قراءة رواية أنت لي كاملة

الجزء السادس

وقفت جامدا في مكاني ، و أنا أراقب عمّار يترنح ، ثم يهوي ، و تسكن حركاته …
كان دوي الطائرة يزلزل طلبتي أذني … دققت النظر إليه … لم يحرّك ساكنا
رفعت قدمي بصعوبة و حثثتها على السير نحو عمّار
بصعوبة وصلت قربه فرأيت عينيه مفتوحتين ، و الدماء تسيل من أنفه ، و صدره ساكنا عن أية أنفاس …
أدركت … أنه مات … و إنني أنا … من قتله
استدرت للخلف و عيناي تفتشان عن رغد …
صغيرتي الحبيبة …
مدللتي الغالية …
مهجة قلبي …
رأيتها تقف بذعر عند سيارتي ، و تنظر إلي و دموعها تنهمر بغزارة ، فيما يستلقي حزامها القماشي على الرمال الناعمة بكل هدوء …

بتثاقل و بطء ، بانهيار و ضعف شديدين ، سرت باتجاهها …
نفذ كل ما كان في جسدي من طاقة ، فكأنما كنت أعمل على بطارية انتزعت مني و تركتني بلا طاقة و لا حراك …

في منتصف الطريق ، انهرت …

خررت على الأرض كما تخر قطعة قماش كانت متدلية كالستار المثبت إلى الحائط و ارتطمت ركبتاي بالرمال … و هبطت أنظاري برأسي نحو الأرض …
رفعت رأسي بصعوبة و نظرت إلى رغد ، و هي لا تزال واقفة في نفس الموضع و الوضع …
بصعوبة فتحت ذراعي قليلا ، و قلت بصوت مخنوق خرج من رئتي :

” تعالي … ”

رغد نظرت إلي دون أن تتحرك ، فعدت أقول :

” تعالي … رغد ”

الآن ، أقبلت نحوي بسرعة ، و بقوة ارتمت في حضني و كادت تلقيني أرضا …
طوّقتني بذراعيها بقوة ، و حين حاولت تطويقها أنا عجزت إلا عن رمي ذراعي المنهارتين حولها بضعف

بكيت كثيرا … و كثيرا جدا …
لما ضاع … و لما انتهى ..
و لما هو آت و محتوم …

بقينا على هذا الوضع بضع دقائق ، لا أقوى على قول أو فعل شيء … و السكون التام يسيطر على الأجواء …

كان طريقا بريا موحشا ، و لم تمر بنا أية سيارة حتى الآن …

استعدت من القوة ما أمكنني من تحريك يدي قليلا ، فجعلت أمسح على رأس طفلتي و أنا أقول بحرقة و مرارة :

” سامحيني يا رغد … سامحيني … ”

رغد استردت أنفاسها التائهة ، و قالت و وجهها لا يزال مغمورا في صدري :

” دعنا نعود للبيت ”

أبعدت رأسها قليلا عني و سمحت لأعيينا باللقاء … و أي لقاء ؟؟
لقاء مبلل بسيول عارمة من الدموع الدامية
لم يجد لساني ما يستطيع النطق به …
حاولت النهوض أخيرا ، و ذراعاي تجاهدان من أجل حمل الصغيرة ، ففشلت

أطلقت صيحة حسرة و ألم مريرة تمنيت لو أنها زلزلت الكون كله ، و حطمت كل الأجرام و الكواكب و من عليها … و محت الدنيا من الوجود …

و طفلتي الصغيرة تبكي على صدري مذعورة فزعة … و عدوّي الوغد جثة هامدة تقطر دما … و حلمي الكبير قد ضاع و تلاشى كغبار عصفت به ريح غادرة …
و مصيري المجهول البعيد … كما وراء الأفق … و الساحة الخالية إلا من رغد وأنا … و الشمس تشهد ما حدث و يحدث … رفعت يدي إلى السماء … و صرخت :

” يا رب …. ”

استطعت أخيرا أن اشحن بالطاقة الكافية ، لأنهض و أحمل صغيرتي على ذراعي ، و أسير بها نحو السيارة …

لم أجلسها على المقعد المجاور لا ، بل أجلستها ملتصقة بي ، فأنا لا أريد لبضع بوصات أن تبعدها عني …

رن هاتفي المحمول ، و الذي كان في السيارة ، ألقيت نظرة لا مبالية على اسم المتصل الظاهر في الشاشة ، كان صديقي سيف ، أخذت الهاتف و أسكته ، و ألقيت به جانبا … فكل شيء قد انتهى …

انطلقت بالسيارة ببطء ، و أنا لا أعرف إلى أين أتجه … فكل شيء أمامي كان مبهما و مجهولا …

قطعت مسافة طويلة في اتجاهات متعددة ، و نار صدري تتأجج ، و دموعي عاجزة عن إطفاء شرارة واحدة منها …

صغيرتي ، ظلت متشبثة بي ، لا تتكلم ، و تنحدر دمعة من عينها تخترق صدري و تمزق قلمي قبل أن ينتهي بها المصير إلى ملابسها المتعطشة لمزيد من الدموع …

بعد فترة ، مررت في طريقي بحديقة عامة

و تصورا أي تصرف لا يمت لوضعي بصلة ، هو الذي بدر مني دون تفكير !

” رغد عزيزتي ، ما رأيك باللعب هنا قليلا ؟ ”

رغد رفعت بصرها إلي ببراءة و شيء من الاستغراب … فحتى على طفلة صغيرة محدودة المدارك ، لا يبدو هذا تصرفا طبيعيا ..

” سأشتري بعض البوضا لنا أيضا ! هيا بنا ”

و أوقفت السيارة ، و فتحت الباب ، و نزلت و أنزلتها عبر الباب ذاته .

أمسكت بيدها و حثثتها على السير معي نحو مدخل الحديقة

هناك ، كان العدد القليل جدا من الناس يتنزهون ، مع أطفالهم الصغار ، فهو نهار يوم دراسي و حار …

إنني أعرف أن صغيرتي تحب الأراجيح كثيرا ، لذا ، أخذتها إلى الأرجوحة و بدأت أؤرجحها بخفة …

تخلخل الهواء ملابسها الغارقة في الدموع ، فجففها ، و صافحت وجهها الكئيب فأنعشته …

تصوروا أنها ابتسمت لي !

عندما كانت رغد تبتسم ، فإن الدنيا كلها ترقص بفرح في عيني ّ و البهجة تجتاح فؤادي و أي غبار لأي هموم يتبعثر و يتلاشى …

أما هذه الابتسامة … فقد قتلتني …

لم أع لنفسي إلا و الدموع تقفز من عيني ّ قفزا ، و أوصالي ترتجف ارتجافا ، و قلبي يكاد يكسر ضلوعي من شدة و قوة نبضاته …

تبتسمين يا رغد ؟ بكل بساطة … و كأن شيئا لم يكن !؟

ألا يا ليتني … قتلتك يا عماّر يوم تعاركنا …

ليتني قضيت عليك منذ سنين …

ليتني أحرقتك قبل أن تحرق قلبي و تدمر ماضي و مستقبلي … و تحطّم أغلى ما لدي …

” وليد ”

انتبهت على صوت رغد تناديني ، و أنا غارق في الحزن المرير …

مسحت دموعي بلا جدوى ، فالسيل منهمر و الدمعة تجر الدمعة …

” نعم غاليتي ؟ ”

” هل نشتري البوضا الآن ؟ ”

أغمضت عيني …

و أوقفت الأرجوحة شيئا فشيئا ، فنزلت و استدارت إلي … فأخذتها في حضني و قلت باكيا و مبتسما :

” نعم يا صغيرتي ، سنشتري البوضا و أي شيء تريدينه … و كل شيء تتمنينه …
أي شيء أيتها الحبيبة … أي شيء … أي شيء … ”

و انخرطت في بكاء قوي …

رغد ، تبدلت تعابير وجهها و قالت و هي تندفع للبكاء :

” لا تبكي وليد أرجوك ”

و أجهشت بكاءا هي الأخرى …

جذبتها إلى صدري و طوقتها بحنان و عاطفة ممزقة … و بكينا سوية بكاءا يعجز اللسان عن وصفه …

و القلب عن تحمله ..

و الكون عن استيعاب فيض عبره

و امتزجت دموعنا …

و لو مر أحد منا لبكى …

و لو شهدتم بكاءنا لخررتم باكيين …

ألا و حسبنا الله و نعم الوكيل ….

بعد ذلك ، مسحت دموعها و دموعي ، و ابتسمت لها :

” إلى البوضا الآن ! ”

حملت الطفلة الصغيرة الحجم الخفيفة الوزن الضئيلة الجسم البريئة الروح على ذراعي ، فهي تحب ذلك …

و أنا سأفعل كل ما تحبه و تريده … و لو أملك الدنيا و ما عليها لقدمتها لها فورا …

قبل الرحيل …

و هل سيعوّض ذلك شيئا …؟؟

اشترينا البوضا ، و جلسنا نتناولها قرب النافورة ، و حين فرغت من نصيبها اشتريت لها واحدا آخر …

و كذلك ، أطعمتها البطاطا المقلية فهي تحبها كثيرا !

أطعمتها بيدي هاتين …

نعم … بهاتين اليدين اللتين كثيرا ما اعتنتا بها … في كل شيء …

و اللتين قتلتا عمّار قبل قليل …

و اللتين ستكبلان بالقيود ، و تذهبان إلى حيث لا يمكنني التكهن …

جعلتها تلعب بجميع الألعاب التي تحبها ، دون قيود و دون حدود ، بل ركبت معها و للمرة الثانية في حياتها ذلك القطار السريع الذي جربنا ركوب مثيله قبل 3 سنوات …

و كم أسعدتها التجربة الثانية !

نعم … ببساطة … أسعدتها !

كأي طفلة صغيرة وجدت فرصة لتلهو … دون أن تدرك حقائق الأمور …

لهونا كثيرا … ، و حين اقترب الموعد الذي يفترض أن أكون فيه عند مدرسة رغد و دانة ، في انتظار خروجهما …

” عزيزتي ، سنذهب لأخذ دانة من المدرسة ، لا تخبريها عن أي شيء ”

نظرت رغد إلي باستفهام ، أمسكت بكتفيها و قلت مؤكدا :

” لا تخبري أحدا عن أي شيء ، أنا سأخبرهم بأنك لم تشائي الذهاب للمدرسة فأخذتك معي … اتفقنا رغد ؟ عديني بذلك ؟ ”

و ضغط على كتفيها و بدا الحزم في عيني … فقالت :

” حسنا ”

قلت مؤكدا :

” أخبريهم فقط أنك ذهبت معي ، و نمت أثناء الطريق و لا تعلمين أي شيء آخر … لا تأتي بذكر أي شيء آخر رغد … فهمت ِ عزيزتي ؟ ”

” نعم ”

” عديني بذلك يا رغد … عديني ”

” أعدك … وليد ”

” إذا أخلفت وعدك ، فإنني سأرحل و لن أعود إليك ثانية ”

توجم وجهها ، ثم أمسكت بيدي و شدّت قبضتها بقوة و اغرورقت عيناها بالدموع و تعابيرها بالفزع و قالت :

” لا لا ترحل وليد . أرجوك . لا تتركني . أعدك . أعدك ”

وصلنا إلى البيت أخيرا ، بدا الوضع شبه طبيعي ، إلا من سكون غريب من قبل رغد و التي يفترض بها أن تكون مرحة …

الكل عزا ذلك للحزن الذي يعتريها بسبب سفري المرتقب .

سألتني أمي :

” كيف كان الامتحان ؟ ”

قلت :

” سأخبرك بعد الغذاء ”

و تركت العائلة تنعم بوجبة هنيئة أخيرة …

بعد ذلك ، ذهبت إلى غرفة والدي ّ في وقت قيلولتهما الصغيرة …

” والدي … والدتي … لدي ما أخبركما به ”

بدا القلق على وجهيهما ، و تلعثمت الكلمات على لساني…

أمي ، حين لاحظت حالتي المقلقة قالت :

” هل الامتحان …. ؟؟ ”

قلت :

” لم أحضر الامتحان ”

اندهشا و تفاجأا …

قال والدي :

” لم تحضره ؟ كيف ؟؟ لماذا ؟؟ ماذا حصل ؟؟ ”

نظرت إليهما ، و سالت دموعي … و انهرت … و طأطأت رأسي للأرض …

هتفت أمي بقلق و فزع :

” وليد ؟؟ ”

أخذت نفسا عميقا … و رفعت بصري إليهما و بلسان مرتجف و جسد يرتعش و شفتين مترددتين قلت :

” لقد …. قتلت عمّار ”

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

الهاتف المحمول الخاص بعمار، و الرقم الأخير الذي تم طلبه ، و الأخير الذي تم استقباله فيه ، و توقيت الاتصال ، و توقيت حدوث الوفاة ، و العراك الذي حصل مؤخرا بيني و بينه و تدخلت فيه الشرطة ، و عدم حضوري للامتحان ، كلها أمور قد قادت الشرطة إلي ّ بحيث لم يكن اعترافي ليزيدهم يقينا بأنني الفاعل …

بقي … شيء حيّرهم … تركته ساكنا في قلب الرمال …

حزام رغد

ما سر وجوده هناك … ؟؟

أنكرت أي صلة لرغد بالموضوع بتاتا ، و لدى استجوابها أخبرتهم أنها لا تعرف شيئا ، حسب اتفاقنا

سيف أيضا تم التحقيق معه ، و أكد للشرطة أنه حين اتصل بي كنت على مقربة من المبنى حيث قاعة الامتحان

و ظل السؤال الحائر :

لماذا عدت أدراجي ؟

ما الذي دفعني للذهاب إلى شارع المطار ، و الشجار مع عمّار ، و من ثم قتله

لماذا قتلت عمّار ؟؟

ما الذي أخفيه عن الجميع ؟؟

والد صديقي سيف كان محاميا تولى الدفاع عني في القضية ، باعتبار أنني قتلته دون قصد … و أثناء شجار … و بدافع كبير أصر على كتمانه …
و سأظل أكتمه في صدري ما حييت … فإن هم حكموا بإعدامي … أخبرت أمي قبل تنفيذ الحكم …
و إن عشت ، سأقتل السر في صدري إلى أن أعود … من أجل صغيرتي …

تعقدت الأمور و تشابكت … و ظلّ الغامض غامضا و المجهول مجهولا ،
و حكم علي ّ بالسجن لأمد بعيد …

” أمي … أرجوك … لا تخبري رغد بأنني ذهبت للسجن … اخبريها بأنني سافرت لأدرس … و سأعود حالما أنتهي … و قولي لها أن تنتظرني ”

” أبي … أرجوك … لا تقسو على رغد أبدا … اعتنوا بها جيدا جميعكم …
فأنا لن أكون موجودا لأفعل ذلك ”

كان ذلك في لقائي الأخير بوالدي ّ ، قبل أن يتم ترحيلي إلى سجن العاصمة حيث سأقضي سنوات شبابي و زهرة عمري فيه … بدلا من الدراسة في الجامعة … و أعود إن قدرت لي العودة خريج سجون بدلا من خريج جامعات … و بمستقبل أسود منته ، بدلا من بداية حياة جديدة و أمل …

هكذا ، انتهت بي الأحلام الجميلة …

هكذا ، أبعدت عن رغد … محبوبتي الصغيرة ، و لم يبق لي منها إلا صورتين كنت قد وضعتهما في محفظتي قبل أيام …

و ذكريات لا تنسى أحملها في دماغي و أحلم بها كل ليلة …

و صورتها الأخيرة مطبوعة في مخيلتي و هي تقول :

” لا لا ترحل وليد . أرجوك . لا تتركني ”

error: