قراءة رواية أنت لي كاملة
الجزء الثاني عشر
لقد قضيت اليوم بكامله في المطبخ !
فبعد وجبة الغذاء العظيمة التي أعددناها صباحا ، الآن نعد وجبة عشاء من أجل وليد و صديقه الذي سيتناول العشاء في منزلنا .
إنني أشعر بالتعب و أريد أن أنام ! لكن دانة لي بالمرصاد ، و كلما استرخيت قليلا طاردتني بقول :
” أسرعي يا رغد ! الوقت يداهمنا ! ”
كان سامر يساعدنا و لكنه خرج قبل لحظة ، و الآن أستطيع أن أتحدث عن وليد دون حرج !!
” أخبريني يا دانة ، ما هو التخصص الذي درسه وليد ؟؟ ”
دانة منهمكة في صف الفطائر في الصينية قبل أن تزج بها داخل الفرن …
قالت :
” أعتقد الإدارة و الاقتصاد ! ”
صمت قليلا ثم قلت :
” و أي غرفة سنعد له ؟ أظنها غرفة الضيوف ! فالبيت صغير … ألا توافقينني ؟ ”
قالت :
” بلى ”
انتظرت بضع ثوان ثم عدت أسأل :
” ألا يبدو أنه قد نحل كثيرا ؟ ألم يكن أضخم في السابق ؟ ”
قالت :
” بلى … كثيرا جدا ! لابد أنه لم يكن يأكل جيدا هناك ”
قلت :
” أ رأيت كيف التهم البطاطا التي أعددها كلها ؟ لابد أنها أعجبته ! ”
التفتت دانة إلي ببطء و قالت :
” و كذلك أكل السلطة التي أعددتها ، و الحساء الذي أعدته أمي ، و الدجاج و الرز و العصير و كل شيء ! بربك ! هل تعتقدين أن طبقك المقلي هذا هو طبق مميز ! ”
قلت مستاءة :
” أنت دائما هكذا ! لا يعجبك شيء أصنعه أنا ”
انصرفت دانة عني لتضع صينية الفطائر داخل الفرن ، و ما أن فرغت حتى بادرتها بالسؤال :
” ألا يبدو أقرب شبها من أبي ؟ فأنت و سامر تشبهان أمي ! ”
قالت :
” لا أعرف ! ”
ثم التفتت إلي و قالت :
” و أنت ِ !؟ من تشبهين ؟؟ ”
صمت قليلا ، ثم قلت :
” ربما أمي المتوفاة ! ”
لكنها قالت :
” لا ! تشبهين بل شخصا آخر ! ”
سألت باهتمام :
” من ؟؟ ”
ابتسمت بخبث و قالت :
” الببغاء ! فأنت ثرثارة جدا ! ”
رميت بقطعة من العجين ناحيتها فأصابت أنفها ، فأطلقتُ ضحكة كبيرة !
أما هي فقد اشتعلت غضبا و أقبلت نحوي متأبطة شرا !
تركت كرة العجين التي كنت ألتها من يدي و ذهبت أركض مبتعدة و هي تلاحقني حتى اقتربت من الباب و كدت أفتحه
” انتظري ! وليد بالخارج ”
أوقفت يدي قبل أن تدير المقبض و التفت إليها و قلت :
” صحيح ؟؟ ”
قالت :
” نعم فهو من طرق الباب قبل لحظة ، دعيني أستوثق من انصرافه أولا ”
تنحيت جانبا ، منتظرة منها أن تفتح الباب ، فأقبلت نحوي و على حين غرة ، و بشكل مفاجئ ، ألصقت قطعة العجين على أنفي و ضحكت بقوة و ركضت مبتعدة قبل أن أتمكن من الفرار منها !
أنا فتحت الباب بسرعة لأهرب لكن بعد فوات الأوان !
و تخيلوا من لمحت في الثانية التي فتحت الباب فيها ثم أغلقته بسرعة ؟؟
لقد كان وليد !
كم شعرت بالإحراج و الخجل و ابتعدت عن الباب في اضطراب
لا بد أنه رآني هكذا … و قطعة العجين ملتصقة بأنفي ! أوه يا للموقف المخجل !
نزعت العجين و رميت به نحو دانة و أنا أقول :
” لماذا تقولي لي أن وليد خلف الباب ؟؟ ”
رفعت دانة حاجبيها و قالت :
” بلى قلت لك ! ”
” ظننتك تمزحين للإيقاع بي ! لقد رآني هكذا ! ”
دانة ابتسمت ابتسامة صغيرة ، ثم قالت :
” أنت و وليد مشكلة الآن ! يجب ألا تغادري غرفتك بعد اليوم ! ”
قلت :
” شكرا لك ! إذن أتمي تحضير الفطائر و أنا سأذهب للنوم ! ”
في هذه اللحظة فتح الباب فدخل سامر …
نظر مباشرة إلي و قال :
” ذهب إلى غرفة الضيوف ، إن كنت تودين الخروج ”
نظرت إلى دانة ثم إلى سامر ، و الحمرة تعلو خدّيّ و قلت بمكر :
” نعم سأذهب ! ”
و انطلقت مسرعة نحو غرفتي …
غير آبهة بنداءات دانة المتكررة !
بعد أن غسلت وجهي و يدي في الحمام المشترك بين غرفتي و غرفة دانة توجهت نحو سريري و استلقيت باسترخاء
كم كنت متعبة !
إنني لم أنم البارحة كما ينبغي و عملت كثيرا في المطبخ
و للعلم ، فإن العمل في المطبخ ليس أحد هواياتي ، فأنا لا أهوى غير الرسم ، لكنني أردت المساعدة …
تقلبت على سريري يمينا و يسارا و أنا أفكر …
ما الذي سيقوله وليد عني !؟
فالفتيات البالغات لا يغطين أنوفهن بقطع العجين !
إلا إذا كانت طريقة جديدة لترطيب البشرة و تغذيتها !
شعرت بالدماء تصعد إلى وجهي بغزارة … لابد أن وجهي توهج الآن … لم لا ألقي نظرة !
قفزت من السرير و أسرعت نحو المرآة … و رأيت حمرة قلما أرى لها مثيلا على وجهي هذا !
أبدو جميلة ! و لابد أنني مع بعض الألوان سأغدو لوحة رائعة !
نزلت ببصري للأسفل و فتحت أحد الأدراج ، قاصدة استخراج علبة الماكياج بفكرة جنونية لتلوين وجهي هذه اللحظة !
الشيء الذي وقعت عليه يدي بمجرد أن أدخلتها داخل الدرج كان جسما معدنيا باردا .. أمسكت به و أخرجته دون أن أنظر إليه ثم رفعت به نحو عيني ّ مباشرة …
إنها ساعة وليد …
نسيت فكرتي السخيفة بوضع المساحيق ، و عدت حاملة الساعة إلى سريري و استلقيت ببطء
الآن .. الفكرة التي تراودني هي إعادة هذه الساعة لوليد …
لابد أنه سيفاجأ حين يراها … و يعرف أنني ظللت محتفظة بها و أرتديها أيضا خلال السنوات الماضية !
قمت فجأة عن سريري و ارتديت ردائي و حجابي و طرت مسرعة للخارج
دعوني أخبركم بأنني قلما أفكر في الشيء مرتين قبل أن أقدم عليه !
لقد أخبرني سامر أنه في غرفة الضيوف و مع ذلك مررت بغرفة سامر ، ثم غرفة المعيشة ، و بالطبع تجنبت المطبخ ، قبل أن أذهب إلى غرفة الضيوف حاملة ساعة وليد بيدي …
حين وصلت عند الباب ، و كان مفتوحا ، استطعت أن أرى من بالداخل ، و لم يكن هناك أحد غيره …
وليد كان جالسا على أحد المقاعد ، بالتحديد المقعد المجاور للمنضدة التي تحمل الهاتف و قد كان مثنيا جدعه للأمام و مسندا رأسه إلى يديه ، و مرفقيه إلى ركبتيه في وضع يشعر الناظر بأنه … حزين
طرقت الباب طرقا خفيفا ، ألا أنه لم يسمعه
فأعدت الطرق بشكل أقوى و أقوى ، حتى رفع رأسه ببطء و نظر إلي …
و ما أن التقت أنظارنا حتى علت وجهه تعابير غريبة و مخيفة …
بدت عيناه حمراوين و جاحظتين و مفتوحتين لحد تكادان معه أن تخرجا من رأسه !
و لمحت زخات العرق تقطر من جبينه العريض
حملق وليد بي بشدة أثارت خوفي … فرجعت خطوة للوراء … و حالما فعلت ذلك وقف هو فجأة كمن لدغته أفعى !
أنا ازدردت ريقي بفزع ثم حاولت النطق فجاءت كلماتي متلعثمة :
” كنت … أعني … لدي شيء أود إعطائك إياه … ”
وليد ظل واقفا في مكانه كالجبل يحدّق بي بحدّة … ربما أزعجه أن أحضر بمفردي … أو ربما … ربما …
لم أستطع حتى إتمام أفكاري المبعثرة لأنه تقدم خطوة ، ثم خطوة ، تلو خطو باتجاهي
لقد كنت أمسك بالساعة في يدي اليمنى ، و لا شعوريا تحركت يدي للخلف و اختبأت بالساعة خلف ظهري …
لا أظن أن وليد رآها و لكن …
حين صار أمامي مباشرة ، مد يده بسرعة و انقض على يدي اليمنى و سحبها للأمام بعنف
ارتعدت أطرافي و جفلت !
وليد قرّب يدي من عينه و أخذ يحدق بها بنظرات مخيفة و قاسية ، فيما يشد بقبضته عليها حتى يكاد يهشم عظامها …
نطق لساني بفزع و اضطراب :
” أنا … لم … كنت … سأعيدها إليك ! ”
وليد ظل قابضا على يدي بقوة ، و يحدّق في عيني بنظرات تكاد تخترق عيني و رأسي و الجدار الذي خلفي …
في تلك العيون الحمراء القادحة بالشرر … رأيت قطرات الدموع تتجمع … ثم تفيض … ثم تنسكب … ثم تشق طريقها على الخد العابس … ثم تنتهي عند الفك المنقبض …
لقد تهت في بحر هذه العيون و غرقت في أعماقها …
أخذتني إلى ذكرى قديمة موجعة … حاولت جهدي أن ألغيها من ذاكرتي … فرأيت وليد و هو يبكي بمرارة و شدة ذلك اليوم و هو جاث ٍ فوق الرمال قرب السيارة ..
يمد يده إلي و يقول :
” تعالي يا رغد ”
” وليد … ”
نطقت باسمه فإذا به يغمض عينيه بقوة و يعض على أسنانه بشدة .. و يشدد قبضته على يدي و يؤلمني …
بعدما فتح عينيه ، ظل يحدق في يدي قليلا ، ثم فجأة انتزع الساعة من بين أصابعي و رمى بها نحو الجدار و زمجر بقوة :
” انصرفي ”
أنا انتفضت بذعر … و ارتجفت جميع أطرافي … فتحركت خطوة للوراء … ثم انطلقت بأقصى ما أمكنني … و بأوسع خطى … و ذهبت إلى غرفتي … فدخلت و أغلقت الباب بل و أوصدته مرتين ، ثم تهالكت على سريري …
كان قلبي ينبض بسرعة عجيبة و أنفاسي تعصف رئتي بقوة … و أنظر إلى يدي فأراها ترتعش … فيما تشع احمرارا أثر قبضة وليد القوية عليها …
بعدما هدأت قليلا اقتربت من المرآة فهالني المظهر الذي كساني
أصبحت مرعبة !
ألم أكن جميلة قبل قليل ؟؟
لا أعرف لماذا فعل وليد ذلك …
هل غضب لأنني ظهرت من المطبخ و العجين يغطي أنفي ، فبدوت كطفلة غبية ؟؟
أم لأنني لم أكن ارتدي الحجاب وقتها ؟؟
أم ماذا ؟؟
و جعلت الأفكار تلعب في رأسي حتى أتعبته …
الساعة !
لقد حطّمها !
لقد احتفظت بها كل هذه السنين لأعيدها إليه … لماذا فعل ذلك ؟؟ لماذا ؟؟
شعرت بشيء يسيل على خدي رغما عني
بكيت من الذعر و الخوف … و الحيرة و الدهشة …
لا أعرف كيف سيكون لقاؤنا التالي …
لم يعد هذا وليد !
وليد لم يكن يصرخ في وجهي و يقول :
” انصرفي ”
كان دائما يبتسم و يقول :
” تعالي يا رغد !! ”
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
رميت بجسدي المثقل بالهموم على أقرب مقعد للباب .. و أطلقت العنان لشلالات الدموع لأن تعبر عن قسوتها بالقدر الذي تشاء
لم يكن أمامي شيء يرى … أو يسمع .. أو يثير أي اهتمام
لا شيء يستحق أن أعيش لأجله … بعدما فقدت أهم شيء عشت على أمل العودة إليه حتى هذه اللحظة
رفعت رأسي إلى السقف و أردت لأنظاري أن تخترقه و تنطلق نحو السماء …
يا رب …
لقد كانت لدي أحلامي و طموحي منذ الصغر …
و أمور ثلاثة كانت تشغل تفكيري أكثر من أي شيء آخر …
الحرب ، و ها قد قامت و تدمر ما تدمر ، و لم يعد يجدي القلق بشأن قيامها
الدراسة ، و ها قد انتهت و ضاعت … و قضيت أهم سنوات عمري في السجن بدلا من الجامعة … و انتهى كل شيء و لم يعد يقلقني التفكير فيه …
و رغد …
رغد ..
أول و آخر و أهم أحلامي …
رغد الحبيبة … مدللتي التي رعيتها منذ الصغر …
و راقبتها و هي تنمو و تكبر …
يوما بعد يوم …
و قتلت عمار انتقاما لها …
و قضيت أسوأ و أفظع سنوات حياتي حتى الآن … في السجن
منفيا مبعدا مهجورا معزولا عن الأهل و الدنيا و الحياة … و نور الشمس …
و ذقت الأمرين … و سهرت الليالي و أنا أتأمل صورتها و أعيش على الأمل الأخير لي … بالعودة إليها و لو بعد سنين …
أعود فأراها مخطوبة لغيري !
و من ؟؟
لشقيقي ..؟؟
يا رب
رحمتك بي
فانا لست حملا لكل هذا
و لم يعد بي ذرة من القوة و الاحتمال …
كنت أبكي بحرقة و لا أشعر بشيء من حولي ، حتى أحسست بيد تمسك برأسي و تأخذني إلى حضن لطالما حننت إليه …
” ولدي يا عزيزي ما بك ؟ لماذا تبكي يا مهجة فؤادي ؟”
و أجهشت أمي بكاءا و هي تراني أبكي بحرارة
حاولت أن أتوقف لكنني لم استطع …
لقد تلقيت صدمة لا يمكن لقلب بشر أن يتحملها …
رغد !؟
رغد صغيرتي أنا … أصبحت زوجة لأخي ؟؟
إن الأرض تهتز من حولي و جسدي يشتعل نارا و تكاد دموعي تتبخر من شدة الحرارة …
لم أجد في جسدي أي قوة حتى لرفع ذراعي و تطويق أمي … بكيت في حضنها كطفل ضعيف هزيل جريح … لا يملك من الأمر شيئا …
بعد فترة من الزمن لا أستطيع تحديدها ، حضر والدي و حالما رآنا أنا و أمي على هذا الوضع قال :
” يكفي يا أم وليد … دعي ابننا يلتقط أنفاسه أما اكتفيت ؟؟ ”
والدتي أخذت تحدق بي بين طوفان الدموع …
قلت بلا حول و لا قوة و بصوت أقرب إلى النحيب منه إلى الكلام :
” أنا متعب … متعب جدا … لقد انتهيت … انتهيت … ”
و بعد حصة البكاء هذه صعدا بي إلى غرفة سامر ، و جعلاني أضطجع على السرير و هما يقولان :
” ارتح يا بني … نم لبعض الوقت ”
ثم غادرا …
و أنا مضطجع على الفراش و وجهي ملتف ٌ نحو اليمين … و دموعي لا تزال تنهمر و تغرق الوسادة ، وقع ناظري على الهاتف …
مددت يدي و أخذته و استرجعت بصعوبة رقم هاتف الشقة التي يقيم سيف بها و اتصلت به
” يجب أن تحضر الليلة ”
بعدها … جاء سامر يخبرني بأن سيف قد حضر …
كان سامر يبتسم ، و إن بدت من نظراته علامات القلق … خصوصا و هو يرى الوجوم الغريب على وجهي الذي كان مشرقا طوال النهار
ذهبت معه إلى حيث كان سيف و والدي يجلسان و يتبادلان الأحاديث …
لابد أن الجميع قد لاحظ شرودي … و عدم إقبالي على الطعام ، على عكس وجبة الغذاء التي التهمت حصتي منها كاملة تقريبا
” ما بك لا تأكل يا وليد ؟ كُلْ حتى تسترد الأرطال التي فقدتها من جسمك ! ”
أجبت ببرود و بلادة :
” اكتفيت ”
و بعد العشاء جلسنا في غرفة الضيوف نشرب الشاي ، و كانوا هم الثلاثة ، أبي و سامر و سيف ، في قمة السعادة و يتبادلون الأحاديث و الضحك …
أما تفكيري أن فكان متوقفا و جامدا عند اللحظة التي قال فيها آخي :
( نحن مخطوبان )
بعد ساعة ، استأذن سيف للانصراف و أخذ يصافح الجميع و حين أقبل نحوي قلت :
” سأذهب معك ”
أبي و سامر تبادلا النظرات ثم حدقا بي ، كما يفعل سيف … و قالا سوية و باستغراب :
” ماذا ؟؟ ”
و أنا لا أزال ممسكا بيد سيف و ناظرا إليه أجبت :
” إذ لا سرير لي هنا … ”
و توقفت قليلا ثم تابعت :
” و لا أريد ترك صديقي وحيدا ”
كان سيف يعتزم السفر بعد يوم آخر ، لينال قسطا أوفر من الراحة بعد مشقة الرحلة الطويلة التي قطعناها …
و انتهى الأمر بأن خرجت معه دون أن أودع غير والدي ، و سامر …
في السيارة بعد ذلك ، فتحت الخزانة الأمامية و استخرجت علبة السجائر التي كنت قد دسستها بداخلها أثناء تجوالنا
و فتحت النافذة ، ثم أشعلت السيجارة و التفت إلى سيف و قلت :
” أتسمح بأن أدخن ؟؟ ”
صديقي سيف لم يكن من المدخنين ، أومأ برأسه إيجابا و فتح نافذته ، و انطلق بالسيارة …
بقيت صامتا شاردا طوال المشوار ، و لم يحاول سيف خلخلة صمتي بأي كلام
بعد فترة ، و نحن نقف عند الإشارة الأخيرة قبل المبنى حيث نسكن ، و فيما أنا في شرودي و دهليز أفكاري اللانهائي ، قال سيف :
” متى بدأت تدخن ؟؟ ”
لم أجبه مباشرة ، ليس لأنني لم أسمعه أو أستوعب سؤاله ، بل لأن لساني لم يكن يدخر أي كلام …
” السجن يعلّم الكثير … ”
قلت ذلك و ابتسمت ابتسامة ساخرة باهتة شعرت بأن سيف قد رآها رقم تركيزه على الطريق …
تذكرت لحظتها تلك الأيام …
و أولئك الزملاء في السجن …
لماذا أشعر بهم الآن حولي ؟؟
كأني أشم راحة الزنزانة !
ربما أثارت رائحة السيجارة تلك الذكريات السوداء !
و هل يمكن أن أنساها ؟
و هل يعقل أن تختفي و أنا لم أبتعد عنها غير أيام فقط …؟؟
ليتهم …
ليتهم قتلوني معك يا نديم …
ليتنا تبادلنا الأرواح …
فمت ُّ أنا
و بقيت أنت … و خرجت لتعود لأهلك و بلدك و أحبابك …
أنا … لا أهل لي و لا بد …
و لا أحباب …
لمحت الإشارة تضيء اللون الأخضر و أنا أسحق سيجارتي في ( المطفئة)
ثم انطلق وليد بالسيارة …
أنوار كثيرة كانت تسبح في الظلام …
مصابيح السيارات القادمة على الطريق المعاكس
مصابيح المنازل
مصابيح الشارع …
لافتات المحلات الضوئية
نور على نور على نور …
كم هو أمر مزعج … لم أعد أرغب في رؤية شيء …
أتمنى ألا تشرق الشمس يوم الغد …
أتمنى ألا يعود الغد …
أتمنى … ألا أذكر رغد …
كانت المرة الثانية في حياتي ، التي تمنيت فيها لو أن رغد لم تخلق …
عندما دخلنا الشقة، و هي مكونة من غرفة نوم و صالة صغيرة و زاوية مطبخ و حمام واحد … أسرعت الخطى نحو غرفة النوم و دون أن أنير المصباح دخلت و ألقيت بجسدي المخدر أثر صدمة النبأ على أحد السريرين …
ثوان ، و إذا بسيف يقبل و يشعل المصباح
” كلا .. أرجو أطفئه ”
قلت ذلك و أنا أرفع يدي ثم أضعها فوق عيني المغمضتين لأحجب عنهما النور …
سيف بادر بإطفاء المصباح و بقي واقفا برهة … ثم أقلق الباب و أحسست به يتقدم … ثم يجلس فوق السرير الآخر و الموازي لسريري …
ساد السكون لبعض الوقت ، إلا من ضوضاء تعشش في رأسي بسبب الأفكار التي تتعارك في داخله …
” ماذا حدث ؟؟ ”
سألني سيف بصوت هادئ منخفض …
لم أجبه … و مرت دقائق أخرى فاعتقدت أنه حسبني قد دخلت عالم النيام … لكنه عاد يقول :
” أخبرني … ، إنك لست على ما يرام ”
بعد ذلك أحسست بحركته على السرير المجاور و بصوته يقترب أكثر …
” وليد ؟؟ ”
الآن فتحت عيني قليلا و لدهشتي رأيه يقف عند رأسي و يحدق بي …
الظلام كان يطلي الغرفة بسواد تام ، إلا عن إضاءة بسيطة تتسلل بعناد من تحت الباب
و يبدو إنها كانت كافيه لتعكس بريق الدموع التي أردت مواراتها في السواد .
لحظة من لحظات الضعف الشديد و الانهيار التام .. توازي لحظة تراقُص الحزام في الهواء … ثم سكونه النهائي على الرمال … إلى حيث لا مجال للعودة أو التراجع … فقد قضي الأمر …
جلست ، ليست قوتي الجسدية هي التي ساعدتني على النهوض ، و لا رغبتي الميتة في الحراك ، بل الدموع التي تخللت تجويف أنفي و ورّمت باطنه و سدت المعبر أمام أنفاسي البليدة البطيئة … و كان لابد من إزاحتها …
تناولت منديلا من العلبة الموضوعة فوق المنضدة الفاصلة بين السريرين و جعلت أعصف ما في جوفي و صدري و كياني … خارجا
إلى الخارج …
يا دموعي و آلامي
يا أحزاني و ذكرياتي الماضي
إلى الخارج يا حبي و مهجة قلبي
إلى الخارج يا بقايا الأمل
إلى الخارج يا روحي …
و كل ما يختزن جسمي من ذرات الحياة ….
و إلى الخارج …
يا اعترافات لم أكن أتوقع أنني سأبوح بها ذات يوم … لأي إنسان …
” هل واجهت مشكلة مع أهلك ؟؟ … بالأمس كنت … كنت َ … ”
و صمت …
فتابعت أنا مباشرة :
” كنت ُ أملك الأمل الأخير … و قد ضاع و انتهى كل شيء …
إنني لم أعد أرغب في العودة إليهم ! سأرحل معك يا سيف ”
قلت ذلك و كانت فكرة وليدة اللحظة ، ألا أنها كبرت فجأة في رأسي و احتلت عقلي برمته ، ففتحت عيني و حملقت في الفراغ الذي خلقت منه هذه الفكرة ثم استدرت نحو سيف و قلت :
” أنا عائد معك إلى مدينتنا ! ”
طبعا سيف تفاجأ و لم يكن الظلام ليسمح لي برؤية ظاهر ردود فعله أو سبر غورها
سمعته يقول :
” ماذا ؟ ! ”
قلت مؤكدا :
” نعم ! سأذهب معك … فلم يعد لي مكان أو داع هنا ”
سيف صمت ، و لم يعلق بادئ الأمر ، ثم قال :
” أما حدث … كان سيئا لهذا الحد ؟؟ ”
و كأن جملته كان شرارة فجرّت برميل الوقود …
ثرت بجنون ، قفزت من سريري مندفعا هائجا صارخا :
” سيئ ٌ فقط ؟؟ بل أسوأ ما يمكن أن يحدث على الإطلاق … إنها خيانة ! إنهما خائنان … خائنان … خائنان ”
مشيت بتوتر و عصبية أتخبط في طريقي … أبحث عن أي شيء أفرغ فيه غضبي بلكمة قوية من يدي لكنني لم أجد غير الجدار …
و هل يشعر الجدار ؟؟
آلام شديدة شعرت أنا بها في قبضة يدي أثر اللكمة المجنونة نحو الجدار ، و استدرت بانفعال نحو سيف الذي ظل جالسا على السرير يراقبني بصمت …
” لقد سرقوا رغد مني ! ”
لأن شيئا لم يتحرك في سيف استنتجت أنه لم يفهم ما عنيته … قلت :
” أعود بعد ثمان سنوات من العذاب و الألم … و الذل و الهوان الذي عشته في السجن بسبب قتلي لذلك الحقير الذي أذاها … ثمان سنوات من الجحيم … و المرارة … و الشوق … فقدت فيها كل شيء سوى أملى بالعودة إليها هي … أعود فأجدها … ”
و سكت …
لأنني لم أقو على النطق بالكلمة التالية …
و درت حول نفسي بجنون ، ثم تابعت ، و قد خرجت الكلمة من فمي ممزوجة بالآهة و الصرخة و الحسرة :
” أجدها مخطوبة ؟؟ ”
هنا وقف سيف …
إلا أنني لم أكن قد انتهيت من إفراغ ما لدي
قلت بصوت صارخ جاد مزمجر :
” و لمن ؟؟ لأخي ؟؟؟ أخي ؟؟؟ ”
حتى لو كانت الغرفة منارة لم أكن لأستطيع رؤية شيء وسط انفعالي الشديد ساعتها …
لذا لا أعرف كيف كانت تعابير وجه سيف …
و لكن بإمكاني رؤية خياله واقفا هناك …
اندفعت كلماتي مقترنة بدموعي و زفيري القوي و صوتي الأجش المجلل … و أنا أقول :
” لو كان … لو كان شخصا آخر … أي شخص … لكنت قتلته و محوته من الوجود … لكنه أخي … أخي يا سيف … أخي …
كيف تجرأ على سرقتها مني ؟؟
كيف فعلوا هذا بي ؟؟
أهذا ما أستحقه ؟؟
ليتني لم أخرج من السجن
ليتني مت هناك
ليتني أفقد الذاكرة و أنسى أنني عرفتها يوما
الخائنة …
الخائنة …
الخائنة … ”
و انتهيت جاثيا على الأرض في بكاء شديد كالأطفال …
” لقد أطعمتك ِ بيدي … كيف تفعلين هذا بي يا رغد ؟؟ أنا قتلته انتقاما لك ِ أنت ِ …
أيتها الخائنة … أكان هذا حلمك …؟
اذهبي بأحلامك إلى الجحيم … ”
و أدخلت يدي إلى جيبي ، و أخرجت منه الصورتين اللتين رافقتاني و لازمتاني لثمان سنين ، لستين دقيقة من كل ساعة من كل يوم …
أخرجتهما و أخرجت معهما القصاصة التي وجدتها تحت باب غرفتي …
لم أكن أرى أيا مما أخرجت ، و لكن يدي تحس … و تدري أيها صورة رغد … فلطالما أمسكت بالصورة و احتضنتها في يدي لساعات و ساعات …
الدموع بللت الصورتين و كذلك الورقة …
” أيتها الخائنة … اذهبي و أحلامك إلى الجحيم … ”
و قبل أن أتردد أو أدع لعقلي المفقود لحظة للتفكير …
مزقت الورقة … إربا إربا …
و رميت بها في الهواء …
و مزقت صورة رغد … قطعة قطعة … و بعثرتها في الفراغ … إلى حيث تبعثرت آخر آمالي و أحلامي …
و انتهت آخر لحظات حبي الحالم …
و تلاشت آخر ذرات غبار الماضي …
و لم يبق لي …
غير حطام قلب ٍ منفطر …