قراءة رواية أنت لي كاملة

الجزء السابع عشر

بين يوم و آخر ، يحضر نوار لزيارة دانة أو الخروج معها للعشاء في أحد المطاعم أو للتنزه … أو شراء مستلزمات الزفاف و عش المستقبل !

” إلى أين ستذهبان اليوم ؟؟ ”

سألتها ، و هي ترتدي عباءتها استعدادا للخروج ، قالت :

” إلى محلات التحف أولا ، ثم إلى الشاطئ ! سأعود ليلا ! ”

قلت :

” الشاطئ ؟ رائع ! كم أشتاق الذهاب إليه ! ”

قالت بمكر :

” تعالي معنا ! ”

نظرت إليها باستهتار ثم أشحت بوجهي عنها … قلت :

” كنت سأفعل لو أن خطيبك لم يكن ليرافقنا !”

قالت بخبث :

” نذهب وحدنا ؟ أنا و أنت ؟؟ ”

” نأخذ أبي و أمي ! ما رأيك دانة ؟؟ اصرفيه و دعينا نذهب نحن الأربعة ! ”

” لا تكوني سخيفة ! ”

و انصرفت عني ترتب عباءتها أمام المرآة …

قلت :

” في كل يوم تخرجين معه ! لم لا تتنازلين عن هذا اليوم لنخرج معا ؟؟ إنني أشعر بالملل ”

قالت :

” غدا يعود سامر و اذهبي معه حيث تريدين ! ”

و غدا هو موعد زيارة سامر ، الذي يأتي مرة أو مرتين من كل شهر … ليقضي عطلة نهاية الأسبوع معنا …
لكن …

لكنني لا أشعر بالحماس للذهاب معه …

حين أقارن بين وضعي و وضع دانة أشعر بفارق كبير … إنها منذ لحظة ارتباطها تعيش سعادة و بهجة متواصلة … و تستمتع بحياتها كل يوم

خطيبها رجل ثري و يغدق عليها الهدايا و الهبات !

كل يوم أذهب أنا للكلية ثم أعود و أقضي وقتا لا بأس به في الواجبات و في الرسم ، بينما تستمتع دانه بالنزهات و الرحلات مع خطيبها المغرور …
و في أحيان أخرى تقضي ساعات طويلة في التحدث معه عبر الهاتف !
حين يتصل سامر فإن حديثنا لا يستغرق غير دقائق …
فهل كل المخطوبين مثل دانه سواي أنا ؟؟

قلت أستفزها :

” و على كل … فخطيبك شخص مغرور و بغيض ! لا أعرف كيف تحتملين البقاء معه كل هذه الساعات ! ”

التفتت دانه نحوي و نظرت إلي بخيلاء و قالت :

” مغرور ؟ و حتى لو كان كذلك ! يحق له … فهو أشهر و أغنى لاعب في المنطقة ! أما بغيض … فلا تعني شيئا ! فهو رأيك في جميع الرجال ! ”

و صمتت لحظة ثم قالت :

” و ربما حتى سامر ! أنت خالية من الرومانسية يا رغد ! و لا تعرفين كيف تحبين أو تدللين خطيبك ! ”

و هنا سمعنا صوت جرس الباب ، فانطلقت دانه مسرعة تحثني على الخروج من غرفتها ، ثم تقلق الباب … و تغادر …

ربما نسيت دانه ما قالت حتى قبل أن تغادر ، لكن كلماتها ظلت تدق مسمارا مؤلما في قلبي لوقت طويل …

أنا فعلا لا أشعر باللهفة للقاء سامر ! لكنه دائما يشتاق إلي … و في الآونة الأخيرة ، بعد أن انتقل إلى مدينة أخرى ، صار يعاملني بطريقة أشد لطفا و حرارة كلما عاد

ذهبت إلى غرفتي و أنا متأثرة من جملة دانه الأخيرة هذه … فهل أنا فعلا خالية من الرومانسية ؟؟
و هل بقية الفتيات يتصرفن مثل دانه ؟؟
أنا لم أحتك مباشرة بصديقة مخطوبة فأنا أول من خطبت من بين صديقاتي رغم أنني أصغرهن سنا !

أردت طرد هذه الأفكار عن رأسي ، فعمدت إلى كراساتي … و أقبلت على الرسم …

شيء ما دعاني لأن أفتش بين لوحاتي المتراكمة فوق بعضها البعض عن صورة وليد !

لا تزال الصورة كما هي … منذ رحل … لم أملك أي رغبة في إتمام تلوينها …
لست من النوع المتباهي بنفسه ، لكن هذه اللوحة بالذات … رائعة جدا !

وليد … له وجه عريض … و جبين واسع … و شعر كثيف … و عينان عميقتا النظرات … و فك عريض منتفخ العضلات … و أنف معقوف حاد !

إنه أكثر وسامة من نوّار الذي تتباهى دانه به !

و من سامر المشوه طبعا …

لم أكن لأرسم شيئا مشوها كوجه سامر … إنه لا يصلح عملا فنيا …

في لقائي الأخير بوليد ..عند رحيله ليلا … بكيت كثيرا جدا … ربما أكثر مما بكيت يوم علمت أنه سافر للدراسة دون وداعي قبل سنوات …

أوصدت الباب و دخلت ، و العبرات منزلقة بانطلاق على خدي الحزين

فوجئت برؤية والدتي تقف عند النافذة المشرفة على الفناء ، و التي تسمح للناظر من خلالها أن يرى البوابة ، و من يقف عند البوابة ، و ما يحدث قرب البوابة !

لم أعرف لحظتها ما أفعل و ما أقول … أصابني الهلع و الخرس … أمي اكتفت برشقي بنظرات مخيفة و حزينة في آن واحد ، ثم انصرفت …

منذ ذلك الحين و هناك شيء ما يقف بيني وبينها … لا أعرف ما كينونته و لا أجله

في المساء ، زارتني ابنة خالتي نهلة ، و طبعا سارة معها فهي تلازمها كالذيل ليلا و نهارا !

كنت أرغب في التحدث مع نهلة عن أمور تشغل تفكيري و تحيرني … و أشياء لا أستطيع التحدث عنها لشخص آخر … و لكن كيف لي أن أصرف هذه الصغيرة المتطفلة ؟؟

” ساره … هل تحبين الذهاب إلى غرفتي و التفرج على رسوماتي ؟؟ يمكنك أيضا رسم ما تشائين ! ”

” سأذهب حين تذهب أختي ”

أوه … كيف لي أن أصرفها …؟؟

” إذن … ما رأيك بمشاهدة فيلم هزلي جديد مدهش … أحضره أبي يوم أمس ؟ اذهبي لغرفة المعيشة و تفرجي مع أمي ! ”

“سأبقى معكما ”

نهلة نظرت إلي نظرة استنتاج ، ثم قالت لشقيقتها :

” عزيزتي ساره … شاهدي الفيلم و نحن سنأتي بعد قليل ! ”

” سأذهب حين تذهبان ”

يا لها من فتاة مزعجة ! ألا أستطيع أن أنفرد بصديقتي لبعض الوقت ؟؟

قالت نهلة :

” لا بأس رغد ! فهي لا تكترث لما نقول ! … أهناك شيء ؟؟ ”

ترددت ، و لكنني بعد ذلك أطلقت لساني لقول أمور لم أظن أن سارة ستفهمها … فهي إلى كونها لا تزال صغيرة ، و غبية لحد ما !

قلت :

” سامر سيأتي غدا ! ”

قالت :

” و …؟؟ ”

قلت :

” سيفتح موضوع زواجنا من جديد ، كما في كل مرة ! إنه يريد أن نتزوج مع دانه … و يبدو أن والدتي اقتنعت بالفكرة و صارت تشجعني عليها … ”

قالت :

” و أنت ؟؟ ”

تنهدت ثم قلت :

” تعرفين … إنني أريد أن أنهي دراستي أولا … و … و … أعرف رأي وليد ”

نهلة ترفع حاجبا ، و تخفض آخر … و تميل إحدى زاويتي فمها بمكر !

” و أعرف رأي وليد ! و إذا قال وليد : الزواج ممنوع !؟ ”

قلت بسرعة :

” لن أتزوج ! ”

قالت :

” و إن قال : الزواج واجب !؟ ”

لم أرد … نهلة تأملتني برهة ، ثم قالت :

” رغد ! و لماذا تنتظرين رأي وليد ؟؟ إنه ليس ولي أمرك أو المسؤول عنك ! ”

استأت من هذه الحقيقة الموجعة …
فلطالما كان وليد مسؤولا عني منذ الصغر … و لطالما قال أنه لن يتخلى عني … و لطالما اعتبرته أهم شخص في حياتي … إلى أن غاب …

قلت :

” لكنه … لكنه … أكبرنا … و أنا أحترم رأيه كثيرا … و … سأعمل بما يقول ”

نهلة قالت :

” ألا يزال كما كان في الماضي ؟ أذكر أنه كان طويلا و قويا ! كان يلعب معك كثيرا سابقا ! ”

ابتسمت ، و توسعت الشعيرات الدموية في وجهي ! و قلت بخجل :

” إنه كذلك ! لكن … لا مزيد من اللعب فقد أصبح رجلا كبيرا ! ”

قالت :

” صحيح ! على فكرة هل تزوج ؟؟ ”

الشعيرات التي كانت متفتحة قبل ثوان انقبضت و خنقت الدماء في داخلها …

أيقظت جملة سارة في نفسي شيئا كان نائما بسلام … قلت بارتباك أمحو السؤال و أطرده من الوجود :

” لا … لا ”

قالت نهلة :

” إذن لابد أنه يفكر في الزواج الآن ! بعدما عاد للوطن و استقر في العمل ! ”

ثم أضافت مداعبة :

” هل تريدين عروسا له ؟؟ جميلة و جذابة و رائعة مثلي !؟ ”

قلت بحنق بدا معه جليا استيائي من الفكرة :

” لا تكوني سخيفة يا نهلة ! ”

استغربت نهلة استيائي هذا ، ثم قالت :

” إنه كبير على أية حال ! و لا يناسب فتاة تصغره بتسع سنين ! ”

فكرة أخرى ـ أن يتزوج وليد ـ رافقت الفكرة الأولى ـ خالية من الرومانسية ـ في اللعب بالمضرب و الكرة في رأسي طوال الساعات التالية !

قلت :

” إنه … لا يفكر في الإقامة هنا … أتمنى لو نعود إلى بيتنا السابق … معه ”

قالت :

” ماذا عن خطيبك ؟؟ هل سيستقر هو الآخر في المدينة الأخرى ؟؟ ”

قلت :

” لا أعرف … ! عمله هناك … و لابد له من البقاء هناك ”

” و إن تزوجتما ؟؟؟ ستنتقلين للعيش معه حتما ! ”

لم تعجبني الفكرة !
لا أريد أن أبتعد عن أهلي … إنني لا أستغني عنهم … أريد البقاء في بيتهم …

” سأنتظر رأي وليد ”

تقوس حاجبا نهلة دهشة و قالت ببلاهة :

” رأي وليد ؟؟ في أن تقيمي مع زوجك أو مع والديك ؟؟ ”

قلت بغضب :

” حمقاء ! أعني في أن نؤجل موضوع الزواج لوقت لاحق … فربما تتغير الأوضاع … ”

” عليكم أن تقرروا بسرعة ! فموعد زواج دانه يقترب ! أين هي على فكرة ؟؟ ”

” دانه ؟ خرجت كالعادة تتنزه مع خطيبها ! ”

ابتسمت نهلة … لكنني أزحت ابتسامتها جانبا بسؤالي :

” نهلة …هل يشعر جميع المرتبطين بسعادة مميزة عندما يتنزهون مع بعضهم البعض … أو يتبادلون الهدايا … أو المكالمات الهاتفية ؟؟ ”

طبعا نهلة اندهشت ، و قالت :

” أكيد ! طبعا ! ”

صمت لثوان ، ثم قلت :

” لكنني لا أشعر بشيء كهذا ! إنني أتحدث معه كما أتحدث معك ! لا شيء مميز … ليس كما تكون دانه حين تتحدث مع خطيبها أو تخرج معه ! غاية في السرور ! ”

فوجئت نهلة بكلماتي هذه … ة قالت :

” أنت ِ … لا تحبينه ؟؟ ”

قلت بسرعة :

” بالطبع … أحبه ! ”

نظرت نهله نحو سارة البليدة … ثم قالت :

” كما تحب دانه خطيبها ؟؟ ”

” لا ! كما تحبين أنت ِ حسام ! ”

دانة عادت تسأل :

” ليس كما تحب امرأة ٌ رجلا ؟؟ ”

توترت من سؤالها … و بعثرت نظراتي فيما حولي … و وقع سهم منها على سارة ، و التي كانت تنظر إلينا ببلادة و غباء مزعجين !

قلت بعصبية :

” و كيف يجب أن تحب امرأة رجلا ؟؟ ”

قالت نهلة بأسى :

” أوه يا عزيزتي ! رغد ! إنك لا تزالين طفلة ! ”

عادت دانه من سهرتها الخارجية عند العاشرة و النصف …

كنت أشاهد الفيلم الذي أحضره والدي مؤخرا ، و حين دخلت غرفة المعيشة رمت بحقيبة يدها على المقعد و تهالكت عليه بتنهد …

” لم لم تنامي بعد رغد ! عادة ما تنامين باكرا جدا ! ”

لم ألتفت إليها ، و أجبت :

” سأتابع الفيلم حتى النهاية ”

صمتت لحظة ، ثم قالت :

” سأريك شيئا ”

و سحبت حقيبتها ، و منها أخرجت علبة مجوهرات صغيرة ، و فتحتها لتريني الخاتم الذهبي الرائع الذي بداخلها …

” رائع ! كم ثمنه ؟؟ ”

رفعت رأسها و نظرت إلي من طرف عينيها و قالت :

” كم ثمنه ؟؟ لا أعرف طبعا ، و لكن بالتأكيد باهظ … أهداني إياه خطيبي الليلة ! كم هو رائع ! ”

قلت و أنا أتأمل هذه التحفة المبهرة :

” نعم ! رائع هنيئا لك ! ”

قالت دانة :

” حقا ! هل غيرت رأيك فيه أخيرا ! ”

قلت :

” الخاتم ؟؟ ”

” بل خطيبي يا نبيهة ! ”

حدقت بها قليلا ثم قلت :

” بغيض و مغرور … ”

ثم أشحت برأسي عنها …

و إن كان بغيضا في عيني ، فهو في عينيها شيء رائع … و مميز !

لم تكترث دانة لقولي ، و أخذت تنقل الخاتم من إصبع لإصبع بسرور و دلال !

” دانه … ”

” نعم ؟ ”

كنت أريد أن أسألها … و شعرت بالخجل … و لزمت الصمت !

دانة نظرت إلي باستغراب :

” نعم رغد ؟؟ ماذا أردت القول ؟؟ ”

ترددت قليلا ثم قلت بحياء و بصوت منخفض و نبرة متوترة :

” هل … تحبين نوّار ؟ ”

دهشت دانة من سؤالي ، لذا حملقت بي وهلة ، ثم قالت :

” ما هذا السؤال !؟ ”

ندمت لأنني طرحته ! إنه موضوع حساس لم أجرؤ من قبل على التحدث فيه مع أي كان …
و لما لحظت دانة تراجعي الخجل ، قالت :

” نعم أحبه ! إنه شريك حياتي … ! نصفي الآخر ! ”

صمت قليلا ثم سألت :

” إذن … كيف تشعرين حين يكون معك ؟؟ ”

أنا بنفسي لاحظت ذلك … رغم المساحيق التي تغطي وجهها إلا أن اللون الأحمر المتوهج طلى وجهها و هي تجيب على سؤالي :

” أشعر … ؟؟ … بالحرارة ! ”

و أشارت إلى قلبها بيديها كلتيهما …

الحرارة … في صدري و جسمي كله ، هي شعور لم أحس به في حياتي … إلا عندما اقتربت من شخص واحد فقط …
هو وليد … !

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

” وليد ! هل فقدت صوابك !!؟؟

قال سيف و هو فاغر فاه لأقصى حد من هول المفاجأة …
لقد أخبرته بخبر فعلتي الجنونية الأخيرة …

” نعم يا سيف ! استقلت و انتهى الأمر ”

أخذ يهز رأسه و يضرب يدا بالأخرى من الغيظ و الأسف …

” أرجوك يا سيف … قضي الأمر … لم أكن لأستطيع الاستمرار و الجميع ينظر إلي و يعاملني بهذا الشكل … يحتقرونني و يتحاشون الاقتراب مني و كأنني وباء خطير ”

” و ما لك و لهم ؟ وليد ! لم يكن الحصول على هذه الوظيفة بالأمر السهل … لقد تسرعت ”

استدرت بغضب ، و قلا بانفعال :

” فليذهبوا بوظيفتهم للجحيم ”

أعرف أن العثور على عمل هو من أكثر الأمور صعوبة في الوقت الحالي ، لكنني ضقت ذرعا بالهمزات و اللمزات التي يرمي بها الآخرون علي بقسوة ، لكوني قاتل و خريج سجون …

كما و أنني سمعت بعضهم يذكر صديقي سيف بالسوء بسبب علاقته الوطيدة معي …
بقائي في العمل بشركته صار يهدد سمعته هو … و أنا لم أكن لأرضى عليه بأي أذية …
أليس هو الباقي لي من الدنيا ؟؟

تلا هذا صمت مغدق …
سيف استاء كثيرا جدا من إقدامي على هذه الخطوة التي وصفها بالتهور … ألا أنني كنت أراها حلا لابد منه

قال :

” ما أنت فاعل الآن ؟؟ ”

ابتسمت ابتسامة سخرية …

” أفتش من جديد ”

نعم … عدنا للصفر !

لو أنني أتممت دراستي ، مثلك يا سيف ، لكنت الآن … رجلا محترما مهابا … أتولى إدارة إحدى الشركات كما كنت أحلم منذ الصغر …

و فشلي في تحقيق أي من أحلامي ، هو أمر لا يجب أن تتحمل أنت مسؤولياته ، أو ينالك سوء بسبب علاقتك بي

سيف كان قلق … أردت أن أغير الموضوع ، فقلت :

” اخبرني … ما النبأ الجميل الذي تحمله ؟؟ ”

و كان سيف قد أبلغني بأن لديه خبر جميل ، عندما وصل إلى بيتي قبل دقائق !

سيف قال :

” لقد … عزمت على إتمام نصف الدين ! ”

فاجأني الخبر ، و أسرني كثيرا ، فأمطرت صديقي بالتهاني القلبية ! إنه أول خبر سعيد أسمعه منذ شهور …

” أخيرا يا رجل ! فليبارك الله لك ! ”

” شكرا أيها العزيز … العقبة لك ! متى يحين دورك ؟؟ ”

دوري أنا !
إن مثل هذا الموضوع لم يكن ليخطر على بالي !
و هل يفكر في الزواج رجل خرج من السجن قبل شهور ، و بالكاد بدأ يتنفس الهواء … و كان و عاد عاطلا عن العمل ! …
و فوق كل هذا … ذو جرح لم يبرأ بعد …

قلت :

” قد تمضي سنوات و سنوات قبل أن تعبر الفكرة على رأسي مجرد العبور ! ”

” لم يا رجل !؟ إننا في السابعة و العشرين ! وقت مناسب جدا ! ”

قلت :

” لأجد ما يعيلني أولا ! كيف لي أن أتحمل مسؤولية زوجة و أطفال ! ”

قال سيف :

” إنك تحب الأطفال يا وليد ! ألست كذلك ؟ ”

” بلى ! … ”

” ستكون أبا عطوفا جدا ! ”

و ضحكنا !

يمكنني أن أضحك بين حلقات سلسة همومي التي مذ بدأت لم تنته …

قضيت أسابيع أفتش عن عمل … و فشلت
حتى أقاربي الذين لجأت إليهم طالبا الدعم ، خذلوني
لو كان سبب دخولي السجن شيء آخر ، لربما عاملني الناس بطريقة أفضل …
كرهت الدنيا و كرهت نفسي و كرهت كل شيء من حولي …
و بدأت نقودي التي جمعتها خلال الأشهر الماضية تنفذ … و أعود للفقر من جديد …
كنت جالسا في حديقة المنزل الميتة … أدخن السيجارة تلو الأخرى … غارقا في التفكير و الهموم …

كانت الأرض أمامي قاحلة … لا زرع فيها و لا حياة …
تماما مثل حياتي …

تزوج صديقي سيف بعد بضعة أشهر خطوبة … و ينعم الآن بحياة جديدة ، و يتولى مسؤوليات أكبر … و لم يعد متفرغا لي …

حصلت على عمل بسيط جدا في أحد المحلات التجارية … إلا أنني لم استمر فيه بسبب المشاكل التي واجهتني ، لكوني موصوم بالإجرام و القتل …

أصبحت بإحباط شديد … و أنا افقد القليل الذي كنت قد حصلت عليه … و ضاقت بي الدنيا … كما و داهمني الإعياء و المرض … فقررت الهروب من مدينتي إلى مكان ألقى فيه شيء من الاحترام و المودة
بعيدا عن السمعة المجروحة … إلى حيث يوجد من يحبني و يرغب بوجودي و يتقبلني على ما أنا عليه من عيوب و وصم عار …
إلى أهلي ….

كانت شهور عشرة قد انقضت منذ رحلت عنهم …
كلما اتصلوا بي أو اتصلت بهم ، أخبرتهم بأنني في أحسن حال ، بينما أنا في أسوئه

انفث الدخان السام من صدري … و أفكر … أ أعود إليهم ؟؟ أم لمن ألجأ ؟؟
أتخيل نفسي بينهم من جديد … فتظهر صورة رغد لتحتل منطقة الخيال من رأسي … فأبعدها و أبعد الفكرة …

” لا … لن أعود ”

و أرمي بالسيجارة على الأرض ، و أدوسها بحذائي فتندفن تحت الرمال … إلى جانب شقيقاتها … في قبور متجاورة و مزدحمة …

لماذا لا أموت أنا مثلها ؟؟

إلى متى أستمر في تدخين هذه الأشياء القذرة ؟؟

ألا يكفي السجن أن لوث سمعتي و ضيع مستقبلي ؟

أ أترك دروسه و مخلفاته تلوث صدري و تفسد صحتي ؟؟

أتذكر قول نديم لي … لا تدع السجن يفسدك يا وليد …

هل أنا شخص فاسد الآن ؟؟

نديم …

ليتك معي الآن … …

فجأة … تذكرت شيئا غاب عن مذكرتي تماما !

يوم وفاته ، نديم أوصاني بشيء …

طلب مني أن أزور عائلته و أطمئن عليهم !

وقفت منفعلا … يا للأيام ! لم يخطر هذا الأمر ببالي من ذي قبل …

و كيف له أن يجد فرصة للظهور فيما يحتل تفكيري أمور أخرى …

ربما وفاء ً لذكرى صديق عزيز لطالما كان يدعمني في أسوأ أيام حياتي …

أو ربما كان فراغا طويلا لم أجد معه ما أفعله

أو حتى هروبا من هذه المدينة و سمعتي المنحطة فيها

أيا كان الدافع ، فقد قررت يومها زيارة عائلة نديم !

نديم أخبرني بأنه يملك مزرعة في المدينة الشمالية ، و هذه المدينة بعيدة عن مدينتي و هي أقرب إلى المدينة الصناعية حيث يعيش أهلي …

جمعت كل ما أحتاجه و ما قد أحتاجه ، و عزمت الرحيل …

الهدف لم يكن زيارة عائلة نديم تنفيذا لوصيته التي ماتت يوم وفاته ، بقدر ما كان الفرار من الفشل الذريع الذي أعيشه في هذه المدينة

الآن أدرك لم قرر والدي الرحيل ، و لم لا يفكر في العودة
لا بد أنه تعرض لمثل ما تعرضت له … بسبب جريمتي النكراء …

ذهبت لزيارة سيف في مسكنه الجديد ، و أبلغته أنني راحل …
كان وداعنا مؤلما إلا أنه قال :

” في أي وقت … و كل وقت … تشعر بأي حاجة لأي شيء ، تذكر أنني موجود ”

و دفع إلي مبلغا من المال قبلته على شرط أن أرده له في أقرب فرصة … و لا أعلم كم تبلغ المسافة بيني و بين هذه الفرصة !

أقفلت أبواب المنزل الكئيب … و تركت الذكريات القديمة سجينة … تغط في سبات أبدي …
بما فيها صندوق الأماني المخنوق ، و الملقى بلا اهتمام عند إحدى زوايا الغرفة
إن كتب لي أن أعود يوما … فسأفكر في فتحه !

انطلقت مستعينا بالله و متوكلا عليه … متجها إلى المدينة الشمالية … لم أكن قد زرتها في حياتي من قبل ، إلا أنني أعرف أن الطريق إلى المدينة الصناعية يؤدي إليها ، و أنها لا تبعد عن الأخيرة إلا قليلا

وصلت إلى المدينة الصناعية … و شوقي سحبني نحو بيت عائلتي سحبا …
كيف لي أن أعبر من هنا … ثم لا أمر لألقي و لو نظرة عابرة على أهلي ..؟؟

كان الوقت عصرا … أوقفت سيارتي إلى جانب سيارة أبي ، و السيارة الأخرى التي تبدو جديدة و آخر طراز !

مؤخرا صار سامر يأتي إلينا مرة واحدة في الشهر … أصبح يعمل عملا مضاعفا و قلت حتى اتصالاته !

و حين جاء البارحة ، طلبت منه أن يصطحبني إلى الشاطئ هذا اليوم !

طبعا سامر فرح كثيرا بهذا الطلب … و أنا كنت أريد أن أرفه عن نفسي و أقلد دانة !
إنها دائما تشعرني بأنني لا أصلح امرأة !
الجميع من حولي يعاملونني على أنني لا أزال طفلة !
إنني الآن في الثامنة عشر من العمر … و أحس بأنني خلال الأشهر الماضية كبرت كثيرا !

لقد بدأت استخدم المساحيق بكثرة مثلها ، و أشتري الكثير من الحلي و الملابس… بالرغم من أنني لا أجهز للزفاف مثلها !

فكرة الزواج الآن لم أقتنع بها … و لسوف أنتظر حتى أنهي دراستي و أكتسب صفات المرأة التي تعرف كيف تحب و تدلل شريك حياتها !

أليس هذا هو المطلوب ؟؟

” هيا رغد ! الوقت يمضي ! ”

سامر يناديني ، و هو يقف خلف الباب ، ينتظر خروجي …
أجبت و أنا ارتدي شرابي ثم حذائي الجديد ذا الكعب العالي ، على عجل :

” قادمة … لحظة ”

و في ثوان كنت أفتح الباب …
حين صرت أمامه راح يحدق بي باستغراب ، ثم قاد بصره إلى حذائي !

” رغد ! لقد طلت بسرعة ! لم تكوني هكذا البارحة ! ”

ابتسمت و قلت و أنا أظهر حذائي الطويل من خلف عباءتي :

” إنها الموضة ! ”

سامر ضحك و قال :

” و لكن يا عزيزتي هل ستسيرين بحذاء هكذا على الشاطئ ؟؟ ”

” لا يهم ! أنا أريد أن أظهر أطول قليلا حتى لا يظنني الناس طفلة ! ”

” كما تشائين ! هيا بنا ”

و خرجنا ، و مررنا بالمطبخ حيث وضعت سلة صغيرة تحتوي بعض الحاجيات فحملها سامر و هممنا بالانصراف ….

و إذا بدانة تقول :

” هل آتي معكما ؟؟ ”

أنا و سامر تبادلنا النظرات …

طماعة ! ألا يكفيها أنها تخرج مع خطيبها كل يوم فيما أنا جالسة وحيدة في المنزل ؟؟

قلت :

” لا ! إنها رحلة خاصة ! ”

سامر ابتسم بخجل ، و دانه نظرت إلي من طرف عينها مع ابتسامة خبيثة أعرفها جيدا … و أعرف ما تعنيه منها !

تجاهلتها و سرت مبتعدة …

” انتبهي لئلا تنزلقي زرافتي ! ”

و أخذت ْ تضحك !

قلت بحنق :

” ليس من شأنك ”

و خرجت مسرعة ….
دانه تتعمد التعليق على أي شيء يخصني … و دائما تعليقها عنه يوحي بعدم رضاها أو سخريتها منه !

إلا أنها تشعر بالغيرة من طولي الذي يسمح لي بارتداء أحذية كهذه ، و هي محرومة منها !

خرجنا على الفناء الخارجي و سامر يبتسم بسرور !

حتى و إن كانت نظارته السوداء الكبيرة تخفي عينيه … كنت أعرف أنه يحدق بي !

اعتقد أنه سعيد جدا … السعادة المميزة … التي لم أذق لها أنا طعما حتى الآن …

فيما نحن نقترب من الباب ، قرع الجرس !

تقدم سامر و فتحه …

و توقفت الكرة الأرضية عن الدوران !

اعتقد أن شهابا قد ارتطم بها … هنا خلف هذا الباب !

شعور مفاجئ … و اصطدام مجلجل … و حرارة محرقة شاوية … و حمم … و ضباب … و اختناق … و ارتجاف … و عرق … و ذهول … كلها مجتمعه انبثقت فجأة من عند الباب و اجتاحتني …

هل أصدق عيني ! ؟

هل يقف أمامي المارد الناري الضخم المرعب … متمثلا في صورة … وليد ؟؟؟

هتف سامر بذهول و بهجة عارمة :

” أخي وليد !! ”

و تعانقا عناقا طويلا …

يا لها من مفاجأة مذهلة !

اعتقد أنه كان علي الأخذ بنصيحة سامر و تغيير حذائي … إنني أوشك على الانزلاق ! لماذا فقدت توازني بهذا الشكل ؟؟

بعد لقائهما الحميم … استدارا نحوي …

حينما وقت عيناه على عيني ، طردهما بسرعة و غض بصره … و قال بهدوء لا يتناسب و الحمم و البركاين و الانفجار و النيران الذي تولدت لحظه ظهوره من فتحة الباب :

” كيف حالك صغيرتي ؟ ”

لقد حاولت أن أحرك لساني لقول أي شيء … لكن بعد احتراقها ، فإن كلماتي قد تبخرت و صعدت للسماء !

طأطأت رأسي للأرض خجلا … حين عبرت ذكرى لقائنا الأخير سريعة أمام عيني ! …

الرجلان يقتربان …

رفعت رأسي فإذا بعينيه تطيران من عيني إلى الشجرة المزروعة قرب الباب الداخلي …

سمعته يقول :

” ألا يبدو أنها كبرت !؟ ”

التفت إلى الشجرة … صحيح … لقد كبرت خلال الشهور الطويلة التي غاب فيها وليد عنا !

لكني سمعت سامر يضحك و يقول :

” إنه الكعب ! ”

أدركت أنه كان يقصدني أنا ! كم أنا غبية !

قال وليد :

” أ كنتما … خارجين ؟؟ ”

قال سامر :

” أوه نعم … لكن يمكننا تأجيل ذلك لما بعد … تعال للداخل ستطير أمي فرحا ! ”

قال وليد :

” أرجوكما امضيا إلى حيث كنتما ذاهبين ! إنني سأبقى في ضيافتكم فترة من الزمن ! ”

مدهش !

عظيم !

ممتاز !

و أقبلا نحو الباب الداخلي ، و دخلنا نحن الثلاثة …

كانت مفاجأة مذهلة أحدثت في بيتنا بهجة لا توصف …

عشر شهور مضت … و هو بعيد … لا يتصل إلا قليلا … و حين يتصل يتحدث مع الجميع سواي … و إن تحدث معي صدفة ، ختم جمله المعدودة بسرعة …

لكنه الآن موجود هنا !

أنا فرحة جدا !

علمنا في وقت لاحق أنه مر منا قبل ذهابه إلى المدينة الشمالية لأمر خاص …

” كم ستظل هناك ؟؟ ”

سألته أمي ، فأجاب :

” لا أعرف بالضبط ، ربما لبعض الوقت … سأفتش عن عمل هناك فقد أجد فرصة أفضل ! ”

دانة قالت :

” و ماذا عن عملك في المدينة ؟؟ ”

وليد اضطربت تعبيرات وجهه ، و قال :

” تركته ”

ثم غير الموضوع لناحية أخرى …

فجأة سألني :

” كيف هي الكلية ؟؟ ”

أنا تلفت من حولي بادئ الأمر … كأنني أود التأكد من أن وليد يتحدث إلي أنا !

بالطبع أنا !

لا يوجد من يدرس بالكلية غيري الآن !

قلت بصوت خفيف خجل :

” الحمد لله … تسير الأمور على ما يرام ”

قال سامر :

” أنها مجتهدة و نشيطة ! و مغرمة بالفن أكثر من أي شيء آخر ! حتى مني ! ”

الجميع أخذوا يضحكون …

سواي أنا و وليد …

أنا لم تعجبني هذه الجملة … أما وليد … فلا أعرف لم اكفهر وجهه هكذا … ؟؟

قالت دانة :

” إذن فقد أفسدت رحلتك الخاصة أيتها الببغاء الصغيرة ! ”

و استمرت في الضحك …

أنا استأت أكثر …

وليد سأل دانة :

” أية رحلة ؟ ”

أجابت :

” كانا يودان الذهاب للشاطئ ! سامر لا يأتي غير مرة في الشهر و خطيبته متلهفة لقضاء وقت ممتع و متميز معه ! إنها تغار مني ! ”

و رفعت رأسها بتباهي …

ربما كانت تقصد مداعبتي ، لكنني حملتها محمل الجد … و وقفت فجأة ، و استأذنت للانصراف …

ذهبت إلى غرفتي مستاءة … و غاضبة …

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

قلت :

” يبدو أنها تضايقت … ”

فجميعنا لاحظ ذلك … أما زالت دانه على ما كانت عليه منذ الطفولة ؟؟

نظرت إلى شقيقتي باستياء … و كذلك كان سامر ينظر إليها …

قالت :

” كنت أداعبها فقط ! ”

سامر قال :

” لكنها انزعجت منك ! سأذهب إليها ”

و غادر من فوره …

أنا طبعا لم أملك من الأمر من شيء …

قلت لدانة :

” أحقا كانا يودان الذهاب للشاطئ ؟ أنا آسف أن حضرت و أفسدت مشروع نزهتهما ! ”

” لا تكترث وليد ! فهي فكرت في الذهاب فقط لأنني أوحيت لها بأن تذهب ! إنها لا تحب الخروج من المنزل خصوصا للأماكن العامة ”

التزمت الصمت و لم أعلق على جملتها الأخيرة …

قالت :

” ما رأيكم أن نذهب جميعا غدا لنزهة عند الشاطئ ! كم سيكون ذلك رائعا ! ”

نزهة عند الشاطئ ؟ يبدو حلما ! إنني لم أقم بكهذا نزهة منذ سنين !

و يبدو أن الفكرة قد راقت للجميع …

سألت :

” و ماذا عن نوّار ؟؟ ”

قالت :

” في البلدة المجاورة ! إنها مباريات حاسمة ! ألا تتابع الأخبار ؟؟ ”

في الواقع ، أخبار كرة القدم ليست من أولويات اهتماماتي !

تحدثنا عن أمور عدة … و شعرت براحة كبيرة … هنا حيث أحظى باهتمام أناس يحبونني و يعزونني …

أنا أرغب في العيش مع أهلي فقد سئمت الوحدة … ألا يكفي أنني حرمت منهم كل هذه السنين ؟؟

خرجت من كنفهم و أنا فتى مراهق … مليء بالحماس و الحيوية و مقبل على الحياة … طموح و ماض في طريق تحقيق أحلامه …

و عدت إليهم … و أنا رجل كئيب محبط مثقل بالهموم … فاقد الاهتمام بأي شيء … صقلني الزمن و شكلتني الأقدار …

لكنهم لا زالوا يحترمونني …

بعد مدة ، عاد سامر لينضم إلينا … لم تكن رغد معه

كنت أريد أن أسأله عنها ، و لم أجرؤ !

إنها لم تعد طفلتي … لم يعد لي الحق في الإهتمام بها …

” إذن فتلك السيارة الرائعة في الخارج هي لك يا سامر ! ”

سألته ، فأجاب :

” نعم ! اشتريتها مؤخرا … ما رأيك بها ؟؟ ”

” مظهرها رائع ! ”

” و مزاياها كذلك ! كلفتني الكثير ! ”

مقارنة بسيارتي القديمة فإن أي شيء في سيارة سامر سيبدو مدهشا !
إذن … فأحوال أخي المادية جيدة …
كم أبدو شيئا صغيرا أمامه … كم خذلت والدي ّ الذين كانا في الماضي … يعظمان من شأني و يتوقعان لي مستقبلا مشرفا …

شعور جديد تولد هذا اليوم ، يزيدني رغبة فوق رغبة في الرحيل العاجل …

ففي الوقت الذي يتمتع فيه سامر بعمل جيد و دخل وفير و مستقبل مضمون … افتقر أنا لكل شيء …

حتى رغد …

أصبحت له …
تتمه

ألم شديد شعرت به في معدتي هذه اللحظة ، كان يتكرر علي في الآونة الأخيرة و لكنني لم أزر أي طبيب …

استمر معي الألم فترة طويلة و لم أشعر معه بأي رغبة لتناول الطعام المعد على مائدة العشاء …

لذا ، ذهبت إلى غرفة شقيقي ناشدا الراحة و الاسترخاء

في صباح اليوم التالي أردت الذهاب إلى المطبخ حيث يجلس الجميع …

قبل دخولي تنحنحت و أصدرت أصواتا من حنجرتي حتى أثير انتباههم لوصولي ، اقصد انتباه رغد لوصولي …

” تفضل بني ”

قالت أمي … فدخلت و أنا حذر في نظراتي … لم أكن أريد أن أراها … لكنني رأيتها !

” صباح الخير جميعا ”

ردوا تحية الصباح و طلبوا مني الجلوس إلى مائدة المطبخ الصغيرة التي يجتمعون حولها

” تعال وليد ! إننا نخطط لرحلة اليوم ! هل تحتمل الرحلة أم أنك لا تزال متعبا ؟؟ ”

التفت إلى دانة التي طرحت السؤال ، و لم يكن بإمكاني منع عيني من رؤية رغد التي تجلس إلى جوارها

” أحقا قررتم ذلك ؟ سيكون ذلك رائعا ! ”

أمي قالت و هي تشير إلى المعقد الشاغر :

” تعال عزيزي … أعددت ُ فطورا مميزا من أجلك ! ”

نظرت باتجاههم ، لقد كانوا جميعا ينظرون إلي ، بلا استثناء …

قلت :

” سـ … أذهب إلى غرفة المعيشة ”

و انسحبت من المطبخ …

وافتني أمي بعد قليل إلى غرفة المعيشة تحمل أطباق الفطور …

” شكرا … ”

ابتسمت أمي ، و بدأت أنا في تناول وجبتي بهدوء ، بينما هي تراقبني !

” أمي … أهناك شيء ؟؟ ”

سألتها بحرج ، قالت بابتسامة :

” لا عزيزي … فقط أروي ناظري برؤيتك … ”

شعرت بالطعام يقف في بلعومي …

برؤية من تودين يا والدتي الارتواء ؟؟

برؤية الخذلان و الفشل ؟؟ الحطام و البقايا ؟؟

برؤية رجل موصوم بالجريمة ؟؟

كم خذلتك ! كم كنت فخورة بي في السابق ! إنني الآن شيء يثير النفور و الازدراء في أعين الجميع …

” الحمد لله ”

حمدت ربي ، و وضعت الملعقة على الطبق …

” لم توقفت ! ألم يعجبك ؟؟ ”

” بلى أماه … لكني اكتفيت ”

” عزيزي سأخرج إن أزعجك وجودي … أرجوك أتم وجبتك ”

” لا يا أمي ، لقد اكتفيت و الحمد لله ”

أمي بعد ذلك ، عادت بالأطباق إلى المطبخ ، ثم أقبل الجميع إلى غرفة المعيشة و حاصروني بنظراتهم … و أسئلتهم حول أموري …

أنا كنت اكتفي بإجابات مختصرة … فلا شيء فيما لدي يستحق الذكر و الاهتمام …

و كالبقية كانت رغد تتابعني بعينيها و أذنيها ، في صمت …

” ما رأيك بتجربة سيارتي يا وليد ! لنقم بجولة قصيرة ! ”

بدت فكرة ممتازة و منقذة ، فوافقت فورا و نهضت مع سامر ، و خرجنا …

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

” هل غضبت مني أمس حقا ! أنا آسفة يا رغد ! كنت أمازحك ! ”

نظرت إلى السقف و قلت :

” حسنا ، انتهى الأمر الآن ”

ثم إليها و قلت :

” و لكن لا تنعتيني بالببغاء ثانية … خصوصا أمام وليد ”

قالت دانة باستغراب :

” وليد ؟؟ ”

فاضطربت …

قالت :

” تعنين سامر !؟ ”

قلت :

” وليد أو سامر أوأي كان … أمام أي كان ! ”

و أشحت بوجهي بعيدا عنها

فعادت تبرد أظافرها بالمبرد و تغني !

كنا نجلس في المطبخ ، و للمطبخ نافذة مطلة على ساحة خارجية خلفية تنتهي بالمرآب
مرآب منزلنا مفتوح من ثلاث جهات ، و يسد جهته الخارجية بوابة كهربائية …

أقبلت أمي تحمل سلة الملابس المغسولة و دفعت بها إلي :

” رغد … انشريها على الحبال ”

أوه … يا لعمل المنزل الذي لا ينتهي !

أردت أن أعترض و أوكل المهمة إلى دانة ، التي تجلس أمامي تبرد أظافرها بنعومة !

” انشريها أنت يا دانة ! ”

هزت رأسها اعتراضا ، فهممت أن أتذمر !

لكني لمحت من خلال النافذة بوابة المرآب تنفتح ، و أدركت أنهما قد عادا !
و بسرعة ابتلعت جملة التذمر قبل أن أتفوه بها و قل متظاهرة بالاستسلام :

” حسنا … لن أؤذي أظافرك ! سأنشرها أنا ! ”

و حملت السلة ، و خرجت للفناء الخلفي …

وليد ركن السيارة في المرآب ثم خرج منها هو و سامر …

و هاهما الآن يقبلان باتجاهي …

سامر نزع نظارته السوداء …

و سارا متوازيين جنبا إلى جنب يسبقهما ظلاهما … و يدوسان عليهما …

وليد … بطوله و عرضه و بنية جسده الضخم … و الذي اكتسب عدة أرطال مذ لقائي الأخير به قبل شهور … زادت وجهه امتلاء و جسده عظمة … و كتفيه ارتفاعا … و صار يشغل حيزا محترما من هذا الكون و يفرض وجوده فيه !
يخطو خطا أكاد أسمع صوت الأرض تتألم منها !

سامر … بجسمه النحيل … و قوامه الهزيل… و وجهه الطويل … المشوه …
و خطاه الهادئة البسيطة … و أنظاره الخجلة التي غالبا ما تكون مدفونة تحت الأرض …

شيء ما أحدث في نفسي توترا و انزعاجا …

إنهما مختلفان …

لماذا تنجرف أنظاري لا إراديا نحو وليد ؟؟؟

لماذا يشدني التيار إليه هو ؟؟

حين صارا أمامي مباشرة ، توقف سامر و قال :

” أ أساعدك ؟؟ ”

بينما تابع وليد طريقه مرورا بي … ثم ابتعد دون أن ينظر إلي …

لكني كنت أراقبه …

توقف برهة و استدار مادا يده نحو سامر قائلا :

” المفتاح ”

مفتاح السيارة كان يسبح في كفه كسمكة في البحر !

تناول سامر المفتاح منه ، ثم أخذ يساعدني في نشر الملابس على الحبال … في الحقيقة قام هو بالعمل … فأنا كنت شاردة و سارحة أفكر …

هل هذا هو شريك حياتي حقا ؟؟

لماذا علي أنا أن أتزوج رجلا مشوها ؟؟

لقد شغلت الفكرة رأسي حتى ما عدت بقادرة على التركيز في شيء آخر …

هل حقا سأتزوج سامر ؟؟
كم كانا مختلفين … و يهما يسيران جنبا إلى جنب …

في وقت الغذاء ، لم أساهم في إعداد المائدة و وافيت البقية متأخرة بضع دقائق …
أتدرون ماذا حدث عندما دخلت غرفة المائدة و جلست على مقعدي المعهود ؟؟

قام وليد … و غادر الغرفة !

تلوت معدتي ألما حين رأيته يذهب … إنه لا يريد أن يجلس معي حول مائدة واحدة!

الجميع تبادلوا النظرات و حملقوا بي …

أمي تبعته ، ثم عادت بعد أقل من دقيقة و قالت :

” رغد … خذي أطباقك إلى المطبخ ”

صدمت و اهتز وجداني … و شعرت بالإهانة … و بأنني أصبحت شيئا
لا يرغب وليد في وجوده … شيئا يزعجه … و يتحاشى اللقاء به …

نعم فأنا ابنة عمه التي كبرت و أصبحت … شيئا محظورا ..

رفعت أطباقي و ذهبت إلى المطبخ و انخرطت في بكاء مرير …

بعد قليل أتتني دانة تحمل أطباقها هي الأخرى :

” رغد ! و لم هذه الدموع أيتها الحمقاء ! ”

لم أعرها أذنا صاغية ، فقالت :

” إنه يشعر بالحرج و الخجل ! تعرفين كيف هو الأمر ! هذا من حسن الأدب ! ”

قلت :

” لكنني كنت معكم العام الماضي ”

قالت :

” ربما لم يكن قد اعتاد فكرة أنك … كبرت ! ”

ليتني لم أكبر !

تركت أطباقي غير ملموسة و خرجت من المطبخ متوجهة إلى غرفتي ،
و دانة تشيعني بنظراتها …

في الغرفة … تأملت صورة وليد التي رسمتها قبل شهور … و انحدرت دموعي …

أخذت أتخيله … و هو واقف إلى جوار سامر … يفوقه في كل شيء يعجبني …

ثم …
ثم …
أتزوج سامر ! ! ؟؟

لماذا أقارن بينهما هكذا ؟؟

وفي العصر ، أتتني دانة ..

” الم تستعدي بعد ؟ سننطلق الآن ! ”

” إلى أين ؟؟ ”

” أوه رغد هل نسيت ! إلى الشاطئ كما اتفقنا ! ”

بالفعل كنت قد نسيت الفكرة … و بالرغم من أنني كنت مسرورة جدا بها مسبقا ألا أنها الآن … لا تعجبني !

” لا أريد الذهاب ”

حملقت دانة بي و قالت :

” عفوا ! ألم تكوني أنت المشجعة الأولى ! هل ستبقين في البيت وحدك ؟؟ ”

قلت :

” هل سيذهب الجميع ؟؟ ”

” بالطبع ! إنهم في انتظارنا فهيا أسرعي ! ”

و ذهبت إلى غرفتها تستبدل ملابسها …

أن أبقى وحدي في البيت هي فكرة غير واردة … لم يكن أمامي إلا الذهاب معهم …

توزعنا على سيارتي أبي و سامر …

جلس وليد على المقعد المجاور لسامر ، و أنا خلفه ، و دانه إلى جانبي ، و تركنا والدي ّ معا في السيارة الأخرى …

وليد و سامر كانا يتبادلان الأحاديث المختلفة تشاركهما دانة ، أما أنا فبقيت صامتة … أراقب و استمع … و أشعر بالألم …

لم تفتني أي كلمة تفوه بها وليد … او أي ضحكة أطلقها

كنت أضغي إليه باهتمام بالغ ! حتى كدت أحفظ و أردد ما يقول !

عندما وصلنا ، فرشنا بساطا كبيرا و وضعنا أشياءنا و جلسنا عليه ، إلا أن وليد ظل واقفا … ثم ابتعد … و سار نحو البحر …

إنه لا يرد الجلوس حيث أجلس …

لماذا يا وليد ؟؟

هل تعرفون كم دقيقة في الساعة ؟؟

ستون طبعا !

و هل تعرفون كم مرة في الساعة فكرت به ؟

ستون أيضا !

و هل تعرفون كم ساعة بقينا هناك ؟؟

ست ساعات !

هل أحصيتم كم وليد جال برأسي خلال الرحلة ؟؟

الثلاثة ، أبي و وليد و سامر ذهبوا للسباحة ، أمي تصف قطع اللحم في الأسياخ و دانة تساعدها …

و أنا ، معدتي تئن !

” رغد ! لم لا تبتلعين أي شيء ريثما يجهز العشاء ؟؟ لم تضرم النار بعد و سنستغرق وقتا طويلا ! ”

نظرت إلى دانة و قلت :

” لم لا تسرعان ؟ ”

” لا يزال الوقت مبكرا ! أنت من فوّت وجبة الغداء ! ”

لقد كنت جائعة بالفعل ! و فتشت في السلات فلم أجد شيئا يستحق التهامه حتى يجهز طعام العشاء المشوي !

نظرت من حولي فرأيت مقصفا صغيرا على مقربة منا …

” أريد الذهاب إلى هناك ! ”

قالت دانة :

” اذهبي ! ”

قلت :

” تعالا معي ! ”

ابتسمت دانة ابتسامتها الساخرة التي تعرفون و قالت :

” نعامتي الصغيرة … تخشى من الظلام …
و ترجف خوفا … من فئران نيام ! ”

و هو مطلع أغنية للأطفال !

غضبت منها فاسترسلت في الضحك …

تجاهلتها و خاطبت والدتي :

” تعالي معي … ”

أمي مدت يديها الملطختين بعصارة اللحم ، تريني إياهما و قالت :

” فيما بعد رغد ”

نظرت نحو الشاطئ فوجدت وليد يجلس على أحد المقاعد … و والدي و سامر لا يزالان يسبحان …

التفت إلى دانة و قلت :

” دعينا نقترب من الشاطئ … أريد أن أبلل قدمي ! ”

دانة قالت :

” أنا لا أريد ! اذهبي أنت ِ ”

” لا أريد الذهاب وحدي ”

و عادت تغني :

” نعامتي الصغيرة … تخشى من الظلام !! ”

أصبحت لا تطاق … !

و أمي منهمكة في إعداد أسياخ اللحم …

” اذهبي رغد … إنهم هناك ! اذهبي عزيزتي … ”

قالت أمي مشجعة إياي …

لم يكن هناك الكثيرون على مقربة منا … و لكنني ترددت كثيرا …

في النهاية أقنعت نفسي بأنهم قريبون من الساحل ، كما و إن وليد يجلس هناك … و لا داعي لأي خوف …

سرت نحوه و أنا أحس بنظرات أمي تتبعني … فهي تريد لي التخلص من خوفي المبالغ به … من أماكن لا تستوجب أي خوف أو حذر …

كانت أمواج البحر تتلاطم بحرية … و نسمات الهواء باردة منعشة تغزو صدري الضائق منذ ساعات … فتفتح شعبه و توسعه …

اقتربت من وليد … و لم يشعر بي

تجاوزته نحو الماء … فلم أحس بحركة منه .. التفت فرأيته مغمض العينين ، و ربما نائم !

سمحت للماء البارد بتبليل قدمي … و شعرت بانتعاش !

لوّح سامر لي … فشعرت بأمان أكثر و تجرأت على خطو خطوتين يمينا و يسارا … إلا أنني لم ابتعد أكثر من ذلك … لم أخرج عن الحيز الذي يحيط بوليد و يشعرني بالطمأنينة …

و الآن تجرأت على خطوة أكبر … و جلست على الرمال المبللة و مددت يدي لألامس الأمواج …

كان شعورا رائعا !

أقبل مجموعة من الأطفال بألعابهم و أطواق نجاتهم ، و بدؤوا يلعبون بمرح … كنت أراقبهم بسرور !

ليتني أعود صغيرة لألهو معهم !

التفت للوراء … إلى وليد … استعيد ذكريات ظلت عالقة في ذاكرتي …

كان وليد يلاعبني كثيرا حينما كنت صغيرة ! و في المرات التي نقوم فيها برحلة إلى الشاطئ … كان يبقى حارسا لي و لدانة !

عدت بنظري للأطفال … أتحسر !

يبدو أن أصواتهم قد أيقظت وليد من النوم … سمعت صوته يتنحنح ثم يتحرك ، استدرت للخلف فوجدته يقف و ينظر إلى ما حوله …

وليد تحرك مقتربا من البحر … فنهضت بسرعة و قلت :

” إلى أين تذهب ؟؟ ”

وليد توقف ، ثم … قال :

” لأسبح … ”

قلت :

” انتظر … سأعود لأمي … ”

في نفس اللحظة أقبل سامر يخرج من الماء نحو اليابسة …

” وليد … تعال يا رجل ! يكفيك نوما ! ”

قال سامر ، فرد وليد :

” أنا قادم … لكن ألا يجب أن نشعل الجمر الآن ؟؟ ”

” لا يزال الوقت مبكرا ! ”

و التفت سامر إلي و قال :

” رغد أخبري أمي بأننا سنقضي ساعات أكثر في السباحة ! ”

قلت :

” حسنا ! ”

بينما تصرخ معدتي : كلا !

سامر خرج من الماء ، و صار واقفا إلى جوار وليد … و قام ببعض التمارين الخفيفة …

التفت إلى ناحية البساط الذي نفترشه ، و خطوت متجهة إليه …

مجموعة من الناس كانوا يلاحقون كرة قدم … فيضربها هذا و يركلها ذاك … يتحركون في طريقي …

وقفت في منتصف الطريق لا أجرؤ على المضي قدما …

التفت إلى الوراء فوجدت الاثنان يراقباني …

و إلى حيث تجلس أمي و أختي … فإذا بهما أيضا تراقباني …

الآن … تدحرجت الكرة نحوي و اقتربت من قدمي … و أقبل اللاعبون يركضون نحوها …

وصل إلي أحدهم و قال :

” معذرة يا آنسة ”

أصبت بالذعر … فجأة …

خطوة للوراء …

ثم خطوة أخرى …

ثم أطلقت ساقي للريح راكضة باضطراب و فزع …

إلى حيث جرفني التيار …

نحو وليد !

error: