قراءة رواية أنت لي كاملة

الجزء التاسع عشر

كنت قد دخلت إلى داخل المنزل لإحضار سيجارة …

فكلما شعرت بالضيق ، عكفت على التدخين بشراهة …
و رؤية رغد و سامر يقبلان نحونا … و أصابعهما متشابكة جعلت شعبي الهوائية تنقبض و تنسد …

سامر جلس معنا ، و ذهبت رغد إلى الداخل …

بعد قليل دخلت ُ قاصدا الذهاب إلى غرفة سامر و إحضار السجائر ، فرأيتها أمامي …

الغضب الذي كان يسد شعبي مع ذلك الهواء خرج فجأة باندفاع مصبوبا عليها … فتحدثت معها بقسوة رافضا الإصغاء إلى ما كانت تود إخباري به …

الآن أنا في الغرفة أشعر بالندم …

لماذا أصبحت أعاملها بهذه الطريقة ؟؟

أليست هذه هي رغد … طفلتي الحبيبة المدللة ؟؟

رغد …

أتسمعون ؟؟

أتدركون ؟؟

إنها رغد ! رغد !

حملت سجائري و ذهبت في طريقي إلى الخارج …

عند عبوري الممر قرب المطبخ لمحت أختي دانه ، و كانت ترتدي مريلة خاصة بالمطبخ و توشك على المسير نحو الباب …

” وليد ! … أوه سجائر ! ”

ثم مسكت أنفها بإصبعيها كمن يمنع رائحة كريهة من اقتحام أنفه !

” لن أدخن هنا ! ”

قالت :

” أنا أيضا ذاهبة لوداع سامر ! رغد الكسولة تركتني أعمل وحدي ! ”

و خرجنا سوية …

رغد كانت تجلس قرب سامر … الذي يبدو على وجهه الانفعال و السرور !

قالت دانة :

” آسفة سامر سأودعك الآن و أعود للمطبخ ! ”

و وجهت كلامها إلى رغد :

” فالكسالى يجلسون هنا ! و لكن بعد أن أتزوج ستقع على رؤوسهم أعمال المنزل رغما عنهم ! ”

سامر ضحك ، و كذلك والدي … أما رغد فألقت نظرة لا مبالية على دانة ثم أخذت تشرب الشاي …

والدتي قالت :

” بل على رأسي أنا ! فأنتما ستخرجان من هنا في ليلة واحدة ! ”

أنا صعقت … و اكفهر وجهي … و حملقت في رغد … أما دانة فقالت :

” ماذا … أمي ؟؟ هل …؟؟ ”

سامر قال :

” قررنا أخيرا !! ”

دانة سارت نحو رغد ببهجة فوقفت الأخرى و تعانقتا …

” أيتها الخبيثة ! هل تريدين سرقة الأضواء مني ؟؟ ”

و ضحكتا بمرح …
ثم عانقت دانة سامر و تمتمت ببعض الكلمات ، ثم ودعته و عادت إلى الداخل …

” يجب أن أغادر الآن ! ”

قال ذلك سامر … فوقف والداي ، فاحتضنهما و قبل رأسيهما …
ثم أمسك بيدي رغد ، و ضمها إليه في عناق طويل …

كل هذا و أنا واقف كالشجرة التي إلى جانبي … أشعر بالصواعق تضربني من كل جانب ، و أعجز عن فعل شيء …

و الآن … يقبل الخائن نحوي أنا … يريد توديعي …

ابتعد يا سامر فأنا أشعر برغبة جنونية في ضربك ! و لا أعرف أي قوية امتلكت لحظها و منعت يدي من أن تحطم وجهه …

صافحته و عانقته عناقا باردا خال من أية مشاعر … و تركته يذهب …

بعدما خرج ، تجاوزت الطاولة و من يجلس حولها ، و وقفت بعيدا لئلا أزعج أحدا بدخان سجائري …

كنت أسمع أصوات الثلاثة ، أبي و أمي و الخائنة يتحدثون عن أمور الحفلة و الإعداد لها …

و كنت أشعر بأن طبقة سميكة من الإسمنت قد صبت على صدري و يبست و كتمت أنفاسه …

أمي ذهبت بعد ذلك للمطبخ لتساعد دانة ، و بقي والدي مع رغد …

كنت أختلس نظرة ناحيتهما من حين لآخر … والدي كان يجلس موليا ظهره إلي أما الخائنة فكانت تواجهني

و لم يحدث أن التفت ُّ إلا و اصطدمت نظراتنا ، فزادت الإسمنت على صدري طبقة بعد طبقة …

والدي تلقى مكالمة عبر هاتفة المحمول ، ثم انصرف إلى الداخل …

و بقيت صغيرتي وحدها تشرب الشاي … توقفت عن الالتفات إلى الوراء … و شردت في اللاشيء الذي لا أراه أمامي …

و الآن شعرت بحركة خلفي … و بقيت كما أنا أرتقب … و ظهر ظل أمامي يكبر و يكبر … و الفتاة الواقفة خلفي تقترب و تقترب … و الآن توقفت …

لثوان معدودة … ظلت رغد واقفة خلفي و أنا لا أملك من الشجاعة و القوة ما يمكنني من الاستدارة إليها … و لكني أرى ظلها أمامي … و أرى يدها تتحرك نحوي … ثم تتراجع … ثم تستدير … ثم تنسحب …

عندما ابتعدت استدرت أنا للخلف و رأيتها و هي تسير مبتعدة و يدها تمسح ما قد يكون دموعا منسكبة على وجهها …

مددت يدي … أريد أن أمسك بها … أمسك بظلها … أمسك بطيفها … أمسك بدمعها … أمسك بذرات الهواء التي لامستها … و اختفت رغد … و عادت يدي فارغة لم تجني غير الحسرة و الألم …

عندها ، تلوّت معدتي أيما تلوي … و عصرت كما تعصر الملابس المبللة باليدين …

في تلك الليلة ، حضر نوّار خطيب شقيقتي و قد جالسته لبعض الوقت …

و رغم أنه دمث الخلق ، إلا أن نفسه لا تخلو من الغرور و التعالي … و قد أحرجني لدى سؤاله لي عن دراستي المزعومة و أعمالي و خبراتي المعدومة !

و كنت أختصر الإجابات ببعض جمل غامضة ، و سرعان ما انسحبت تاركا الخطيبين يستمتعان بعشائهما …

و لشدة الآلام ـ الجسدية منها و النفسية ـ فإنني اكتفيت بقدر يسير من الطعام … و ذهبت إلى غرفة سامر متحججا بالنعاس …

رغد لم تكن قد شاركتنا الوجبة ، فلا أظنها تفكر في فعل ذلك بعد الطريقة الفظة التي عاملتها بها …

الندم يقرصني و يوخز جميع أعصابي الحسية … إضافة إلى آلام المعدة الحادة …

و مرة أخرى خرجت الدماء من جوفي و زادت قلقي … لابد أنني مصاب بمرض … و لابد لي من مراجعة الطبيب …

على السرير تلويت كثيرا حتى قلبت المفارش و البطانيات و الوسائد رأسا على عقب …

أفكاري كانت تدور حول رغد … كيف لي أن أهدأ لحظة واحدة … و موعد زفافها قد تحدد !

لو كان باستطاعتي تأجيله قرنا بعد … فقط قرن واحد … أضمن فيه أنها تبقى معزولة عن أي رجل … و تموت دون أن يصل إليها أحد …

أخرجت صورة رغد الممزقة و جعلت ألملم أجزاءها ، و أتاملها ، ثم أبعثرها من جديد
و أعود لتجميعها كالمجنون …

نعم مجنون … لأن تصرف كهذا لا يمكن أن يصدر من كائن عاقل …

تركتها ملمومة على المنضدة التي بجواري … و قمت أذرع الغرفة ذهابا و جيئة كبندول الساعة !

اقتربت الساعة من الواحدة ليلا … و أنا ما بين آلم معدتي الحارق و ألم قلبي المحترق … حتى رغبت في تناول أي شيء من شأنه أن يهدئ الحريق المشتعل بداخلي …
و تنفُّس أي شيء يطرد الضيق من صدري …

أخذت علبة سجائري … و خرجت من الغرفة … تاركا الباب مفتوحا …

ذهبت أولا إلى المطبخ و حملت علبة حليب بارد معي فقد لاحظت تأثيره المهدئ على معدتي ، و خرجت إلى الفناء … و بدأت بشربه و التدخين معا …

~ ~ ~ ~ ~ ~

لا أستطيع أن أنام و أنا أفكر … و أفكر و أفكر … فيما قاله وليد لي … و الصداع يشتد لحظة بعد أخرى …

كم آلمني … أن أكتشف أنه لم يعد يهتم بي أو يرغب في رعايتي كالسابق …

لقد تغير وليد … و أصبح قاسيا و مخيفا … و غريبا …

كنت أبكي حسرة و مرارة … فأنا فقدت شيئا كان يشغل حيزا كبيرا من حياتي …
و منذ ظهوره ، و أنا في صراع داخلي …

بقيت فترة طويلة أتأمل صورته التي رسمتها قبل شهور … و لم أتمها …

و إذا بي أرى نفسي ألّون بياض عينيه باللون الأحمر الدموي … ! غضبا و حسرة …

صار مخيفا … مرعبا …

دانه كانت تمضي وقتا غاية في السعادة و المتعة مع خطيبها الذي تحبه … و هذا يجعلني أتألم أكثر … لأنني لا أحظى بالسعادة التي تحظى بها … و لا أشعر بالمشاعر التي تشعر هي بها تجاه خطيبها …

غدا هو يوم دراسة ، و يجب أن أنام الآن و إلا فإنني سأنام في القاعة وسط الزميلات !

خرجت من غرفتي و في نيتي ابتلاع قرص مسكن من الأقراص الموجودة في الثلاجة ، و فيما أنا أعبر الردهة لاحظتُ باب غرفة سامر مفتوحا …

تملكني الفضول !
سرت بحذر و هدوء نحو الغرفة !
وقفت على مقربة و أصغيت جيدا … لم أسمع شيئا …

اقتربت أكثر خطوة بعد خطوة ، حتى صرت عند فتحة الباب ، و أطللت برأسي إلى الداخل بتهور … لكني لم أجد أحدا !

عندها فتحت الباب على مصراعيه بسرعة … و بذعر و هلع صحت :

” وليد ! ”

قفزت و أنا أركض كالمجنونة … أجول في أنحاء المنزل و في رأسي الاعتقاد الصاعق بأن وليد قد فعلها و رحل خلسة …

الدموع تسللت من عيني من شدة ما أنا فيه ، و شعرت برجلي ّ تعجزان عن حملي فصرت أترنح في مشيتي مخطوفة الفؤاد … منزوعة الروح …

و انتهى بي الأمر إلى باب المدخل …

وقفت عنده و مسكت قبضته و ركّزت كل ثقلي عليها لتدعمني لئلا أقع … فإن انفتح الباب … فلا شك أن وليد قد غادر و تركه مفتوحا …

و انفتح الباب و انهرت أنا مع انفتاحه …

لقد فعلها و فر خلسة دون وداعي … خارت قواي و أخذت أبكي و أنحب بصوت عال …

” لماذا ؟ لماذا يا وليد لماذا ؟؟ ”

فجأة … ظهر شيء أمامي !

كنت أجلس عند الباب بلا حول و لا قوة … و شعرت بشيء يتحرك فأصابني الذعر الشديد … فإذا به وليد يظهر في المرأى …

” رغد !!؟ ”

لم أصدّق عيني … هل هذا شبح ؟؟ أم حقيقة ؟؟

جسم كبير … طويل عريض … متخف في الظلام … يتقدم نحوي … لا يُرى شيءٌ منه بوضوح غير لهيب السيجارة التي بين إصبعيه …

” رغد … ما … ماذا تفعلين هنا …؟؟ ”

و كدمية كهربائية قد فُصِل سلكها عن المكبس ، شللت ُ عن الحركة …

حتى رأسي الذي كان ينظر إلى الأعلى … الأعلى .. حيث موضع عيني وليد ، هوى إلى الأسفل … متدليا على صدري سامحا للدموع بأن تبلل الأرض …

لم أجد في بدني أي مقدار من القوة لتحريك حتى جفوني …

وليد وقف مندهشا متوجسا برهة … ثم جلس القرفصاء أمامي … و قال بصوت حنون جدا …

” صغيرتي … ؟؟”

الآن … كسبت من الطاقة ما مكنني من رفع رأسي للأعلى و النظر إليه …

و بقيت أنظر إلى عينيه و تحجبني الدموع عن قراءة ما فيهما …

” ما الذي تفعلينه هنا ؟؟ ”

” هل تريد الرحيل دون وداعي ؟؟ ”

لم تخرج الكلمات كالكلمات … بل خرجت كالبكاء الأجش …

” الرحيل ؟؟ من قال ذلك ؟؟ ”

” ألست … ألست تريد الرحيل ؟؟ ”

” لا … خرجتُ أدخّن ! … لكن … ما الذي تفعلينه أنت هنا في هذا الوقت ؟؟ ”

أخذت نفسا عميقا و أطلقت الكلمات التالية باندفاع و بكاء :

” ظننت أنك رحلت … دون علمي و وداعي … كما فعلت قبل سنين …
تركتني وحيدة … في أبشع أيام حياتي … ”

مد وليد يده فجأة و بانفعال نحوي ، ثم أوقفها في منتصف الطريق ، و سحبها ثانية …

قلت :

” حتى لو لم أعد أعني لك شيئا … لا ترحل دون علمي يا وليد … أرجوك لا تفعل … عدني بذلك … ”

وليد ظل صامتا لا يجرؤ على شيء سوى الإصغاء إلي …

قلت :

” عدني بذلك وليد أرجوك … ”

هز رأسه إيجابا و قال :

” أعدك .. ”

نظرت إليه بتشكك … كيف لي أن أثق بوعوده … ؟؟ …

قلت :

” اقسم ”

وليد تردد قليلا ثم قال :

” أُقسِم … لن أرحل دون علمك … صغيرتي … ”

شعرت بالراحة لقسمه … و سحبت نفسا عميقا ليهدئ من روعي …

وليد حملق بي قليلا ثم وقف … و رفع سيجارته إلى فمه و سحب بدوره نفسا عميقا …

وقفت أنا ، و سمحت للباب الذي كنت أستند عليه و أحول دون انغلاقه أن ينغلق

نفث هو الدخان للأعلى ، ثم قال و هو لا يزال ينظر عاليا :

” لم استيقظت الآن ؟؟ ”

قلت ، و أنا أراقب الدخان يعلو و ينتشر …

” لم أنم بعد ”

قال :

” لم ؟ ألن تذهبي غدا إلى الكلية ؟ ”
قلت :

” بلى … لكن … لدي أرق ”

و صمت …

ثم سألته :

” و أنت ؟ ”

قال :

” كذلك ، لذا خرجتُ أدخن … في ساعة كهذه ”

قلت :

” هل … يريحك التدخين ؟؟ ”

وليد لم يجب مباشرة ، ثم قال :

” نعم … إلى حد ما … يرخي الأعصاب … ”

قلت :

” دعني أجرب ! ”

وليد التفت إلي بدهشة و نظر باستغراب !

” ماذا ؟؟ ”

” أريد أن أجرب ! ”

اعتقد أنها ابتسامة تلك التي ظهرت على إحدى زاويتي فمه !

قال :

” هل تعنين ما تقولين ؟؟ ”

” نعم … أتسمح ؟؟ ”

وليد هز رأسه اعتراضا و قال :

” لا … لا أسمح ”

” لم ؟ ”

” لا أسمح لشيء كهذا بدخول صدرك … ”

” لكنه يدخل صدرك ! ”

قال :

” أنا صدري اعتاد على حمل السموم و الهموم … ”

ثم رمى بالسيجارة أرضا و سحقها تحت حذائه …

و علت وجهه علامات التألم ، و ضغط بيده على بطنه و قال :

” لندخل ”

و حينما دخلنا ، قال :

” تصبحين على خير ”

و اتجه نحو المطبخ …

أنا تبعته إلى هناك فرأيته يخرج علبة حليب بارد و يجلس عند الطاولة و يرشف منها …
و بعد رشفة أو رشفتين سمعته يتأوه … و يسند رأسه إلى الطاولة في وضع يوحي للناظر إليه بأنه يتألم …

دخلت المطبخ … فأحس بوجودي … فرفع رأسه و نظر إلي …

” ألن تخلدي للنوم ؟ الوقت متأخر ”

شعرت بقلق شديد عليه … قلت :

” ما بك ؟؟ ”

أبعد نظره عني و قال :

” لا شيء ”

لكني كنت أرى الألم باد على وجهه … و عاد يشرب الحليب جرعة بعد جرعة …

” وليد … هل أنت مريض ؟؟ ”

تنهد بنفاذ صبر و شرب بقية الحليب دفعة واحدة ، ثم نهض … و خطا نحوي …

” تصبحين على خير ”

و تجاوزني ، و ذهب إلى غرفة سامر … و أغلق الباب …

~ ~ ~ ~ ~ ~

صحوت من النوم على صوت والدتي توقظني من أجل تأدية صلاة الفجر …

كنت قد نمت قبل ساعة و نصف ، و أشعر بإعياء شديد …

أفقت من النوم فوجدتها واقفة قربي … نهضت و ذهبت للتوضؤ ، و عندما عدت وجدتها لا تزال واقفة عند نفس المكان تنظر إلى المنضدة …

ما إن أحست بوجودي حتى استدارت نحوي بسرعة ، و قالت :

” والدك ينتظرك … ”

ثم خرجت من الغرفة ….

ألقيت نظرة على المنضدة التي كانت أمي تراقبها قبل مجيئي … فإذا بي أرى صورة رغد الممزقة … التي نسيتُ إعادتها إلى محفظتي ليلا …

شعرت بالقلق … لابد أن أمي رأت الصورة واضحة … و لابد أن شكوكا قد راودتها
إلا إذا كان احتفاظ رجل بصورة ممزقة لطفلة كان متعلقا بها بجنون … هو أمر مألوف و مشهد تراه كل يوم … !

أدينا الصلاة في مسجد قريب و عدت إلى السرير و نمت بسرعة قياسية …

عندما نهضت ، كان ذلك قبيل الظهر و لم يكن في البيت غير والدتي ، فوالدي في مكتبه ، و رغد في الكلية ، و دانه مدعوة للغداء في مطعم ، مع خطيبها …

أمي لم تشر إلى أي شيء بحيال تلك الصورة … لذا ، تجاهلت الأمر … و أقنعت نفسي بأنها نسيت أمرها …

لم أرَ صغيرتي ذلك النهار ، إذ يبدو أنها عادت من الكلية عصرا و ذهبت للنوم مباشرة في وقت كنت أنا فيها مشغول بشيء أو بآخر ….

و في الليل … و قبل ذهابي إلى غرفة المائدة لتناول العشاء ، مررت بالمطبخ فرأيت صغيرتي تأكل وجبتها منفردة هناك …

عندما رأتني توقفت عن الأكل و انخفضت بعينيها إلى مستوى الأطباق … في انتظار مغادرتي …

آلمني أن أراها وحيدة هكذا فيما نحن مجتمعون معا … قلت :

” تعالي و انضمي إلينا ”

رغد حملقت بي قليلا متشككة ثم سألت :

” ألا يزعجك ذلك ؟؟ ”

قلت :

” لا … صغيرتي ”

و سرعان ما حملت أطباقها و طارت إلى غرفة المائدة … بمنتهى البساطة !

فيما نحن نتحدث عن أمور شتى ، قال والدي :

” أيمكنك يا وليد اصطحاب رغد من و إلى الجامعة يوميا ؟؟ إن تفعل تزيح عن عاتقي مشوارا مربكا ”

و لأنه لم يكن لدي ما أقوم به ، لم أجد حجة تمنعني من الموافقة … لكن بعض الاستياء ظهر على وجه والدتي … أنساني إياه البهجة التي ظهرت على وجه رغد … أو ربما توهمت أنها ظهرت على وجه رغد !

في اليوم التالي كان علي أن أنهض باكرا من أجل هذه المهمة ، و رافقتنا والدتي هذه المرة ….

المشوار كان يستغرق قرابة العشرين دقيقة .

رغد كانت تركب المعقد الخلفي لي ، ذهابا و إيابا … و كانت تلتزم الصمت معظم المشوار إلا عن تعليقات بسيطة عابرة …

في المساء ، كنا نقضي أوقاتا ممتعة في مشاهدة أحد الأفلام ، أو مزعجة في متابعة الأخبار و ما آلت إليه الأوضاع الأخيرة ، أو محرقة في الحديث عن الزفاف المرتقب …

أتناول وجباتي معها … آخذها إلى الجامعة أو أي مكان تود … أتبادل بعض الأحاديث معها بشأن دراستها و ما إلى ذلك … أتفرج على لوحاتها الجديدة …
أرافقها هي و دانة و أمي إلى الأسواق … أنصت باهتمام كلما تحدثت و أراقبها دون أن أشعر كلما تحركت …

كل هذا … قد أثار جنوني … و ذكريات الماضي … فصرت أشعر بأنها عادت لي … طفلتي الحبيبة التي أعشقها و أعشق رعايتها …

أخذني جنوني إلى التفكير بعدم الرحيل …

كيف لي أن أبتعد عنها و أنا متعلق بها بجنون …

كيف لي أن أسمح للمسافات و الزمن بتفريقنا ؟؟؟
إنني سأبقى حيث تكون رغد … لأنه لا شيء في هذه الدنيا يهمني أكثر منها هي …
سأبحث عن عمل ، و استقر هنا إلى جانبك …

سأبقى قربك يا رغد … نعم قربك يا صغيرتي الحبيبة …

ثم … و باتصال هاتفي واحد من سامر … يتحطم كل شيء ، و أسقط من برج الأوهام الطرية ، إلى أرض الواقع القاسية الصلبة … و يتدمر كل شيء …

لم تكن صغيرتي تملك هاتفا في غرفتها ، لذلك فإن مكالماتها تكون على مرأى و مسمع من الجميع … و كلما تحدثت إلى سامر غمرتني رغبة في تقطيع أسلاك الهاتف و الكهرباء … في المنزل برمته !

في أحد الأيام ، كنت ذاهبا لإحضارها من الجامعة ، و صادف أن الشارع كان مزحوما و شبه مسدود بسبب حادث مروري …

طال بي المشوار و أنا أسير ببطء شديد بسبب الحادث … و عوضا عن الوصول خلال 20 دقيقة وصلت بعد 40 دقيقة على الأقل …

عادة ما تكون صغيرتي تنتظرني عند الموقف حيث تقف الطالبات ، إلا أنني الآن لم أجدها …

انتظرت بضع دقائق ، لكنها لم تخرج … وقفت في مكاني حائرا

ثم اتجهت إلى الحارس و أخبرته بأنني أنتظر قريبتي و لم أرها ، فطلب اسمها ثم اتصل برقم ما ، و بعدها بدقيقتين رأيت رغد تخرج من البوابة … مع بعض الفتيات …

كنت لا أزال واقفا قرب الحارس ، نظرت هي باتجاهي و ظلت واقفة حيث هي … و تتحدث إلى زميلاتها …

شكرت الحارس ثم تقدمت ُ إليها فودعتهن و أتت نحوي …

” أنا آسف … تأخرت ُ بعض الشيء ”

” بل كثيرا ”

قالت بغضب … ثم سارت نحو السيارة …

بعدما اتخذنا مقعدينا ، و قبل أن ننطلق عدت ُ أقول :

” آسف صغيرتي … ”

و لكنها لم تجب ، و فتحت نافذة السيارة لأقصى حد … يبدو أنها مستاءة و غاضبة !

و نحن نسير بالسيارة مررت من حارس الأمن ذاته فألقيت التحية عبر النافذة و انطلقت …

” كيف تلقي تحية على شخص بغيض و غير مهذب كهذا ؟؟ ”

تعجّبت من سؤالها ! قلت :

” لم تقولين عنه ذلك ؟؟ ”

” كلما خرجت ُ لأرى ما إذا كنت َ قد وصلت َ أم لا ، وجدته ينظر باتجاه المدخل … كان أجدر بك أن تصفعه … لقد كنت أخرج فأجد والدي في انتظاري هنا كل يوم … إياك و أن تتأخر ثانية ”

يا له من أسلوب !

قلت :

” حاضر … أنا آسف ”

صمتت برهة ثم قالت :

” و كذلك ابق هاتفك المحمول مشغلا ، كلما اتصلت وجدته مغلقا ”

و أخرجت هاتفي من جيبي فاكتشفت أنه كان مغلقا سهوا …

” حسنا … لم انتبه له ”

و أيضا صمتت برهة ثم عادت تقول :

” و لا تخرج من السيارة … ابق حيث أنت و أنا سآتي إليك ”

عجبا لأمر هذه الفتاة ! قلت :

” و لم ؟؟ ”

قالت بعصبية :

” افعل ذلك فقط … مفهوم ؟؟ ”

قلت باستسلام :

” مفهوم … سيدتي !! ”

لحظتها اجتاحتني رغبة بالضحك ، كتمتها عنوة !

و توقفت عن الكلام …

و طوال الوقت ظلت صامتة بشكل لم يرحني … لابد أنها لا تزال غاضبة لأنني تأخرت …

حينما شارفنا على بلوغ المنزل … راودتني فكرة استحسنها قلبي و استسخفها عقلي … لكنني قبل أن أقع في دوامة التردد طرحت السؤال التالي :

” هل … هل ترغبين ببعض البوضا ؟؟ ”

طبعا السؤال كان غاية في السخف و الحماقة … لكنني كنت أسيرا للذكريات … ففي تلك الأيام … كنت أغدق العطاء بالبوضا و غيرها على صغيرتي كلما غضبت لإرضائها !

شعرت بالندم لأنني تفوهت بهذه الجملة الغبية … و كنت على وشك الاعتذار إلا أن رغد قالت بمرح و على غير ما توقعت :

” نعم … بالتأكيد ! ”

أوقفت السيارة عند محل لبيع البوضا ، قريب من المنزل … و سألتها :

” أي نوع تفضلين ؟؟ ”

قالت :

” هل ستتركني وحدي ؟؟ سآتي معك ”

و فتحت الباب هامة بالنزول

دخلنا المحل ، و كان يحوي عددا من الناس ، ما جعل رغد تسير شبه ملتصقة بي …

بعد ذلك … انتهى بنا المطاف إلى المنزل ، و لو تركت الساحة لأحلامي لأخذتني مع صغيرتي في نزهة … كما في السابق …

إلا أنني طردتها بعيدا و عدت بالصغيرة إلى المنزل … و أنا مسرور و مرتاح … فرائحة الماضي أنعشت رئتي …

ليت الأقدار لم تفرقني عنك يا رغد …

ليتك تعودين إلي !

ليتنا نتناول البوضا أو البطاطا المقلية سوية … كل يوم …

ما أجملها من لحظات …

و نحن نحمل البوضا اللذيذة برضا و سرور دخلنا إلى داخل المنزل ، ثم إلى غرفة المعيشة … حيث فوجئت بالنار تصهر ما بيدي … و ما بصدري … و ما بجوفي و داخلي …

هناك كان سامر يجلس مع والدي ّ و دانة …

حضر على غير توقع و دون سابق إبلاغ …

حينما رآنا نهض بسرور و جاء يرحب بنا …

نصيبي من الترحيب كان محدودا … مقابل نصيب الفتاة التي تقف إلى جواري … تحمل البوضا في يد ، و الحقيبة في اليد الأخرى …

السعادة المؤقتة التي أوهمت نفسي بها تلاشت نهائيا … و أنا أرى سامر يطوقها بذراعيه …

” اشتقت إليك عروسي ! ”

البوضا وقعت و لوثت الأرض …

بل قلبي هو من وقع أرضا و لوثت دماؤه الكرة الأرضية بأكملها …

انثنيت نحو البوضا المنصهرة أود التقاطها …

” دعها بني ، أنا سأرفعها ”

و أقبلت أمي لتنظف ما تلوث …

” ملابسك تلوثت وليد ”

” حقا ؟ سأذهب لتغييرها ”

أهي ملابسي من تأذت ؟؟

و انصرفت مسرعا … لا يحركني شيء غير الغضب و الغيرة المشتعلة في صدري … و رغبة مجنونة في أن أوسع سامر ضربا … إن بقيت انظر إليه دقيقة أخرى بعد …

محال أن أبقى في هذا المنزل ليلة أخرى … و الليلة بالذات … سأرحل و بلا عودة .

~ ~ ~ ~ ~ ~

بدأت أشعر بأن وليد يهتم بي … إلى حد ما … و هو شعور جعلني أحلق في السماء …

و اليوم ، تأخر عن موعد حضوره للجامعة عصرا ، و بعدما وصل خرجت أنا و بعض زميلاتي كل واحدة في طريقها لسيارتها …

وليد كان يقف قرب حارس البوابة … و هو شخص غير محترم … نبغضه جميعنا..

رأتني إحدى زميلاتي أنظر ناحية وليد فسألتني :

” إلى من تنظرين !؟ ”

قلت باستياء :

” من تظنين ؟ الحارس ؟ طبعا إلى ابن عمّي ”

قالت و هي تنظر إليه :

” تعنين هذا الرجل ؟؟ ”

” نعم ”

قالت :

” واو ! كل هذا ابن عمك !؟ حجم عائلي ! ”

و ضحكت هي و فتيات أخريات ضحكات خفيفة !

و قالت أخرى :

” ما شاء الله ! مع أنك صغيرة الحجم ! أنت و ثلاث أخريات معك مطلوبات من أجل التوازن ! ”

و ضحكن كلهن !

قلت بغضب :

” مهلا فليس هذا هو خطيبي ”

ثم ودعتهن على عجل و سرت نحوه …

عندما عدنا إلى البيت و نحن نأكل البوضا باستمتاع ، وجدت سامر هناك فدهشت …

لم يكن قد أبلغنا بأنه قادم ، كما و أنه غير معتاد على الحضور نهاية أسبوعين متتاليين !

أخبرني في وقت لاحق بأنه اشتاق إلي .. و يريد أن نتحدث عن الزفاف المرتقب ، و الذي لم يسعه الوقت للحديث حوله في المرة الماضية …

قضينا أمسية عائلية هادئة لم يشاركنا فيها وليد معللا بآلام معدته المزعجة …

أظن أن السبب هو التدخين !

في اليوم التالي ، أيقظتني أمي لتأدية صلاة الفجر …

عندما رأيتُ عينيها حمراوين متورمتي الجفون ، سألت بقلق :

” أمي .. ماذا هناك ؟؟ ”

أمي مسحت براحتها على رأسي و قالت بحزن :

” رحل وليد ”

جن جنوني …

و قفزت … و ركضت خارجة من غرفتي … إلى غرفة سامر … فوجدتها خالية … و جلت بأنحاء المنزل غير مصدقة و غير مقتنعة … لا يمكن أن يكون قد رحل !

لقد وعد بألاّ يرحل دون وداعي …

أقسم على ذلك …

تدفقت دموعي كمياه السد المتهدم … تجري بعنف و تدمر كل أمل تصادفه في طريقها … باب المنزل كان موصدا… والدي و سامر قد ذهبا للمسجد … فتحت الباب … و خرجت للفناء مندفعة … ثم إلى البوابة الخارجية … فتحت منها القدر الذي يكفي لأن أرى الموقف خال ٍ من أي سيارات … استدرت … و هرولت أقصد المرآب … والدتي أوقفتني … و أمسكت بكتفي …

” لا داعي يا رغد … لقد ودعنا قبل قليل … ”

لا !

لا يمكن أن يفعل ذلك !

لا يمكن أن يختفي من جديد …

صعقت … و انفضت أطرافي … و صحت :

” لماذا لم يودعني ؟؟ ”

أمي هزت رأسها بأسى …

صرخت :

” لماذا يفعل بي هذا ؟؟ لماذا ؟؟ لماذا ؟؟ ”

و مسكت بعضدي أمي بقوة و انفعال … و زمجرت بقوة و عصبية و بكاء أجش :

” لماذا يعاملني بهذا الشكل ؟؟؟ لقد وعد بألا يرحل دون وداعي … إنه كاذب … كاذب … كان يسخر مني … كان يستغفنلي و يهديني البوضا ! … كما فعل سابقا
أنا أكرهه يا أمي … أكرهه … أكرهه … أكرهه … ”

error: