قراءة رواية أنت لي كاملة
الجزء السادس والثلاثون
وقفت غير مصدّق لما أرى… متوهما أنه الحلم الذي لطالما راودني منذ سنين…
لكن… بالتأكيد فإن الشيء الذي يقف أمامي هذه اللحظة … يضم ذراعيه إلى بعضهما البعض … و يقشعر بدنه إن خوفا و بردا … هذا الشيء
الملفوف في السواد … هو بالتأكيد كائن بشري …
و ليس أي كائن …
تحديدا هي رغد !
” وليد … أنا خائفة ! أبقني معك ”
لا أعرف من الذي حرّك يدي ، نحو مكبس المصباح ، و أناره …
هل يمكن أن أكون قد فعلت ذلك بلا وعي ؟؟
الإنارة القوية المفاجئة أزعجت بؤبؤي عيني ، فأغمضت جفوني بسرعة
و من ثم فتحتها ببطء…
رأيت وجه رغد بعينيها المتورمتين الحمراوين ، و اللتين تدلان على طول البكاء و مرارته …
” رغد … أأنت على ما يرام صغيرتي ؟؟ ”
” أنا أشعر بالخوف … وليد … المكان موحش و … ويثير الذكريات … المؤلمة ! ”
و سرعان ما انخرطت رغد في بكاء أجش بصوت مبحوح …
” حسنا… عزيزتي يكفي … لا تبكي صغيرتي … تعالي اجلسي هنا ”
و أشرت إلى مقعد بالجوار ، فجلست رغد عليه … و بقيت واقفا برهة … ثم جلست على طرف سريري …
كنت في منتهى التعب و الإرهاق و أشعر برغبة ملحة جدا في النوم… لابد أن رأسي سيهوي على السرير فجأة و أغط في النوم دون شعور !
نظرت إلى الفتاة الجالسة على مقربة جاهلا ما يتوجب علي فعله !
سألتها :
” صغيرتي … ألا تشعرين بالنعاس ؟ ألست ِ متعبة ؟ ”
” بلى … لكن … لا أشعر بالطمأنينة ! لا أستطيع النوم … أنا خائفة ! ”
و رفعت يدها إلى صدرها كمن يريد تهدئة أنفاسه المرعوبة
قلت :
” لا تخشي شيئا صغيرتي … ما دمت ُ معك ”
و لا أدري من أين و لا كيف خرجت هذه الجملة في مثل هذا الوقت و الحال !
و هل كنت أعنيها أم لا … و هل كنت جديرا بها أم لا !
لكن فتاتي ابتسمت !
ثم تنهدت تنهيدة عميقة جدا
ثم أسندت رأسها إلى المقعد و أرخت ذراعيها إلى جانبيها …ا و أغمضت عينيها !
و أظن … و الله الأعلم … أنها نامت !
” رغد ! … رغد ؟ ”
فتحت رغد عينيها ببطء و نظرت إلي …
” إنك بحاجة للنوم ! ”
ردت ، بشيء لا يتوافق و سؤالي البسيط :
” غرفتك لم تتغير أبدا وليد ! كم أنا سعيدة بالعودة إليها ! ”
و أخذت تدور بعينيها في الغرفة …
كان الهدوء الشديد يسيطر على الأجواء … فالوقت متأخر … و العالم يغط في الظلام و السبات …
قالت و هي تشير إلى موضع في الغرفة :
” كان سريري هنا سابقا ! هل تذكر يا وليد ؟ ”
ثم وقفت و سارت نحو الموضع الذي كان سرير رغد الصغير يستلقي فيه لسنين … قبل زمن …
قالت :
” و أنت كنت تقرأ القصص الجميلة لي ! كم كنت أحب قصصك كثيرا جدا يا وليد ! ليت الزمن يعود للوراء … و لو لحظة ! ”
عندها وقفت أنا … و قد استفقت فجأة من نعاسي الثقيل … و قفزت إلى قمة اليقظة و الصحوة … و كأن نهرا من الماء البارد قد صب فوق رأسي …
التفتت إلي ّ صغيرتي و قالت :
” كنت … كنت أحتفظ بالقصص التي اشتريتها لي في بيتنا الثاني … لكن … أحرقتها النيران ! ”
و آلمتني … جملتها كثيرا …
رجعت بي الذكرى إلى البيت المحترق … فإذا بالنار تشتعل في معدتي …
أضافت رغد بصوت أخف و أشجى :
” تماما كما احترقت الصورة … ”
” رغد … ”
إنه ليس بالوقت المناسب لاسترجاع ذكريات كهذه … أرجوك … كفى !
نظرت من حولها ثم قالت :
” لا تزال كتبك منثورة ! أتذكر … ؟ كنت تستعد للذهاب إلى الجامعة لإجراء امتحان ما ! أليس كذلك ؟؟ أليس هذا ما أخبرتني به ؟؟ أتذكر ؟؟ ”
لا أريد أن أتذكّر !
أرجوك أيتها الذكرى .. توقفي عند هذا الحد ..
أرجوك …
لا تعودي إلى ذلك اليوم المشؤوم …
لو كان باستطاعتي حذفه نهائيا … لو كنت ُ … ؟؟؟
كنت ُ أريد الهروب السريع من تلك الذكرى اللعينة … لكنها كانت تقترب … و تقترب أكثر فأكثر … حتى صارت أمامي مباشرة …
عينان تحدّقان بعيني بقوة … تقيّدان أنظاري رغم عني …
عينان أستطيع اختراقهما إلى ما بعدهما …
خلف تينك العينين ، تختبئ أمر الذكريات و أبشعها …
أرجوك يا رغد …
لا تنظري إلي هكذا …
لا ترمني بهذه السهام الموجعة …
لم لا تعودين للنوم ؟؟
” وليد … ”
” إه … نعم … صـ … غيرتي ؟؟ ”
” لماذا … لم تخبرني بالحقيقة ؟ ”
قلت بصوت متهدرج :
” أي … أي حقيقة ؟ ”
” إنك … قتلته ! ”
آه …
آه …
إنه فأس يقع على هامتي …
لقد فلقتها يا رغد …
ما عدت قادرا على الوقوف …
نصفاي سينهاران …
أرجوك كفى …
” وليد … لماذا لم تخبرني ؟؟ أنا يا وليد … أنا… لم أدرك شيئا … كنت ُ صغيرة … و خائفة حد الموت … لا أذكر ما فعلتَ به … و لا …
و لا أذكر … ما فعله بي ! ”
عند هذه اللحظة … و فجأة … و دون شعور مني و لا إدراك … مددت يدي بعنف نحو رغد و انقضضت على ذراعيها بقوّة … بكل قوّة …
انتفضت فتاتي بين يدي هلعا … و حملقت بي بفزع …
لابد أن قبضتي كانتا مؤلمتين جدا آنذاك ، و لابد أنها كانت خائفة …
خرجت هذه الجملة من لساني كالصاروخ في قوّة اندفاعها … مخلفة خلفها سحابة غبار هائلة تسد الأنوف و تكتم الأنفاس … و تخنق الأفئدة …
كررت ُ بجنون :
” ماذا فعل بك يا رغد ؟؟ …
حتى… حتى لو كان قد … لامس طرف حزامك فقط … بأطراف أظافره القذرة … كنت سأقتله بكل تأكيد … بكل تأكيد …”
فجأة رفعت رغد يديها و غطّت وجهها … و هي تطلق صيحة قصيرة …
كانت قبضتا يدي ّ لا تزالان تطبقان على ذراعيها بعنف … و بنفس العنف انقضتا فجأة على يديها … و أبعدتهما بسرعة عن وجهها ، فيما عيناي تحملقان بعينيها بقوة ….
صرخت ُ :
” ماذا فعل بك ؟؟ ”
كانت رغد تنظر إلي ّ بذعر …
نعم إنه الذعر …
أشبه بالذعر الذي قرأته في عينيها ذلك اليوم …
تملّصت رغد من بين يدي و ابتعدت بسرعة ، و اتجهت نحو المقعد الذي كانت تجلس عليه قبل قليل … و ارتمت عليه … و هتفت :
” لا أريد أن أذكر ذلك … لا أريد … لا أريد ”
و عادت لإخفاء وجهها خلف كفيّها .
دارت بي الدنيا آنذاك و شعرت برغبة شديدة في تمزيق أي شيء … أي أي شيء !
التفت يمنة و يسرة في اضطراب باحثا عن ضحية تمزيقي … و بعض زخات العرق تنحدر من جبيني بينما أشعر باختناق … و كأن تجويف حنجرتي لم يعد يكفي لتلقي كمية الهواء المهولة و الممزوجة بذلك الغبار و التي يرغمها صدري الشاهق على الاندفاع إليه …
تحركت خطوة في كل اتجاه … و بلا اتجاه …
بعثرت نظراتي في كل صوب … و بلا هدف …
و أخيرا وقع بصري على شيء مختبئ عند إحدى زوايا الغرفة …
يصلح للتمزيق !
توجهت إلى ذلك الشيء ، و التقطته عن الأرض … تأمّلته برهة … و استدرت نحو رغد …
إنه صندوق الأماني القديم … الذي جمع أمنيات صغرنا منذ 13 عاما !
ها قد آن أخيرا … أوان استخراج الأماني …
و لم علينا الاحتفاظ بها مخبأة أطول ما دامت الأقدار … أبت تحقيقها ؟
على الأقل … أمنياتي أنا …
يجب أن يتمزّق أخيرا ….
و الآن يا رغد … جاء دورك !
” رغد ”
ناديتها فلم تستجب مباشرة . اقتربت منها أكثر فأكثر حتى صرت ُ أمامها مباشرة
هي جالسة على المقعد مطأطئة الرأس … تداري الدموع
و أنا واقف كشجرة بلا جذور في انتظار اللحظة التي تهب فيها الرياح ، فتقلعها …
” رغد … أتذكرين هذا ؟ ”
و ازدردت ريقي …
إنها اللحظة التي لطالما انتظرتها … سنين و سنين و سنين ، و أنا أتوق شوقا و أحترق لهفة لمعرفة أمنيتك يا رغد …
رفعت رغد رأسها و أخذت تنظر إلى الشيء المحمول بين يدي …
نظرت إليه نظرة مطوّلة … ثم اتسعت حدقتا عينيها و انفغر فاها و شهقت شهقة مذهولة !
إذن ، فأنت تذكرينه ؟؟
إنه صندوق أمانيك يا رغد … أيتها الطفلة العزيزة … أنا صنعته لك منذ 13 عاما … في ذلك اليوم الجميل … حين قدمت ِ إلي ّ منفعلة و أنت ِ تحملين كتابك الصغير و تهتفين :
” وليد … وليد اصنع لي صندوقا ”
تحركت عينا رغد من على الصندوق إلى عيني ّ …
كانت آخر دمعة لا تزال معلقة على رموشها ، في حيرة …. أ تنحدر أم تتراجع ؟؟
شفتاها الآن تحركتا و رسمتا ما يشبه الابتسامة المترددة …
و أخيرا نطق لسانها :
” صندوقي !! ”
ثم هتفت متفاجئة :
” صندوقي ! أوه … إنه صندوقي ! ”
و هبّت واقفة و التقطته من بين يدي !
” يا إلهي ! ”
قلت :
” أتذكرينه ؟ ”
رفعت عينيها عن الصندوق مجددا و قالت بانفعال :
” نعم ! أذكره ! إنه صندوق الأماني ”
قالت ذلك و هي تؤشر بإصبعها على كلمة (( صندوق الأماني )) المكتوبة على الصندوق الورقي …
ثم أخذت تقلّبه ، و من ثم عبس وجهها فجأة و نظرت إلي ّ بحدّة و وجس :
” هل … فتحته ؟؟ ”
” ماذا ؟ ”
” فتحتَه ؟؟ ”
إنه سؤال بسيط ! و عادي جدا ! أليس كذلك ؟؟
و لكن … لم لم أستوعبه ؟؟ و لم تطلّب مني الأمر كل هذا التركيز و الجهد البليغين حتى أفهمه ؟؟
هل فتحته ؟؟
أوتسألين ؟؟
رغد !
ألم أقطع لك العهد بألا أفتحه دون علمك ؟؟
أتشكين في أنني … قد أخون عهدي معك ذات يوم ؟
ألا تعرفين ما سببه لي و ما زال يسببه لي صندوق أمانيك هذا مذ صنعته و حتى اليوم ؟؟
هل تعتقدين إنه اختفى من حياتي بمجرّد أن علّقته هناك فوق رف المكتبة ؟؟
إنه لم يكن في الحياة … صندوق أهم من صندوقك !
قلت :
” لا … مستحيل ! ”
أخذت تقلّبه في يدها ثم نظرت إلي بتساؤل :
” ماذا حدث له إذن ؟ ”
إن كنتم قد نسيتم فأذكركم بأنني ذات مرّة و من فرط يأسي و حزني جعّدت الصندوق في قبضتي …
قلت :
” إنه الزمن ! ”
من الصندوق ، إلى عيني ّ إلى أنفي ، ثم إلى عيني ، انتقلت نظرات الصغيرة قبل أن تقول :
” إذن الزمن … لا يحب أن تبقى الأشياء مستقيمة ! ”
” عفوا ؟؟ ”
ابتسمت رغد و قالت :
” أليس الزمن هو أيضا من عقف أنفك ؟ ”
رفعتُ سبابتي اليمنى و لامست أنفي المعقوف … و عندها تذكّرت ُ أنني عندما التقيت برغد أول مرّة بعد خروجي من السجن ، سألتني عما حدث لأنفي فأجبتها :
( إنه الزمن ! )
” نعم ! إنه الزمن … ”
و صمتّ قليلا ثم واصلت :
” ألن تفتحيه ؟ ”
و كنت في قمة الشوق لأن أستخرج سر رغد الدفين و أعرف … من هو ذلك ( الصبي ) الذي كانت تتمنى الزواج منه عندما تكبر ؟؟
نظرت إليها بنفاذ صبر … هيا يا رغد ! افتحيه أرجوك ! أو اسمحي لي و أنا سأمزقه فورا … و افضح مكنونه !
لكن رغد أومأت برأسها سلبا …
كررت ُ السؤال :
” ألن تفتحيه ؟ ”
” لا ! ”
” لم ؟ ألا تتوقين لمعرفة ما بالداخل ؟ بعد كل هذه السنين ؟؟ ”
” لا ! ”
و طأطأت برأسها … و قد علت خديها حمرة مفاجئة … ما زادني فضولا فوق فضول لمعرفة ما تحويه !
قلت :
” هل … تذكرين … أمنيتك ؟ ”
لم ترفع رأسها بل أجابت بإيماءة بسيطة موجبة .
” مادام الأمر كذلك … فما الجدوى في إبقائها داخل الصندوق ؟ ”
رفعت رغد أخيرا نظرها إلي و قالت :
” لأنها لم تتحقق بعد ”
شعرت بنبضات قلبي تتوقف برهة ، ثم تندفع بسرعة جنونية …و تخترق قدمي ّ و تصطدم بالأرض !
و استطردت ْ، و قد بدا الجد و الإصرار على ملامح وجهها فجأة :
” و سأعمل على تحقيقها من كل بد … و بأي وسيلة … و مهما كان الثمن ”
و أضافت و هي تلوح بسبابتها نحوي و تحد من صوتها أكثر :
” … و لن أسمح لأي شيء باعتراض طريقي ”
الكلمات التي خرجت بحدّة من لسان رغد ، مقرونة بالنظرة القوية و اللهجة الجدية ، و المليئة بمعاني التحدّي ، جعلت تلك النبضات تقفز من باطن الأرض ، و تعود أدراجها متخللة قدمي ّ المرتجفتين ، و تضرب قلبي بعنف … محدثة تصدّع خطير …
اعتقد … أنني أنا ( الشيء ) الذي لن تسمح له باعتراض طريقها … و أعتقد أن اسم ( حسام ) مكتوب على قصاصة قديمة مختبئة داخل هذا الصندوق … و اعتقد أنني أتلقى الآن تهديدا من حبيبة قلبي … بألا أعترض طريق زواجها من الرجل الذي تمنت الارتباط به منذ الصغر …
غضبي ثار … نعم ثار …
لازالت تنظر إلي ّ بتحد …
حسنا يا رغد …
قبلت ُ التحدي …
قلت :
” و أنا أيضا لم أحقق أمنيتي بعد ”
و بحدّة أضفت :
” و سأعمل على تحقيقها مهما كلّفني ذلك … و أي شيء يعترض طريقي … ”
و صمت ّ برهة ، ثم أضفت :
” سأقتله ! ”
و سحبت الصندوق من يدها بغتة ، و أكّدت :
” إنه حلمي … و الموت وحده ما قد يحول دون نيله … عدا عن هذا يا رغد … عدا عن الموت … فإنني لن أسمح لأي شيء بأن يبعده عنّي … لن أتخلى عن حلمي أبدا … إنه دائما أمامي … و قريبا … سيصبح بين يدي … و لي وحدي … ”
لم أشعر بمدى قوة الضغط الذي كنت أمارسه على ذلك الصندوق الورقي المخنوق في قبضتي ، حتى أطلقت رغد صيحة اعتراض
كانت تنظر إلى الصندوق برثاء … و مدّت يدها لتخلّصه منّي … إلا أنني سحبت يدي بعيدا عنها … ثم سرت ُ مبتعدا … و اتجهت إلى مكتبتي و وضعت الصندوق المخنوق في نفس الموضع الذي كان يقف فيه قبل سنين …
و حين استدرت ُ إلى رغد رأيتها تراقبني بنظرات اعتراض غاضبة .
قلت بتحدٍَ أكبر :
” سنرى من منّا سيحقق أمنيته ! ”
……………………..
لم أفهم معنى تلك النظرة القوية التي رمقني بها وليد !
كانت أشبه بنظرة تحد و إصرار … و كانت مرعبة !
و … في الحقيقة … جذّابة !
أكاد أجن من هذا الـ وليد ! إن به مغناطيسا قويا جدا يجعل أي شيء يصدر منه … نظرة ، إشارة ، إيماءة ، حركة … ضحكة أو حتى صرخة ، أو ربما ركلة ، أي شيء يصدر منه يجذبني !
لا تسخروا منّي !
إنه وسط الليل و أنا شديدة التعب أكثر مما تعتقدون ، لكن الخوف جعلني أطرق باب وليد…
كان واقفا قرب المكتبة ، استدار إلي :
” بعد إذنك ”
و ذهب إلى دورة المياه
جلست ُ أنا على المقعد الذي كنت أقف أمامه ، و أسندت رأسي إليه و شعرت بموجة قوية من النعاس تجتاحني … انتظرت وليد … لكن تأخر …
في المرة التالية التي فتحت فيها عيني ّ … كانت أشعة الشمس تتسلل عبر النافذة و الستار و جفوني !
شعرت بانزعاج شديد فأنا لازلت راغبة في النوم … لكنني تذكرت فجأة أنني في غرفة وليد في بيتنا القديم …
فتحت عيني ّ أوسعهما سامحة للضوء باختراق بؤبؤي و استثارة دماغي و إيقاظه بعنف !
مباشرة جلست و نظرت من حولي …
وليد كان نائما في فراشه !
باب الغرفة كان مفتوحا كما تركته ليلة الأمس …
نهضت عن مقعدي و شعرت بإعياء في مفاصلي … ألقيت نظرة على وليد ، و كان يغلف جسده الضخم بالشرشف و بالكاد تظهر إحدى يديه !
عندما خرجت من الغرفة ، توجهت لإلقاء نظرة سريعة على الصالة ، حيث كانت الشقراء و أمها تنامان …
ما إن ظهرت ُ في الصورة حتى رأين أعين أربع تحدّق بي !
لقد كانتا هناك تجلسان قرب بعضهما البعض … و تنظران إلي !
” ص… صباح الخير ! ”
قلت ذلك ثم ألقيت نظرة على ساعة يدي ، و عدّلت الجملة :
” أو … مساء الخير ”
لم تجب أي منهما مباشرة … لكن الخالة قالت بعدها :
” مساء الخير . نوم الهناء ”
لم أرتح للطريقة التي ردّت بها علي ، و شعرت أن في الأمر شيء …
قالت أروى :
” مساء الخير. هل نهض ابن عمّك ؟؟ ”
تعجّبت من الطريقة التي كلّمتني بها ، و من كلمة ( ابن عمّك ) هذه !
و لم تبد لي نظرتها طبيعية …
قلت :
” لا ! إنه … لا يزال نائما ! ”
تبادلت الاثنتان النظرات … وعادتا للصمت…
ذهبت بعدها إلى غرفتي الملاصقة لغرفة وليد … و عندما خرجت للصالة بعد قرابة النصف ساعة أو يزيد ، رأيت الثلاثة ، وليد و الشقراء و أمها يجلسون سوية في الصالة …
لا أعرف في أي شيء كانوا يتحدثون … و بمجرّد أن لمحوني لاذوا بالصمت !
ألا يشعركم ذلك بأنني أنا موضوع حديثهم ؟؟؟
إلى وليد وجهت نظراتي و كلماتي ، بل و حتى خطواتي :
” مساء الخير ”
” مساء النور … ”
و جلست ُ على مقربة .
نظرت ُ إلى الأشياء من حولي ، فأنا لم أتأملها البارحة … الصالة كما تركناها قبل 9 سنين … حسبما أذكر ، و الغبار يغطي أجزاءها !
قلت :
” سنحتاج وقتا طويلا و جهدا مكثفا لتنظيف كل هذا ! ”
أروى قالت معترضة :
” و هل سيكون علينا تنظيف هذا ؟ إننا لن نسكن هنا على أية حال ”
استغربت ، و نظرت إلى وليد متسائلة … و هذا الأخير لم يعقّب !
قلت :
” وليد … ألن نسكن هنا ؟ ”
أجاب :
” سنبقى هنا في الوقت الراهن . لا نعرف كم من الوقت ستستغرق مسألة استلام الإرث . سأستعين بوالد صديقي سيف . آمل أن تسير الأمور بسرعة”
قلت :
” أتعني … أننا بعد إتمام هذه المهمّة سنعود إلى المزرعة ؟؟ ”
تولت الشقراء الرد بسرعة :
” بالطبع ! ماذا تعتقدين إذن ؟؟ سنعود للمزرعة و نجري بعض التعديلات في المنزل … ثم … ”
و نظرت إلى وليد و قالت مبتسمة :
” نتزوّج ! ”
تخيلوا كيف يكون شعور فتاة تسمع أي امرأة أخرى تقول لها :
( سأتزوج حبيبك ) ؟؟
رميت سهام نظراتي الحارقة نحو الشقراء البغيضة ، ثم نحو وليد … و اجتاحتني رغبة عارمة في تمزيقهما سوية !
أهذا ما يخططان له ؟؟
يستلمان الإرث الضخم ، و يذهبان للمزرعة ليعدا عشهما و يتزوجان !
ماذا عنّي أنا ؟؟
مجرّد هامش زائد لا أهمية له و لا معنى لوجوده ؟
كنت أريد أن أسمع من وليد أي تعليق ، لكنه ظل صامتا شاردا … ما أثار جنوني …
مازالت الابتسامة معلقة على شفتي الحسناء الدخيلة ، و هاهي تحرّكهما من جديد و تقول بصوت شديد النعومة :
” فيم شردت … عزيزي ؟ ”
مخاطبة بذلك الرجل الوحيد معنا في الصالة ، و الذي يجلس على مقربة منّي ، و الذي يجري حبّه في عروقي تماما كما تجري دماء قرابتنا …
وليد قال :
” كنت أفكّر في أن ذهب إلى أحد المطاعم ! لابد أننا جائعون الآن ! ”
………………..
في الحقيقة كان الطعام هو آخر ما أفكر به ، و لكنه أول ما قفز إلى ذهني عندما تلقيت سؤال أروى و أنا شارد ذلك الوقت …
و ما حدث هو أننا ذهبنا إلى المطعم ثم إلى السوق و اشترينا بعض الحاجيات و من ثم عدنا إلى المنزل …
كما و اتصلنا بالعم إلياس و كذلك بأم حسام – تحت إصرار من رغد – و طمأنا الجميع على وصولنا سالمين .
بعدها اتصلت بصديقي القديم و رفيق دراستي و محنتي … سيف و اتفقت معه على أن يحضر إلى منزلي ليلا .
تعاونا نحن الأربعة في تنظيف غرفة الضيوف قدر الإمكان من أجل استقبال سيف .
حاولت جاهدا أن أتجاهل أي ذكرى تحاول التسلل إلى مخيلتي من جراء رؤيتي لأجزاء المنزل من حولي … إلا إن هذه الذكرى الأليمة اخترقتني بكل إصرار !
كان ذلك عندما قمنا بنقل بعض قطع السجاد إلى الخارج … إلى مؤخرة المنزل ، حيث تقع الحديقة الميتة و التي أصبحت مقبرة للحشائش الجافة و مأوى للرمال الصفراء …
عند إحدى الزوايا … كانت عدّة الشواء القديمة تجلس بكل صمود … متحدية الزمن !
لا أعرف لماذا يقشعر بدني كلما رأيت هذه بالذات !
و لم أكن أعرف أن لها نفس التأثير على أي مخلوق إلى أن رأيت رغد … و التي كانت تحمل السجادة معي تقف فجأة ، و تسند طرف السجادة إلى الأرض … و تمد يدها اليمنى لتلامس ذراعها الأيسر !
صحيح أنها كانت صغيرة آنذاك ، و لكن حادثة السقوط على الجمر المتقد هي حادثة أقسى على قلب الطفل من أن ينسى آثارها …
إن أثر الحرق ظل محفورا في ذراعها الأيسر … و كنت أراه كل يوم فيما مضى !
ترى …
ألا يزال كما هو ؟؟
وضعنا السجادة الملفوفة قرب أدوات الشواء تلك ، ثم جلسنا فوقها نلتقط أنفاسنا !
” ثقيلة جدا ! أراهن أنهما لن تتمكنا من حمل الأخرى ! ”
قالت رغد ذلك … و كانت أروى الخالة تحملان سجادة ملفوفة أصغر حجما و في طريقهما إلينا
قلت :
” بل ستفعلان ! لا تعرفين كم هما قويتان ! ”
و أنا أعرف كيف كانتا تعملان الأعمال الشاقة في المزرعة !
قالت :
” إنهما متشابهتان جدا ”
” نعم … صحيح ”
” و جميلتان جدا ! ”
استغربت … لكنني قلت :
” نعم ! صحيح ! ”
واصلت رغد :
” و أنت محظوظ جدا ! ”
صمت ، و علتني الريبة ! ما الذي تعنيه صغيرتي ؟؟
رمقتها بنظرة استفسار فتطوّعت هي بالإيضاح مباشرة :
” لديك خطيبة جميلة جدا … و ثرية جدا ! … سوف تعيشان سعيدين جدا ”
و صمتت ثوان ثم استطردت :
” أما أنا … ”
ظهرت أروى و الخالة في مرآنا فالتفتنا إليهما …
كانتا تجران السجادة بتثاقل … و سرعان ما هببت ُ أنا لمساعدتهما .
تتمه
و في الليل حضر صديقي العزيز سيف و كان لقاؤنا حميما جدا …
تبادلنا الأخبار … فعلمت منه أنه رزق طفلا صغيرا !
” دورك يا رجل ! و بما أن أمورك قد استقرت … فهيا عجّل بالزواج ! ”
ابتسمت ُ لدى تعليقه المتفائل … إن أموري لم تستقر و لم تحل … بل هي آخذة في التعقد مرة لعد أخرى … و الآن أنا في حيرة شديدة … ماذا علي َ أن أفعل ؟؟
شرحت له تفاصيل إرث أبي عمّار … عم أروى التي هي خطيبتي ، و ابنة صاحبي الذي تعرفت علي في السجن ، بعد قتلي لعمّار … فبدا الأمر أشبه بخرافة من خرافات الجدات العجائز !
” سبحان الله ! أي قدرة إلهية عجيبة أودت بك إلى هذا الوادي يا وليد ! ”
” إنها الأقدار يا صديقي ! ”
” إذن … ستصبح زوج سيدة من أثرى سيدات المنطقة ! سبحان الله ! ها قد ابتسمت ، بل ضحكت لك الدنيا أخيرا يا وليد ! ”
و لأن أي من علامات السرور لم تظهر علي ، فإن سيف لاذ بالصمت المفاجئ المتعجّب …
كانت في صدري عشرات الهموم إلا أنني لم أشأ أن أنفثها في وجه صديقي مذ أول لقاء يجمعنا بعد طول فراق …
بعد ذلك ، اتفقت مع سيف على ترتيب زيارة رسمية لمكتب المحاماة الذي يملكه والده غدا باكرا ، و اتخاذه محاميا قانونيا لتولي الإجراءات اللازمة بشأن الإرث.
بعد انصرافه ، ذهبت إلى الصالة العلوية حيث يفترض أن يكون الجميع ، فوجدت أروى تتصفح مجلة كانت قد اشترتها عصر اليوم أثناء تسوقنا ، و قد نفشت شعرها الذهبي الطويل على كتفيها بحرية … بينما الخالة ليندا نائمة على المقعد ، و رغد غير موجودة …
بادرتني أروى بالسؤال :
” كيف كان اللقاء ؟ ”
” حميما و مثمرا ! سأذهب غدا مع سيف إلى مكتب أبيه و هو محام معروف و ماهر ، و سننطلق من هناك ! ”
” آمل ألا يطول الأمر … ”
” إنها أمور تطول في العادة يا أروى ! علينا بالصبر ”
قالت و هي تضع يدها على صدرها :
” أشعر بالحنين إلى المزرعة … و إلى خالي ! الجو هنا مغبر و كاتم … و كئيب جدا يا وليد ”
تحركت الخالة ليندا قليلا … فالتفتنا إليها ثم قالت أروى :
” دعنا نذهب إلى غرفتك كي لا نزعجها ”
و هناك ، في غرفتي واصلنا الحديث … أخبرتها بتفاصيل لقائي بسيف و ما خططنا له . و تشعبت أحاديثنا إلى أمور كثيرة و مر الوقت سريعا دون أن نشعر به !
فجأة ، سمعت طرقا على الباب …
استنتاجكم صحيح !
العينان الواسعتان ذاتا النظرات الشجية ، حلقتا بعيدا عن عيني ّ و حطّتا على الفتاة الجالسة على السرير داخل الغرفة تعبث بخصلات شعرها الذهبية …
ابتسمت ُ لصغيرتي … و قلت :
” مرحبا رغد ! ”
رغد لم تنظر إلي ّ، كما لم ترد علي ّ… و رأيت ُ وجهها يحمر !
قلت :
” تفضَلي ”
رفعت بصرها إلي و رمتني بسهم ثاقب !
قلت :
” أهناك شيء ؟؟ ”
ردّت رغد بجملة مضطربة :
” كنت … أريد …
أريد الهاتف ! ”
و كررت بنبرة أكثر ثقة :
” أريد هاتفك لبعض الوقت ! هل تعيرني إياه ؟ ”
كنت متشككا ، لكنني قلت :
” بكل تأكيد ! ”
و أحضرت لها هاتفي المحمول … و هو وسيلتنا الوحيدة للاتصال …
تناولته رغد و شكرتني و انصرفت بسرعة …
عندما استدرت ُ للخلف ، و جدت ُ أروى و قد مدّت رجليها على السرير و استندت على إحدى ذراعيها بينما استخدمت الأخرى في العبث بخصلات شعرها الطويل الأملس !
” حان وقت النوم ! سأنهض غدا باكرا و أريد أن آخذ قسطا كافيا من الراحة ”
قلت ذلك معلنا نهاية الجلسة … فاسحا المجال لأروى للذهاب من حيث أتت.
ساعتان و نصف من التقلب على السرير … دون أن يجد النوم طريقه إلى إي من جفوني الأربعة …
ليس ما يقلقني هو إجراءات الإرث تلك … و لا خططي المستقبلية … و لا المفاجآت التي يمكن أن تخبئها القدر لي …
بل هو مخلوق بشري عزيز على نفسي … يحتل حجرات قلبي الأربعة … و يتدفق منها مع تدفق الدم … و يسري في عروقي مع سريانها و ينتشر في خلايا جسدي أجمع … ثم يعود ليقطن الحجرات الأربع من جديد …
كائن صغير جدا … و ضعيف جدا … و خواف جدا !
و هو لا يشعر بالطمأنينة إذا ما ابتعد عني … و جاء طلبا لبعض الأمان بقربي …
لكنه اكتفى بأخذ هاتفي المحمول … و اختفى خلف هذا الجدار المشترك بين غرفتي و غرفته …
إنني لو اخترقت الجدار … سأجده نائما على السرير … بأمان
أو ربما باكيا خلف الجدار … في خوف …
أو جاثيا على الأرض … في حزن …
أو ربما ذارعا الغرفة جيئة و ذهابا … في ألم …
إنني لا أستطيع أن أنام دون أن أطمئن عليها ! و ستبوء كل محاولاتي بالفشل حتما !
استسلم !
لا تكابر يا وليد !
تسللت من غرفتي بهدوء و أنا أتلفت ذات اليمين و ذات الشمال … مخافة أن يشعر بي أحد … و وقفت عند باب غرفة صغيرتي و أمسكت بالمقبض !
كنت على وشك أن أفتحه لو أن عقلي لم يستيقظ و يزجرني بعنف ! أي جنون هذا ؟؟ من تظن نفسك يا وليد ؟؟ كيف تجرؤ ؟؟
عدت مسرعا …أجر أذيال الخيبة … و رميت بجسدي المثقل على مرارة الواقع … و استسلمت لحدود الله….
لم يكن الأمر بالصعوبة التي توقعتها لكنه لم يكن سهلا ! الكثير من الأوراق و الوثائق و التواقيع استغرقت منا ساعات طويلة . و كان يتوجب علي أخذ أروى إلى المحكمة …
منتصف الظهيرة ، هو الوقت الذي عدت ُ فيه إلى المنزل بعد جهودي السابقة و أنا أحمل وثائق في غاية الأهمية في يد ، و طعام الغذاء في اليد الأخرى !
كيف وجدت أروى و الخالة ؟
وجدتهما منهمكتين في تنظيف المطبخ !
” أوه ! لم تتعبان نفسيكما ! إنه مليء بالغبار ! ”
ردّت الخالة :
” و نحن لا نحتمل الغبار و لا نحبه يا ولدي . اعتدنا الجو النقي في المزرعة . على الأقل هكذا سيغدو أفضل ”
وضعت كيس الطعام على المائدة المحتلة قلب المطبخ . و نظرت من حولي
كل شيء نظيف و مرتب ! كما كانت والدتي رحمها الله تفعل . شعرت بامتنان شديد لأروى و الخالة و قلت :
” جزاكما الله خيرا . أحسنتما . أنتما بارعيتن ! ”
أقبلت أروى نحوي و هي تبتسم و تقول :
” هذا لتعرف أي نوع من النساء قد تزوّجت ! ”
فضحكت الخالة و ضحكنا معها …
في هذه اللحظة دخلت رغد إلى المطبخ .
كان وجهها مكفهرا حزينا … و بعض الشرر يتطاير من بؤبؤيها !
وجهت حديثها إلي ، و كان صوتها حانقا حادا :
” هل عدت أخيرا ؟ تفضّل . نسيت أن تأخذ هذا ”
و دفعت إلي بهاتفي المحمول و الذي كنت قد أعطيتها إياه ليلة الأمس … و تركته معها فيما رافقت سيف إلى حيث ذهبنا صباحا .
و من ثم غادرت مسرعة و غاضبة …
أنا و السيدتان الأخريان تبادلنا النظرات … ثم سألت :
” ما بها ؟ ”
فردت أروى بلا مبالاة :
” كالعادة ! غضبت حين علمت أنك خرجت و لم تخبرها ! كانت تنتظر أن توقظها من النوم لتستأذنها قبل الخروج ! ”
و لم تعجبني لا الطريقة التي تحدّثت أروى بها ، و لا الحديث الذي قالته .
استدرت قاصدا الخروج و اللحاق برغد … فنادتني أروى :
” إلى أين ؟ ”
التفت إليها مجيبا :
” سأتحدث معها ”
بدا استياء غريب و غير معهود على ملامح أروى … ثم قالت :
” حسنا … أسرع إلى مدللتك ! لابد أنها واقفة في انتظارك الآن ”
……………….
عندما أتى إلي … كنت أشتعل غضبا …
كنت واقفة في الصالة العلوية أضرب أخماسا بأسداس …
وليد بدأ الحديث بـ :
” كيف أنت ِ ؟ ”
رددت بعنف :
” كيف تراني ؟ ”
صمت وليد قليلا ثم قال :
” أراك … بخير ! ”
قلت بعصبية :
” و هل يهمّك ذلك ؟ ”
” بالطبع رغد ! أي سؤال هذا ؟؟ ”
لم أتمالك نفسي و هتفت بقوّة :
” كذّاب ”
تفاجأ وليد من كلمتي القاسية … و امتقع وجهه … ثم إنه قال :
” رغد ! … هل لا أخبرتني … ما بك ؟؟ ”
اندفعت قائلة :
” لو كان يهمك أمري … ما خرجت و تركتني وحيدة في مكان موحش ! ”
” وحيدة ؟ بالله عليك ! لقد كانت أروى و الخالة معك ! ”
” لا شأن لي بأي منهما . كيف تجرؤ على الخروج دون إعلامي ! كيف تتركني وحيدة هنا ؟ ”
” و أين يمكنني تركك يا رغد إذن ؟؟ ”
اشتططت غضبا و قلت :
” إن كان عليك تركي في مكان ما ، فكان أجدر بك تركي في بيت خالتي . مع من أحبهم و يحبونني و يهتمون لأمري … لماذا أحضرتني معك إلى هنا ؟؟ ما دمت غير قادر على رعايتي كما يجب ؟؟ ”
تنهّد وليد بنفاذ صبر …
ثم قال :
” حسنا.. أنا آسف… لم أشأ أن أوقظك لأخبرك بأني سأخرج . لكن يا رغد … هذا سيتكرر كثيرا … ففي كل يوم سأذهب لمتابعة إجراءات استلام إرث أروى … ”
أروى … أروى … أروى …
إنني بت أكره حتى حروف اسمها …
حينما رأيتها البارحة في غرفة وليد … و جالسة بذلك الوضع الحر … على سريره … و نافشة شعرها بكل أحقية … و ربما كان وليد يجلس قربها مباشرة قبل أن أفسد عليهما خلوتهما … حينما أتذكر ذلك … أتعرفون كيف أشعر ؟؟؟
نفس شعور الليمونة الصغيرة حينما تعصر قهرا بين الأصابع !
أشحت بوجهي عن وليد … و أوليته ظهري … أردته أن ينصرف … فأنا حانقة عليه جدا و سأنفجر فيما لو بقي معي دقيقة أخرى بعد …
وليد للأسف لم ينصرف … بل اقترب أكثر و قال مغيرا الحديث :
” لقد أحضرت طعام الغداء من أحد المطاعم . هلمّي بنا لنتناوله ”
قلت بعصبية :
” لا أريد ! اذهب و استمتع بوجبتك مع خطيبتك الغالية و أمها ”
” رغد ! ”
التفت ّ إلى وليد الآن و صرخت :
” حل عنّي يا وليد الآن … أرجوك ”
و هنا شاهدت أروى مقبلة نحونا… عندما لمح وليد نظراتي تبتعد إلى ما ورائه ، استدار فشاهد أروى مقبلة ….
و أروى ، طبعا بكل بساطة تتجول في المنزل بحرية و بلا قيود … أو حجاب مثلي !
قالت :
” رتبنا المائدة ! هيا للغداء ”
التفت إلي وليد و قال :
” هيا صغيرتي … أعدك بألا يتكرر ذلك ثانية ”
صرخت بغضب :
” كذّاب ”
حقيقة … كنت منزعجة حد الجنون … !
على غير توقّع ، فوجئنا بأروى تقول :
” كيف تجرؤين ! ألا تحترمين ولي أمرك ؟ كيف تصرخين بوجهه و تشتمينه هكذا ؟ أنت ِ فتاة سيئة الأخلاق ”
صعقت للجملة التي تفوهت بها أروى ، بل إن وليد نفسه كان مصعوقا …
قال بدهشة :
” أروى !! ما الذي تقولينه ؟؟ ”
أروى نظرت إلى وليد بانزعاج و ضيق صدر و قالت :
” نعم يا وليد ألا ترى كيف تخاطبك ؟ إنها لا تحترمك رغم كل ما تفعل لأجلها ! و لا تحترم أحدا … و لا أنا لا أسمح لأحد بأن يهين خطيبي العزيز مهما كان ”
قالت هذا … ثم التفتت إلي ّ أنا و تابعت :
” يجب أن تقفي عند حدّك يا رغد … و تتخلي عن أفعالك المراهقة السخيفة هذه … و تعرفي كيف تعاملين رجلا مسؤولا يكرّس جهوده ليكون أبا حنونا لفتاة متدللة لا تقدّر جهود الآخرين ! ”
” أروى ! ”
هتف وليد بانفعال … و هو يحدّق بها … فرّدت :
” الحقيقة يا عزيزي … كما ندركها جميعا … ”
التفت وليد نحوي … ربما ليقرأ ملامح وجهي بعد هذه الصدمة … أو ربّما … ليظهر أمام عيني هاتفه المحمول في يده … و أنقض عليه بدون شعور … و أرفعه في يدي لأقصى حد … و أرميه بكل قوّتي و عنفي … نحو ذلك الوجه الجميل الأشقر …. !