رواية إمبراطورية الملائكة بقلم/ياسمين عادل

<< إمبراطورية الملائكة >>

الفصل الثامن والثلاثين :-

كانت تغوص بجسدها الثقيل على فراشها.. وكوابيس الليل متسلطة على عقلها الباطن، حتى في غفوتها تبكي..
كانت تشعر بأصابع دافئة تمسح دموعها التي تنسال بصمت مريب، والأصوات من حولها لا تستطع تمييزها..

((عودة بالوقت للسابق))

ضحكت “برديس” وهي تستند برأسها على كتف زوجها أثناء إهتمامهِ بإطعامها النقانق بيده.. فـ لمحت سكون “فاروق” المريب المقلق، أعتقدت إنه غفى بجلسته، فـ نهضت على الفور ومضت نحوه توقظه قائلة :
– جــدو ؟! تعالى ارتاح فوق أحسن

انتبه “طارق” لحركة الجد الشبه معدومة، فـ انقبض قلبه وهو يقوم عن مقعده ويسير نحوه.. بينما حاولت “برديس” بإصرار واستماته على إيقاظه وهي تصرخ بصوت أثار انتباه الجميع :
– جــــــدو ، مش بتــرد عليا لــيه!

نهض “عادل” على الفور وراح يتفحص والده.. وضع أصابعه على نبض عنقه ليجده ساكنًا لا حركة فيه، تثلجت أطرافه وصاح فيهم :
– إ… إسعاف، أطلب إسعاف ياعــاكف

فـ أسرع “عاصم” هو الآخر ليتفحص والده.. و”ميسون” تكاد تصاب بالجنون ولكن لا صوت لها حتى، سحب “طارق” زوجته وضمها بإنفعال متأثر وهو يتطلع لـما يفعل “عاصم” قبل أن يردد :
– مـــات!!
– جــــــــــــدو

((عودة للوقت الحالي))

كانت تلك آخر كلمة قالتها “برديس” قبيل أن تسقط فاقدة وعيها جراء هذه المأساة أمس البارحة .. والآن هي على فراشها بغرفتها، وتفيق فجأة لتجد ضوء النهار يحتل زوايا الغرفة.. اعتدلت في جلستها لترى والدتها بجوارها، وزوجها ممسك بيدها محكمًا أصابعه عليها.. فتسائلت بتوجس :
– أنا كنت بحلم؟!.. أيوة كنت بحلم صح؟

لم يجيب أحدهم.. فعادت تسأل وهي تنهض عن فراشها بتشنج :
– جــدو فيـن ؟.. نايم في أوضته صح؟

أطبق يديه على ذراعيها وهو يقول بصوت متأثر :
– برديس، أهدي من فضلك

فصرخت في وجهه :
– جــدو فــين ياطارق ؟

فأجابت “ناهد” :
– جدك مات امبارح بالليل يابرديس وأبوكي وأعمامك في المستشفى بيخلصوا إجراءات الدفن ، الله يرحمه

بدأت تستوعب هذا الواقع المرير الذي تعيشه.. وبغزارة هطلت دموعها على وجنتيها، وسرت رعشة قوية بجسمها الضعيف وهي تُجبر نفسها على الحديث :
– مـ… مـات ؟ إزاي يموت قبل ما يودعني؟!

وارتخى جسدها ليتمسك بها “طارق” جيدًا قبل أن تهوى على الأرض.. وتركها تجلس على الفراش لتجهش ببكاء صحبه صرخاتها المتألمة لفراق أبيها الثاني..
العطوف الذي أغرقها حُبًا ودلالًا لم تجده في والدها، بكت بـ حُرقة شديدة وقد شعرت بآلام وهمية تجتاح سائر أجزاء جسدها الذي تكوم على نفسه بالفراش..
بينما وقف “طارق” في مقابلتها عاجزًا، فماذا سيفعل وهو أيضًا يحزن حزنًا جمًا على فقيدهم العجوز!

…………………………………………………………………….

أغلق “رائد” حقيبته ثم أنزلها عن الفراش وبدأ يجمع متعلقاتهِ الفرعية من زجاجة عطر وهاتف ومفاتيح.. أعصابهِ تالفة منذ الصباح، منذ أن تلقى خبر مرض الجد المفاجئ ومكوثه بالمشفى منذ الأمس وهو منزعج للغاية لأنه لم يجيب على إتصالات أفراد العائلة وأخيرًا أغلق هاتفه بالكامل..
نفخ بانزعاج شديد وهو يقود الحقيبة نحو مخرج الغرفة، ثم عاد يصطحب حقيبتها هي :
– متزعلش نفسك يارائد انت مكنتش تعرف إنه تعبان.. إن شاء الله عقبال ما نوصل يكون اتحسن

فأجاب بحزن بالغ :
– يارب.. يلا بينا

أصدر هاتفه رنينًا فأخرجه من جيب بنطاله وأجاب على الفور :
– أيوة ياماما ، طمنيني حالته إيه؟
– الحمد لله عدى الأزمة ياحبيبي متقلقش.. تعالى عشان عايز يشوفك
– هخلص إجراءات الخروج وعلى طول هكون عندكو
– خلى بالك من سواقتك يارائد، متنساش إن مراتك معاك
– حاضر

أغلقت “فريدة” الهاتف وهي تنزح عبراتها.. ثم وضعته جانبًا وهي في بالغ الآسى، سألها “سعد” :
– هو هيلحق يشوفه قبل ما ينزل القبر ياماما فريدة

كتمت “فريدة” شهقة متألمة وهي تجيبه :
– أنا وصيت عاكف ميدفنش إلا لما رائد يوصل.. لو عرف إن جده مات قبل ما يشوفه هيموت من الزعل، وانا كدبت عليه عشان هييجي سايق والطريق طويل، أحسن يجرالهم حاجه

ترقرقت دمعة على وجنتي الصغير، وأحنى رأسه وهو يقول :
– أول مرة أحس إن أبويا مات، عشت عمري من غير أب.. ولما ربنا عوضني أهو مات هو كمان

تأثرت “فريدة” بكلمات الصغير الذي لم يعيش عمرًا مع “فاروق” بل بضع أسابيع أو شهرين تقريبًا.. ولكنه أحس ماذا يعني الأب فقط في كنف هذا العجوز الذي لا يدرك الكثير قيمته..
مسحت “فريدة” على شعره بحنو محاولة أن تهدئ من حزنه، وهي في أمسّ الحاجة لمن يُآزرها.. جذبته برفق حتى استقرت رأسه على ساقها المشلولة، وأخفت رثاءها عنه لتكون هي القوة التي تمدهُ بالدعم.

…………………………………………………………………….

في وضح النهار حيث ذروة الظهيرة وما قبل العصرية بدقائق.. يقف الجميع في جماعتين نساء ورجال، أمام مدخل مقابر آل العامري.. والفقيد المتوفي في صندوق الموتى يقرأ عليه الشيوخ.
“رائد”..
ذلك الشاب اليافع ذا اللباس الأسود والنظارة القاتمة التي تحجب عيناه.. يبكي في صمت وقد بزغت دموعه الغزيرة على وجنتيه مختبئة بين شعيرات ذقنهِ..
تتطلع إليه زوجته التي تحجب شعرها بوشاح أسود بنظرات حزينة، تود لو تمتص عنه حزنه.. منذ أن علم بوفاة الجد وليس مرضه وهو في حالة لا يرثى لها، وأصوات الباكيات من النساء تجعل القلب ينفطر من الألم..
أنحنى “رائد” في مقابلة “طارق” و”عاصم” لحمل الصندوق للداخل.. بينما كان “عاكف” يقف على ناصية المقبرة مستعدًا لاستلامه كي يهبط به إلى مسكنهِ المُظلم..
ولكن بادر “رائد” قائلًا :
– أنا اللي هنزله
– يابني مفيش فرق آ….

فقاطعه بحزم امتزج بآنات باكية :
– أنــا اللي هــنـزله

أفسح له الطريق، فـ هبط به “رائد” و “عادل” للأسفل..
تركوه وحيدًا، فأحس “رائد” بالانهيار الوشيك فور تركه، وكأنه يترك قطعة منه ويذهب عنها في هذه الظلمة الكئيبة والموحشة.. ارتجف قلبه من رؤية القبر الذي يضم “فاروق” من الداخل، وأصبحت سيقانه لا تقويان على حمله.. فسانده “عادل” الذي لم يقل عنه حزنًا و :
– أمسك نفسك يارائد ، يلا بينا نطلع

فقال برجفة امتزجت بصوته :
– طب نستنى معاه شوية ياعمي!.. هنسيبه كدا لوحده!

فـ أدمعت عينا “عادل” وهو يطبق على ذراعه قائلًا :
– ربنا معاه يارائد، أرجوك خلينا نطلع من هنا

وصحبه عنوة للخارج حتى يتمكنوا من إغلاق القبر بعد ذلك.

ظلت “رفيف” بجوار “فريدة” التي ساءت حالتها من الحزن.. تربت على كتفها وتآزرها، نظرت حولها باحثة عن “برديس”.. ولكنها لم تجدها، فتسائلت بفضول :
– هي برديس فين ياماما ؟
– رفضت تيجي، مقدرتش تشوف جدها نازل قبره

لمحت “إيمان” بطرف عينها، فوجدتها باردة برودة الثلج.. يبدو عليها الحزن ولكن ليس گالمعتاد في مثل هذه المواقف، أخفضت بصرها عنها كي لا تفتعل مشكلة..
رأته يخرج من الداخل وهو في حالة سيئة للغاية، ولكنها تماسكت ولم تذهب نحوه حتى لا تلفت الإنتباه لهما وتكون محط ألسنة الجميع.. أخفضت عيونها الحزينة لأجله وزفرت بإختناق شديد و :
– ربنا يرحمك ياجدي، إنا لله وإنا إليه راجعون

……………………………………………………………………..

كان “عماد” يرتدي معطفه الأسود القاتم، بينما كانت “دريّة” ترتدي حجابها الأسود إستعدادًا لحضور العزاء الخاص بـ “فاروق”..
جلس “عماد” على طرف المقعد ينتظرها وهو يذكر الله على مسبحتهِ ذات الخرزات الزرقاء، ثم نطق بـ :
– لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.. اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه

التفتت “دريّة” إليه وهي تقول بضيق :
– الراجل كان جاي النهاردة ياخد ندى لابنه، سبحان الله ملحقش يفرح بيه

تنهد “عماد” بحزن شديد وقد بدا صوتهِ ضعيف قليلًا :
– آه ، ربنا يصبر عياله وأحفاده.. رفيف قالتلي إن رائد حالته وحشة أوي

هزت “دريّة” رأسها بالإيجاب و :
– طبعًا موضوع بنتك اتأجل و……

بترت عبارتها عندما رفع “عماد” أبصاره الحانقة نحوها يرمقها بإستنكار ، ثم ردد معنفًا إياها :
– انتي معندكيش دم ياست انتي؟!.. بقولك الراجل مــات ، مواضيع إيه اللي بتكلمي فيها!

أحست بعمق الخطأ الذي ارتكبته دون قصد.. فحمحمت و :
– مقصدتش والله يااخويا، أقصد أقول….
– ولا تقصدي ولا متقصديش، روحي شوفي ندى خلصت ولا لسه عشان نروح نعمل الواجب.. خلصي

أومأت برأسها و :
– على فكرة مروة كلمتني وقالتلي إنها جاية بعد بكرة من السفر
– ترجع بالسلامة

………………………………………………………………….

مضى العزاء الضخم الذي اهتم “عادل” به جيدًا مُضيًا حزينًا.. عمال وموظفي شركاته وحتى فروعها بالمحافظات، الجميع حضر بلا استثناء لقضاء واجب العزاء..
بينما استقبلت “ميسون” العزاء بداخل القصر.. كانت واجمة مذهولة وكأنها في صدمة لم تجتازها بعد، كلما تذكرته بكت في صمت.. وقد اعتكفت في غرفتهم أغلب الوقت كي لا تُحدث أحد.

_ بعد مرور يومان..
دلف “عاكف” لحجرة المكتب، ثم بدأ يستخدم هاتفه الجوال وهو يجلس على مقعد المكتب، لم يأتيه الرد.. فترك الهاتف وتجول بعيناه في الغرفة، حتى تسلطت حدقتيه على الخزانة.. تأفف وهو يخفض نظراته عنها..
أضاءت شاشة هاتفه فالتقطه على الفور للرد على المكالمة و:
– أيوة يافواز ، بقالي يومين بحاول اطلبك.. حصل خير، عايز اشوفك.. لأ بعيد عن القصر

تنغض جبين “عاكف” و:
– يعني انت جاي النهاردة؟.. طيب هستناك، بس لازم نتكلم على انفراد الأول، أوكي.. سلام

ترك هاتفه وقد انشغل عقله حول السبب الذي استدعى حضور محامي العائلة بسرعة كذلك!.. ولكنه لم يستطع تخمين السبب، تلوت شفتيه حانقًا وهو يردد :
– ربنا يستر

…………………………………………………………………..

ولجت “رفيف” لغرفتهم.. فوجدته جالسًا على المقعد أمام النافذة المفتوحة، يُدخن السيجارة بشراهه وسط هذا الظلام المعتم الذي لا يطغى عليه سوى هاله من النور الآتية من النافذة .. أغلقت الباب وفتحت إضاءة الأباجورة الخافتة، ثم اقتربت منه وهي تردد :
– بقالك يومين مدوقتش طعم الأكل يارائد

ثم وضعت أصابعها على كتفه وضغطت عليه، سحبت السيجارة من فمه وتابعت :
– كفاية تدخين بقى؟

انحنت لتدعس عُقب السيجارة في المنفضة لتجد عشرات الأعقاب الأخرى.. رفعت بصرها نحوه، فوجدت الدموع تنسال بصمت على وجهه، أنقبض قلبها بتألم وهي تجلس أسفل قدميه، مسحت بيديها دموعه.. وقالت بصوت حزين مواسية إياه :
– عشان خاطري كفاية يارائد، بقالك يومين مش راحم نفسك.. عارفه انت كنت بتحبه قد إيه، بس خلاص الأمانة رجعت لصاحبها والخلود لله وحده

أطبق جفونه.. فـ فاضت بما فيها من دمع، مسح دموعه بكفيه وردد بنبرة مختنقة :
– دا مكانش جدي، دا كان أبويا يارفيف.. لولاه كنت هعيش يتيم وانا أبويا عايش على وش الدنيا

ثم تشنجت نبرته و :
– أنا دلوقتي بس اتيتمت.. أبويا الحقيقي مـات

وتعالت شهقاته وهو يدفن وجهه بين راحتيه.. فأسرعت “رفيف” بالنهوض واجتذبته ليندفن في أحضانها.. ضمتهُ بقوة وقد سالت دموعها هي الأخرى لحاله، ولم تجد من الكلمات ما يكفي لتهدئته..
جذبته لينهض معها وهو لا شعور لديه بالواقع الخارجي.. ثم وضعته على الفراش وجلست بجواره، ومازالت تحتفظ به بين أحضانها كي يهدأ رويدًا رويدًا.. كانت تمتص كتلاته السلبية بـ حُب، وعطفها غمره حتى استكان في الأخير.
شعرت به قد غفى، ولكنه كان يقظًا بذاكرته التي راحت تصور له ذكريات قديمة كان يظن إنه نساها وغفل عنها.. فكيف له أن ينسى وقد حفرت بعقله طوال السنين الماضية والآن قد استدعاها.
استمعت “رفيف” لصوت طرقات على الباب، فانسحبت بهدوء شديد.. ثم فتحت الباب لتجد “زهور”، فرددت بصوت خفيض :
– نعم يازهور

نظرت “زهور” حولها وكأن ما تحمله سرًا.. ثم رددت :
– فريدة هانم بتقول لرائد بيه ينزل يشوف المحامي تحت، عشان عاكف بيه وعاصم بيه قاعدين معاه
– بس رائد نايم وانا ما صدقت آ…….
– محامي مين اللي تحت؟! ومين قاله ييجي؟

قالها “رائد” وهو يقف خلف زوجته التي قطعت حديثها بعد الشعور به.. فأجابت “زهور” :
– معرفش، بس فريدة هانم قالتلي أبلغك عشان تنزل بدل ما يحصل مشكلة

ولج “رائد” للداخل وقد احمر وجهه بغضب وانتفخ بالغيظ :
– أكيد حد منهم كلمه، خلاص مفيش نقطة دم في عروقهم

أغلقت “رفيف” الباب ومضت نحو المرحاض الذي دخله “رائد” توًا.. حيث أغرق رأسه بالمياه بعد أن وضعها أسفل الصنبور، أغلقه والتفت ليجدها تمد يدها بالمنشفة..
جفف رأسه ومضى بخطوات متعجلة نحو الخارج، فقاطعته “رفيف” :
– رائد والنبي ما تتعصب

فقال وقد برزت عروق جبينه بوضوح :
– ده انا هسودها عليهم لو اللي في بالي صح

وخرج..
أنقبض قلبها وخرجت لتقف بالرواق، مستعدة لأي موقف قد يستدعي تدخلها لتهدئة زوجها الذي هبط للأسفل والدماء قد غلت في عروقه..

_ بنفس الآن..
وقفت “برديس” بثوبها الأسود ووجهها الشاحب المُصفر خلف زوجها الذي يرتدي قميصه.. وسألت بحزم يناقض ضعفها :
– وإيه اللي جاب المحامي هنا دلوقتي؟.. إيـه ؟؟، عايزين توزعوا الثروة وجدو لسه مكملش أسبوع في قبره!

ذم “طارق” شفتيه وهو يجيب :
– والله مااعرف، أنا كنت معاكي هنا ولقيت ماما بتكلمني زي ما سمعتي كدا

تحركت “برديس” نحو الباب، فاستوقفها زوجها وهو يسألها بتوجس :
– رايحة فين يابرديس، انتي لسه تعبانة ؟
– هشوف بيعملو إيه تحت!.. رايحة اتفرج على القرف اللي هيحصل

وأسرعت نحو الخارج.. وفي قلبها غيظ ونار مما يفعله هؤلاء الأبناء الذين أقل ما يقال في حقهم إنهم عاقّين..

دخل “رائد” عليهم فوجد الحوار دائرًا بينهم.. حيث قال “فواز” في العلانية :
– مش انت بس اللي كلمتني ياعاكف.. عاصم وإيمان كمان اتصلو بيا قبلك، عشان كدا جيت أشوف الأخوة العامريين عايزين إيه بعد موت أبوهم بـ ٤٨ ساعة بس!

فأجاب “رائد” نيابة عنهم وهو يتقدم نحوهم بخطى سريعة :
– مش عايزين حاجه ياأستاذ فواز.. سيبك منهم متعطلش نفسك

وقف “عاكف” عن جلسته يرمقه باستهجان بيّن و:
– رائد انت ملكش دعوة بالكلام دا

فقال وهو يصيح بصوت مرتفع :
– لأ ليا ، لو عايزين تكلموا في ورث وفلوس يبقى بعد الأربعين على الأقل.. غير كدا يبقى بتحلموا

فصاح فيه “عاصم” :
– وانت إيه دخلك ياعيل انت، هتحكم علينا كلنا بأمارة إيه!

فتعلقت نظرات “رائد” عليه وهو يردد بـ غلّ شديد :
– بأمارة إن معايا التوكيل والإدارة ومش من حق حد فيكم الكلام، ولا نسيت ياعمي؟
– صح يارائد، صح.. أوعى تديهم حاجه

قالتها “برديس” وهي تقترب منه.. فـ كاد “عاصم” يتهجم عليها لولا وجود “رائد” حائلًا أمامها :
– وانتي إيه اللي دخلك يابنت عاصم! قسمًا عظمًا لو ما طلعتي أوضتك لأكون………..

فتدخل “طارق” الذي سحب زوجته لتكون خلف ظهره قائلًا بنبرة حازمة :
– حاسب ياخالي، دي مراتي ومحدش يقدر يمسها طول ماانا موجود!

كُل ذلك و”إيمان” تراقب ما يحدث بصمت.. إلى أن ضاق بها ذرعًا وتدخلت لتقول بسأم وقنوط :
– إحنا عايزين نمشي من هنا، بقالنا ٥ شهور قاعدين في القصر دا لحد ما خلاص زهقنا.. عايزة ارجع بيتي بقى

فرمقها “فواز” بفتور وهو مازال جالسًا على مقعده بأريحية :
– ماتمشي يامدام إيمان!.. في حد مانعك

فنظرت لأخواتها وهي تقول بعزيمة وضيعة :
– عايزة حقي قبل ماامشي.. كدا كدا كل حاجه هتتوزع، نوزعها دلوقتي وكل واحد يروح لحاله ونخلص

رمقها “رائد” باحتقار وهو يردد :
– لولا إنك عمتي كان لساني طلع كلام كتير زبالة

فـ صاح به “طارق” :
– أحفظ أدبك وانت بتكلم مع أمي يارائد

فـ ألتفت ليكون مواجهًا له وردد بعصبية مفرطة :
– مش لما هي تحفظ مكانتها وسنها الأول

لم يشعر “طارق” بنفسه إلا وهو يطبق على ياقته قائلًا بعصبية مفرطة :
– شكلك مش عايز تتلم النهاردة

فـ دفعه “رائد” بإنفعال وهو يصيح فيه :
– مش لما كلكوا تتلموا الأول،. ورث إيه وفلوس إيه اللي عايزينها ياللي عيشتوا طول عمركو جعانين وجيبكوا مليانة!.. مفيش قرش هيخرج من خزنة ولا ميراث هيتوزع غير بعد الأربعين بتاع جدي ودا آخر ما عندي

فـ مط “فواز” شفتيه للأمام بإستغراب وهو يقول :
– مش فاهم ورث وفلوس إيه اللي بتكلموا عنها ؟.. مين قالكم إن فيه ميراث من الأساس؟

اقتحمت سخونة مفرطة رأس “عاكف” وقد شعر بشئ ما مما يخشى حدوثه.. فـ حمحم وهو يسأل :
– مش فاهم، يعني إيه يافواز ؟

فرد الأخير والعيون جميعها مسلطة عليه :
– يعني مفيش ياعاكف، مفيش ورث.. مفيش ميراث.. مفيش فلوس.. فاروق بيه الله يرحمه وزع كل السيولة اللي في البنوك قبل موته بـ ٣ أيام

“عاصم”:
– بتقول إيه يافواز ؟.. يعني إيـــه وزعــها ؟!، ووزعها على مين؟!

نهض “فواز” عن جلسته وأغلق زر سترته وهو يجيب :
– النص راح لصندوق أطفال بلا مأوى، والنص التاني راح لمستشفى الأورام بالصعيد

تسارعت أنفاس “إيمان” وهي تلقي بجسدها على المقعد.. والكُل في حالة صمت مريب لم يقوَ أحدهم على النطق أو التحدث.. ابتسم “رائد” ابتسامة مُتشفية وهو يرى حالتهم، بينما تابع “فواز” مفاجآته :
– فاروق بيه مسابش غير ربع مليون جنيه فقط.. وحتى دول مش ليكم ، ١٠٠ ألف سابهم بأسم سعد والواصية عليه مدام فريدة ، و١٥٠ ألف بأسم مدام ميسون مراته .. وبكدا يبقى محدش فيكم ليه جنيه واحد من فلوس فاروق بيه العامري الله يرحمه

لو وصفت المشهد بأصنام متحجرة لا تتحرك فيهم سوى عيونهم كان وصفًا مناسبًا لحالة التصلب التي بقى فيها الجميع عقب هذا الخبر الحصري والمفجع لهم والذي أصاب قلوبهم وعقولهم تحديدًا.
…………

error: