قراءة رواية أنت لي كاملة

الجزء العشرون

لم يكن العثور على مزرعة نديم بالأمر السهل … قضيت وقتا لا بأس به في التفتيش ، خصوصا و أنا أقدم إلى هذه المدينة للمرة الأولى .

المدينة الشمالية هي مدينة زراعية تكثر فيها الحقول و المزارع ، و بها من المناظر الطبيعية الخلابة ما يبهج النفس المهمومة و يطرد عنها الحزن …

كان الوقت ضحى عندما وصلت أخيرا إلى مزرعة نديم بعد مساعدة البعض .

كنت مرهقا جدا ، فأنا لم أنم لحظة واحدة منذ نهضت صباح الأمس … و لم أهدأ دقيقة واحدة مذ رأيت الخائنين يتعانقان أمامي …

عدا عن هذا ، فإن معدتي لم ترحم بحالي و عذبتني أشد العذاب طوال هذه الساعات

كانت مساحة المزرعة صغيرة ، محاطة بالسياج ، و بها الكثير من الأشجار المثمرة …

ركنت سيارتي جانبا و دخلت عبر البوابة الكبيرة المفتوحة …

كنت أسير ببطء و أراقب ما حولي ، و رأيت منزلا صغيرا في آخرها .

فيما أنا أسير نحو المنزل لمحت سيدة تقف عند الأشجار ، و إلى جانبها عدة صناديق خشبية مليئة بالثمار ..

كانت السيدة تقطف الثمار و تضعها في تلك الصناديق . و كانت ترتدي جلبابا واسعا و تلف رأسها بوشاح طويل …

اقتربت ببطء من السيدة و أصدرت نحنحة قوية للفت انتباهها .

السيدة استدارت نحوي و نظرت إلي بتساؤل ، و من الوهلة الأولى توقعت أن تكون امرأة أجنبية ، في الأربعينات من العمر .

قلت :

” معذرة سيدتي ، إنني أبحث عن مزرعة السيد نديم وجيه و عائلته ”

قالت السيدة :

” من أنت ؟؟ ”

أجبت :

” أنا صديق قديم له ، أدعى وليد شاكر ”

تهلل وجه السيدة ، و قالت :

” أنت صديق نديم ؟؟ ”

قلت :

” نعم … في الواقع كنت زميلا له في … ”

و صمت ّ لحظة ، ثم تابعت :

” في السجن … ”

علامات الاهتمام ظهرت جلية على وجه السيدة و أخذت تحدق بي ، فخجلت و غضضت بصري …

قالت :

” أنا زوجة نديم … أحقا تعرفه ؟ ”

” نعم … سيدتي و هو من دلّني إليكم ”

قالت :

” و أين هو الآن ؟؟ ألا يزال في السجن ؟؟ ”

صعقت لدى سماعي هذا السؤال و رفعت بصري إليها فوجدتها تكاد تخترقني بنظراتها القوية المهتمة جدا و القلقة …

عادت تكرر بخشية :

” أما زال في السجن ؟؟ ”

رباه ! لقد قتِل نديم قبل سنين ! ألم يخبروا أهله بذلك ؟؟ بم أجيب هذه السيدة الآن ؟؟

السيدة رفعت يدها إلى صدرها كمن يتوقع خبرا سيئا ، قرأته في عيني …

أنا هربت بعيني … نحو أشياء عدة … إلا أنني في النهاية عدت أواجه نظراتها الملهوفة … و قلت بنبرة حزينة :

” البقاء لله ”

السيدة هلعت … و انفتحت حدقتاها على مصراعيهما و انفغر فاها …

ثم ضربت على صدرها … و رأسها … و صرخت :

” يا ويلي ”

أنا كنت أريد أن … أعتذر عن نقل خبر مفجع كهذا … و لكني لم أعثر على الكلمات الملائمة … كما و أنني شغلت بحالة السيدة المفجوعة …
فجأة … ترنحت السيدة و هوت أرضا !

اقتربت منها و قلت بصوت خائف قوي :

” سيدتي ! ”

و ظهر لي أنها فقدت الوعي …

عدت أنادي دون جدوى … ارتبكت و لم أعرف ما أفعل …

تلفت يمنة و يسرة و لم أجد أحدا ، و ناديت بأعلى صوتي :

” أيسمعني أحد ؟؟ ساعدوني … ”

و لم أسمع أو أرى أي تجاوب … لم يكن في المزرعة على ما يبدو غير هذه السيدة …

ركضت بسرعة نحو ذلك المنزل و أنا أنادي :

” أمن أحد هنا ؟ أرجوكم ساعدوني ”

وقفت أمام المنزل ثانية ، ثم اقتحمته !

كنت أنادي و استنجد … و كانت أبواب المنزل مفتوحة …

فجأة وصلني صوت ٌ من خلف أحد الأبواب :

” من هناك ؟؟ ”

قلت بسرعة و اضطراب :

” أسرعوا … السيدة في الخارج فقدت وعيها ”

اندفع الباب منفتحا فجأة و بقوة كادت تصدّع الجدار الذي اصطدم به ، و انطلق من الداخل شهاب ٌ ذهبي !

” أمي ! ”

صرخت الفتاة الشقراء التي ظهرت مسرعة و ركضت مسرعة كالبرق نحو الخارج و أنا … أتبعها …

وصلنا إلى حيث السيدة ، و بدأت الفتاة تصيح و تصرخ بذعر …

” أمي … أمي … ردي علي أرجوك … ”

و هوت إلى جانبها تحاول إيقاظها

أنا وقفت ُ مذهولا مسلوب الإرادة و التفكير …

الفتاة أخذت تنادي بصوت قوي :

” خالي … تعال بسرعة ”

تلفت أنا من حولي و لم أر أحدا …

نهضت الفتاة الشقراء بسرعة و ركضت مبتعدة و هي تنادي

” خالي … أسرع ”

يا إلهي … هل ماتت السيدة ؟؟

إنني من تسبب في موتها …

ماذا أفعل الآن ؟؟

لحظة شعرت ُ فيها برغبة قوية في الهروب …

إلا أن رجليّ لم تسعفاني …

ظهرت الآن الفتاة الشقراء ، تمسك بيد رجل عجوز أشقر ، تجبره على الركض ، و هو لا يقوى عليه …

و أخيرا وصلا إلينا … في نفس اللحظة التي بدأت فيها السيدة تفتح عينيها …

أقبلت الفتاة بسرعة لمساعدة أمها في الجلوس و هي تقول بفزع :

” أمي … ماذا جرى لك ؟؟ ”

السيدة بدت متعبة و منهارة ، وضعت رأسها على صدر ابنتها و أغمضت عينيها …

الفتاة نظرت الآن و لأول مرة نحوي أنا !

” من أنت ؟؟ ماذا حدث ؟؟ ”

أنا ارتبكت و بدأت أتأتئ….

الرجل العجوز اقترب من السيدة و قال :

” ليندا ! ماذا جرى لك ؟؟ ”

قالت الفتاة :

” يجب أن نأخذها إلى المستوصف يا خالي هيا بسرعة ”

و تعاونا الاثنان على إسنادها …

قال العجوز :

” السيارة في المؤخرة ! ”

قالت الفتاة :

” أوه كلا ! ”

حينها أنا تدخلت و قلت :

” أيمكنني المساعدة ؟؟ لدي سيارة تقف بالخارج … على مقربة ”

نظر العجوز إلى ، و كأنه ينتبه لوجودي الآن فقط ، و قال :

” من أنت ؟؟ ”

قلت :

” أنا … وليد شاكر … صديق نديم ”

الفتاة نظرت إلي باهتمام ، إلا أن والدتها تأوهت ، فأهملت الفتاة نظراتها إلي و نادت :

” أمي … تماسكي أرجوك … ”

قلت :

” تعالوا معي … ”

و لم يتردد الآخرون كثيرا ، بل ساروا خلفي مباشرة …

وُضعت السيدة في السيارة ، و جلس الرجل العجوز إلى جانبي ، ثم ذهبت الفتاة مسرعة و عادت خلال ثواني ، و جلست إلى جانب أمها في على المقاعد الخلفية

تولّى العجوز إرشادي إلى أقرب مستوصف من المزرعة ، و هناك تم إسعاف السيدة و إجراء اللازم …

الأحداث جرت بسرعة مدهشة ، حتى أنني لا أذكر بقية التفاصيل !

قال الطبيب :

” نوبة قلبية … يجب أن تنقل للمستشفى من أجل الملاحظة و العلاج ”

رباه !
هل تسببت ُ دون قصد ٍ مني في نوبة قلبية لزوجة صديقي ؟؟
كم أنا نادم على الحضور … بل نادم على تذكر وصيتك يا نديم … فعوضا عن مساعدة عائلتك هاأنا أتسبب بمرض زوجتك !

الذي حدث هو أن صحة السيدة تحسنت شيئا فشيئا ، و رفضت هي الذهاب للمستشفى و أصرت على العودة إلى البيت …

بصعوبة أقنعتها ابنتها بالبقاء بعض الوقت ، حتى تتحسن أكثر …

تُركت السيدة في غرفة للملاحظة ، و بقينا أنا و العجوز في على مقربة …

الآن تخرج الفتاة من الغرفة ، و تأتي نحونا

العجوز يبادر بالسؤال :

” كيف هي ؟؟ ”

” نائمة ، لكنها أفضل ”

و بعدها تنظر إلي أنا …

غضضت أنا بصري … فسألتني :

” من أنت ؟؟ ”

أجبت :

” وليد شاكر … كنت أحد أصدقاء السيد نديم وجيه ”

قالت :

” إنه والدي ”

قلت :

” نعم … عرفت ”

قالت :

” و لم جئت لمزرعتنا ؟ ألا تعرف أن أبي في السجن منذ زمن ؟؟ ”

صمت … ما ذا بإمكاني القول ؟؟

قالت :

” بم أخبرت أمي ؟؟ ”

و أيضا بقيت صامتا …

قالت :

” والدي قُتِل … أليس كذلك ؟؟ ”

رفعت نظري إليها مندهشا … و متندما … و أسِفا … و كم كانت تعبيرات وجهها تنم عن القوة و الجرأة …

ثم نظرت إلى الرجل العجوز … فرأيته هو الآخر يحملق بي …

قلت :

” أنا … آسف … ”

خشيت أن تأتي ردة فعل الفتاة كأمها لكنني عجبت من هذه القوة و الصمود اللذين تملكاها … قالت :

” كنت أتوقع ذلك … ”

ثم انصرفت عائدة نحو الغرفة …

بعد ذلك بدأ العجوز يستجوبني … و سردت عليه بعض أخبار نديم و أوضاعه في السجن قبل موته … و علمت أنهم منعوا من زيارته و لم يبلغوا بوفاته …

و كم أثار ذلك حزني و حنقي …

أبعد العذاب الذي صبوه عليه كل تلك المدة ، يقتلونه و يدفنونه ثم لا يبلغون أهله حتى بأنه مات !؟

أ تركوا العائلة تعيش مرتقبة عودته فيما هو رميم تحت الأرض ..؟؟

طال الانتظار ، و لم أعرف … أعلي الذهاب و تركهم ؟؟ أم علي البقاء و مساعدتهم ؟

و لكنني آثرت البقاء … من باب الأدب و الوفاء لصديقي الراحل …

بعد فترة ، اشتد علي الألم ، و التعب و بدأت أحس بالدوار …

لم أكن قد تناولت شيئا بعد تلك البوضا الأخيرة … لذلك أحس باضطراب …
و قد لاحظ العجوز اضطرابي و وهني ، إذ كنت أسند رأسي إلى الحائط القائم خلف المقعد الذي أجلس عليه ..

” هل أنت على ما يرام ؟؟ ”

سألني العجوز … أجبت :

” أشعر بالإعياء … ”

قمت بصعوبة ، بالكاد أحمل نفسي و سرت خطى متعثرة حتى وصلت إلى عيادة الطبيب …

انهرت على السرير هناك و قلت :

” أنا مرهق … ساعدني … ”

اشتد بي الدوار و بدأت أتقيأ … عصارة ممزوجة بالدم …

بعد أربعين دقيقة من العلاج شعرت بتحسن كبير … و شكرت الطبيب …

الطبيب سألني عدة أسئلة عرف منها عن آلام معدتي المتكررة و الدماء التي تخرج من جوفي ،
فأجرى لي بعض الفحوص ثم رتب لإرسالي إلى قسم المناظير لإجراء منظرة لمعدتي …

الرجل العجوز كان يأتي للاطمئنان علي بين الفينة و الأخرى …

” أ أنت بخير يا هذا ؟ ”

” أنا بحال أفضل الآن . شكرا لسؤالك أيها العم ، ماذا عن السيدة ؟ ”

” لا تزال نائمة و يريد الطبيب نقلها إلى مستشفى أكبر ، لكن ظروفنا لا تسمح بذلك ”

و الآن دخلت الممرضة في الغرفة التي كنت ُ أنا فيها و قالت :

” هيا يا سيد ، سنأخذك إلى قسم المناظير ”

الرجل العجوز نقل بصره بيني و بينها في تساؤل ، فقلت :

” سأعود بسرعة ”

و ذهبنا إلى قسم المناظير و تم إجراء منظرة لمعدتي … و بعد الفراغ من ذلك قال لي الطبيب :

” إنها قرحة نازفة … في معدتك أيها السيد ”

خمس ساعات مضت و نحن في ذلك المستوصف ، ننتظر تحسن السيدة زوجة نديم كي نغادر

وصف لي الطبيب أدوية اقتنيتها من صيدلية مجاورة ، بسعر باهظ … كما و أنني دفعت مبلغا كبيرا نسبيا من أجل مستحقات الطبيب و الفحوص و المنظرة
أتساءل ، أي مبلغ خسرت عائلة نديم يا ترى ؟؟

أقف الآن عند المخرج ، و أرى الفتاة ابنة نديم تدفع كرسي العجلات الذي تجلس عليه والدتها ، و إلى جانبهم العجوز الطيب .

حينما صاروا قربي ، انطلقت نحو السيارة و أنا أقول :

” من هنا رجاءً ”

أخذ الثلاثة يتبادلون النظرات ، ثم نظروا إلي …

في أعينهم كانت آثار الدموع واضحة ، كما علامات الحيرة و التردد …

قلت :

” سأوصلكم إلى المزرعة … إن لم يكن لديكم مانع ؟؟ ”

وصلنا إلى المزرعة و طلب مني العجوز أن أوقف السيارة في الداخل ، إمام المنزل مباشرة

قام الاثنان بمساعدة السيدة على السير حتى دخلوا المنزل ، و أنا واقف أراقب إلى جانب سيارتي … بعد قليل حضر العجوز و ناداني :

” تفضل بالدخول يا … ما قلت اسمك ؟ ”

” وليد … وليد شاكر أيها العم ”

” تفضل يا وليد شاكر ”

ترددت قليلا ، إلا أنني آثرت البقاء معهم لبعض الوقت ، إذ لابد أنهم يودون معرفة شيء من تفاصيل موت نديم ، رحمه الله

المنزل كان صغيرا و بسيطا ، و أثاثه عادي و قديم ، ما يعطي الزائر انطباعا عن المستوى المادي البسيط الذي تعيش به هذه العائلة الصغيرة .

أخذني العجوز إلى الصالة الرئيسية في المنزل ، و بعد أن جلست بدأ يرحب بي …

” أهلا بك … نحن شاكرون لك صنيعك النبيل ”

قلت :

” لا داعي لأي شكر أيها العم ، لم أفعل شيئا ”

قال :

” و كيف تشعر الآن ؟؟ هل تحسنت ؟؟ ”

” كثيرا و لله الحمد ، كل ما في الأمر أنني قضيت ساعات طويلة بلا نوم و لا طعام لذا داهمني الدوار و الإعياء ! ”

قال :

” نعم أجل … الطعام ”

و نهض و ذهب إلى غرفة مجاورة ، و عاد مع الفتاة …

الفتاة ألقت تحية علي ، و نطقت ببعض كلمات الترحيب ، ثم استأذنت …

و أخذنا أنا و العجوز نتحدث عن أمور متفرقة ، أتى ذكر نديم و مأساة وفاته في معرضها …

” لقد كنا نتوقع ذلك ، فجميع من سجنوا معه بلغتنا أنباء وفاتهم ، كل هذه السنين و نحن لسنا على يقين من حياته أو موته … ليندا لم تفقد الأمل في عودته ذات يوم ”

كم شعرت بالأسى … لأجل هذه العائلة البائسة … التي عاشت محرومة من معيلها كل تلك السنين ، و بعد كل هذا الانتظار تكتشف أنه مات !

كيف يفعلون هذا ؟؟ يسجنونه و يعذبونه و يقتلونه ، ثم لا يخبرون أهله بأنه مات ؟؟

قلت :

” يوم وفاته … طلب مني نديم أن أزور عائلته و أطمئن على أحوال أهله … كان ذلك قبل سنين … أربع تقريبا … إلا أنني … ”

العجوز كان يراقبني باهتمام شعرت معه بالخجل ، و برغبة في الاختفاء في الحال !

قال :

” هانحن نعيش حياتنا و الحمد لله .. أدعوه أن يحفظ لي صحتي و قوتي لأرعى أختي و ابنتها ”

و هنا دخلت ( ابنتها ) تحمل صينية ملأى بالطعام …

وضعت الصينية على الطاولة الماثلة أمامي و عادت ترحب بي … ثم قالت :

” تفضل يا سيد وليد ”

و انصرفت

شعرتُ بالخجل … فأنا وسط عائلة غريبة علي … أناس لم يسبق لي رؤيتهم قبل اليوم … و هم على ما يبدو كرماء !

” تفضل يا بني … طعام خفيف لحين موعد العشاء ”

دهشت ! قلت :

” العشاء !؟ ”

” نعم .. فأنت ستتناول عشاءك معنا هذه الليلة ”

” أوه كلا … إنني … إنني سأنصرف بعد قليل ”

و أصر العجوز على استضافتي ليس فقط على العشاء ، بل و للمبيت عندهم هذه الليلة !

العشاء كان لذيذا جدا ، علمت أن الفتاة هي التي أعدته ! كما علمت أن حالة السيدة قد تحسنت كثيرا ، و لذا فإنها و ابنتها كذلك شاركتانا الجلسة و الأحاديث بعد الوجبة .

الثلاثة يبدون متشابهين في المظهر ! جميعهم من السلاسة الشقراء !

السيدة كانت تمطرني بالأسئلة عن نديم و ما حصل معه ، و أنا أحاول الإجابة بالقليل الذي لا يسبب لها انتكاسة ، إلا أنها مع ذلك أخذت تبكي ، و تبعتها ابنتها …

قالت الابنة بانفعال و هي لا تملك منع نفسها عن البكاء :

” أرجوك يا أمي توقفي عن البكاء … كنت تعرفين أنه لن يعود … جميعنا نعلم أنهم و لا شك قتلوه … الظلمة القساة الحقرة … الأوغاد المجرمون … احرقهم يا رب جميعا … انتقم منهم فأنت العزيز ذو الانتقام … و افعل بهم ما فعلوه بنا … و أفظع ”

أما أنا فقد كنت أردد دعوتها عليهم في صدري …

يا رب انتقم منهم جميعا …

عاد بي شريط الذكريات إلى سنين السجن … و عذاب السجن … و الزنزانة … و الطعام الرديء … و الأسرّة المهترئة … و الحشرات ! … و الرائحة العفنة … التي اختزنت في ذاكرة أنفي ! أكاد أشمها !

رفعت يدي إلى أنفي كمن يريد منع رائحة كريهة من التسلل إلى تجويف أنفه ، فلامست أصابعي الحفرة الصغيرة التي تركها السجن علامة عليه … شعرت بنار تتأجج في صدري … نار كنت أخالها قد خمدت بعد هذه الشهور التي قضيتها خارج السجن … إلا أنني … و أنا أرى المناحة و البؤس و الدموع المنسكبة من أعين الأرملة و اليتيمة … و أتذكر نديم و هو يحتضر … و الكدمات و الجروح التي كانت تغطي جسمه أكثر من شعيرات جلده … عقدت العزم على ألا تواتيني فرصة للنيل منهم إلا و اقتنصتها …

و من خلال الساعات التي قضيتها في تبادل الأحاديث معهم ، شعرت بقربي لهم و قربهم مني … و كأنني وسط عائلتي ، و كأنني أعرفهن من سنين …

لقد ألفت ُ هذه العائلة و أحببتها في الله !

في اليوم التالي ، و رغم أنني نمت باكرا كما نامت العائلة ، استيقظت قرابة الساعة الحادية عشرة …

كنت قد نمت في غرفة صغيرة في الطابق السفلي للمنزل مفترشا فراشا أرضيا بسيطا و ملتحفا ببطانية ثقيلة .

على الأقل ، وفرت كلفة ليلة واحدة كنت سأبيتها في فندق أو ما شابه …

نهضت و خرجت من الغرفة و أنا أتنحنح …

بعد قليل ، كنت أقف في الصالة الرئيسية وحيدا ، تلفت من حولي فلم أشعر بأي حركة توحي بوجود كائن حي على مقربة مني !

مضيت نحو المخرج ، و خرجت من المنزل راغبا في استنشاق الهواء العليل العابق برائحة الأشجار و الزهور …

كم كان منعشا و باعثا للنشاط !

أخذت أتجول سيرا حول المنزل و في ممرات المزرعة … و أتأمل الجمال الطبيعي من حولي ، و أستمع إلى غناء العصافير و أشاهد استعراضاتها الجميلة في السماء …

المكان كان غاية في الروعة … و أي امرئ يقضي هنا سويعات معدودة ، لا شك أنه سيخرج بنفس مبتهجة و نفسية مرتاحة !

فيما أنا أسير … وجدت السيدة و الفتاة على مقربة …

كانتا ترتديان ملابس سوداء … ربما حدادا على تأكيد موت نديم ، رحمه الله … و كانتا تسحبان صناديق مليئة بالثمار … تجرانها جرا … إلى حيث تقف سيارة حوض زرقاء ، يعلو حوضها الرجل العجوز ،و يقوم بترتيب صناديق الثمار المكشوفة ، التي ترفعها السيدة و الفتاة متعاونتين و تضعانها في الحوض .
تفعلان ذلك ، ثم تعودان لجر المزيد من الصناديق …

اقتربت من السيارة و ألقيت التحية على العجوز المنهمك في ترتيب الصناديق ، و يبدو أنه لم يسمع !

تبعت السيدتين إلى حيث وجدت مجموعة من الصناديق المليئة بالثمار تنتظر دورها للشحن في السيارة …

و هاهما تسيران نحوي و تجر كل واحدة منهما صندوقا جديدا …

” صـ باح الخير ”

حييتهما فتركتا الصندوقين و ردتا التحية ، ثم قالت السيدة :

” هل نمت جيدا ؟ أتمنى ألا يكون الفراش قد أتعبك ؟؟ ”

قلت :

” على العكس … نمت بعمق … شكرا لكم جميعا ”

السيدة قالت مخاطبة ابنتها :

” أروى اذهبي و أعدي الفطور لضيفنا ”

الفتاة نظرت إلى الصندوق ثم إلى أمها و قالت :

” حسنا ”

و همت بالذهاب …

أنا قلت :

” شكرا لكن لا داعي لذلك … لا أشعر بالجوع الآن ”

قالت السيدة :

” بلى ! سيكون فطورك جاهزا خلال دقائق ، و معذرة فأخي مشغول الآن لكن تصرف بحرية ”

ثم التفتت إلى الفتاة و قالت :

” هيا أروى ”

الفتاة ذهبت في طريقها إلى المنزل … و السيدة تابعت سحب صندوقها …

سرت أنا نحو الصندوق الآخر ، و حملته و نقلته إلى حوض السيارة … فيما هي لا تزال تجر صندوقها !

الآن انتبه العجوز إلي !

” صباح الخير أيها العم ”

” أوه ! شاكر … نهضت إذن ! لابد أنك كنت متعبا جدا ! صباح الخير ”

وضعت الصندوق في السيارة و قلت :

” كنت ، لكنني الآن بحالة ممتازة و الحمد لله . شكرا لكم . اسمي وليد أيها العم !”

سحب العجوز الصندوق ليصفه بنظام قرب أخوته ثم قال :

” أجل تذكرت ! وليد . سآخذ هذه إلى السوق ، أتفضل انتظاري أو مرافقتي ؟ ”

نظرت ناحية السيدة المقبلة تجر الصندوق ، ثم إلى العجوز و قلت :

” أفضل مساعدتكم ! ”

ثم بدأت بنقل الصناديق واحدا تلو الآخر … و طلبت من العجوز أن يطلب من السيدة أن ترتاح ، فقد عاشت أزمة قلبية يوم أمس !

أقبلت الفتاة بعد ذلك ، و رأتني أحمل أحد الصناديق … فتعجبت ! ثم قالت :

” طعامك جاهز أيها السيد … تفضل إلى المنزل ”

و مضت نحو ما تبقى من الصناديق و جرّت أحدها …

وضعت ما بيدي في حوض السيارة ، و عدت ناحية الصناديق …

كانت الفتاة تجر صندوقها بجهد … قلت :

” دعي الأمر لي سيدتي أستطيع نقلها جميعا وحدي دون عناء ”

فتركت صندوقها و تنحت جانبا ، فحملته و نقلته إلى السيارة ، و سارت هي من بعدي حتى صارت واقفة إلى جوار والدتها …

انتهيت من مهمتي ، فشكرني الجميع ثم قالت السيدة الأم :

” لقد برد فطورك ! أرجوك تفضل لتناوله ”

شعرت بالخجل ، و نظرت نحو الأرض بحياء ، فنادت السيدة على العجوز

” إلياس … تعال لتكرم ضيفنا ! ”

نزل العجوز أرضا ، و رافقنا نحو المنزل …

هناك جلست عند المائدة أتناول فطوري الشهي ، و إلى جانبي العجوز يشرب الشاي ، بينما السيدة و ابنتها تراقباننا عن بعد و تتابعان أحاديثنا !

في معرض الحديث ، قال العجوز :

” ليتني أعود لمثل شبابك و قوتك ! اخبرني … ماذا تعمل ؟؟ ”

توقفت عن مضغ اللقمة الموجودة في فمي ، و ابتلعتها كما هي !

قلت :

” في الواقع أيها العم الطيب … أنا عاطل عن العمل ! ”

دهش العجوز ، فأخبرته بأن تخرجي من السجن حال دون قبولي في الوظائف التي حاولت الالتحاق بها ، و أخبرته إنني هنا في المدينة الشمالية للبحث عن عمل …

قال :

” شبّان هذه الأيام يحبون الوظائف المكتبية و الإدارية التي لا تتطلب منهم سوى الجلوس و تقليب الأوراق ! سيصعب عليك العثور على وظيفة كهذه في هذه المدينة ! ”

قلت :

” سأجرب ! فإن فشلت ، عدت ُ من حيث أتيت ! ”

قال :

” إذن … ما هي خطتك الآن ؟؟ ”

قلت :

” سأذهب إلى قلب المدينة ، استأجر شقة صغيرة ، و أبحث عن وظيفة … عسى الله أن يوفقني هذه المرة ”

بعد ذلك رافقت العجوز إلى السوق ، حيث قام ببيع الثمار على أحد تجار الخضار و الفاكهة ، ثم عدنا إلى المزرعة ….

حينما وصلت ، و فيما أنا في طريقي إلى سيارتي ، لمحت السيدتين واقفتين عند الأشجار ، تقطفان الثمار و تجمعانها في السلات و الصناديق …

نظرت إلى العجوز السائر جواري و قلت :

” ألا يساعدكم أحد في العناية بهذه المزرعة ؟؟ ”

قال :

” كلا ! نحن الثلاثة من يعتني بها ، لكننا نستأجر بعض العمال لقطف الثمار أو التنظيف أو ما إلى ذلك من حين لآخر ! ”

يا للحياة الشاقة التي تعيشها هذه العائلة !

لو تعلم يا نديم … !

قلت :

” دعوني أساعدكم قبل المغادرة ! ”

و بدأت العمل !

قطفنا كميات كبيرة من الثمار ، و وزعناها على الصناديق ، و تركناها قرب بعضها البعض ، لحين الغد ، حيث سيتم نقلها إلى السيارة من جديد …

بعد ذلك قمنا بجمع الأوراق و الثمار المتساقطة و تنظيف الأرض !

كل ذلك استغرق منا ساعات من العمل ، و كلما حاول العجوز ثنيي أو الاعتذار ، قلت له :

” هذا واجبي ، و نديم يستحق أكثر من ذلك ”

بعد ذلك ، دخلنا إلى المنزل و من ثم تناولت وجبة الغداء المتأخرة مع العجوز الطيب … ، شكرته على حسن ضيافته و وعدته بالعودة لزيارتهم كلما أمكنني …
و خرجت من المنزل و ركبت سيارتي الواقفة أمام المنزل ، و سرت بها …

عبرت على مجموعة الصناديق ، و فكرت … في العناء الذي ستلاقيه السيدتان غدا في نقلها إلى السيارة الزرقاء … غدا و بعده و كل يوم … اعتقد أن من واجبي تقديم المزيد من المساعدة لهذه العائلة التي أوصاني صديقي الراحل بها خيرا

أوقفت السيارة و عمدت إلى الصناديق و جعلت انقلها إلى السيارة الزرقاء المركونة على مقربة ، واحدا تلو الآخر … دون علم أحد !

الشمس كانت على وشك المغيب … لم أكن أشعر بأي تعب أو إعياء يذكر ، كما و أن آلام معدتي قد اختفت تقريبا بعد العلاج السحري الذي وصفه لي الطبيب ! أو ربما العلاج السحري في هذه المزرعة الجميلة و مناظر الطبيعة الخلابة ، و الهواء المنعش …

كم أنا سعيد لأنني استطعت خلال الساعات الماضية طرد آلامي الجسدية و النفسية … و أفكاري المهمومة … بما فيها الخائنة رغد !

رغد …

ما تراك تفعلين الآن ؟؟؟

و ما تراك فعلت ِ بعد علمك برحيلي ؟؟

ما تراك فاعلة إن علمت ِ أنني لن أعود إليك مرة أخرى … و أنني في سبيل الابتعاد عنك مستعد لهجر أهلي للأبد ؟؟؟

” ماذا تفعل ! ”

روعتُ فجأة حين سمعت صوتا آت ٍ من خلفي ، و استدرت بفزع !

كانت ابنة نديم !

كنت أحمل الصندوق على ذراعي و أسير نحو السيارة الزرقاء ، و أفكر برغد !

ثم وجدت نفسي في موقف لا أحسد عليه ، أمام ابنة نديم … تنظر نحوي بدهشة !

تتأتأتُ في الحديث ، قلت :

” أأأ … فكرت في … بما أنني لازلت هنا … يمكنني المساعدة قبل … معذرة فأنا لم أقصد سوءا ! ”

و خفضت بصري نحو الأرض …

شعرت بثقل الصندوق فوق يدي ، فرفعته أكثر ، ثم اعتذرت ، و ذهبت إلى السيارة لأضعه فيها …

الفتاة تبعتني ، و أخذت تنظر إلى الصناديق الموضوعة في السيارة بتعجب !

قالت :

” لم كلّفت نفسك عناء كل هذا !؟ لم يكن واجبا عليك ذلك ! ”

قلت :

” بلى … من واجبي و من دواعي سروري أيضا ! نديم كان صديقي الحميم في السجن … ليتني أملك أكثر من هذا لأفعله من أجله … و أجل عائلته ”

الفتا قالت بعد صمت قصير :

” شكرا لك … أنت رجل نبيل ”

و صمتت تارة أخرى ، ثم قالت :

” لماذا دخلت السجن ؟؟ ”

و لما لم تجد مني جوابا ، قالت :

” اعتذر … تجاهل سؤالي إن كان يزعجك … ”

أنا كنت في غاية الاضطراب ، هناك مواقف كثيرة في الحياة لا أعرف التصرف حيالها ، و هذا أحدها !

سرت إلى الصناديق و تابعت عملي بصمت و هدوء ، و إن كان داخلي متوترا مضطربا ، و الفتاة واقفة على مقربة !

متى تنقشعين !؟

يبدو أنها امرأة قوية و جريئة !

ربما لأن أمها ـ و كذلك خالها ـ من أصل بلدة أخرى … ذات طباع و شخصيات أخرى … غريبة و مختلفة عما تعودت أنا عليه !

بعد فراغي من نقل الصناديق ، قالت لي :

” شكرا لك يا سيد وليد … والدي يعرف كيف يختار أصدقاءه … ”

قلت بخجل :

” العفو … سيدتي ”

ثم ابتعدت و أنا أقول :

” مع السلامة ”

~ ~ ~ ~ ~
” وقعت ِ أخيرا ! ”

صاحت نهلة بصوتها العالي و هي تشير بإصبعها نحوي ، و تضيق الحصار علي !

تلفت من حولي و قلت :

” نهلة أرجوك ! اخفضي صوتك ! لابد أن أمي تسمعه في المطبخ ! ”

نهلة أقبلت نحوي و هي لا تزال تمد بسبابتها نحوي حتى تكاد تفقأ عيني !

قالت بحدة و مكر :

” اعترفي يا رغد … لن يجدي الإنكار أو المواراة ! أنت مهووسة بابن عمّك ! ”

مددت يدي و أمسكت بعنقها و ضغطت عليه !

” سأخنقك ِ يا نهلة ّ ”

نهلة الأخرى طوقت عنقي بيديها و قالت تمثل دور المخنوقة :

” سأنطق بالحق حتى النفَس الأخير … رغد تحب ابن عمّها وليد… دون أن تدرك اللهم إني بلّغت ، اللهم فاشهد ! ”

و بالفعل كدتُ أخنق هذه الفتاة !

طرقُ على الباب منع جريمتي من الوقوع !

تركت عنق ابن خالتي و مضيت ُ لفتح الباب … كانت دانه !

” رغد … وليد على الهاتف ! إن كنت ِ ترغبين بإلقاء التحية ! ”

حدّقت ُ بها لثوان شبة واعية لما قالت ، ثم انطلقت مسرعة إلى حيث كانت والدتي تمسك بسماعة الهاتف و تتحدث إلى وليد …

عندما رأتني أمي قالت له :

” بني … هذه رغد ترغب في التحدث معك ”

و مدت السماعة إلي …

أخذت السماعة و ألصقتها في إذني و فمي ! بقيت صامتة لثانيتين ، ثم قلت :

” وليد ؟؟ ”

أستوثق من كونه هو من على الطرف الآخر …

صوت وليد وصلني خافتا مترددا و هو يقول :

” مرحبا … صغيرتي ”

بمجرد أن سمعت صوته ، انفجرت !

قلت بصرخة منطلقة مندفعة قوية حادة مجنونة :

” كذّاااااااااااااب ”

و أعدت السماعة بسرعة إلى والدتي ، و جريت نحو غرفتي ، و صفعت الباب و أوصدته بانفعال !

نهلة أخذت تنظر إلي بذهول و استغراب …

” رغد !؟؟ ”

صرخت بانفعال …

” رغد تكره وليد …. أفهمت ِ ؟؟ تكرهه … تكرهه … تكرهه ”

و لم أتمالك منع دموعي من الانسياب بغزارة من محجري …

و مضيت إلى سريري فجلست و سحبت الوسادة ، و غمرت وجهي فيها … حتى كدت اختنق !

بعد قليل ، نهلة ربتت على كتفي و قالت :

” نعم … مفهوم ”

تتمه

أبعدت أنا الوسادة عن وجهي و تنفست الصعداء … و سمحت لنظرات نهلة باختراقي مباشرة … الدموع كانت تجري بانسياب مبللة كل ما تصادفه في طريقها …

” عزيزتي … ”

ما أن قالت نهلة ذلك حتى انهرت تماما … و رميت برأسي في حضنها و طوقتها بذراعي باستسلام و أسى … قلت و أنا في غمرة الحزن … في لحظة صدق و اعتراف

” لماذا رحل دون وداعي ؟؟ لماذا كذب علي ؟؟ لماذا كذبوا كلهم علي ؟؟ أخبروني بأنه لن يعود … لكنه عاد … لكنه تركني … لم يعد يهتم بي … لأنني سأتزوج سامر … لكني لا أحب سامر … لا أحبه … ”

و أبعدت ُ وجهي عن حضنها و نظرت إليها باستنجاد مرير …

” نهلة … أنا … لا أحب سامر … أنا … لا أريد أن أتزوج منه ”

نهلة وضعت يدها بسرعة على فمي لكتم كلماتي ، و تلفتت ، ثم عادت تنظر إلي …

قالت :

” اخفضي صوتك … ”

شعرت باليأس و فقدِ الأمل … و طأطأت برأسي أرضا باستسلام لحكم القدر …

كيف لي أن أقول هذا … و لا تفصلني عن موعد الزفاف غير أسابيع ؟؟

لا يحق لي حتى مجرد التفكير … فقد قضي الأمر … و انتهى كل شيء …

بعدما هدأت من نوبة بكائي … و لزمت و نهلة الصمت لعدة دقائق ، قالت هي :

” رغد … لم يفت الأوان بعد … دعي أمي تتدخل و توقف هذا الزواج في الحال ”

هززت رأسي نفيا و اعتراضا و قلت بعدها :

” لا … كلا كلا … نهلة إياك و الإقدام على هذا … ”

” لكن يا رغد … ”

” أرجوك نهلة … لا تفسدي علي الأمور … لقد فات الأوان … و انتهى كل شيء … لا تضعيني في موقف كهذا مع أمي و سامر و الجميع … ”

نهلة أمسكت بيدي و قالت :

” لكن… أنت لا تحبين سامر ! إنك لا ترغبين في الزواج منه ! كيف تربطين مصيرك به ؟ ”

” قدري و نصيبي ”

” و وليد ؟؟ ”

وقفت ببطء … و استسلام … و أنا أتذكر تلك الليلة ، حين وعدني و أقسم بألا يرحل دون علمي ، ثم نقض الوعد و القسم … مستغفلا إياي بعلبة بوضا !

قلت :

” لم يعد له وجود … أو داع للوجود ”

طُرق الباب مجددا ، فتوجهت لفتحه فإذا بها أمي …

أمي حملقت في عيني المحمرتين برهة ثم قالت :

” رغد … أهناك شيء ؟؟ ”

واريت أنظاري تحت الأرض ، و قلت :

” لا … لا شيء ”

و حين رفعت نظري إليها وجدتها تنظر إلي بتشكك …

هربت من نظراتها و نظرت إلى ابنة خالتي … و التي بدورها قالت :

” يجب أن أذهب الآن … ”

و ذهبت إلى المرآة ترتب حجابها و عباءتها …

قلت :

” نهلة ! كلا لن تذهبي الآن ! ”

قالت :

” لدى سارة دروس تستصعبها و هي تنتظرني لتعليمها الآن ! … ”

قالت أمي :

” لا يزال الوقت مبكرا … ابقي للعشاء معنا ”

ابتسمت نهلة و قالت و هي تحرك يدها عند نحرها :

” ستذبحني سارة إن تأخرت أكثر ! ”

رافقتها إلى الباب الخارجي ، و قلت لها قبل أن تنصرف :

” نهلة … لا تذكري ما دار بيننا على مسمع من أحد … أرجوك ”

نهلة ابتسمت ابتسامة مطمئنة ، ثم غادرت …

عندما عدت إلى غرفتي وجدت دانة هناك !

ما أن رأتني حتى بادرت بسؤالي :

” بربك رغد ! ماذا تقصدين من تصرفك الأحمق هذا ؟؟ لقد كادت السماعة أن تتصدع من صرختك ! أخشى أن تكوني قد أحرقت الأسلاك بين المدينتين ! ”

لم يكن لدي مزاج مناسب للجدال مع دانة هذه الساعة ، قلت بنفس ٍ متضايقة:

” أخرجي دانة ، أريد البقاء وحدي ”

دانة نظرت إلي باستنكار ، ثم قالت :

” لا تطاقين يا رغد ! متى أتزوج و أتخلص منك ! ”

ثم مضت مغادرة ، و قبل أن تخرج قلت :

” قريبا يا ابنة عمي … ماذا بعد ؟؟ أهذا يكفي ؟؟ ”

و صفعتُ الباب خلفها …

اعتقد أن تصرفاتي لم تكن لائقة لهذا اليوم ، بل و منذ رحيل وليد و أنا في حالة عجيبة … عصبية دائما ، حزينة دائما ، ضائقة الصدر … منعزلة في غرفتي … فاقدة الاهتمام بأي شيء من حولي حتى الرسم …

و مع مرور الأيام ازدادت حالتي سوءا … و بدأ العد التنازلي لموعد الزفاف … لموعد النهاية … لموعد الحلقة الأخيرة من مسلسل حياتي التعيسة …

لو كان لي أم … لو كان لي أم تخصني أنا … لا تكون هي أم سامر … لكنت أخبرتها بكل ما يختلج صدري من مشاعر …

لكنت أخبرتها بما أريد و ما لا أريد …

أمي هذه ، أم سامر خطيبي … العريس المتلهف للزفاف ، و إن حاولتْ التحدث معي ، أتحاشاها و اخفي في صدري ما لم أعد قادرة على كتمانه …

كيف لي أن أخبرها بأنني لا أريد أن أتزوج من ابنها ، الذي خطبت ُ له منذ أربع سنين !؟

كيف سيكون موقفي من سامر … و أبي …و الجميع …

و لماذا أفعل هذا بهم ؟؟

أيكون هذا جزاء من آووني و رعوني كل هذه السنين ، التي لم أشعر فيها أبدا بأنني يتيمة الأبوين …؟؟

عدا عن ذلك …

فأي رجل سأتزوج ما لم أتزوج سامر ؟؟ من سأعطيه ثقتي المطلقة مثله … ؟

حسام الذي لا يختلف عنه كثيرا ؟؟

أم … وليد …الذي …

الذي … لم أعد أعني له شيئا …؟؟

وليد … الكذاب !

~ ~ ~ ~

كذاب !

كلمة قاسية هزتني و أربكتني حتى كدت معها أوقع هاتفي من يدي …
لها الحق بنعتي بهذه الصفة .. ألم أعدها ألا أرحل بدون علمها ثم رحلت ؟؟؟
لكن لماذا تأثرت ْ هي كثيرا من ذلك ؟؟
ماذا كان يفرق لديها … بقائي من رحيلي ؟؟
أم تظنني سأبقى أرعاها و أدللها كما كنت في السابق ، فيما هي زوجة لأخي !

الخائنان !

كنت في سيارتي في طريقي إلى الشقة الصغيرة التي استأجرتها ، و دفعت مبلغا لا بأس به لأجل ذلك ، على الرغم من نقودي المحدودة التي تتضاءل يوما بعد يوم .

بحثت جاهدا عن وظيفة في هذه البلدة ، و كلما صادفت أعلانا عن وظيفة شاغرة في الصحف بادرت بالاتصال ، رغم أنني لا استوفي شيئا من الشروط المطلوبة …

كانت أيام سبعة قد انقضت منذ وصولي إلى هذه البلدة ، و هي فترة قصيرة طبعا ، إلا أنني شعرت بملل و وحدة قاتلين … و فكرت في العودة إلى مزرعة نديم !

إنني أشعر بأن أهل نديم هم أهلي … و إن لهم حق واجب علي … و علي تأديته …

لذا ، فإنني غادرت الشقة ، ذهبت إليهم … في اليوم التالي .

عندما وصلت ، كانت ابنة نديم هي أول من التقيت به …

الفتاة كانت جالسة بين مجموعة من الصناديق الخشبية ، منهمكة في إصلاح و تجبير كسورها بالمطرقة و المسامير !

ألقيت التحية فلم تسمعني ، فعدت أحيي بصوت مرتفع فانتبهت لي …

رمت الفتاة بالمطرقة جانبا و نهضت واقفة و قالت :

” مرحبا بك أيها السيد النبيل … ”

هبطت ببصري أرضا و قلت :

” كيف أحوالكم ؟ ”

” الحمد لله . ماذا عنك ؟ ”

” بخير سيدتي . … هل العم إلياس موجود ؟ ”

” خالي ذهب لجلب بعض الأشياء … سيعود قريبا … تفضل ”

و أرادت مني أن اتبعها إلى المنزل ، لكنني قلت :

” سوف أنتظر العم … إذا لم يكن في ذلك ما يزعجكما ؟ ”

قالت :

” لا بأس ، أهلا بك … سوف أخبر والدتي عن مقدمك ”

و ذهبت مسرعة إلى المنزل …

أنا جعلت أتأمل طابور الصناديق المكسورة التي تنتظر دورها في التجبير !

إنها مهمة شاقة لا تناسب المرأة !

أليس كذلك ؟؟

بعد قليل أتت السيدة الأم مع ابنتها ، ترحب بي بحرارة و كأنها تعرفني منذ زمن !

شعرت بالخجل من ذلك ، و لكن يبدو أنه وضع مألوف لدى هذه العائلة الغريبة !

قلت و أنا أنظر ناحية الصناديق :

” دعاني أتولى ذلك ”

طبعا السيدتان اعترضتا ألا أنني قلت :

” ريثما يعود العم إلياس ”

و رغم أنها المرة الأولى التي أقوم فيها باستخدام المطرقة و المسامير ، ألا أنني أتقنت العمل !

في الواقع ، شعرت بالخزي من نفسي … فأنا عاطل عن العمل أتسكع في المدن و الشوارع ، بينما تقوم فتاة شابة في العشرينات بإصلاح كسور صناديق خشبية ، و قطف الثمار ، و حمل الصناديق الثقيلة ، و الحرث و الزرع و ما إلى ذلك …

أمر مخز بالفعل !

بعد قليل وصل العم إلياس و ما أن رآني حتى أسرع نحوي يريد أخذ المطرقة مني يدي …

قلت :

” مرحبا أيها العم الطيب ! لا تقلق … إنه عمل يسعدني كثيرا ! ”

اعتقد أنه شعر بالخجل ، و رحب بي بحرارة تفوق حرارة ترحيب الأخريين ، و تمتم بعبارات الشكر و بسيل من الدعوات و الأماني !

أنهيت عملي خلال ساعة … أمطرني الجميع بكلمات الشكر اللانهائية … شعرت حينها بأنني شخص ذو قيمة و أهمية و قدرة على العمل و إفادة الآخرين … بعد شهور التفاهة و البطالة و التشتت التي قضيتها …

قال العجوز :

” أعطاك الله القوة و الصحة يا بني ، آمل أن تكون قد وفقت في العثور على وظيفة تلائمك ؟؟ ”

قلت :

” ليس بعد ! ”

قال :

” إذن ؟؟ ”

قلت :

” هل … أجد عندكم عملا مقابل المأوى و الطعام فقط ، إلى أن أجد وظيفة ملائمة ؟؟ ”

ستة أسابيع مضت منذ أن اقتحمت عالم الفلاحة ، و أصبحت مزارعا !

شيء لم أكن أحلم به أو أتخيله حتى يمر ببالي مرورا عابرا … فقد كنت أحلم بأن أصبح رجل أعمال مهم … مثل صديقي سيف …

في كل صباح ، كنت أقوم بحرث الأرض ، و زرع البذور ، و قطف الثمار و تنظيف المزرعة ، و إصلاح كل مكسور ، الصناديق … أنابيب المياه ، الأغصان !
و قبيل الظهيرة أذهب لبيع ثمار اليوم في سوق الفاكهة ، و حين أعود أتابع العمل في هذا الشيء أو ذاك … عمل شبه مستمر حتى غروب الشمس …

وجباتي الثلاث كنت أتناولها إما مع العم إلياس أو في الغرفة الجانبية التي خصصت لي ، خارج المنزل …

رغم أنه كان عملا شاقا ألا أنني سررت به كثيرا بل و وجدت فيه ذاتي التائهة … و تعلقت بعائلتي الجديدة كما تعلقت هي بي …

أما عن صحتي ، فقد تحسنت كثيرا مع تحسن نفسيتي ، و اختفت الآلام تقريبا و كسبت عدة أرطال من الوزن !

و أفضل ما في الأمر … أنني تقريبا أقلعت ُ عن التدخين !

اليوم تلقيت اتصالا من والدي يخبرني فيه بأنه و أمي سيسافران لأداء الحج بعد الغد ، و يرغبان في رؤيتي … أمر يتطلب مني العودة إلى المنزل رغما عني …
أمر ٌ و إن كان صعبا فإن علي تحمله من أجل رؤيتهما … ليلة واحدة فقط ثم أرحل عن ذلك المنزل و من به !

هكذا كان تفكيري قبل أن يقول أبي :

” و لأن سامر لا يستطيع أخذ إجازة لكونه حجز أجازته بعد عودتنا من أجل الزواج ، فلا بد من بقائك هنا حتى نعود ! ”

قلبت الأفكار في رأسي و وجدتها مهمة يصعب علي تحملها ، فقلت :

” لا أستطيع ذلك يا أبتي … سآتي من أجل تحيتكما فقط … ”

قال :

” و من يبقى لرعاية المنزل و الفتاتين إذن ؟؟ ”

أنا ؟؟

أ أعود أنا لأرعى تلك الخائنة من جديد ، و أعيش معها أيام استعدادها للزفاف ؟؟
لم تبق غير أسابيع ثلاثة عن ذلك الموعد المشؤوم ! إنني أفضل السفر إلى المريخ أو المشتري على العودة إليها … ومشاهدتها عروسا تودع العزوبية !

” لا يمكنني … يا أبي … ”

” في حال كهذه … لا أملك غير تأجيل حجي للعام المقبل ! ”

” أوه كلا أبي … مادمتما قد عقدتما العزم … فتوكلا على الله ! ”

” و الفتاتان ؟؟ أ أتركهما وحدهما في البيت ؟؟ مستحيل طبعا ”

أشياء كثيرة تبدو مستحيلة جدا ، ألا أنك حين توضع في وجه التيار ، تجد نفسك مضطرا لتنفيذها رغما عن أنفك ، مستقيما كان أو معقوفا !

خلاصة القول ، رضخت للأمر … و وافقت على العودة إلى جهنم …

كنت أرتب أشيائي في حقيبة سيارتي حين أقبل العم و معه الآنسة أروى ، ابنة نديم و وقفا يراقباني …

قال العم :

” نحن محزونون لفراقك … أرجوك أن تعود إلينا من جديد فوجودك عنى الكثير ”

ابتسمت له بفرح ، و قلت :

” بالطبع سأعود يا عمي ، إن شاء الله … ما أن يعود والداي من الحج حتى أوافيكم من جديد … هنا عملي و في أي قطر من أقطار الأرض لن أجد الراحة كما أجدها هنا ”

و هي حقيقة أدركها … تماما

قالت أروى :

” نتمنى أن تحضر عائلتك لزيارتنا ذات يوم ! هلا ّ فعلت ؟؟ ”

قلت :

” سأرى ما إذا كان ذلك ممكنا … ”

قالت :

” أ لديك شقيقات ؟؟ ”

قلت :

” نعم ، واحدة فقط ، و شقيق واحد فقط أيضا ”

قالت :

” أحضرها لزيارتنا ذات يوم … سيعجبها المكان كثيرا ”

” أنا واثق من ذلك … ”

و أغلقت حقيبة سيارتي ، ثم فتحت الباب و قلت مودعا :

” نلتقي على خير إن شاء الله بعد أسبوعين … دعوا الأعمال الشاقة لأنجزها حين أعود ”

و ابتسم العم ، و كذلك ابتسمت أروى … ثم لوّحت بيدها مودعة … !

أروى نديم … فتاة قوية … شخصية مميزة تستحق التقدير … !

~ ~ ~ ~ ~ ~
أجلس أمام التلفاز في غرفة الضيوف أشاهد برنامجا ترفيهيا ، عل ّ ذلك يفيد في طرد الأفكار التعيسة من رأسي …

تركت الجميع مجتمعين في غرفة المعيشة يتناقشون بشأن العرس ، و أنا أشاهد برنامجا سخيفا لا أهدف منه إلا شغل نفسي بشيء أبعد ما يكون عن … وليد .

في أي لحظة قد يصل …

لا لست أرتقب حضوره ، فلم يعد يهمني ذلك ، بل على العكس ، لازلت ألح على سامر ليبقى هو معنا خلال الأسبوعين اللذين سيغيبهما والداي … في الحج …

أقبل سامر الآن يحمل كأس عصير برتقال ، يقدمه لي !

” عروسي … تفضلي هذا ”

أخذت العصير و شكرته و قلت :

” لم تحضره بنفسك ! ؟ ”

ابتسم و قال :

” عروسي و أحب تدليلها ! لم تجلسين وحدك هنا ؟ إننا نشرب العصير في غرفة المعيشة و نتحدث بشأن الحفلة ! ”

ازدردت شيئا من العصير ، ثم وضعته على المنضدة التي بجانبي و عدت أتابع البرنامج متظاهرة بالاهتمام و الاندماج …

سامر جلس على المقعد المجاور و أخذ يشاهد البرنامج بضع دقائق ، و أظنه استسخفه !

قال :

” لو كان باستطاعتي الحصول على إجازة أطول ، لكنت بقيت هذين الأسبوعين معك … ”

قلت في نفسي :

ألا يكفي أنني عشت منذ طفولتي معك ، و سأقضي بقية حياتي معك … ؟؟ إنهما أسبوعان ليس إلا ! ألا تسأم منّي !!؟؟

الآن أمسك بيدي و قال :

” ثلاثة أسابيع فقط … كم أنا متلهف لذلك الحين ! ”

سحبت يدي من بين يديه و أمسكت بكأس العصير ، و رشفت رشفتين ، و أبقيته بين يدي حتى لا يعود لمسكي !

قال :

” فيم تفكرين ؟؟ ”

التفت إليه أخيرا … إذ أنني طوال الوقت كنت أتظاهر بمتابعة البرنامج ، قلت :

” مندمجة مع التلفاز ! ”

سامر هز رأسه تكذيبا ، و قال :

” بل أنت في مكان آخر ! ”

لم أستطع نفي الحقيقة … فنظرت إلى كأس العصير ، و جعلت أهزه بعض الشيء …

قال سامر :

” تختلفين عن دانة … فهي متحمسة جدا للعرس ! أهناك ما يقلقك عزيزتي ؟؟ ”

التزمت الصمت ، ما عساي أن أقول ؟؟؟

نعم هناك ما يكاد يخنقني !

أنا لا أريد الزواج منك ! هلا ّ أعفيتني من هذه المهمة الأبدية لو سمحت ؟؟

سامر أمسك بيدي الممسكتين بكأس العصير و قال :

” لا تقلقي ! كل شيء سيكون على ما يرام ! و ستكونين أجمل من دانه حتما ! ”

في هذه اللحظة سمعنا تنحنحا فالتفتنا ناحية الباب ، و رأينا دانة تقف و تراقبنا باستنكار … !

بمجرد أن نظرنا إليها قالت بحنق :

” سامر ! الويل لك ! من هي الأجمل مني ؟؟ سأريك ! ”

سامر ضحك و سحب يديه عن يدي و قال :

” إنا أعني فتاة أخرى تدعى دانة ستتزوج في نفس ليلتنا ! ”

قالت دانة :

” آه نعم صدّقتك ! أجل أعرفها … و لها شقيق اسمه سامر ستقتله بعد دقيقتين ، و آخر اسمه وليد وصل إلى البيت قبل دقيقتين ! ”

جفلت ، و توجس فؤادي خيفة … قال سأل سامر منفعلا :

” هل وصل وليد حقا ؟؟ ”

قالت :

” نعم وصل ! إنه في غرفة المعيشة ! ”

عادة ً ما أحس بالحرارة لدى ذكر وليد على مسمعي أو في خاطري ، إلا أنني الآن شعرت بالبرودة !

البرودة في رجلي بالتحديد … لأن كأس العصير البارد انزلق من يدي المرتعشتين و انسكب محتواه على ملابسي و رجلي !

دانة لاحظت وقوع الكأس من يدي ، قالت :

” ماذا فعلتِ ! أوه … العصير الذي تعبت ُ في إعداده ! ”

وقفت أنا و وقف سامر و أخذت أحدق في البقعة التي ظهرت على ملابسي !
أهذا وقته ؟؟

سامر قال :

” فداك ! ”

ثم التفت إلى دانة و قال …

” إلى وليد ! ”

و ذهب مسرعا ليحيي شقيقه …

دانة قالت و هي تنظر إلى ملابسي بشيء من السخرية :

” ألن تأتي لتحيته ؟؟ ”

قلت :

” سأبدل ملابسي … ”

و مضيت نحو الباب فلما صرت قربها قلت :

” أرجو أن تغلقي باب غرفة الضيوف فأنا لا أضع حجابي ”

دانة ذهبت إلى غرفة الضيوف ، فدخلت و أغلقت الباب ، بينما صعدت أنا ليس فقط لتبديل ملابسي ، بل و للاستحمام ، و غسل ملابسي ، و غسل عباءتي أيضا ، و عصرها ، و كيها كذلك !

شغلت نفسي بكل شيء و أي شيء يؤجل موعد اللقاء المحتوم …

من قال أنني أريد أن أذهب للقائه ؟؟ من قال أنني أتحرق شوقا لرؤيته ؟؟

أنا لا أريد رؤية وجهه ثانية … أبدا !

مضت ساعة و نصف ، و أنا في غرفتي أؤدي كل ما تقاعست عن تأديته خلال الأسابيع الماضية !

ألست ُ عروسا على وشك الزواج ؟؟

لا ألام إذن إن أنا اعتنيت ببشرة وجهي ، و وضعت عليها الكريمات و المرطبات و المعالجات كلها واحدا تلو الآخر !

و بعدما فرغت منها ، و قفت أمام المرآة … مصرة على تجريب علبة الماكياج الجديدة التي اقتنيتها مؤخرا !

أليس هذا من حقي ؟؟؟

طرق الباب و سمعت صوت دانة تناديني فأذنت لها بالدخول …

دخلت و فوجئت بما كنت أصنع ! نظرت إلي بتعجب … و قالت :

” بربك ! ما ذا تفعلين ؟؟ ”

قلت و أنا أمشط رموش عيني بدقة :

” أتزين ! ما ترين !؟ ”

قالت :

” تتزينين ! الآن ؟؟ ”

قلت :

” ماذا في ذلك ؟؟

قالت :

” ألن تأتي لإلقاء التحية على وليد ؟؟ إنه يسأل عنك ! ”

قلت :

” و أنا هكذا ؟ لا طبعا … بلغيه تحياتي … ”

ثم انغمست في تلوين وجهي كما ألون لوحة أرسمها … بمهارة …

دانة كانت تحدثني باستنكار ، إلا أنها في النهاية تركتني و انصرفت ، و بمجرد ذهابها أقفلت الباب ، و رميت بالفرشاة جانبا و ارتميت على سريري ….

لماذا أتصرف بهذا الشكل الغبي ؟؟

لم أعد أفهم نفسي … ألم أكن متلهفة لرؤيته ؟؟

ماذا جرى لي الآن ؟؟

جلست ، و نظرت من حولي فوجدت لوحات رسمي المتراكمة فوق بعضها البعض … ذهبت إليها و استخرجت منها صورة وليد … ذي العينين الحمراوين و الأنف المعقوف …

لماذا لا يزال هنا معي ؟؟ لمَ لمْ أتخلص من هذه الصورة ؟؟

لماذا لا أحس بالحرارة الآن ؟؟

كم كان شعورا جميلا … رائعا …

و انتهى …

و إن ْ هربت كل تلك المدة لم يكن باستطاعتي البقاء حبيسة الغرفة دون أن يستغرب البقية ذلك و يقلقون …

أتت أمي إلي ، فتحت الباب لها فنظرتْ إلي ببعض الدهشة !

” رغد … أتنوين استقبال أو زيارة إحدى صديقاتك ؟؟ ”

” أنا ؟؟ لا أبدا ”

” إذن … لم هذه الزينة ! ”

حتى أنتِ يا أمي ؟؟

هل يجب أن أتزين فقط و فقط حين أقابل صديقاتي ؟؟ لماذا تبقى دانة بكامل زينتها معظم الأوقات !

أهي أفضل مني ؟؟

قلت :

” هل هذا عيب !؟ أم ممنوع ؟؟ ”

قالت :

” لا لم أقصد ، لكنك لا تفعلين هذا في العادة إلا لسبب ! ”

قلت ”

” كيف أبدو ؟؟ إنها ألوان الموضة ! ”

قالت :

” جميلة طبعا … لكن … ألن تتناولي العشاء معنا ؟؟ ”

” كلا ، لا أشعر بأي رغبة في الطعام … ”

” حسنا … و لن تأتي للانضمام إلينا ؟؟ ”

” لا أشعر بمزاج جيد للحديث يا أمي ”

صمتت أمي قليلا ، ثم قالت :

” و لن تأتي … لتحية وليد ؟؟ ”

صمت أنا لبرهة ثم قلت :

” لم يرغب في وداعي … إذن … لا أرغب في استقباله … أنا … لا أطيق مجالسة الكذابين ”

error: