قراءة رواية أنت لي كاملة

الجزء الرابع عشر

طريق العودة لم يكن بأقل مشقة من طريق الذهاب …
ألا أنني بسبب التعب و الإجهاد النفسي نمت معظم ساعات النهار الأول .

حطام الأشياء التي أراها من حولي لا يختلف عن حطام قلبي … إلا أن الجماد لا ينزف دما

التلاوة المنبعثة من مذياع السيارة بصوت قارئ رخيم عذب هي الشيء الوحيد الذي خفف على قلبي آلام التمزق و التقطع و الاحتراق …

توالت الساعات ، و كنت أتابع باهتمام مزيف كل ما أسمعه من المذياع هروبا من التفكير في الطريق الذي ولى … و الطريق القادم …

في الماضي … و المستقبل …

بلغنا مدينتنا قبيل غروب الشمس الثالثة التي أنارت دربنا …

” خذني إلى بيتي ”

قلت ذلك و نحن أمام مفترق طرق ، يؤدي أحدهم إلى بيتي و آخر إلى بيت سيف

” الآن ؟ دعنا ننزل بيتنا و نرتاح من عناء المشوار الطويل … ”

” أرجوك يا سيف … إلى بيتي … ”

لم أكن هذه المرة أشعر بأي شوق أو حماس لدخول المنزل المهجور

و سيف هم ّ بالحضور معي أل أنني قلت :

” لابد أن والديك في انتظارك الآن … سأشكرك كما ينبغي لاحقا ، بلغهما تحياتي ”

كان سيف قلقا بشأني و لكنني صرفته ، و دخلت المنزل المظلم وحيدا .

رفعت يدي لإنارة المصباح ، بل المصابيح واحدا تلو الآخر فاكتشفت أن الكهرباء مقطوعة .

و على الضوء الباقي من آخر خيوط الشمس ، سرت في منزلي الكئيب الساكن و صعدت إلى الطابق العلوي …

ذهبت رأسا إلى غرفة نومي … أخرجت المفاتيح ، ثم فتحت الباب ببطء …

و خطوت خطوة إلى الداخل …

سرعان ما عادت بي السنين إلى الوراء …

حين كنت فتى مراهقا في بداية التاسعة عشر من العمر … أجلس على هذا الكرسي أذاكر بشغف …
يا إلهي !
لا تزال كتبي التي تركتها على المكتب في مكانها !
مفتوحة كما تركتها قبل ثمان سنين !

جلت ببصري في الغرفة … و فوجئت برؤية الأشياء كما هي …

تقدمت خطوة بعد خطوة …

السرير … نفس البطانية و الأغطية التي كانت عليه قبل رحيل …

اقتربت من المكتب … إنه كتاب الرياضيات الذي كنت أقرأه آخر ليلة قبل الرحيل ، استعدادا لامتحان الغد !

و قلم الرصاص لا يزال موضوعا على الصفحة المفتوحة …

و بقية الكتب مبعثرة على الطاولة تماما كما تركتها منذ ذلك الزمن …

مددت يدي فلمست الغبار الذي يغطي الكتاب ، و كل شيء …

فتحت الأدراج لألقي نظرة … لا شيء تغير ! لا يبدو أن أحدا قد وطأ أرض هذه الغرفة مذ هجرتها

استدرت نحو سريري … لطالما احتضنني هذا السرير و امتص تعبي و أرقي … ألا زال يصلح للنوم ؟ أ أستطيع رمي أثقال صدري و جسدي عليه ؟؟

كان أيضا غارقا في الغبار … و مع ذلك رميت بجسدي المهموم عليه و سمحت لسحابة الغبار أن تحلق … و تنتشر … و تهاجم أنفي و تخنقني أيضا …

داهمتني نوبة من العطاس إثر استنشاقي لغبار الزمن ، فنهضت و تلفت من حولي بحثا عن علبة المناديل
لابد أنها ستكون مدفونة تحت طبقات من الغبار هي الأخرى …

لكن أنظاري التصقت فجأة بشيء يقف على أحد أرفف مكتبتي القديمة …

شيء أسطواني الشكل ، مغطى بطوابع و ملصقات صغيرة طفولية …

و من بين تلك الملصقات ، يظهر جزء من كلمة مكتوبة عليه : ( أمـاني )

سرت ببطء شديد ، بوصة بوصة ، نحو هذا الصندوق الصغير …

أكان حلما أم حقيقة ؟؟

لقد رأيته أمامي مباشرة ، و لمسته بيدي … و رججته ، و سمعت صوت قصاصات الورق تتضارب داخله !

صندوق أماني رغد … لا يزال حيا ؟؟

أمسكت بالصندوق الأسطواني ، و قربته من عيني ، ثم من صدري ، و أرخيت جفني ، و سحبت نفسا عميقا مليئا بالغبار …

رأيت الصغيرة مقبلة نحوي بانفعال و فرح ، حاملة كتابها بيدها :

” وليد اصنع صندوق أماني لي ”

و رأيتها تساعدني في صناعته …

ثم تغطيه بالملصقات الصغيرة …

ثم تجلس هناك على سريري ، قرب المنضدة ، و تكتب أمنيتها الأولى …

(( عندما أكبر سوف أتزوج …… ؟؟ ))

عند هذا الحد … ارتفع جفناي فجأة ، و انقبضت يدي بقوة … ضاغطة على الصندوق بلا رحمة حتى خنقت أنفاسه …

تدحرجت عبرة كبيرة حارقة من مقلتي اليمنى ، فاليسرى ، تبعها سيل عارم من الدموع الكئيبة التائهة ، تغسل ما علق بوجهي و أنفي من الغبار العتيق …

شقت نظرتي طريقا سالكا بين الدموع ، مسافرة نحو صندوق الأماني المخنوق … محرضة يدي ّ على التعاون للفتك به … و تمزيقه كما تمزقت كل آمالي و أحلامي … و صورة رغد و رسالتها … و قلبي و روحي …

لكنني توقفت في منتصف الطريق …

لم أعد أرغب في رؤية ما بداخله …

فأنا أعرف كل شيء …

( أريد أن أصبح رجل أعمال ضخم ! )

( أريد أن تصبح ابنة عمي رغد زوجة لي )

( يا رب اشف سامر و أعده كما كان )

( عندما أكبر سوف أتزوج …. ؟؟؟ )

سامر قطعا …

كم كنتُ غبيا !

ضغطت على الصندوق بقوة أكبر فأكبر … و لو كان شيئا مصنوعا من الحديد لتحطم في قبضتي …

” أيتها الخائنة … رغد ”

رميت الصندوق بعنف بعيدا عني … إلى أبعد زاوية في الغرفة ، ثم خرجت هاربا من الذكرى الموجعة

أول شيء التقيت به في طريقي كان غرفة رغد !

فهي الأقرب إلي …

وقفت عند الغرفة لدقائق … و يدي تفتش عن المفتاح بتردد …

رفعت يدي … و طرقت الباب طرقا خفيفا

ثم مددتها نحو المقبض و أمسكت به و بقيت في هذا الوضع لزمن طويل …

سأفتح الباب ببطء و حذر و هدوء … قد تكون صغيرتي نائمة بسلام … لا أريد إزعاجها

أريد فقط أن ألقي نظرة عليها كما أفعل كل ليلة … لا أحب إلى قلبي من رؤيتها نائمة بهدوء كالملاك .. و ملامسة شعرها الناعم بخفة …

نظرة أخيرة … واحدة فقط … أريد أن ألقيها على طفلتي …

رغد … لقد اشتقت إليك كثير! … منذ أن رأيتك و أنت نائمة … هنا قبل ثمان سنين ، و جفناك متورمان أثر البكاء الشديد الذي بكيته ذلك اليوم المشؤوم …

أتذكرين كيف لعبنا يومها ؟؟

أتذكرين البطاطا التي أطعمتك إياها …؟؟

ما كان يدريني أننا لن نلتقي بعد تلك اللحظة …

و أنها كانت المرة الأخيرة التي أتسلل فيها إلى غرفتك ، و ألقي عليك نظرة ، و أداعب خصلات شعرك ، و أقبل جبينك …

ارتجفت رجلاي و كذا يداي و جسمي كله ، و فقدت أي قدرة على تحريك أي عضلة في جسدي ، حتى جفوني

لم أجسر على فتح الباب …

عدت أطرقه و أنادي …

” رغد … صغيرتي … افتحي ! أنا وليد … ”

لكنها لم تفتح

و أخذت أطرق بقوة أكبر …

” افتحي يا رغد … لقد عدت إليك ”

و بقي الباب ساكنا جامدا …

لم تعد رغد موجودة

و لم يعد وليد موجودا …

و لم يعد لفتح هذا الباب … أي داع …

هويت على الأرض … كسقف أزيلت أعمدته فجأة … و رفعت ذراعي إلى الباب و صرخت …

” رغد … عودي إلي … ”

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

من تتوقعون زارنا قبل أسبوع ؟؟

إنها عائلة اللاعب الشهير ( نوّار ) !

و هل استنتجتم ما سبب الزيارة ؟؟

أجل !

مشروع زواج !

بصراحة أنا فوجئت بشدة ! لم أكن أعتقد أن الأمر سيسير حسبما كانت دانة ترسم ! و لكن يبدو أن هناك أمور أخرى لا أعلم عنها شيئا …

زيارتهم كانت بعد رحيل وليد بثلاثة أسابيع …

خلال الأسابيع الثلاثة تلك ، كان الجميع يعيش حالة كآبة و حزن مستمرين

لم تطلع أو تغرب علي شمس دون أن أفكر بوليد … و بلقائنا الحميم ، ثم نظراته القاسية ، ثم رحيله المفاجئ …

والدتي أصابها حزن شديد لازمت بسببه الفراش فترة من الزمن …

أنا أيضا حزنت كثيرا جدا …

أنا لم أكد أره … لم أكد أشعر بوجوده … إنني لا أصدق أنه عاد بالفعل … لقد كبرت على الاعتقاد بأنه لن يعود …

و حقيقة … هو لم يعد …

” رغد ! ألم تنهي حمّامك بعد ؟؟ ”

جاءني صوت دانة من الخارج ، تحثني على الخروج بأقصى سرعة … كنت لا أزال أمشط شعري القصير المبلل أمام المرآة المغطاة بطبقة من الضباب !

فتحت الباب فانطلق بخار الماء متسربا للخارج ، و وجدت دانة واقفة و ذراعاها مضمومان إلى صدرها ، تنظر إلي بحنق !

” أهو حمام بخاري ؟ هيا اخرجي يكاد ضيوفي يصلون و أنا لم أستعد بعد ! ”

سرت ببطء شديد ، متعمدة الإطالة أقصى ما يمكن … ! دانة تحدق بي بغضب و نفاذ صبر و تصرخ :

” أوه يا لبر ودك ! هيا أخرجي ! ”

” لم كل هذا الانفعال !؟ كأنك ستقابلين جلالة الملكة ! ”

” أنت لا تفهمين شيئا ! لا يمكنك أن تحسي بمثل أحاسيسي الآن ! لم تجربي ذلك و لن تجربيه ! ”

قالت هذا ثم دفعتني قليلا بعيدا عن الباب ، و دخلت الحمام الغارق في البخار و صفعت بالباب بقوة !

ذهبت إلى غرفتي بكسل … و أخذت أتابع تمشيط شعري المبلل أمام مرآتي …

هل تحس كل فتاة على وشك مقابلة أهل عريسها بكل هذا التوتر ؟؟
أنهم سيعلنون الموافقة الرسمية و يناقشون شروط العقد هذه الليلة ، و سنقيم حفلة صغيرة بعد أيام لعقد القران …

دانة أصبحت لا تطاق بسبب توترها و عصبيتها ، لكنها سعيدة ! سعيدة جدا …

أنا لم أجرب هذا الإحساس … و لا أعرف كيف يكون … إنني فقط أعرف أنني مخطوبة لابن عمي سامر لأنني يجب أن أكون مخطوبة له …
و سأتزوج منه لأنني يجب أن أتزوج منه …

سامر في الوقت الحالي مسافر إلى مدينة أخرى ، من أجل العمل

موضوع زواجنا تم تأجيل النقاش فيه ، بسبب حضور و رحيل وليد الذي أربك الأجواء ، ثم خطبة دانه التي شغلتنا أواخر الأيام …

وليد لم يتصل بنا منذ رحيله ، و والدي يحاول جاهدا الاتصال به بطريقة أو بأخرى من أجل إبلاغه عن خطبة دانه و حفلة العقد

مجرد تفكيري بهذا الأمر يشعرني بالسعادة … فوليد سيأتي و لا شك … لحضور حفلة شقيقته و المشاركة فيها …

ألقيت بالمشط جانبا و خرجت من الغرفة في طريقي إلى المطبخ ، و وصلني صوت دانه و هي تغني داخل دورة المياه !

أنا لم أغنِّ عند خطبتي !

حين وصلت ، كانت أمي تتبادل الحديث مع والدي بشأن دانه … لكنهما توقفا عن الكلام لدى رؤيتي !

” أمي … ماذا عن وليد ؟؟ ”

فهو كان شغلي الشاغل منذ أن رحل …
بل منذ أن وصل !
أمي و أبي تبادلا نظرة سريعة ، قال والدي بعدها :

” لقد استطعت التحدث إلى سيف ، و أوصيته بزيارة وليد بأسرع ما يمكنه ، و إبلاغه بأنتا ننتظر مكالمة ضرورية منه ”

فرحت بذلك ، و قلت تلقائيا :

” إذن سأعتكف عند الهاتف ! ”

في ذات اللحظة رن هذا الأخير ، و قفزت مسرعة إليه !

” مرحبا ! هنا منزل شاكر جليل … من المتحدث ؟ ”

كانت ابتسامتي تعلو وجهي ، و حين وصلني صوت الطرف الآخر :

” رغد ! أهذه أنت ؟؟ ”

تلاشت الابتسامة بسرعة ، و قلت بشيء من الخيبة :

” نعم … سامر ، إنها أنا ”

و بعد بضع عبارات تبادلناها ، دفعت بالسماعة إلى والدي :

” إنه سامر … لن يحضر الليلة ”

و انصرفت عن المطبخ .
حين سافر سامر … لم أبك كما بكت أمي …
و كما بكيت لسفر وليد …

لم يكن هناك أي هاتف في غرفة نومي ، لذا جلست في غرفة المعيشة قريبة من التلفاز ، و كلما رن هاتف بادرت برفع السماعة قبل أن تنقطع الرنة الأولى !
و في كل مرة أصاب بخيبة أمل ….
لكن …
لماذا أنا متلهفة جدا للتحدث إليه ؟؟

بعد فترة ، حضر الضيوف المرتقبون ، العريس و والداه و أفراد أسرته .. لو أؤلف كتابا في وصف دانه لسببت أزمة ورق !

سألخص ذلك بقول : كانت غاية في الجمال ، و الخجل ، و اللطف ، و السعادة !

تم الاتفاق على كل شيء ، و تعين تحديد ليلة الخميس المقبلة لعقد القران !

لم أجلس مع ضيفاتنا غير دقائق متفرقة ، و تمركزت عند الهاتف في انتظار اتصال من اتصل رجال العالم كلهم ببيتنا سواه !

عند العاشرة و النصف ، استسلمت …
و ذهبت في اتجاه غرفتي ..
مررت بغرفة دانه ، فوجدتها مشغولة بإزالة المساحيق و الإكسسوارات التي تزين بها شعرها !

” كنت جميلة ! ”

نظرت إلي بغرور ، و قالت :

” اعرف ! ”

ثم استطردت :

” و سأكون أجمل في الحفلة ! علي أن أذهب للسوق غدا لشراء الحاجيات ! ”

” عظيم ! أنا أيضا سأشتري فستانا جديدا و بعض الحلي ! ”

ابتسمت دانه بسعادة ، و قالت :

” كم أنا متوترة و قلقة ! ستكون حفلة رائعة ”

ثم أضافت ببعض الخبث :

” أروع من حفلتك ”

لم أكن في السابق أتضايق كثيرا لتعليق كهذا ، إلا أنني الآن شعرت بالانزعاج … قلت :

” أنا لم تقم لي حفلة حقيقية … لم يكن يوما مميزا ”

قالت :

” وضعي أنا يختلف ! سأتزوج من أشهر لاعبي الكرة في المنطقة ، و أغناهم أيضا … شيء مميز جدا ! … والدي وعدني بليلة لا تنسى ! ”

أصابني كلامها بشيء من الخذلان و الحزن ، فأنا لم يعمل والدي لأجلي شيئا يذكر ليلة عقد قراني … هممت بالانصراف ، توقفت قبل أن أغلق الباب ، و سألت :

” هل سيكون وليد موجودا ؟؟ ”

شيء ما برق في عينيها و قالت :

” نعم ، بالتأكيد سيكون موجودا … لا يمكنه أن يتخلى عني أنا ! ”

ذهبت إلى غرفتي و أنا حزينة …
فوليد لم يتصل
و دانه تسخر مني
و من الطريقة التي تمت خطبتي بها …
رغم أنها كانت أكثر من أقنعني بأنه لابد لي من الزواج من سامر …
فهو أقرب الناس إلي ، و هو يحبني كثيرا ، و هو مشوه بشكل يثير نفور
بقية الفتيات …
و بسببي أنا …

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

فيما كنت أسخن بعض الفاصوليا على لهيب الموقد في المطبخ ، حضر صديقي سيف .

لم أكن أتوقع زيارته ،كانت الساعة السادسة مساءا ، لكنني سررت بها

” تفضل ! إنني أعد بعض الفاصوليا … عشاء مبكر ! ستشاركني فيه ”

قلت ذلك و أنا أقوده إلى المطبخ …

حينما وصل و شم رائحة الفاصوليا قال بمرح :

” تبدو شهية ! سأتناول القليل فقط ، فلدي ضيوف على العشاء هذا المساء ”

وضعت مقدارين منها في طبقين صغيرين ، مددت بأحدهما نحو صديقي و قلت :

” جرب طهو ـ أو بالأحرى تسخين يدي ! ”

تناول سيف بعضها و استساغ الطعم … ثم قال :

” لكنها لا تقارن بأطباق والدتي ! يجب أن تشاركنا العشاء الليلة يا وليد ”

ابتسمت ابتسامة باهتة ، و لم أعلق …

” هيا يا وليد ! سأعرفك على زملائي و أصدقائي في العمل ”

قلت :

” كلا لا يمكنني ، لدي ارتباطات أخرى ”

سيف نظر إلي باستنكار …

” أية ارتباطات ؟؟! ”

ابتسمت و قلت :

” سآخذ الأطفال إلى الملاهي ! فقد وعدتهم بذلك ”

سيف كان يحرك الملعقة باتجاه فمه ، فتوقف في منتصف الطريق و قال :

” أي أطفال ؟؟ ”

قلت بابتسام و أنا أقلب الفاصوليا في الطبق لتبرد قليلا :

” رغد و دانة و سامر ! سأجعلهم يستمتعون بوقتهم ! ”

أعاد سيف الملعقة و ما حوت على الطبق … و ظل صامتا بضع ثوان …

” ما بك ؟ ألم يعجبك ؟ ”

أعني بذلك الفاصوليا

سيف تنهد ثم قال :

” وليد … ما الذي تهذي به بربك ؟؟ ”

تركت الملعقة تنساب من يدي ، و قد ظهرت علامات الجدية على وجهي الكئيب و قلت :

” أتخيل أمورا تسعدني … و تملأ فراغي … ”

هز سيف رأسه اعتراضا ، و قال :

” ستصاب بالجنون إن بقيت هكذا يا وليد ! بل إنك أصبت به حتما … ينبغي أن تراجع طبيبا ”

دفعت بالكرسي للوراء و أنا أنهض فجأة و استدير موليا سيف ظهري …
سيف وقف بدوره ، و تابع :

” لا تفعل هذا بنفسك … أتريد أن تجن ؟؟ ”

استدرت إلى سيف ، و قلت :

” ما الفرق ؟ لم يعد ذلك مهم ”

” كلا يا وليد … لا تعتقد أن الدنيا قد انتهت عند هذا الحد … لا يزال أمامك المستقبل و الحياة ”

قاطعته بحدّة و زمجرت قائلا :

” المستقبل ؟؟ نعم المستقبل … لرجل عاطل عن العمل متخرج من السجن لا يحمل سوى شهادة الثانوية المؤرخة قبل ثمان سنين ! و يخبئ بعض النقود التي استعارها من أبيه في جيب بنطاله ليشتري بها الفاصولياء المعلبة فيسد بها جوعه … نعم إنه المستقبل ”

سيف بدأ يتحدّث بانفعال قائلا :

” تعرف أن فرص العمل في البلد ضئيلة بسبب الحرب ، لكنني سأتدبر الأمر بحيث أتيح الفرصة أمامك للعمل معي … ”

قلت بسرعة :

” معك ؟ أم عندك ؟؟ ”

استاء سيف من كلمتي هذه و همّ بالانصراف .

استوقفته و قدمت إليه اعتذاري …

لقد كان اليأس يقتلني … و لا شيء يثير اهتمامي في هذه الدنيا …

قال سيف :

” المزيد من الصبر … و سترى الخير إن شاء الله ”

ثم تقدّم نحوي و قال :

” و الآن … تعال معي … فالأشخاص الذين سيتناولون العشاء معنا سيهمك التعرف إليهم ”

لكنني رفضت ، لم أشأ أن أظهر أمام رجال الأعمال و أحرج صديقي ، لكوني شخص تافه خرج من السجن قبل أسابيع …

” كما تشاء … لكنك ستحضر غدا ! عشاء خاص بنا نحن فقط ! ”

أومأت إيجابا ، إكراما لهذا الصديق الوفي …

قال سيف :

” يا لك من رجل ! لقد أنسيتني ما جئت لأجله ! ”

” ما هو ؟؟ ”

” تلقيت اتصالا من والدك اليوم ، يريد منك أن تهاتفه للضرورة ”

شعرت بقلق ، فلأجل ماذا يريدني والدي ؟؟

” أتعرف ما الأمر ؟؟ ”

” لا فكرة لدي ، لكن عليك الاتصال بهم فورا ”

و أشار إلى الهاتف المعلق على الجدار …

قلت :

” الخط مقطوع ! ”

” حقا ؟؟ ”

” كما كانت الكهرباء و المياه أيضا ! تصور أنني عشت الأيام الأولى بلا نور و لا ماء ! ”

ضحك سيف ثم قال :

” معك أنت يمكنني تصور كل شيء ! هل تريد هاتفي المحمول ؟ ”

” لا لا ، سأتصل بهم من هاتف عام ”

سار سيف نحو الباب مغادرا ، التفت قبل الانصراف و قال :

” موعدنا غدا مساءا ! ”

” كما تريد ”

و عدت إلى طبقي الفاصوليا التي بردت نوعا ما ، و أفرغتهما في معدتي …

لم يكن في المنزل أي طعام ، و كنت اشتري المعلبات و التهم منها القدر الذي يبقيني حيا …

تعمدت عدم الاتصال بأهلي طوال الأسابيع الماضية ، و عشت مع أطيافهم داخل المنزل

حاولت البحث عن عمل و لكن الأمر كان أصعب من أن يتم في غضون بضع أسابيع أو أشهر …

في ذلك المساء ذهبت إلى أحد المحلات التجارية لشراء بعض الحاجيات ، قبل أن أجري المكالمة الهاتفية .

حين حان دوري للمحاسبة ، أخذ المحاسب يدقق النظر في ّ بشكل غريب !

نظرت إليه باستغراب ، فقال :

” ألست وليد شاكر ؟؟ ”

فوجئت ، فلم يبد ُ لي وجه المحاسب مألوفا … قلت :

” بلى … هل تعرفني ؟؟ ”

قال :

” و هل أنساك ! متى خرجت من السجن ؟؟ ”

عندما نطق بهذه الجملة أثار اهتمام مجموعة من الزبائن فأخذوا ينظرون باتجاهي …

شعرت بالحرج ، و تجاهلت السؤال … فعاد المحاسب يقول :

” ألم تعرفني ؟ لقد كنت ُ زميلا للفتى الذي قتلته ! عمّار ”

أخذ الجميع ينظر باتجاهي ، و شعرت بالعرق يسيل على صدغي …

جاء صوت من مكان ما يقول :

” أ تقول أن المجرم قد خرج من السجن ؟؟ ”

تلفت من حولي فرأيت الناس جميعا ينظرون إلي بعيون حمراء ، يقدح الشرر من بعضها ، و ينطلق الازدراء من بعضها الآخر …

شعرت بجسمي يصغر … يصغر … يصغر … ثم يختفي …

خرجت من المكان بسرعة … دون أن آخذ حاجياتي ، و ركبت سيارتي و انطلقت مسرعا تشيعني أنظار الجميع …

لقد أصبحت ذا سمعة سيئة تشير إلي أصابع الناس بلقب مجرم …

توقفت عند أحد الهواتف العامة ، و اتصلت بمنزل عائلتي في المدينة الأخرى …

كانت الساعة حينئذ الحادية عشر … و رن الهاتف عدة مرات و لم يجب أحد …

و أنا واقف في مكاني أراقب بعض المارة ، تخيلتهم ينظرون إلي و يتحدثون سرا …

ربما كانوا يقولون : إنه وليد المجرم !

و مرت مني سيارة شرطة تسير ببطء …

شعرت برعشة شديدة تسري في جسدي لدى رؤيتها ، كانت النافذة مفتوحة و أطل منها الشرطي و أخذ ينظر باتجاهي

كدت أموت فزعا … و تخيلته مقبلا نحوي ليقبض علي و يزج بي في السجن من جديد …

شعور مرعب مفزع …

ظلت يدي تضغط على أزرار عشوائية ، تتصل ربما بالمريخ أو المشتري ، دون أن أملك القدرة على التحكم بها … حتى ابتعدت السيارة شيئا فشيئا و استعدت بعض الأمان …

أعدت الاتصال بمنزل عائلتي و بعد ثلاث رنات أو أربع ، أجاب الطرف الآخر …

” نعم ؟ ”

لم أميز الصوت في البداية ، لكنه عندما كرر الكلمة أدركت أنها كانت رغد …

” نعم ؟ من المتحدث ؟؟ ”

كان فكي الأسفل لا يزال يرتجف أثر رؤية سيارة الشرطة … و ربما سمعت رغد صوت اصطكاك أسناني بعضها ببعض …

قربت السماعة من فمي أكثر ، و بيدي الأخرى أمسكت بفكي و طرف السماعة كمن يخشى تسرب صوته للخارج …

ربما سمع رجال الشرطة صوتي و عادوا إلي !

قلت :

” أنا وليد ”

لم أسمع أي صوت فظننت أن الطرف الآخر قد أقفل السماعة ، قلت :

” رغد ألا زلت ِ معي ؟؟ ”

” نعم ”

ارتحت كثيرا لسماع صوتها

أو ربما … تعذبت كثيرا …

” وليد كيف حالك ؟ ”

” أنا بخير ، ماذا عنكم ؟ ”

” بخير . كنت أنتظرك ، أقصد كنا ننتظر اتصالك ”

قلت بقلق :

” ما الأمر ؟؟ ”

رغد قالت :

” لقد نام الجميع ، والدي يريد التحدث معك ، يجب أن تحضر ”

أقلقني حديثها أكثر ، سألت :

” ما الخطب ؟؟ ”

” إنه موضوع زواج دانه ! لن أخبرك بالتفاصيل و إلا وبختني ! يجب أن تحضر قبل مساء الأربعاء المقبل ”

كان أمرا فاجأني ، و هو أكبر من أن أناقشه مع رغد و رغد بالذات على الهاتف في مثل هذا الوقت … و المكان …

لذا اختصرت المكالمة بنية الاتصال نهار اليوم التالي لمعرفة التفاصيل …

” حسنا ، سأتصل غدا … إلى اللقاء ”

” وليد … ”

حينما سمعت اسمي على لسانها ارتجف فكي أكثر مما كان عند رؤية سيارة الشرطة ….

خرجت الكلمة التالية مبعثرة الحروف …

” نـ … ـعم … صـ … ـغيـ … ـرتي ؟؟ ”

” عد بسرعة ! ”

و التي عادت بسرعة هي ذكريات الماضي …
و الذي طردها بسرعة هو أنا
لم أكن أريد لشيء قد مات أن يعود للحياة …

قلت :

” سأرى ، وداعا ”

و بسرعة أيضا أغلقت السماعة …
كم شعرت بقربها … و بعدها …

حينما عدت إلى المنزل ، وقفت مطولا أمام غرفة رغد أحدق ببابها … حتى هذه اللحظة لم أجرؤ على فتحها هي بالذات من بين جميع غرف المنزل الموحش …

دخلت إلى غرفتي الغارقة في الظلام ، و تمددت على سريري بهدوء …

( عد بسرعة … عد بسرعة … عد بسرعة … )

ظلت تدور برأسي حتى حفرت فيه خندقا عميقا !

سمعت طرقا على الباب … طرقا خفيفا … جلست بسرعة و ركزت نظري ناحية الباب … كان الظلام شديدا …

شيئا فشيئا بدأ الباب ينفتح … و تتسلل خيوط الضوء للداخل

و عند الفتحة المتزايدة الحجم ، ظهرت رغد !

رغد وقفت تنظر إلي و وجهها عابس … و الدموع منحدرة على خديها الناعمين …

هتفت …

” رغد ! ”

بدأت تسير نحوي بخطى صغيرة حزينة … مددت ذراعي و ناديتها :

” رغد تعالي … ”

لكنها توقفت … و قالت :

” وليد … عد بسرعة ”

ثم استدارت عائدة من حيث أتت

جن جنوني و أنا أراها تغادر

قفزت عن سريري و ركضت باتجاهها و أنا أهتف :

” رغد انتظري …
رغد لقد عدت …
رغد لا تذهبي ”

لكنني عندما وصلت إلى الباب كانت قد اختفت …

أسرعت إلى غرفتها أطرق بابها بعنف …
كدت أكسره ، أو أكسر عظامي … لكنه ظل موصدا …
كما هي أبواب الدنيا كلها أمام وجهي …

أفقت من النوم مذعورا ، فوجدت الغرفة تسبح في الظلام و الباب مغلق …
لم يكن غير كابوس من الكوابيس التي تطاردني منذ سنين …

و رغم أنها تعذبني ، إلا أنها تمنحني الفرصة لرؤية صغيرتي التي حرمت منها منذ سنين … و لم يعد لها وجدود …

في اليوم التالي ، اتصلت بوالدي و عرفت منه تفاصيل الموضوع … و لكم أن تتصوروا اللهفة التي كان هو و أمي و دانة أيضا … يخاطبوني بها

أختي الصغيرة … التي كبرت بعيدا عن أنظاري و رعايتي و اهتمامي ، أصبحت عروسا

” وليد يجب أن تحضر و تجلب لي هدية أيضا ! ”

و الآن … و بعد مرور شهر واحد من هروبي منهم ، و عزلتي في المنزل، صار علي أن أعود إليهم من جديد … أجر أذيال الخيبة و الفشل …

في المساء ، ذهبت لسيف و أخبرته بما جد من أمري ، و أخبرني بأنه استطاع تدبير وظيفة لي في الشركة التي يعمل فيها و يملك جزءا منها

و بدأ أول أبواب الدنيا ينفتح أمامي أخيرا …

” يجب أن تعود بأسرع ما يمكن لتباشر العمل ”

error: