و الأسابيع … و أنا منغمس في العمل …
و اقتضى مني الأمر السفر إلى المدينة الساحلية من جديد… و لأن أروى لم تشأ مرافقتي، لم استطع أخذ رغد معي و السفر بمفردنا… و رغم أن الأمر كان غاية في الصعوبة إلا أنني دست على مشاعري و قلقي و تركت رغد دون رعايتي و سافرت بعيدا…
قبل سفري اتصلت بشقيقي سامر و طلبت منه أن يبقى على مقربة و اتصال دائمين من رغد و قد تعذّر بانشغاله في عمله و لكنه وعد بفعل ما يمكن…

أما أنا فقد اقتنيت هاتفا محمولا جديدا لرغد أعطيتها إياه حين مررت منها قبل سفري و استعدت هاتفي، و طلبت منها أن تبقى على اتصال بي شبه يومي…

و أنا أعيش في المنزل الكبير هناك في المدينة الساحلية، شعرت بوحدة قاتلة و تقلبت علي الكثير من المواجع… و صممت على أن أعيد لهذا البيت الحياة و النشاط عما قريب…

حصلت على إذن من شقيقي ّ للتصرف المطلق بالمنزل، و الذي أصبح ملكا مشتركا لنا نحن الثلاثة، بعد وفاة والدي رحمه الله…

وكلت عمّال شركة متخصصة لتنظيفه كليا، و من ثم أعدت صبغه و جددت أثاثه و أجريت الكثير من التعديلات فيه… غير أنني تركت غرف نوم والديّ – رحمهما الله – و سامر و دانة و كذلك الحديقة الخلفية كما هي… و ركنت ُ في الحديقة بعض الأشياء القديمة إلى جوار أدوات الشواء… التي تعرفون…

كنت معتزما على الانتقال للعيش الدائم في المنزل، و إليه سأضم رغد و سامر… و أروى مستقبلا…
و حين تعود دانة من الخارج، فلا أجمل من أن تنضم إلينا…

كنت أريد أن ألملم شمل العائلة المشتتة… و أن نعود للحياة معا كما كنا قبل أن تفرّقنا الحرب و ظروفها التعيسة…

و لأنني أصبحت أدير أحد أكبر و أهم مصانع المدينة، فإن نفوذي قد اتسع كثيرا و سلطتي قد ارتفعت لحد كبير…

و مع ذلك… لم تخل ُ المسألة من الهمز و اللمز… و النظرات الماكرة و الهمسات الغادرة ممن عرفوا بأنني قاتل عمّار… و استقال السيد أسامة من منصبة للأسف… إثر هذا الخبر… ولاء ً لصديقه الراحل عاطف… و انتشرت شائعات مختلفة حولي و حول زواجي من أروى… و وجدت نفسي أكثر وحدة و حاجة للدعم المعنوي و الفعلي ممن أثق بهم…

ألححت على سامر لترك عمله في تلك المدينة و عرضت عليه العمل معي في المصنع، و هيّأت ُ له منصبا مرموقا مغريا و لكن سامر كان مترددا جدا

أعربت له عن رغبتي في لم شمل العائلة من جديد… شرحت له بتفصيل دقيق ظروف عملي الحالي و كيف أن الحياة تبدلت معي كثيرا… و أنني الآن محتاج إليه أكثر… غير أن سامر على ما بدا منه كان لا يزال في حداد على والدي ّ لم يفق منه…

و بالنسبة لرغد فقد خططت لإلحاقها بإحدى الجامعات و خصصت ُ جزء ً من دخلي الخاص من إدارة المصنع لتغطية تكاليف الدراسة…

أما المنزل المحترق، فقد أبقيناه على حاله حتى إشعار آخر… و تنازلت عن نصيبي فيه وسجلته باسمها أيضا…

أما عن أوضاع البلاد… فلا تزال الفوضى تعم العديد من المدن و تقتحم المزيد… و السجون قد امتلأت و فاضت بالمعتقلين عدلا أو ظلما…

عندما عدت ُ إلى المدينة الصناعية في المرة التالية، كانت رغد خارج المنزل و استقبلتني أم حسام استقبالا كريما

رغد كانت قد أعلمتني عن رغبتها في قضاء بعض المشاوير الضرورية ذلك اليوم – وهي تعلمني عن تحركاتها دائما، و قد لاحظت ُ تكرر ذلك مؤخرا – و رغم انزعاجي من الأمر تركتها تخرج مع ابن خالتها مطمئنا إلى وجود ابنتي خالتها معها

و عندما علمت بعد ذلك أنهما لم ترافقاها أصبت بنوبة غضب …

” و هل هي معتادة على أن يوصلها حسام إلى حيث تريد، بمفردهما ؟”

وجهت سؤالي المستنكر إلى أم حسام ففهمت استهجاني و أجابت:

” في مرات قليلة … ”

قلت حانقا :

” و لكن لماذا لم ترافقها إحدى ابنتيك يا خالتي ؟ ”

قالت:

” نهلة منهمكة في تعليم سارة دروسها الصعبة… و لكن لم كل هذا الانزعاج يا بني؟ إنه ابن خالتها و أقرب الناس إليها ”

و لم تعجبني هذه الكلمة… فالتزمت الصمت.

و يبدو أن أم حسام وجدتها فرصة ملائمة لطرح موضوع ما فتئ يشغل تفكيرها و ربما تفكيرنا جميعا …

” وليد يا بني… ألا ترى أن الأوان قد حان… حتى نربط بينهما شرعيا ؟ ”

كنت أخشى أن تفتح الموضوع خصوصا و أنا في وضعي الراهن…

قلت مباشرة :

” إنه ليس بالوقت المناسب ”

قالت :

” لماذا ؟ يهديك الله … أليس ذلك أفضل لنا جميعا؟ ها هما يعيشان في بيت واحد و تعرف كيف هي الأمور… ”

قلت بغضب :

” كلا يا خالتي. يستحيل أن أزوّج رغد بالطريقة التي زوّجها والدي بها… لن أجعلها ضحية للأمر المفروض ثانية… ”

أم حسام قالت معترضة :

” أي ضحية يا بني ؟ إنه زواج مقدّس… و حسام يلح عليّ لعرض الأمر لكنني رأيت تأجيله لحين عودتك… بصفتك الوصي الرسمي عليها ”

نفذ صبري فقلت بفظاظة :

” أرجوك يا أم حسام… أجلي الموضوع لما بعد ”

” لأي وقت ؟؟ ”

قلت :

” على الأقل … إلى أن تحصل على شهادة جامعية و تكبر بضع سنين… ”

تعجبت أم حسام… لكنني تابعت :

” و يكبر حسام و يصبح رجلا راشدا مسؤولا ”

” و هل تراه صبيا الآن !؟ ”

لم أتردد في الإجابة … قلت مباشرة :

” نعم ! ”

و لأنها استاءت و هزت رأسها استنكارا أضفت :

” يا خالتي… أنا اعتبر الاثنين مجرد مراهقين… فالفرق بينهما لا يبلغ العامين… و إذا كان في وجودها هنا حرج على أحد فأنا سآخذها معي و أدبر أمورها بشكل أو بآخر… ”

عند هذا الحد انتهى حوارنا إذ أن البوابة قد فتحت و أقبل الاثنان يسيران جنبا إلى جنب…

الناظر إليهما يفكر في أنهما خطيبان منسجمان متلائمان مع بعضهما البعض… و كان يبدو عليهما المرح و البسمة لم تفارق شفاههما منذ أطلا من البوابة…
هذا المنظر أوجعني كثيرا… لو تعلمون…

أقبل الاثنان يرحبان بي بمرح… و كان جليا عليهما السرور… و لا أظن أن السرور كان بسبب قدومي… بل بسبب آخر أجهله للأسف…

رغد كانت مبتهجة جدا… و كانت فترة طويلة قد مضت مذ قابلتها آخر مرة… و فيما أنا هناك أتحرق شوقا إليها و قلقا عليها، تقضي هي الوقت في المرح مع ابن خالتها هذا…
و شتان بين البهجة التي أراها منفتحة على وجهها الآن و بين الكآبة و الضيق اللذين لطالما رافقاها و هي تحت رعايتي… الشهور الماضية…

” تبدين في حالة ممتازة… واضح أن خالتك و عائلتها يعتنون بك جيدا ”

قلت متظاهرا بالبرود و العدم الاكتراث

ابتسمت هي و قالت :

” بالطبع ”

أما حسام فضحك و قال :

” و ندللها كثيرا و نضع رغباتها نصب أعيننا ! إنها سيدة هذا المنزل ! ”

رغد نظرت إليه و قالت بمرح :

” لا تبالغ ! ”

قال مؤكدا :

” بل أنت ِ كذلك و ستظلين دائما كذلك ! ”

فيما بعد… تناولت القهوة مع حسام في المجلس… و رأيتها فرصة متاحة أمامي فسألته عن خططه المستقبلية و تطلعاته للغد… فوجدته للحق شابا طموحا متحمسا متفائلا بالرغم من طبعه المرح….
كنت حريصا على أن أعرف… إلى أي مدى كانت فكرة الزواج من رغد… لا تزال تسكن رأسه…
سألته :

” و … ماذا بشأن الزواج ؟ ”

حسام ابتسم و قال :

” إنه أول ما أطمح إليه… و آمل تحقيقه ”

قلت :

” و … هل أنت مستعد له ؟ ”

تهللت أسارير حسام و كأنه فهم منّي إشارة إلى موضوعه القديم… فقال فرحا:

” للخطوبة على الأقل… لا شيء يمنع ذلك ”

و انتظر منّي التأييد أو حتى الاعتراض، غير أنني بقيت صامتا دون أي تعليق… مما أثار فضول حسام الملح و دفعه للسؤال المباشر:

” ألديك مانع ؟ ”

قلت متظاهرا بعدم الاكتراث :

” عن أي شيء؟ ”

” عن… الخطوبة… في الوقت الراهن…؟ ”
إذن… فأنت متلهّف للزواج من ابنة عمّي ؟؟

تجاهلت سؤاله وأنا أحترق في داخلي… و أفكر في الرسالة الهامة التي يجب أن تصل إلى هذا الشاب المندفع حتى يتوقف عن التفكير برغد…

حسام لما رأى صمتي قد طال عاد يسأل :

” هل توافق على خطوبتنا الآن ؟ ”

نظرت إليه بحدقتين ضيقتين ضيق صدري المثقل بشتى الهموم… ثم هززت رأسي اعتراضا…
شيء من الحيرة و الضيق علا وجه حسام الذي قال:

” لماذا؟ ”

الجد طغى على وجهي و أنا أقول أخيرا :

” اسمعني يا حسام… فكرة الزواج التي تدور في رأسك هذه استبعدها نهائيا خلال السنوات المقبلة… لأنني لن أوافق على تزويج ابنة عمي قبل أن ألحقها بإحدى الجامعات… و تحصل على شهادة جامعية… لا تطرح الموضوع ثانية… قبل ذلك… هل هذا واضح ؟؟ ”

~~~~~~~

” ستذهب بهذه السرعة ؟ ”

سألته و نحن نسير باتجاه البوابة و هو في طريقه للمغادرة بعد زيارته القصيرة لنا… بالرغم من طول الزمن الذي قضاه بعيدا عني…
وليد كان منزعجا جدا أو ربما متعبا من السفر… لم يكن على سجيته هذا اليوم…

” إنني مرهق جدا و بحاجة للراحة الآن… لكني سأعود قريبا يا رغد ”

قلت بشيء من التردد :

” لم لا تقضي الليلة هنا ؟ سيرحب الجميع بذلك ”

” لا شك عندي في كرم العائلة و لكني لا أريد أن أثقل عليهم … ألا يكفي أنهم يعتنون بك منذ زمن ؟؟ ”

” لا تظن أن العناية بي تضايقهم يا وليد… إنهم يحبونني كثيرا ”

” أعر ف ذلك ”

وليد ألقى علي نظرة مبهمة المعنى ثم أضاف :

” و أنت ِ مرتاحة لوجودك بينهم … ”

قلت متأكدة :

” لأقصى حد ”

وليد تنهّد بضيق و قال :

” لكن الفترة طالت يا رغد… أما اكتفيت ِ ؟؟ ”

نظرت إليه بتعجب … جاهلة ما المقصود من كلامه… فأوضح :

” تعرفين أنني أبقيتك هنا بناء على رغبتك و إصرارك… من أجل راحتك أنتِ … لكنني غير مرتاح لهذا يا رغد… ”

و بدا عليه الأسى و قلة الحيلة…

” لماذا ؟ ”

سألته فأجاب :

” أنا لا أشعر بالراحة عندما لا تكونين تحت رعايتي مباشرة… إنني المسؤول عنك و أريد أن أتحمّل مسؤوليتي كاملة… يجب أن تكوني معي أنا… ولي أمرك ”

قلت مباشرة :

” لكنني لا أريد العودة إلى المزرعة… أرجوك يا وليد لا ترغمني على ذلك ”

و يظهر أن جملتي هذه أزعجته بالقدر الذي جعله يتوقف بعصبية يزداد ضيقا و يقول :

” أنا أرغمك ؟ رغد ماذا تظنينني؟ عندما أخذتك للمزرعة لم يكن لدي المال لأوفر لك سكنا يناسبك… و عندما أخذتك للمدينة الساحلية لم أكن أعلم كم من الوقت سأمضي هناك و لم أشأ تركك بعيدة عني… و ها أنا قد تركتك بعيدة كل هذا الوقت تنفيذا لرغبتك أنت… و تقديرا لشعورك أنت ِ … فهل لا قدرت شعوري أنا بالمسؤولية و لو لبعض الوقت ؟؟ ”

الطريقة التي كان يخاطبني بها دقت في رأسي أجراس التنبيه… وليد لم يتحدّث معي كهذا مسبقا… بقيت كلماته ترن في رأسي لفترة

بعدها قلت برجاء :

” لا أريد العودة إلى المزرعة … أرجوك… افهمني ”

تنهد وليد تنهيدة تعب و قال :

” لن آخذك إليها ما لم ترغبي في ذلك… و لكن… عندما أعود إلى المدينة الساحلية… يجب أن تأتي معي ”

نظرت إلى الأرض مذعنة … دون أن أتحدّث…

” اتفقنا ؟ ”

قلت باستسلام :

” نعم ”

تنهّد وليد بارتياح هذه المرة… و قال :

” هذا جيّد ”

ألقيت نظرة عليه فرأيت في عينيه بعض الامتنان… لكن التعب كان طاغ ٍ على قسمات وجهه… و مزيج من الضيق و القلق كان يتسلل من بؤبؤيه…
تنفس بعمق ثم قال :

” و مرة أخرى يا رغد… إذا احتجت ِ لأي شيء فأبلغيني أنا… و … رجاء يا رغد… رجاء… لا تخرجي ثانية مع حسام بمفردكما ”

أثارتني الجملة و تعلّقت عيناي بعينيه في استغراب… ما الذي يظنه وليد و ما الذي يفكر به ؟؟

قلت مبررة :

” لقد أوصلني إلى الصالون و… ”

بترت جملتي ثم قلت :

” لماذا ؟ ”

وليد قال بضيق شديد :

” أرجوك يا رغد… حتى و إن كان ابن خالتك المقرّب… يبقى رجلا غير محرم لك… لا أريدك أن تتحدثي أو تضحكي أو تخرجي معه بهذه الحرية… ”

~~~~~~~~~

كنت متعبا لذا فإني فور وصولي إلى المزرعة أويت للفراش…
و حقيقة ً منعتني صورة رغد و حسام و هما يقفان جنبا إلى جنب مبتسمين… من النوم المريح
لم يعد باستطاعتي أن أتحمّل فكرة بقائها معه في بيت واحد… أكثر من هذا…

في الصباح التالي أخبرت أروى عن تفاصيل سفري و ما أنجزته في العمل و المنزل طرحت عليها فكرة الانتقال للعيش في منزلنا الكبير لنبقى على مقربة من أملاكها… خصوصا بعد استقالة السيد أسامة…

” لا أحبذ ذلك يا وليد… أحب هذه المزرعة و أريد العيش فيها للأبد ”

” و لكن يا أروى… سيشق علي أمر رعاية و إدارة أملاكك هكذا… لا أجد من يمكنني الاعتماد عليه الآن ”

أروى فكرت قليلا ثم قالت :

” نسافر أنا و أنت ؟ ”

قلت :

” و رغد و الخالة أيضا ”

ردت بسرعة :

” أمي لن تأتي معنا… لن توافق على ذلك… لا تريد ترك المزرعة أو خالي هكذا ”

تنهّدت في حيرة من أمري… كيف لي أن ألملم شمل العائلة و أضم أهلي جميعا في منزل واحد ؟؟

قالت أروى بعد تفكير قصير :

” لكن إذا تزوجنا يا وليد… فسيسهل الأمر ”

نظرت إليها فرأيت الفكرة تنبعث من عينيها بقوة… و قد كان الجميع من حولي يلح علي بالزواج و يراه الوقت المناسب… و ربما كان بالفعل الوقت الناسب عند كل شيء… إلا قلبي…

قلت :

” لا يمكننا أن نتزوج الآن يا أروى ”

” لماذا يا وليد ؟ عـُد… كم من الشهور مضت… ”

قلت بضيق :

” أعرف … لكني سبق و أن أخبرتك بأنني لن أتزوج قبل أن أزوّج رغد ”

قالت أروى :

” ماذا يمنعك من تزويجها الآن ؟ ألم يعد ابن خالتها يرغب بذلك ؟ ”

و كأنها كانت الشرارة التي أشعلت البنزين ! لا أنقصك ِ أنت ِ أيضا يا أروى…

قلت بعصبية :

” أروى أرجوك… لا تناقشي هذا الأمر معي مجددا… فهو لا يعنيك ”

و يبدو أنني كنت قاسيا إذ أن أروى أشاحت بوجهها في حزن… شعرت بالندم فقلت مسترضيا:

” دعيني أدبّر أمور الصغيرة بنفسي… إنها تحت وصايتي أنا و لا يمكنني أن أولي مسؤوليتها لأي كان قبل بضع سنين…”

أروى استدارت إلي و قالت :

” ألست تبالغ يا وليد؟ إنها امرأة بالغة كما ترى و ليست طفلة… فلماذا تصر على اعتبارها صغيرة لهذا الحد؟ ”

نظرت إليها بعمق و لا أدري إن كنت أخاطبها أم أخاطب نفسي… أم أخاطب رغد… أم أخاطب حسام …
أمام مرآي صورة رغد و هي تسير جوار ابن خالتها و كأنها أصبحت شيئا يخصّه…
هل أتنازل عنها بهذه السهولة ؟؟

قلت :

” أنت لا تعرفين شيئا يا أروى… حاولي أن تفهميني … ”

و أطلقت تنهيدة أسى و تابعت :

” رغد هذه… طفلتي منذ سنين… لقد ربيتها على ذراعي… ”

رفعت ذراعي في الهواء قليلا…

” حملتها بيدي هاتين و هي طفلة صغيرة… ”

و ضممت ذراعي إلى صدري …

” و نوّمتها في حضني هاهنا… ”

و أغمضت عيني ّ …

” لسبع سنين متواصلة… هنا في حضني… أقرب إلي من أي شيء آخر… ”

و أحسست بحرارة في جفوني… أظن أن دموعا حزينة مكبوتة كانت تنذر بالانهمار…
إنه ذلك المنظر… يصهر دموعي…
كيف تميلين يا رغد إلى رجل غيري؟ كيف تفسحين المجال لحسام لأن يفكر بالزواج منك؟ كيف تسمحين له بأن يقترب منك؟ و كيف تريدين منّي تركك ِ معه و أنا أراه يوشك على الاستحواذ عليك؟ كلا … لن أسمح لك يا رغد … بأن تكوني لغيري…

فتحت عيني و أنا أحدّق في اللاشيء… من ذكريات الماضي المدفونة في أعماق صدري …

” وليد ! ”

انتبهت لصوت أروى فنظرت إليها بألم …

” ماذا دهاك ؟؟ ”

فلا بد أنها لحظت شرودي و حزني… و لو أنها قلبت جفوني لرأت ذلك المنظر مطبوعا عليها…

قلت :

” لا يمكنني التخلي عن رغد بهذه السهولة يا أروى… و لتعلمي … أنها ستظل أمانة مربوطة في عنقي… و صغيرة أظللها تحت جناحي ّ … و تابعة مقترنة بوليد حتى الموت… ”

~~~~~~~

” هذه أوامر بابا وليد ! ”

قلت ذلك و أنا أعتذر عن الذهاب معها إلى الصالة و مشاركة بقية أفراد العائلة الجلسة و الحديث…

نهلة تأملتني باستنكار و قالت :

” و هل طلب منك ألا تخرجي من الغرفة ؟ ”

قلت :

” لا . لكنه نهاني عن الحديث أو الضحك مع أو أمام والدك و شقيقك ! ”

نهلة ضحكت بسخرية ثم قالت :

” و هل يخشى عليك من أبي ؟؟ بربّك إنه في عمر والدك ! أما حسام فهو حسام ! ما الذي جد في الأمر ؟؟ ”

قلت بإصرار :

” لن آتي معك يعني لن آتي معك ! ”

وضعت نهلة يديها على خصريها و تأففت !

” ممنوع لبس الحلي… ممنوع لبس الأوشحة الملونة… ممنوع خلع العباءة… ممنوع الخروج مع حسام … ممنوع الضحك… ممنوع الكلام! ثم ماذا يا رغد؟ هل سيمنعك من التنفس أيضا ؟ ”

نظرت إلى السقف متجاهلة تعليقها… فعادت تقول:

” لماذا يفعل ذلك ؟ ”

لم تفارق عيناي السقف…

قالت بمكر :

” يغار عليك ِ ؟ ”

نظرت إليها بسرعة ثم قلت :

” أي غيرة ؟ إنه مسألة آداب و حدود شرعية ! ابن عمّي ملتزم جدا ”

ابتسمت هي بمكر و كأن كلامي يناقض بعضه البعض… و قالت :

” ألم يكن هو بنفسه يتحدث معك و يضحك و يصطحبك وحدكما إلى أي مكان؟ أنت من كان يخبرني بذلك ! ”

علتني حمرة بسيطة فقالت نهلة :

” إنه يغار عليك ِ ! ”

قلت معترضة – و إن تمنّيت لو كان كلامها صحيحا :

” أوه أنت ِ لا تفهمين شيئا ! إنه يعاملني كابنته ! لا يرى في ّ إلا طفلة صغيرة بحاجة للرعاية و النصح .. أما حسام … فتعرفين ! ”

رمتني نهلة بنظرة خبيثة ذات مغزى من طرف عينيها ثم غادرت الغرفة تاركة إياي في حمرتي و أمنيتي الوهمية…

حتى و لو شعر بالغيرة علي فهذا من ضمن شعوره بالمسؤولية نحوي، و ليس بالحب…

و راودتني آنذاك فكرة بأن أتصل به ! لم يكن لدي أي حاجة لذلك غير أنني رغبت في الحديث معه و الإحساس بقربه… و الاطمئنان عليه…

تناولت الهاتف المحمول الذي أهداني إياه قبل فترة و اتصلت بهاتفه…

” مرحبا ”

أتعرفون صوت من كان؟؟ إنها أروى !

للوهلة الأولى كدت أنهي المكالمة غير أنني سيطرت على نفسي و تكلّمت :

” مرحبا أروى ”

” كيف حالك يا رغد ؟ ”

” أنا بخير ”

” مضت فترة طويلة … ! ”

قلت في نفسي : ( لا أظنك اشتقت ِ إلي ! )

” نعم… كيف الخالة ؟ ”

” بخير و الحمد لله ”

” أيمكنني التحدث إلى وليد ؟ ”

سألتها مباشرة دون المماطلة في الحديث معها… فأجابت :

” إنه نائم الآن… ”

” نائم ؟ في هذا الوقت ؟ ”

و قد كانت السادسة مساء

” نعم. شعر بالتعب ثم خلد للنوم… هل تريدينه في أمر ضروري الآن ؟ ”

قلت :

” كلا كلا… لكن هل هو بخير ؟ ”

فقد أقلقتني جملتها الأخيرة…

” نعم، كل ما هنالك أنه مجهد من العمل و السفر و كثرة المسؤوليات الملقاة على عاتقه…المزرعة…المعهد…المصنع…المنزل…و أنا و أنت ِ ! ”

أنا و أنت ِ؟؟ ما الذي قصدته أروى ؟
هل تريد القول … أنني أشكل عبئا إضافيا على وليد؟؟
إنني اخترت البقاء في بيت خالتي لأخلصه من مشاكلي و أتخلص من مشاحناتي مع أروى…

قلت بتردد :

” هل اشتكى من شيء ؟ ”

قالت :

” وليد لا يشتكي… إنه يحمل الهم على صدره دون الشكوى… يريد أن نستقر في حياتنا لولا أن الظروف تحول دون ذلك ”

قلت بتخوف :

” تستقران يعني… تتزوجان ؟ ”

أجابت أروى :

” نعم… نخطط للزواج و من ثم السفر للاستقرار في المدينة الساحلية حيث أملاكي… لكن… سيشق على وليد رعايتك عن كل ذلك البعد ”

و صمتت قليلا ثم تابعت :

” إنه لا يريد أن نتزوّج قبل أن تتزوجي أنت ِ يا رغد… حتى ينقل ولاية أمرك و مسؤوليتك لرجل آخر… ”

ربما لم أدرك أن الرسالة التي كانت أروى تود إيصالها إلي هي : ( زولي عن عاتق وليد ) إلا بعد تفكير عميق أسود…
كنت أدرك أنني أشكل عبئا إضافيا على أكتاف الجميع… و أن رحيل والدي عني تركني عالة على الغير… لكني لم أدرك إلى أي حد قد أثقلت كاهل ابن عمّي حتى هذا اليوم… و لم أدرك أنني كنت العقبة في سبيل زواجه و استقراره مع الحسناء بهذا الشكل…

شعرت بالذل و الهوان بعد مكالمتي القصيرة مع أروى… و شعرت بألم شديد في صدري… و بالندم على كل ما سببته لوليد من تعاسة بسبب وجودي في حياته و تحت مسؤوليته

و تذكرت الضيق الذي كان يعيشه أيام سفر والدي إلى الحج… حينما اضطر لرعايتنا أنا و دانة… و نفاذ صبره في انتظار عودتهما… و هما للأسف لم يعودا
و لأشد الأسف… لن يعودا…
و تذكرت لقائي الأخير به و كيف بدا مرهقا ضجرا… و كأن جبلا حديديا يقف على كتفيه… و كيف أنه غادر عاجلا… ناشدا الراحة…

تريد أن تتزوج يا وليد؟
تريد أن تتخلص مني؟؟
حسنا
سأريحك من همّي
و ليفعل كل منا ما يريد !

بعد ذلك انضممت إلى أفراد عائلة خالتي و أخذت أشاركهم الأحاديث و الضحك ضاربة بعرض الحائط أي توصيات من وليد… !

مرت بضعة أيام قاطعت فيها وليد و أبقيت هاتفي المحمول مغلقا و تهربت من اتصالاته بهاتف المنزل… و لم ألتزم بلبس العباءة داخل المنزل كما طلب منّي ، بل اكتفيت بالأوشحة الطويلة الساترة كما و أوصلني حسام مرتين أو ثلاث بمفردنا إلى أماكن متفرقة…و عمدت مؤخرا إلى التلميح له عن قبولي فكرة الزواج منه… مبدئيا

حسام كان مسرورا جدا و يكاد يطير بي فرحا… و عاملني بلطف مضاعف و اهتمام مكثف بعد ذلك…

كنت أعرف أنه يحبني كثيرا… و مندفع بعواطفه تجاهي بكل صدق و إخلاص… و أنه ينتظر مني الإشارة حتى يتحول مشروع خطبتنا المستقبلي إلى حاضر و واقع…
و هو واقع… لا مفر لي منه… بطبيعة الحال…

علمت من حسام أنه فتح الموضوع مجددا أمام وليد في زيارته الأخيرة… و أن وليد أغلقه… و لكن تأييدي سيحدث و لا شك تغييرا…

لماذا يعارض وليد زواجي ؟ أليس في هذا حل لمشاكلنا جميعا؟؟

أصبح موضوع زواجنا أنا و حسام هو الحديث الشاغل لأفراد العائلة طوال الوقت و كان الجميع مسرورين به و بدؤوا يرسمون الخطط لتنفيذه…

ذات يوم، و كان يوما ماطرا من فصل الشتاء… و كنا نجلس جميعا حول مدفئة كهربائية نستمد منها الحرارة و الحيوية… و كنت ألبس ملابس شتوية ثقيلة و ألف شعري بلحاف صوفي ملون… أتانا زائر على غير موعد…

لم يكن ذلك الزائر غير وليد !

كان أسبوعان قد مضيا على زيارته الأخيرة لي… سمعنا أبو حسام يقول و هو يقف عند المدخل بصوت عال ٍ :

” هذا وليد … ”

فقامت خالتي و ابنتاها منصرفات، ثم عادت خالتي بالحجاب…

ثم فتح الباب سامحا لوليد بالدخول و مرحبا به…

رافقت وليد رياح قوية اندفعت داخلة إلى المنزل جعلت أطرافي ترتجف رغم أنني كنت أجلس قرب المدفئة…

” تفضل يا بني… أهلا بك ”

قالت ذلك خالتي مرحبة به و قام حسام ليصافحه و هو يبتسم و يقول :

” كيف استطعت السير في هذا الجو ؟؟ ”

” ببعض الصعوبات ”

من خلال صوته المخشوشن أدركت أن وليد مصاب بالزكام !

كان وليد يلبس معطفا شتويا طويلا يظهر أنه تبلل بقطرات المطر…

” اقترب من المدفئة ! و أنت يا رغد حضّري بعض الشاي لابن عمّك ”

قالت ذلك خالتي فأذعنت للأمر…

عندما عدت بقدح الشاي إلى وليد وجدته يجلس قرب المدفئة مادا يديه إليها… ناولته القدح فأخذه و لم يشكرني… بل إنه لم حتى ينظر إلي !

أما أنا فقد تأمّلت وجهه و رأيت أنفه المعقوف شديد الاحمرار و عينيه متورمتين بعض الشيء…

تحدث وليد و كان صوته مبحوحا جدا أثار شفقتي… مسكين وليد ! هل تتمكن الجراثيم منك أنت أيضا ؟؟

و الآن وجه خطابه إلي :

” لماذا لم تردي على اتصالاتي يا رغد؟ ماذا حدث للهاتف؟ ”

لم يجد ِ التهرب من الإجابة، قلت :

” لا شيء ! ”

صاد صمت قصير … ثم قال وليد :

” كنت أود إبلاغك عن قدومي و عن أمر السفر إلى المدينة الساحلية كي تستعدي”

نظرت إليه ثم إلى خالتي و حسام، و عدت إليه قائلة :

” استعد ؟ ”

قال :

” نعم، سترافقينني هذه المرة ”

لم أتجاوب أول وهلة… ثم هززت رأسي و أنا أقول :

” لكنني … لكنني … لا أريد السفر ”

و تدخلت خالتي قائلة :

” و لماذا ترافقك يا بني ؟؟ ”

قال وليد :

” لأنني سأطيل البقاء بضعة أشهر… من أجل العمل ”

قالت خالتي :

” و ماذا في ذلك؟؟ لماذا تريد أخذها معك ؟؟ ”

التفت وليد نحو خالتي و قال :

” ليتسنى لي رعاية أمورها بنفسي كل هذه الشهور ”

ساد الصمت القصير مرة أخرى ثم قالت خالتي :

” اطمئن من هذه الناحية ”

و أضاف حسام :

” سافر مطمئنا فكل شيء يسير على ما يرام هنا ”

وليد التفت إلى حسام و قد بدت عليه علامات الغضب ! ثم قال محاولا تقوية صوته المبحوح قدر الإمكان :

” سآخذها معي والأمر مفروغ منه ”

و استدار إلي و تابع :

” استعدّي ”

هذه المرّة يبدو وليد خشنا فظا… هل للزكام علاقة بذلك ؟؟

قلت :

” هل ستذهب الشقراء معك ؟ ”

قال :

” نعم ”

قلت مباشرة و بانفعال :

” لن أذهب ”

و امتلأ الجو بالشحنات المتضادة … و تولدت في الغرفة حرارة ليس مصدرها المدفئة فقط..

وليد قال بصبر نافذ :

” ستأتين يا رغد… كما اتفقنا سابقا… فأنا لن أتركك بعيدا كل تلك الشهور… قد يمتد الأمر إلى سبعة أو حتى عشرة أشهر… لن أتمكن من المجيء إلى هنا بين الفينة و الأخرى… الأمر شاق علي ”

قلت :

” و لماذا تكلّف نفسك هذا العناء ؟ أنا بخير هنا فسافر مطمئنا جدا… ”

و التفت مشيرة إلى خالتي و حسام و مضيفة :

” الجميع هنا يهتم بأموري فلا تشغل بالا ”

لم يعجب وليد حديثي و ازداد احمرار أنفه و وجهه عامة … ثم تحدّث إلى أبي حسام قائلا :

” هل لي بالحديث معها وحدها… إن سمحتم ؟ ”

حسام و خالتي تبادلا النظرات المتشككة ثم انصرفا برفقة أبي حسام… و بقينا أنا و وليد و الحرارة المنبعثة من المدفئة و الشرر المتطاير من عينيه … و الجو المشحون المضطرب … سويا في غرفة واحدة !

كنت أجلس على طرف أحد المقاعد، بينما وليد على يجلس على مقعد بعيد بعض الشيء…

بمجرد أن خرج الثلاثة… وقف وليد منتفضا… و أقبل نحوي…
وجهه كان مخيفا… يتنفس من فمه … ربما بسبب الزكام أو ربما بسبب الحالة المنفعلة التي كان عليها …

نظرت إليه بتخوف و ازدردت ريقي !

قال فجأة :

” هل لي أن أعرف أولا… يا ابنة عمّي… لماذا لا ترتدين عباءتك ؟ ”

فاجأني سؤاله الذي جاء في غير موقعه… و دون توقعه… تلعثمت و لم أعرف بم أجيب !

لقد كنت أرتدي ملابس شتوية ثقيلة و محتشمة و فضفاضة، و داكنة الألوان… و حتى وشاحي الصوفي الطويل كان معتما… اعتقد أن مظهري كان محتشما للغاية… فهل يجب أن أرتدي فوق كل هذه الأكوام عباءة سوداء ؟!

لما وجد وليد مني التردد و قلة الحيلة قال :

” ألم أطلب منك … أن تضعي عباءتك كلما تواجد حسام أو أبوه معك ؟ ”

قلت متحججة :

” لكنهما متواجدان معي دوما ”

قال بغضب :

” إذن ارتدي العباءة دوما… ”

لم أعلّق لأن طريقته كانت فظة جدا … ألجمت لساني…

” و شيء آخر… إلى أين كنت ِ تذهبين؟ كلما اتصلت أخبروني بأنك غير موجودة… و هل كنت ِ تخرجين مع حسام وحدكما ؟ ”

قلت مستغربة و منزعجة :

” وليد … ؟ ”

قال بحدة :

” أجيبيني يا رغد ؟؟ ”

وقفت بعصبية و استياء و استدرت هامة بالمغادرة… كيف يجرؤ !؟
إلا أن وليد أمسك بذراعي و حال دون هروبي…

قلت:

” دعني و شأني ”

قال و هو يعضّ على أسنانه :

” لن أدعك تفعلين ما يحلو لك… يجب أن تدركي أنك لست ِ طفلة بل امرأة و أن ابن خالتك الشاب المندفع هذا يطمح إليك ”

جذبت ذراعي من قبضته و أنا في دهشة فائقة… وليد قال :

” أنا لا اسمح له بأن ينظر إليك و أنت هكذا … ”

ازددت دهشة … ما الذي يجول بخاطر وليد ؟؟ و كيف يفكّر ؟؟

قلت :

” وليد !! ماذا أصابك ؟؟ ابن خالتي شاب مهذّب و هو يرغب في الزواج منّي .. و الجميع يعرف ذلك بما فيهم أنت ”

و لم تزده جملتي إلا ثورة !

قال بغضب :

” و أنا قلت لك… و له… و للجميع… بأنني لن أوافق على مثل هذا الزواج و لن أسمح بأن يتم قبل سنين… أسمعتِ يا رغد ؟ ”

صرخت :

” لماذا ؟ ”

قال :

” لأنني لا أريد ذلك… أنا الوصي عليك و أنا من يقرر متى و ممن أزوّجك… و إن ألح أحد علي بهذه الفكرة مجددا فسأحذفها من رأسي نهائيا ”

ذهلت لكلامه و لم أصدق أذني ّ… حملقت فيه و لم يقو َ لساني على النطق…

التفت َ وليد يمنة و يسرة في تشتت كأنه يبحث عن الكلمات الضائعة… و أخذ يضرب راحته اليسرى بقبضته اليمنى بغضب… ثم حدّق بي فرأيت عضلات فكه تنقبض و هو يضغط على أسنانه بانفعال كمن يمزّق لقمة صلبة بين فكيه…

وليد صرخ بصوته المبحوح و هو في قمة الغضب و التهيّج :

” و تريدين منّي أن أتركك هنا؟ كيف أكون مطمئنا إلى ما يدور بعيدا عن ناظري؟ لماذا لا تلتزمين بما طلبته منك؟ حتى و إن كان أقرب الناس إليك لا أسمح لك بالظهور أمامه بلا عباءة… إن حدث و تزوجته يوما فاعلي ما يحلو لك ِ و لكن و أنت ِ تحت وصايتي أنا فعليك التقيد بما أطلبه منك أنا يا رغد… أنا و أنا فقط … و أنا أحذرك من تكرارها ثانية… هل هذا مفهوم ؟ ”

يكاد قلبي يتوقف من الخوف… و وليد يتحرك شعرت و كأن قبضته اليمنى على وشك أن تضربني أنا الآن !… أحملق فيه بدهشة و ذعر فيرد علي بصرخة تصفع وجهي قبل أن تثقب طبلتي أذني :

” هل هذا مفهوم أم أعيد كلامي ؟ أجيبي ؟؟ ”

ينتفض بدني و تصدر منه ارتجافة و أهز رأسي إيجابا…

وليد هدأ بعض الشيء و أخذ يمر بأصابعه على شعره الكثيف و يتنهد بضجر… و يبتعد عنّي…

شعرت بالغيظ… بالقهر… بالذل …
كيف يجرؤ وليد على التحكم في حياتي بهذا الشكل؟؟
و كيف يصرخ بوجهي بهذه الطريقة الفظة ؟
بل كيف يخاطبني بهذا الأسلوب الخشن؟
إن أحدا لم يصرخ بوجهي هكذا من قبل…

تملكتني رغبة في الهجوم… في الدفاع… أو حتى في التوسل ! قلت و أنا متعلقة بأمل أن يكون ما سمعت وهما :

” وليد… هل … تعني… ”

و قبل أن أتم كلامي كان قد صرخ مجددا :

” أنا أعني ما أقول يا رغد… و ما دمت ِ تحت مسؤوليتي فنفّذي ما أقوله و لا تزيديني أكثر مما أنا فيه”

كالخنجر طعنتني كلماته الحادة القاسية فقلت و أنا على وشك الانهيار :

” لماذا تفعل هذا بي؟؟ إن كنت تراني هما على صدرك… لم لا تزوجني منه الآن و تتخلص منّي و ترتاح و تريحني منك ؟؟ لماذا يا وليد لماذا ؟؟ لماذا ؟؟ ”

و انفجرت باكية…
جلست على المقعد و أسندت مرفقي إلى رجلي، و وجهي إلى راحتي يدي ّ و سكبت العبر…

حل الصمت المرعب على الأجواء…

فجأة… تخلخلت الرياح الباردة ملابسي و دقت عظامي… رفعت رأسي فإذا بها تصفعني و تطير بدموعي بعيدا… نظرت إلى الباب فرأيته مفتوحا و وليد يستقبل الأعاصير…

وقفت و ناديته بسرعة :

” وليد ”

التفت إلي و خصلات شعره تتطاير في كل اتجاه من شدة الريح…

” إلى أين ستذهب ؟ ”

قلت و أنا في خوف منه و عليه… فالجو كان مرعبا و لا يصلح للمشاوير الطويلة… خصوصا و هو مريض…

وليد قال :

” سأعود لاصطحابك غدا… اجمعي أشياءك ”

و استدار منصرفا مغلقا الباب من بعده…

أسرعت إلى الباب و فتحته و تلقيت الريح بوجهي… هتفت :

” وليد … وليد انتظر ”

وقف موليا إلي ظهره و الهواء يعبث بشعره و معطفه …

قلت :

” لا تذهب الآن… انتظر حتى تهدأ العاصفة قليلا ”

لكنه تابع طريقه مبتعدا… متجاهلا نداءاتي…

عندما عدت… وجدت الجميع يقفون في الداخل ينظرون إلي …
شعرت و كأن نظراتهم تخترقني… أملت رأسي إلى الأسفل و هممت ُ بالانصراف…

استوقفني صوت حسام و هو يقول :

” هل يخاطبك دائما بهذا الشكل ؟ ”

رفعت بصري إليه فوجدته غاضبا مقطب الحاجبين… و أعين الجميع تنتظر جوابي…

هززت رأسي نفيا و أنا أقول :

” لا … كلا … ”

و لم أكن أتوقع أن يكون صراخ وليد بصوته المبحوح قد أصاب آذانهم …

خالتي قالت :

” سأتحدّث معه حينما يعود ”

قال حسام منفعلا :

” و أنا سأوقفه عند حدّه ”

أبو حسام قال :

” لا تتدخل أنت… سأحدّثه أنا بنفسي ”

صاح حسام :

” يا له من متعجرف فظ … من يظن نفسه؟؟ ليتك بقيت ِ تحت وصاية سامر… فعلى الأقل ذلك المشوّه ليّن و متفهّم و لا يستخدم يده في التعامل مع الآخرين ”

قالت خالتي :

” لا أعرف من أين أتى بكل هذه الغلظة… إنه يختلف عن سامر و شاكر تماما ”

قال أبو حسام :

” إنها الغربة يا أم حسام… ”

قالت خالتي :

” لن أسكت على هذا… لسوف أطلب من سامر و دانة التدخل و إيجاد حل لنا مع هذا الوليد ”

~~~~~~~~~~

أشعر بالدوار…
أتنفس بصعوبة بالغة… و رغم برودة الجو يتصبب مني العرق…
إنني مصاب بنزلة بردية شديدة أرهقت قواي منذ أيام…
و القرحة التي عالجتها منذ زمن، عادت آلامها تسيطر على معدتي من جديد…

بصعوبة بالغة نهضت عن السرير الدافئ في غرفتي التي استأجرتها للمبيت لليلة واحدة في هذا الفندق… و ما أسوأها من ليلة…
إنني لم أنم… و لم يهدأ دماغي عن التفكير ساعة واحدة…
لماذا يا رغد…؟ لماذا…؟
و لماذا أيها القدر القاسي…
أتركها أمانة بين أيديهم… فيخططون لسرقتها منـّي؟؟
أبدا… يستحيل أن أدعها معهم يوما واحدا بعد… هيا انهض… يا وليد…

كان لا يزال أمامي عدة مسافات علي قطعها… و أنا غاية في التعب… و المرض…
لملمت حاجياتي بعناء… و غادرت الفندق قاصدا بيت أبي حسام…

حتى و إن كانت رغد ترغبين في الزواج منه أو كانت هذه أمنيتك ِ الأولى… فأنا لن أنفذها لك… و يجب عليك خلال السنين المقبلة… أن تنسيه …
أنا لن أتقبـّـل منك ِ الخيانة مرتين… لن أسمح لك !

عندما وصلت إلى بيت أبي حسام هو و زوجته و قاداني إلى المجلس…
هناك بدءا يحدثاني بهدوء عن وضع رغد … و من ثم تطرقا إلى موضوع الزواج من جديد…
لا أدري إن كنت ُ أسمعهما أم لا… أو أعي ما يقولان… كنت مجهدا حد العمى و الصمم … حد الخرس و الشلل…

اعتقد أنهما كانا يخاطباني بعقلانية و كلامهما كان سيبدو منطقيا جدا لأي مستمع… أما أنا فلم أركز في حديثهما الطويل… و ربما لم تظهر عليّ إلا أمارات البلادة و البرود… حتى أنني لو فكّرت في الغضب… لم أكن لأجد عصبا واحدا في ّ قادرا على الاشتعال…
أنا مرهق… أرجوكما اعتقاني الآن…

و رغم كل ما قالاه… عارضت فكرة الزواج تلك و رفضت ترك رغد معهم و ألححت عليهما لاستدعائها… و شرحت لهما خطّتي في إلحاقها بإحدى الجامعات…

بعد ذلك أتت رغد… و كنا أنا و هي نتحاشى النظر إلى بعضنا البعض… فلقاؤنا يوم أمس كان سيئا…
هدرت هي المزيد من الوقت و الجهد غير أنني لم أغيّر رأيي… و كلّما ألحّت ازددت إصرارا…
أم حسام قالت أخيرا :

” لن ينتهي الموضوع هنا يا وليد… سنعرف كيف ندبّر حلا ”

و كان في كلامها شيء من التهديد… لم أجبها بل التفت نحو رغد و قلت معلنا نهاية الحوار :

” هيا بنا يا رغد ”

لم تكن رغد قد حزمت حقائبها لكن الوقت كان يداهمنا و الصداع يتفاقم في رأسي … أعطيتها فرصة قصيرة لجمع ما أمكن و من ثم لتودع أقاربها و أحسست بآلامها و هي تبكي في حضن خالتها…
بدوت فظا قاسيا في نظر الجميع… و لكنني لن أتراجع…

حملت رغد حقيبة يدها فيما حملت أنا حقيبة أغراضها و سرت و هي تسير خلفي مكرهة… مستسلمة…
و نحن نخرج من البوابة ألقت رغد النظرة الأخيرة على أفراد عائلة خالتها و قالت بأسى :

” مع السلامة ”

تمزق قلبي معها… و عذبني ضميري أيما عذاب… سامحيني يا رغد… أعدك بأن أعوّضك عن كل هذا … سامحيني…

أم حسام قالت و هي تغلق البوابة بعد خروجنا أنا و رغد … و حسام و أبيه :

” الله الله… في اليتيمة يا وليد… أمامك حساب لا يخطئ… ”

ما أشعرني بأنني… أرتكب كبيرة من كبائر الذنوب…
نظرت إلى رغد… ثم أغمضت عيني ّ و وضعت ُ يدي على جبيني و ضغطت بشدّة… عل ّ الألم يرحم رأسي قليلا…
ما الذي تظنونه عنّي؟؟ أي فكرة قد جعلتهم يتعقدون بها يا رغد ؟؟
هل أنا وحشي و مجرم لهذا الحد؟؟

حينما ركبنا السيارة وقف حسام بجوارنا و قال :

” إذا أساء أحد معاملتك فابلغيني يا رغد ”

و وجه خطابه إلي مهددا :

” حذار أن تقسو على ابنة خالتي يا وليد… ستدفع الثمن غاليا… ”

و ابتلعت جملته و لم أعقب… و سرنا تشيعنا أعين حسام و أبيه و تتبعنا أفئدة العائلة أجمع …
و كلما ابتعدنا أحسست بالألم يزداد… بينما لا تزال كلماتهم الأخيرة ترن في رأسي بحدة…
و لما نظرت إلى رغد… رأيتها غارقة في حزن يتفطر منه قبل الحجر…
فكيف بقلبي ؟
هل كنت ُ قاسيا لهذا الحد؟؟
هل أنا مخطئ في تصرفي؟
هل كان علي ّ تركها بعيدة عن ناظري… قريبة من ناظر حسام ؟؟
ألا يحق لي أن أخاف عليها من كل عين و كل شر…؟
أليست هذه صغيرتي أغلى ما لدي في هذا الكون؟؟
ألست ُ أنا ولي أمرها و المسؤول عنها كليا… أمام الله ؟؟
اللهم و أنت الشاهد العالم بالنوايا… تعرف أنني ما أردت لها و مذ أدخلتـَها في حياتي قبل سنين طويلة… إلا خيرا…
اللهم و أنت المطّلع على الأفئدة و المقلب للقلوب… ارحم قلبي و اعف ُ عن خطاياه…

مر زمن طويل و نحن في صمت أصم ٍ أخرس ٍ … وشرود كبير متشتت… و زادنا الطريق البري وحشة و غربة… و لم يكن يسلك دربنا إلا القليل من السيارات … في مثل هذا الجو المضطرب…
الأفكار ظلت تعبث برأسي المتصدّع وضاعفت مرضي و حرارة جسدي…

الصداع و الدوار … و الأفكار الحائرة المتناثرة… و كلمات حسام و أمّه الأخيرة … و قطرات المطر الكثيفة الهاجمة على زجاج السيارة… و دموع رغد التي أراها من حين لآخر عبر المرآة… و آلام صدري و معـِدتي و أطرافي … كلها اجتمعت سوية و أفقدتني القدرة على التركيز…

و فيما أنا منطلق بالسيارة فجأة انحرفت ُ عن مساري و اصطدمت بأحد أعمدة النور بقوّة…
و أظلمت الدنيا في عيني..

error: