رواية إمبراطورية الملائكة بقلم/ياسمين عادل
<< إمبراطورية الملائكة>>
الفصل الحادي والأربـعون :-
لم تخمد عواصف قصر آل العامري منذ تلك الكارثة بل الكوارث المتتابعة التي توالت عليهم.. والآن وقد مرّ ثلاثة أيام على تلك الحادثة المريبة التي تشكك فيها الجميع، لم يبقى أحد منهم على حاله، الجميع في حالة هدوء مثير للريبة.. عدا “برديس” ، التي قضت أيامها إما نائمة أو باكية بصراخ عنيف.. لولا بعض وسائل التنويم التي تتناولها لكانت مريضة بإنهيار عصبي الآن عقب وفاة والديها بشكل غريب ومفاجئ.
كانت ساحة غرفة الجلوس تجمع أغلبهم، عدا “عادل” الذي ترك القصر نهائيًا واصطحب معه كُل ما يخصه.. و”ميسون” التي غادرت منذ تلك الليلة ولم تحضر حتى عزاء ثُلاثي عائلة العامري..
تدهورت حالة “رائد” ، في النهاية هذا الذي توفى والده وإن كانت علاقتهم سيئة، تكابلت عليه الظروف بشكل سئ.. حتى إنه فكر في تقديم جثامينهم للطب الشرعي بعد الشكوك التي انتابته، ولكن “فريدة” رفضت رفضًا قاطعًا.. وبررت رفضها بأن (الموتى ليس لهم إلا القبور).
كانت عيون “طارق” ما بين ذهابًا وإيابًا على إبن خاله المتوفي، يفكر بشأن هذه الميتة الغريبة.. وما سبقها من حوار بينه وبين “عاصم”.. استشعر إن ما حدث كان مدبرًا ومخطط له مسبقًا.. وإلا لما كان هذا الحديث قبل وفاتهِ بساعات قليلة!
كان “رائد” مُطبقًا جفونه ، رأسه تُعتصر من كثرة التفكير.. حينما استمع لصوت “فريدة” وهي تردد :
– رائد، قوم نام ياحبيبي وشك مجهد وتعبان أوي
تنهدت “رفيف” بضيق وهي تطبق على وشاحها الصوفي وقد شعرت بالبرد :
– قوليله ياماما ، أحسن مش سامع كلامي خالص
اعتدل في جلستهِ ووجه سؤاله لزوجته :
– قفلتي الشنط يارفيف؟
– آه
أومأ رأسه و :
– بكرة بعد المغرب هنمشي من هنا، عشان البنك هيستلم القصر بعد يومين
فلم تستمر” إيمان” في الصمت طويلًا، تلوت شفتيها باستهجان وهي تتمتم :
– منك لله يابابا، سيبتلنا الفضيحة والفقر ومهانش عليك حتى تصارحنا
تأفف “رائد” وهو ينهض عن جلسته بإنزعاج شديد و:
– أنا هطلع فوق عشان مش متحمل كلمة من أي حد
رمقته “إيمان” بنظرات مزدرية و :
– مش عاجبك كلامي!! ماهي دي الحقيقة
“طارق” وهي ينظر إليها من زاوية عينيه :
– مش وقته ياأمي، خلاص اللي حصل حصل
وأضاف “رائد” بإسلوب مستخف :
– عندك اللي يكفيكي وزيادة، مش عارف شايلة هم الفقر إزاي ياعمتي! ؟
وترك الجميع وأنصرف، بينما غمزت “فريدة” بعينها لـ “رفيف” حتى تنهض وتلحق بزوجها، فـ قامت بتنفيذ الأمر على الفور..
ولجت عليه فوجدته يتحدث في هاتفه وهو فاقد حتى الشعور بما حوله من فرط الهموم التي يحملها :
– خلص بسرعة ياأستاذ فواز، خلاص كل المقرات الفرعية ملهاش لازمة.. ولما تصفي كل حاجه كل واحد هياخد اللي ليه
دلفت “رفيف” للمرحاض الملحق بالغرفة.. ثوانٍ واستمع “رائد” لصوت هدير المياه، ثم خرجت وخطت نحوه.. جلست بجواره حتى ينتهي من المكالمة الجارية، ثم بادرت بـ :
– أنا حضرتلك الحمام عشان تاخد دُش سخن
نهض من جوارها ودلف للمرحاض ، فـ استنشق رائحة جميلة.. هدأت قليلًا من تيبس عقله ورأسه.. جعلته يرتاح ولو لبعض من الوقت، المغطس يمتلئ بالمياه الساخنة التي طفا عليها بعض الحبيبات المعطرة ذات الرائحة النفاذة.. المنشفة ومعطف الإستحمام وسائل غسيل الشعر والجسم ودهان ما بعد الإستحمام، كُل شئ مُجهز لإستخدامه..
نزع عنه ملابسه وبدأ يستعد لجلسة إستحمامية طويلة ستسلبه طاقتهِ السلبية.
في هذا التوقيت..
كانت “زهور” قد أعدّت حامل الطعام الكبير الذي ضمّ أصناف عديدة وشهية بجانب طبق الفاكهة وكؤوس من عصير البرتقال الطازج.. وضعت “رفيف” الطعام جانبًا وبدأت بتقطيع الفاكهه لتكون جاهزة للتناول على الفور.. ثم خبأت علبة سجائرهِ التي شره في تدخينها بالآونة الآخيرة أسفل الفراش.
خرج “رائد” مرتديًا “تيشرت” بنصف ذراع فقط مع سروال أسود.. فـ لحقت به “رفيف” وهي تمسك بـ “بلوڤر” من الصوف الأزرق الداكن، وساعدته في ارتدائه وهي تردد :
– الجو برد النهاردة إزاي تخرج كدا من الحمام!
سحبته للأسفل لتغطي نصف جسده، ثم احتضنته بقوة وهي تهمس :
– نعيمًا ياحبيبي
ثم جذبته وهو يسير بطواعية شديدة معها نحو الأريكة.. قبالته المنضدة التي عليها الطعام، وقبل أن يقدم رفضًا بادرت بـ :
– مفيش لأ، أنت خسيت النص يارائد حتى مبقتش مهتم بأكلك خالص
نظر للطعام بغير شهية و :
– ماليش نفس لحاجه خالص
– أنا هفتح نفسك
قالتها وهي تدس ملعقة من “المكرونة بالصوص الأبيض والدجاج” في فمه و :
– الأكلة دي أنا اللي طبخاها النهاردة، أول مرة هتاكل من إيدي
أجبر ثغره على الإبتسام وهو يمضغ الطعام، ثم ناولته حبة من الزيتون المملح “مخلل” وهي تردد :
– أنت رايح في حته بكرة؟
– آه
ثم زفر وهو يتابع :
– البنك جاي بكرة الشركة ولازم أكون هناك
ربتت على فخذهِ و :
– ربنا هيعوضك بأذن الله، صدقني
أحنى رأسه بيأس وقنوط :
– تفتكري ؟
فتركت الملعقة وهي تؤكد :
– طبعًا، كل حاجه بتحصلنا وراها حاجه وحكمة من ربنا.. ومحدش بيتوجع ويتكسر أوي غير لما ربنا بيجبر بخاطره وبيعوضه أحسن من اللي خسره ١٠٠ مرة
ثم التقطت كأس العصير و :
– يلا أشرب
تناوله منها وهو شاردًا في الأحداث الأخيرة، حتى إنه شرب ولم يشعر بمذاق ما يشربه.. هل حقًا سيعوض ؟، هل كل تلك الخسارة هي ربح يدخره الله له!؟.. أم عقاب وجزاء؟
………………………………………………………………..
- كنتي عارفه، ورغم كدا خبيتي عني زيه بالظبط
استدار “عادل” في وقفته ودنى من والدته التي لم تجد حديثًا تتفوه به لولدها الوحيد.. بينما تابع هو بنبرة مقهورة :
– وانا هعتب عليكي ليه؟ إذا كان أنا كنت أقربله من كل عياله ورغم كدا مقاليش!! هعاتبك انتي!
بررت “شهيرة” موقفها في ستر هذا السر قائلة :
– ياعادل أنا لما عرفت اللي حصل حاولت أخلي أبوك يقولكم.. لكن معرفتش ، لما واجهته وهددته إني هعرف كل عياله الحقيقة تعب بعدها على طول وانا حسيت بالذنب ناحيته، مكانش ينفع تعرفوا مني
رمى بجسده على المقعد وهو يتابع :
– عادي ياماما يعني هي جت عليكي
نهضت “شهيرة” وجلست بجواره.. ثم ربتت على كتفه وهي تردد :
– هتعمل إيه بعد اللي حصل، أخواتك ماتوا في وقت غريب أوي وكمان سابوا ورا الحادثة بتاعتهم لغز
تسلطت عيون “عادل” على الفراغ و :
– صحيح، من أمتى عاكف وعاصم يتجمعوا في مكان واحد؟
فسألت “شهيرة” بفضول شديد :
– طب وبعدين ؟هتعملو إيه؟
– هنعمل إيه في إيه.. ماتوا وأدفنوا واتأيدت في المحضر حادث سير، تقريبا وقفوا العربية فجأة والعربية اللي وراهم كمان خبطت فيهم.. لولا صاحبها نط منها كان زمانه مات محروق هو كمان
– لا حول ولا قوة إلا بالله
بدأ الحلم يتلألأ في عيناه من جديد.. وبدون تردد أردف قائلًا :
– أنا هرجع شغلي، وظيفتي اللي اتخليت عنها بعد مرض أبويا.. هرجع تاني أحقق اللي ملحقتش أحققه زمان
عقدت “شهيرة” حاجبيها باستفهام و :
– هترجع تشتغل في الجامعة؟
– آه، كلمت دكتور مؤنس اللي أشرف على رسالة الدكتوراه بتاعتي ومن بكرة هنزل أشوف الإجراءات هتمشي ازاي
عضت “شهيرة” على شفتيها بتحرج وهي تسأله :
– طب و…. ندى؟
خفق قلبه مع سماع اسمها.. وكأنها فراشة تحلق حوله تنشر له البهجة، تنفس بعمق وترك زفيرًا وهو يردد :
– ندى!..
ثم أخفض بصره و :
– مستني الوقت يمر شوية وهرجع أفاتح عمي عماد تاني.. أنا مش هقدر على خسارتها
علت البسمة وجهها وهي تردد بحماسة :
-وانا هفتح شقتك عشان المهندس ييجي يشوفها ويقول هنعمل فيها إيه
– متستعجليش ياماما ، مش يمكن ندى متحبش تسكن هنا في نفس العمارة!
سرعان من تحول وجهها لملامح ممتعضة وهي تجيب بحزم :
– وترفض ليه بقى!! هي هتبعدك عني ولا إيه؟.. لو مش هتوافق تعيشوا هنا في نفس العمارة أنا مش موافقة عليها
نهض “عادل” عن جلسته و :
– بصراحة مش وقت الموضوع دا خالص، تصبحي على خير
فتابعته وهو يبتعد نحو غرفته و :
– قال متحبش قال!.. هنبتدي بقا شغل الحما ومرات الأبن ولا إيه؟!
………………………………………………………………….
كانت عيادة الطبيب النفسي اليوم أقل من حيث الزائرين عن كل مرة.. مما أتيحت لها فرصة الجلوس برفقته وقت زمني أطول، كانت “مروة” مختلفة عن كل مرة يراها فيها، ربما أتى العلاج بثمار جيدة معها.. فتاة تعيش أوج عمرها ببهجة وسعادة، وقد تناست كل ما عاشته فعلًا.
رمقها الطبيب بغرابة وهو يردد بإستغراب :
– أنا حقيقي مندهش، أول مرة أشوفك بالحالة دي.. بس سعيد بجد إننا وصلنا للمرحلة دي في وقت قصير زي دا
ابتسمت بسعادة وهي تردد :
– كان عندك حق، كان لازم أشغل وقتي واعرف ناس جديدة وأروح أماكن مروحتهاش قبل كدا.. نفذت كل تعليماتك بالحرف، ومن بعدها حاسة إني مروة جديدة غير اللي اعرفها
– أنا مبسوط عشان بسمع منك دا، الحياة مش بتقف على حد يامروة.. وإحنا كلنا أدوار في حياة بعض، لما الدور بيخلص بنمشي.. أتعودي إن مفيش حد هيدوم ليكي غير نفسك ، عشان كدا لازم تهتمي بيها أكتر من أي حاجه.. بشرط، إنك متكونيش أنانية
نهض الطبيب عن مقعده وأقترب منها وهو ممسك ببطاقة دعوة وهو يردد :
– دي جلسة علاج جماعي بعملها كل شهر للمرضى بتوعي في نادي *****.. تغيير جو وكمان بتستفيدوا من تجارب بعض، لو حابة تحضري هستناكي بعد يومين الساعة ٢ الضهر أنا والمجموعة اللي معايا
كانت تقرأ محتواها وهي تستمع له، ثم أومأت برأسها أيجابًا و :
– هاجي أكيد
……………………………………………………………………
خرجت “رفيف” بصحبة عمها “عماد” من متجر المجوهرات الراقي هذا عقب أن قامت ببيع ممتلكاتها النفيسة الغالية التي أهدتها إياها “فريدة” گهدية العرس، بجانب طاقم الشبكة الذي ابتاعه “رائد” لها.. فقط احتفظت بخاتم زواجها.
دست “رفيف” هذا المبلغ المالي الكبير بحقيبتها الكبيرة ثم أطبقت عليها وهي على كتفها بإحكام و :
– أنت اتفقت مع المُشتري خلاص ياعمي؟
– آه يابنتي، المعاد بعد ساعة ونص من دلوقتي.. هنروح نشرب حاجه عندنا وبعدين ننزله
كانت نظرات “عماد” الغريبة تتأمل وجهها.. وبـ بشاشة ابتسامته أردفت :
– أنا فخور بيكي أوي يارفيف.. مكنتش أعرف إنك هتتجرأي وتاخدي خطوة زي دي عشان جوزك
أطرقت برأسها خجله من كلماته و:
– رائد ده حياتي ياعمي، لو يطلب روحي هديهاله.. عمره ما بخل عليا بحاجه، ييجي هو في أزمته ميلاقنيش إزاي !!
فزادت ابتسامته و:
– ربنا يحفظك يابنتي، يلا بينا
_ في هذا التوقيت العصيب..
كان “رائد” مجتمع برؤساء الأقسام، بجانب جميع موظفي قسم المالية وقسم الحسابات.. أثناء تواجد أفراد مندوبين عن البنك..
كانت اللحظات تمر گالسنون أثناء عمل جرد للمجموعة العريقة التي كبر فيها هو وعمل بها بساعدهِ ومجهوده، الآن تذهب گريح مصحوب بالأتربة تاركة خلفها الغبار المسموم..
نهض “رائد” عن جلسته وعيناه الحزينتان على الجميع وهم يعملون في الأوراق قبيل تسليم الشركة للبنك، بينما يقف “طارق” بعيدًا.. القهر يغزو داخله مما أصيب به جميعهم من لعنة مميتة، ليست الرياح التي ستهب بعدها الأمطار لتخمد، بل رياح شديدة مصحوبة ببرق عنيف سيبدد ما حولهم.
زفر “طارق” باختناق وهو يردد :
– أنا ماشي يارائد
تبعته نظرات “رائد” الذي تفهم ما يعيشه هو الآخر.. ثم عاد ينظر إليهم متابعًا ما يحدث.
………………………………………………………………….
وضعت “زهور” الحقيبتين الكبيرتين بجوار باب الغرفة، ثم عادت تنظر لـ “برديس” الجالسة على حافة الفراش بثيابها السوداء و :
– خلصت وجمعت كل حاجتك يابرديس هانم، تؤمري بحاجة تاني؟
فسألتها بصوت خالي من الحياة :
– لميتي حاجة بابي ومامي؟
– آه، ونزلتهم تحت
– روحي انتي
خرجت “زهور”، فوقفت “برديس” من مكانها.. تحسست بطنها بحزن بالغ، ثم نظرت نحو الإطار الذي يحمل صورة زفافها.. لم يمضي الكثير من الوقت، ولكن كثرة أحداث هذا الفترة تجعلها تشعر وكأن السنين قد مرت من فوقها..
هاجمتها نوبة بكاء جديدة وهي تغمغم بصوت امتزج بالآنين الخافت :
– سيبتوني بدري أوي، ملحقتش أفرح معاكوا بأول حفيد ليكم
تجولت في الغرفة وهي تتحدث لنفسها بضيق شديد، ودموعها تنهمر على وجنتيها إنهمارًا لا يتوقف :
– أعمل إيه دلوقتي، أنا مكنش ليا غيركم انتوا وجدو.. كلكوا كدا تختفوا من قدامي فجأة!
تراخت ساقيها ، فجلست على الأرضية وهي تتابع :
– يعني يوم ما أكون أم أخسر أهلي كلهم؟.. ليه كدا بس؟؟، كان يوم أسود لما دخلت القصر دا
طرقت “فريدة” على الباب قبل أن تفتحه و :
– برديس، أنا جاية اطمن عليكي ياحببتي
نظرت “فريدة” حولها وهي تدفع مقعدها للداخل، فـ استمعت لأنين يأتي من جانب الفراش.. تقدمت بالمقعد وهي تنادي عليها :
– برديس! انتي فين يابنتي
وجدتها متكومة على نفسها بالأرضية، فشهقت بخفوت وهي تقترب منها و :
– إيه اللي انتي عملاه ده بس ياحببتي، كدا غلط على الجنين.. وبعدين النفسية الوحشة مش حلوة عشانك
انحنت قليلًا وهي تجتذبها ، فوجدت عيناها حمراوتين بشكل مخيف.. شعرت بالذنب حيالها ، فهي تدري كل شئ ولكن لا يمكنها البوح.. مات ثلاثتهم ومات معهم السر، ولن تنطق به مهما كان.
مسحت على شعرها بعاطفة و :
– قومي ياحببتي، قومي أقعدي على سريرك
استجابت لها ومازالت الدموع مستمرة على وجنتيها، فرددت “فريدة” :
– أدعيلهم بالرحمة يابنتي، هما دلوقتي محتاجين دعواتك
– مبقاش ليا حد ، راحوا كلهم
– ليكي رب اسمه الكريم يابيري، هيعوضك بأولادك اللي هيملوا عليكي الدنيا كلها.. يمكن حملك دا جه في الوقت المناسب، عشان تنسي اللي خسرتيه ياحببتي
تنهدت “فريدة” و :
– في أطفال ميعرفوش مين أهلهم وفين؟.. وفي أيتام عاشوا حياتهم ميعرفوش معنى كلمة بابا وماما، قولي الحمد لله يابيري.. وبعدين أنا جمبك في أي وقت يابنتي، يوم تحتاجيني هتلاقيني وراكي على طول
مسحت “برديس” دموعها و :
– متسيبينيش لعمتو إيمان ياطنط، انتي عارفه لسانها عامل إزاي.. مامي بس اللي كانت بتعرف ترد عليها
فـ احتدت نظرات “فريدة” وهي تقول :
– متقدرش تيجي جمبك ولا تقولك كلمة واحدة، متخافيش
لا تعلم ما سر هذا الشعور المريح الذي يتسرب إليها من هذه السيدة تحديدًا.. گالبلسم الشافي لكل الجروح، ليست كلماتها فحسب، يكفي إطلالتها ووجهها الجميل الذي احتفظ بجماله رغم مرور العمر عليها..
هي الآن آكثر شعورًا بالراحة، ربما تعوضت بها عما فقدت.
……………………………………………………………………
كم من الوقت مرّ، لا تدري..
أغلقت “رفيف” حقيبة النقود الجلدية جيدًا، ثم تركتها جانبًا وقد تحمست كثيرًا لهذه اللحظة التي ستفاجئ فيها “رائد”..
ظلت جالسة بغرفتها منذ أن أتت من الخارج، وقد أشرفت على انتهاء كل شئ لمغادرة القصر اليوم والذهاب لمنزلها الزوجي الذي لم تهنأ به منذ أن تزوجت.
انتهت من ارتداء ملابسها إستعدادًا للخروج حين مجيئه، ووقفت تصفف شعرها أمام المرآه حينما دخل هو مرددًا :
– يلا يارفيف، السواق مستني تحت عشان نمشي
مضت نحوه وهي تردد :
– أستنى يارائد، عيزاك في حاجه
– إيه؟
التقطت الحقيبة واقتربت منه، ناولته إياها وهي تردد :
– خد دول
تنغض جبينه بإستغراب وهو يسألها :
– إيه دي ؟
ثم بدأ يفتح الحقيبة ليجد حفنات من النقود المرصوصة بالحقيبة .. اتسعت عيناه بذهول وعاد ينظر إليها بإندهاش :
– إيه دا ؟!
فأجابت بتلقائية :
– خدهم، حطهم على اللي معاك وأبدأ من الأول وانا جمبك، كمل اللي بدأته وخلد أسم الشركة اللي بناها جدي الله يرحمه
ما بين الحبور لتصرفها والحزن لما فعلت.. شيئان متناقضان يشعر بهما تجاهها، رمش بتعجب وهو يسأل :
– جيتني منين كل الفلوس دي؟
ضاقت عيناه بتوجس وهو يخمن :
– أوعي يكون اللي في بالي؟
– بيعت المحل والشبكة بتاعتي، ودول تمنهم
أغلق الحقيبة بإنفعال وهو يعاتبها لتصرفها :
– إزاي تعملي كدا من غير ما ترجعيلي ؟ المحل دا كان بتاع والدك وانتي احتفظتي بيه عشان الحاجه الوحيدة اللي اتبقت ليكي منه!!.. إزاي تعملي كدا
– فداك يارائد، فداك أي حاجه في الدنيا.. بس تقف على رجلك من الصفر وتبدأ تاني
وضع الحقيبة بين يديها و :
– أنا مستحيل آخد الفلوس دي، رجعيها لصاحبها وخدي المحل بتاعك تاني.. وبعد كدا متتصرفيش من دماغك
تركت الحقيبة على الأرضية وعادت تنظر إليه.. وضعت ذراعيها على صدره وتحدثت بصوت أخفض من ذي قبل :
– ليه بتعمل بينا حاجز، أنا وأنت واحد ولازم أكون في ضهرك في موقف زي دا
فوضع كفاها على يديها و :
– أقفى في ضهري بوجودك، مش بفلوسك، أنا هعرف اتصرف وأرجع تاني أقف زي الأول وأحسن.. صحيح اللي حصل كسرني، بس أنا هقف تاني وكأن محصلش حاجه
أومأت برأسها للتأكيد و :
– صح، بس خليهم معاك يمكن تحتاج زيادة
كاد يقاطعها ولكنها وضعت كفها على فمه :
– سيبلي فرصة إني أكون جمبك ، وبعدين أنت وجودك جمبي معوضني عن أي حاجه في الدنيا
– رائــــــــد
كان هذا صوت “طارق” الذي قرع على الباب بإنفعال، فأسرع “رائد” بفتح الباب وهو يسأل بقلق :
– في إيه ياطارق ، بتخبط كدا ليه؟
فكانت عيناه تقذفان بالشر وهو يردد :
– تعالى نتكلم تحت، أنا مستنيك
وغادر.. كان مؤشرًا غير جيد بالنسبة لـ “رائد” عقب يوم شاق طويل عانى فيه ويلات الخسارة..
نفخ بضجر وهو يتبعه لأسفل، وقد استمع الكثير لصوتهم الصادح المرتفع أثناء الحديث.. مما دفع “رفيف” لتقف بمنتصف الدرج تتابع ما يحدث في البهو المقابل للسلم الرئيسي بالقصر :
– يعني إيــه كنت هتقولنا!!.. تقولنا أمتى وانت بالفعل بعت نص الفروع والمقرات؟؟ ولا فاكرنا هُبل هتاكلنا وتاكل حقنا بعد ما الكبار راحوا!
فرك “رائد” رأسه بغيظ شديد وهو يجيب بفتور :
– أسمع ياطارق، أنا بعمل اللي انا شايفه صح.. وطالما قولتلك حقك محفوظ وهتاخده يبقى تصدقني
فلم تهدأ نيران “طارق” التي نتجت عن تصرف “رائد” بدون استشارتهم :
– أنا زيي زيك، ولو الإدارة معاك فاانا معايا قسم المالية كله لو نسيت.. يعني مش من حقك تديني على قفايا
خرجت “فريدة” من غرفتها وهي تدفع المقعد بسرعة على أثر صوتهم.. ووقفت على أول الدرج تتابع مشادتهم الحامية معًا..
بينما تابع “رائد” بلهجة منزعجة :
– يــــوووه، لو مش عايز تصدق براحتك على فكرة.. قولتلك أنا ببص للمصلحة، ولا كنت عايزني لسه أعمل أجتماع وآخد رأي الورثة!؟
– المفروض ياأستاذ، أحسن ما اتفاجئ بالبيع كأني حد غريب
فكان هدوء “رائد” گالبنزين الذي ينسكب على نيران “طارق” المُسعّرة :
– أهو اللي حصل ، وملكش عندي تبرير
كاد ينصرف، لولا ذراع “طارق” التي أمسكت بياقته ليقف مكانه وهو يصيح :
– أقف هنا كلمني خليك راجل
فانقلب الهدوء لعاصفة أمسكت برأس “رائد” الذي دفع ذراعه عنه وهو يزأر بـ :
– ده انت زودتها أوي
ولكمهُ ليبتعد.. فااهتز الأخير وهو يحاول الوقوف بانتصاب، بينما شهقت “رفيف” بفزع وهي تلتهم الدرج لتحول بينهما، حينما قبض “طارق” على رأس “رائد” وبطحهُ بطحة عنيفة.. ومن بعدها وتشابك الأثنان في عراك عنيف باليد، أضطربت “فريدة” أكثر وقد هوى قلبها لموضع قدميها وهي تصيح :
– رائد، كفاية كدا يابني.. حرام عليكوا هتموتوا بعض
كان صوتها غير مسموع سوى لـ “إيمان” التي خرجت راكضة لتلحق بأبنها الذي تشابك مع “رائد”..
آلمها قلبها وهي تضغط على ساقيها بإنفعال لاعنة هذا العجز.. وفي لحظة، أمسكت بالدرابزون وحاولت النهوض وهي تنادي :
– رائد، كفاية يابني.. كفاية
وزادت رغبتها في النهوض.. تحاملت على ساقيها وذراعيها الممسكان بالدرابزون حتى وقفت بالفعل، وقفت محنية الظهر وقد شعرت بوغزات عنيفة تقتحم ساقيها المشلولتين، وسخونة تسربت لقدميها المرتعشتين.. وقفت ولكنها لا تستطيع التحرك، لم تكتفي بذلك، بل دفعت ساقها لتخطو خطوة.. أودت بها للسقوط على الدرج وهي تصرخ :
– رائـــــــــــد
………..