رواية إمبراطورية الملائكة بقلم/ياسمين عادل

<< إمبراطورية الملائكة >>

_ الفصـل الخـامس :-

اضطرب “عاكف” وارتبك على الفور، فلم يعد يقوَ على التفوه بكلمة واحدة يدافع فيها عن موقفه.. فقد أصبحت روحهِ بيد تلك الفتاة التي تكون إبنة أخيهِ..
ولم تقل “ناهد” عنه، بل كانت أسوأ حالًا.. فقد فرّت الكلمات عن لسانها ولم تعد قادرة على التحدث، فقط تنظر لـ ابنتها نظرات مرتعدة تستنجد بصمتها.. حتى قطعت “برديس” هذا الصمت قائلة :
– إزاي تتمنى المـوت لـ جدو؟ إزاي تقولي حاجة زي دي؟

كتمت “ناهد” أنفاسها لحظات، ثم عادت تُعبئ صدرها بـ شهيق عميق ونطقت بتلعثم :
– آ… برديس حببتي أنا آآ….

فلم تترك لها فرصة الدفاع عن نفسها، بل واصلت هجومها على كلاهما :
– حتى عمي متكلمش لما قولتي كدا! للدرجة دي بتكرهوه! ليه هو معملش حاجة ليكم و……

قاطعتها “ناهد” وهي تسترد بعضًا من قواها التي فقدتها عندما ظنت أن ابنتها الوحيدة قد كشفت سرها قائلة بإرتعاب :
– أنتي فهمتيني غلط يابيري ياحببتي، أنا صعبان عليا تعب جدو وعايزاه يرتاح من العذاب دا

لم تعقب “برديس”، وظلت مرتكزة بنظراتها على كلاهما، حتى قال “عاكف” بصوت رخو :
– زي ما مامي قالتلك كدا بالظبط يابرديس، بابا بقاله كتير بيعاني من آلام المرض.. وانا نفسي ربنا يرحمه من التعب دا

فلم تقتنع بـ حجتهم الغير قوية، وقالت :
– ده مش مبرر، ومن فضلك يامامي متكلميش عن جدو تاني أبدًا.. Okey ؟

ثم ابتعدت عنهما وقد تضايقت كثيرًا من حديثهما، فهي المُدللة التي دللها “فاروق” كثيرًا.. ومازالت هكذا رغم كبر سنها، يحظى بمكانة غالية في قلبها، حتى إنها تخشى الإعتراف لنفسها بإقتراب أجلهِ.. فـ تنصرف بتفكيرها عن هذه الفكرة بسرعة حتى لا يتملكها الحزن.
تنفست “ناهد” الصعداء، ولهثت گالذي انتهى من ماراثون للركض توًا.. بينما قال “عاكف” بصوت مرتبك :
– إحنا مينفعش نتكلم هنا تاني، القصر كُله عيون.. هبقى اقولك على المكان اللي هنتقابل فيه

ثم سار بعيدًا تاركًا إياها بمفردها، لتهوى بجسدها على المقعد وتلتقط أنفاسها رويدًا رويدًا، ثم غمغمت :
– انا اتكتبلي عمر جديد النهاردة.. آآه

……………………………………………………………

كانت “رفيف” تُعد فراشها الصغير من أجل النوم عقب ليلة شاقة من الكدّ والعمل..
استرخت عقب أن حررت خصلاتها من الإنعقاد، ومددت بجسدها على الفراش لـ تحلق بأحلامها عاليًا، جلست “ندى” بالقرب منها وهي تسألها بتحمس شديد :
– فيفي، هو رائد صحيح هييجي يقابل بابا؟

تلقائيًا انشرح صدر “رفيف” لذكر هذا الحديث، وابتسمت بتمنّي وهي تقول من بين تنهيداتها الملتاعة :
– قالي هييجي يقابل عمي أخر الشهر

اعتدلت “رفيف” في جلستها وعبس وجهها فجأة وهي تردد بشئ من الخوف :
– تفتكري أهله لما يعرفوا مستوانا الإجتماعي والمادي مش هيرفضوا؟

ثم أخفضت بصرها لأسفل وهي تقول :
– أصل عيلته كبيرة أوي أوي، وانا خايفة بالذات من باباه.. من كلام رائد يبان إنه متكبر وبتاع مصلحته مش بيهتم بحاجة تانية

ربتت “ندى” على كفها وهي تطمئنها قائلة :
– متقلقيش، رائد شخصيته قوية، أكيد هيكون لكلمته قيمة عند أهله

ثم اتسعت شفتيها بإبتسامة بلهاء وهي تتابع :
– بس انتوا لايقين على بعض أوي، لما شوفتكوا النهاردة جمب بعض حسيت إن مينفعش تكوني لراجل غير رائد

خجلت “رفيف” وأطرقت رأسها وهي تبتسم بسعادة، ثم أجابت :
– ربنا عوض عليا بعد بابا اللّه يرحمه، أنا كنت فاكرة الدنيا عمرها ما هتضحكلي

قطبت “ندى” جبينها وهي تقول :
– وهو بابا قصر معاكي يارفيف؟

فـ تداركت “رفيف” الأمر بسرعة و :
– لأ لأ مش قصدي واللّه، عمي الوحيد اللي حنّ عليا، أقصد إن محدش ملى الفراغ اللي سابه بابا زي رائد.. أقصد يعني آ….

فقاطعتها “ندى” :
– أنا فهماكي، وعارفه أد إيه حبتيه من أول يوم شوفتيه في المحل

كركرت “رفيف” عندما تذكرت أول موقف جمعهما، ثم قالت :
– أنا ممتنة للمناسبة اللي خلته ييجي يشتري بوكية ورد من عندنا

انفتح الباب فجأة، وأطلت منهُ “دُريّة” بوجهها المكفهر.. رمقتهم بإزدراء قبل أن تلفظ بأسلوب فج :
– جرى إيه ياندى، هنقعد نرغي كتير.. نسيتي إن عندك جامعة الصبح؟

نهضت “ندى” من جوار إبنة عمها على مضض، وقالت :
– حاضر ياماما

ثم نظرت “دريّة” لهذه الشقراء التي تكرهها ونطقت بـ :
– وانتي نامي ياختي، مش لازم تسهريها كل يوم للفجر عندها محاضرات

فقالت “رفيف” وهي تخفض نظراتها بحرج :
– حاضر يامرات عمي

قوست شفتيها بتهكم، وأغلقت الباب مرة أخرى.. فنهضت “ندى” لتعود إلى فراش “رفيف”، ثم قالت وهي تواسيها :
– معلش يافيفي متزعليش والنبي، انتي عارفه ماما قلبها أبيض بس ساعات بترمي دبش كدا

ابتسمت” رفيف” بسخرية وقالت :
– خلاص أتعودت منها على كدا، أنا هنام أحسن تروح تشتكي لعمي وتقوم خناقة.. تصبحي على خير

وسحبت الغطاء الرثّ لتغطي جسدها إبتعادًا عن أي مشاحنات.. لقد كانت قليلة الحظ دومًا، مُنذ وفاة والدها الراحل وقد أصرّ “عماد الدين” على إستضافتها في منزله إكرامًا لشقيقه المتوفي، فلم يعد لها مأوى ولا سكن.. فقط محلّ الزهور الخاص بوالدها، والذي أغلقه لسنوات عديدة وعادت هي لتفتحهُ.. كي يكون مصدر رزقها ولا تشعر بثقلها على الأسرة البسيطة التي تبنتّ وجودها..
لم تكن “دريّة” بالسيدة التي تُحسن المثوى، فكثيرًا ما أهانتها وتعالت عليها وحقرّت من شأنها.. فقط لأنها الأجمل، بينما كان العمّ يُآزرها ويحميها كلما استطاع.. حتى أصبح أبًا ثانيًا لها.
لم تشعر بالغربة في وجود “ندى”.. إبنة العمّ التي تحبها وتفضلها تفضيلًا عن أي إنسان آخر، رغم إنها تصغرها بخمس سنوات.. إلا إنها كانت تؤام روحها في هذا المنزل، تسمع شكواها ونجواها.. وتزيل عنها العبء والهمّ، وكأن الأيام تواسيها بوجود أخت گهذه.
سبحت “رفيف” في أحلامها، كي تنسى وجود هذه الـ “دريّة” في حياتها.. وتفكر في اليوم الذي سيختطفها فيه “رائد” لتكون ملكهُ وحدهُ.. بعيدًا عن عيون البشر الذين لم يكونوا بها رحماء.

……………………………………………………………

اجتمعت العائلة على هذه المائدة الطويلة مرة أخرى.. إبتسامات ومجاملات كاذبة، وكلمات جميلة محشوة بالسُم، نظر “فاروق” لوجه “ناهد” للحظات.. فلاحظ توهجًا وإحمرارًا فيه، فسألها مرتابًا :
– مال وشك ياناهد؟

لمست “ناهد” وجهها لا أراديًا، ثم قالت :
– آ… كنت حاطة ميك أب ومسحته ياعمي

ابتلعت “إيمان” الطعام ثم أردفت :
– طول عمرك قمر ياناهد، مش بيبان عليكي السن خالص

نظرت “برديس” لطعامها وتناولت منهُ رغمًا عنها، لاحظها “عادل”.. فسألها :
– مالك يابيري، مش بتاكلي ليه؟
– لأ بأكل ياعمي

ترك “فاروق” الملعقة خاصتهُ، ثم نظر بإتجاه “عاصم” وسأله :
– الإجتماع كان كويس ياعاصم؟

ترك “عاصم” كأس المياة وقال :
– آه يابابا

ثم نظر لأخيه الجالس قبالتهُ وابتسم بتزييف وهو يقول :
– كان ناقص عاكف يحضرهُ

فـ كان “عاكف” في قراره نفسه يضحك ويضحك مستهزئًا بهذا الحديث، ثم أردف بـ :
– المرة الجاية نكون سوا في إجتماع واحد يااخويا

تنهد “فاروق” وهو يقول :
– ربنا يخليكم لبعض ياولاد

لم يكن “رائد” مشاركًا مائدتهم، فتسائل وهو ينظر حوله :
– فين رائد يافريدة؟
– فوق ياعمي، بيعتذرلك ملهوش نفس ياكل

فـ انتقلت النظرات لـ “طارق” الذي كان يتناول طعامهِ بتركيز وجوع شديدين، ثم نطق بـ :
– لما تخلص عدي عليا ياطارق، عايزك في موضوع

كان يمضغ الطعام بين فكيه، فـ انتظر حتى ابتلعهُ وقال :
– حاضر ياجدي

ابتسمت “إيمان” وهي تتوقع ما الذي يريدهُ والدها من “طارق”.. تحمست بشدة وهي تنتظر أن تعرف السبب وراء ذلك، وبنظرات مغزية نظرت لولدها وكأنها تحدثه بعينيها..
وقف “فاروق” ثم سحب عكازهِ واتكأ عليه مبتعدًا عنهم.. لحظات ولحقت بهِ “ميسون”، بينما استمر الجميع في تناولهم طعامهم.

_ في غرفة المكتب؛
أغلق “طارق” باب الغرفة، ثم جلس بجوار “فاروق” و :
– أؤمر ياجدي

فقال “فاروق” دون أن يكون في حديثه لمحة مزاح واحدة :
– ليه مش بتروح الشركة وتعمل شغلك كما ينبغي أن يكون

فـ زفر “طارق” أنفاسه بضيق، ثم قال :
– مش كل الصلاحيات مع رائد ياجدي؟ أنا زي الزهرية الجميلة اللي بتكمل شكل الديكور مش أكتر، وحضرتك اللي حطيتني في الوضع دا

أظلمت عيني “فاروق” وهو يقول :
– أسمع ياطارق، محدش معاه صلاحيات غيري، ومفيش حد بيعمل حاجة غير لما يكون عندي علم بيها.. يعني رائد ميقدرش يتحرك من غير أذني أنا، هو يدوب بينفذ تعليماتي بس

ضرب على ظهره بخفة، ثم قال وهو يحثهُ للإقدام على العمل :
– كل اللي عملته دا هيكون ليك انت ورائد وبرديس، مش عشان أهاليكم.. أنا خلاص رميت طوبتهم من زمان، خليك عند حسن ظني ياطارق

فـ تحفز “طارق” وهو يقول :
– حاضر ياجدي، بس أديني الحق أتصرف براحتي
– براحتك ياطارق، براحتك بس في حدودي ومحيطي أنا

فـ ابتهج وجهه وقال :
– حاضر

ثم نهض عن جلسته و :
– عن أذنك

برح “طارق” مكانه، فـ نكس “فاروق” رأسه وقال :
– يمكن يكون الأمل فيكم انتم ياولاد، طالما الكبار مفيش فيهم فايدة.. يمكن انتوا اللي تجمعوا الأخوات اللي كرهوا بعض طول عمرهم.

…………………………………………………………

يومين كاملين وهي تحاول الوصول إليه، ولكن ذهبت مجهوداتها سدى.. لا يجيب على رسائلها ولا يرد على إتصالاتها المتكررة التي لا تتوقف، ورغم ذلك لم تقنط.. وظلت مُلحة في طلب الإتصال به، حتى أجابها في هذه الصبيحة بإنفعال شديد :
– أيـوة يامروة ، إيــه كمية الإتصالات والرسايل دي؟

ارتبكت “مروة” فور سماع صوت الغضب الناجم عن إلحاحها، تنحنحت ليتجرأ لسانها على التحرك.. ثم قالت بصوت يشوبه رعشة :
– آ.. أنا قلقت عليك يارائد، بقالك أكتر من يومين مش بتكلمني ولا عارفه أشوفك، وكل ما اسأل أميرة عنك مترضاش تدخلني وتقولي مشغول

فـ فاجئها بحدة الرد :
– يبقى مشغول، انتي شيفاني قاعد عاطل
– مقصدش، بس آ…
– ولا تقصدي، أقفلي عشان انا سايق ومش فاضي أرد دلوقتي.. سلام

ثم أغلق الهاتف فجأة، لترتكز نظراتها على هاتفها غير مصدقة.. لقد أغلق المكالمة الهاتفية بالفعل قبل أن تنتهي من حديثها، رمشت عدة مرات وهي تهمس بنبرة مقهورة :
– ليه كدا؟ بقاله فترة متغير معايا وانا بكذب نفسي.. بيتهرب مني، وساعات أحس إنه مش طايقني!

تركت الهاتف جانبًا، ثم شردت في معاملتهُ المتغيرة.. فكرت فيما سمعت عنهُ من قبل، إنه رجل ذا علاقات نسائية غير محدودة، ولا يعيرهن إهتمامًا.. بل يركضن من خلفهِ حتى إعتاد نبذهن، وأكثر علاقة دامت معهُ لم تتعدى الثلاثة أشهر.. ولكنها أهملت كُل ذلك.. انساقت وراء مشاعرها الجارفة التي قادتها لأعتابهُ، وتركت قلبها يتعلق بحبال عشقهِ دون تفكير مسبق..
اشتعل قلبها من مجرد التفكير بأنهُ سيتركها، ثم غمغمت قاصدة :
– لو اللي في دماغي صح، أنا مش هسيبه يتهنى لحظة واحدة

……………………………………………………………
وقفت سيارة “رائد” فجأة أمام محلّ زهورها، ليجدها واقفة بإنتظاره.. استقلت المقعد الأمامي بجواره، وشعّت إبتسامتها وهي تنظر إليه بإشتياق وقالت :
– صباح الخير

فـ ابتسم وهو يجيب :
– صباح الورد ياحببتي

فتسائلت “رفيف” بتحمس :
– إيه بقى المشوار المهم اللي هتوديني ليه؟

بدأ بقيادة السيارة من جديد وهو يردد :
– هتشوفي كل حاجة دلوقتي

كان قرارًا مفاجئًا منه، ولم تفكر فيه على الإطلاق.. حيث اصطحبها إلى مقرّ شُقته الجديدة التي يخطط للزواج فيها.. وقفت على أعتاب الشُقة، وشملت المكان بنظرات منبهرة، ثم قالت :
– حلوة أوي يارائد

مد كفهُ لها وهو يقول :
– دي شقتنا

حملقت غير مصدقة، ثم عادت تنظر لمحيطها مرة أخرى وهي تردد :
– شقتنا! بــجد ؟.. بس انت قولت جدك آ….

فقاطعها وهو على علم بما ستقول :
– ياحببتي أكيد مش هعيش في قصر جدي على طول، هييجي الوقت اللي اتنقل فيه ولازم شقتي تكون جاهزة

تذكر شيئًا هامًا، فتابع :
– وكمان مش عايز احتفظ بالشقة اللي كنت قاعد فيها قبل ما اعيش عند جدي، طوب الأرض عارف الشقة دي وانا مش عايز حد يوصلنا

اقترب منها وسأل بشكل أصابها بالتوتر :
– تحبي الجواز يكون أمتى؟

ارتبكت وهي تخفي نظراتها عنه، ثم قالت بصوت متلعثم :
– آ.. انت مستعجل ليه يارائد؟

فـ تنهد بسأم وهو يجيش بما في صدره قائلًا :
– عشان انا مش عارف حتى أقولك بحبك، وزهقت من الحواجز اللي انتي حطاها بينا

ضاق ما بين حاجبيها وتسائلت بجدية :
– حواجز؟
– آه حواجز

لأول مرة يكون بهذه الإرتباكة أمام إمرأه، هي فقط التي تسلبه قوتهُ ومكره ودهائهِ وكل شئ.. فيبقى ضعيفًا لا حيلة له، حوّل نظراته بعيدًا وقال بصدق :
– أنا بخاف اقرب منك تفهميني غلط.. خصوصًا إنك عارفه إن…..

فقاطعته وقد تفهمت مقصده :
– عارفه، عارفه إن كان ليك علاقات قبلي ومسألتش ومش عايزة اعرف.. بس سكت لأني حسيت إنك بجد هتتغير عشاني وانا هبقى كل حاجة ليك

اقتربت منهُ لتكسر هذه الحدود التي تكونت بينهم، واستندت بكفيها على صدره رغم قصر قامتها بالمقارنة مع طولهِ الفارع، ثم قالت بصوت يبث فيه الثقة :
– بس انت وعدتني، كل حاجة راحت وماتت.. وانا بس اللي في قلبك

فلم يستطع كبح جماح مشاعره المتأججة نحوها، وقال بصوت امتلأ بالشغف وهو يضغط بلين على كفيها :
– وانا عند وعدي، قضيت على كل حاجة، وحتى الرواسب بـ انهيها.. عشان تفضلي جمبي وعشاني

تجرأ بفعله خرجت من فيضان حُبه لها، دفن أنفاسهُ الساخنة في نحرها وتنفس رائحتها.. حتى أصابها بالضعف فجأة، شعره رفيعة بينها وبين الخضوع لرغبتها فيه، لو انساقت وراءها سيبلغ حلمهُ وتضيع هي.. استجمعت قوتها، وانسحبت من بين أحضانهِ ويداه اللاتي طوقتها.. فـ لم يكن منهُ سوى السكون، أطبق جفنيه يستعيد بعضًا من قوتهِ.. وقال بصوت منهك :
– هانت، أنا أساسًا لما أكلم مع عمك مش هوافق نعمل خطوبة.. مش محتاجينها

أطرقت رأسها بخجل وهي تبتعد خطوة للوراء، بينما تابع هو :
– المهندس هيبعتلي كتالوجات عشان تختاري ألوان الدهانات وبعد كدا الفرش.. وهو هيجهز الشقة حسب زوقك بعدها

تحرك خطوة وهو يبتسم بعشق لها، وقال :
– يلا بينا

فـ غرزت أصابعها بفوارغ يده ورددت :
– يـلا

……………………………………………………………

حديثًا لم يصدقهُ كلاهما، لقد تفاجئ الجميع بهذا الخبر الذي أعلنهُ “فاروق” الآن.. وحاول كل منهما أن يكون أكثر ثباتًا..
عاكف :
– بابا، أنا معنديش مانع طبعًا نجوز الولاد.. بس مش أصح ناخد رأيهم الأول

فـ ضغط “عاصم” على نفسه قليلًا ليكون ذا ثبات إنفعالي رغم فوران الدم في عروقهِ :
– أنا شايف إنه ملهوش لزوم، برديس مش بتفكر في الجواز وانا مقدرش أغصبها على حاجة

كانت “إيمان” تنظر لكل منهم بترقب، وتدرس كل ما يقولونهُ.. لم تقاطعهم قط.. بينما كان “عادل” هو الوحيد الذي أظهر ردة فعله الحقيقية وهو يعترض بقوله :
– أنا لسه عند رأيي، الموضوع دا يخص الولاد بس.. ومفيش دلوقتي أهالي بتختار زيجات عيالها

فـ أيّد “عاصم” هذا الرأي قائلًا :
– وانا برضو شايف كدا

بينما استغل “عاكف” رفضهما لصالحه وهو يقول مدعمًا موقفهِ :
– والله أنا مع الحاج في اللي يشوفه، وهنفذ كل كلامه

ضغط “عاصم” على فكيه غير راضيًا، لإغتنام “عاكف” لمثل هذه الفرصة كي يتودد لوالدهِ ويكسب نقطة جديدة.. في حين ردد “فاروق” :
– أنا اللي أقول هنا ياعاصم، ولو على الولاد محدش فيهم هيرفضلي كلمة خصوصًا برديس

اختنق “عاصم” لمجرد تفكيرهُ بزواج ابنته الوحيدة من إبن “عاكف”.. هذا الأخ الذي يبغضهُ ويكرههُ أيضًا.
وفي هذه اللحظة تحديدًا، كان “رائد” يتخطى عتبات القصر مستعدًا للصعود.. إلا أن “زهور” أبلغته بهذا الإجتماع الضروري، فـ اضطر أن يتجه لغرفة الجلوس.. عمّ الصمت حين رؤيته، و :
– مساء الخير

فاروق وهو يشير إليه ليتقدم :
– تعالى يارائد، عايزينك

تقدم من الجد، جلس بجواره.. لـ يضرب “فاروق” على ظهرهُ برفق قبل أن يردد :
– أنا متأكد إنك هتسمع كلام جدك ومش هتنزل كلمته الأرض أبدًا

تقريبًا استشف “رائد” ماهية الموضوع الذي سيتحدث فيه “فاروق”.. والذي استعد لأن يكون مواجهًا له بكل إصرار، رفع بصره نحو الحاضرين وهو يردد :
– أوامرك ياجدي

فـ افتر ثغر” فاروق” بإبتسامة ليست بريئة، وقال :
– أنا قررت إن انت هتتجوز برديس آخر الشهر دا

فأجاب “رائد” بثبات لم يتزحزح عنه :
– للأسف ياجدي مش هينفع، لأني كنت جاي أقولك إني رايح أخطب البنت اللي بحبها آخر الشهر

الجميع انتابهُ صدمة غير مقروءة، فـ حتى هذه اللحظة لا يعلم أحدًا بأن “رائد” بداخل علاقة جدية سوى “عادل”..
أخيرًا انشرح صدر” عاصم” وهو يردد :
– شوفت يابابا، مش قولتلك الولاد مش هيناسبهم القرار دا!.. آدي رائد رفض الجوازة

فـ رمقهُ “عاكف” بغير رضا، وتسائل بإمتعاض جلّ على وجهه :
– يعني إيه الكلام دا يارائد، انت ملكش أهل تستشيرهم؟

فأجاب بهدوء شديد يتناقض مع تأجج صدره :
– مجتش فرصة، بس كنت هبلغكم خلال يومين

قبض “فاروق” على رأس عكازه، وقال بلهجة شبه معترضة :
– بس انا كنت عايز أجوزك الجوازة اللي تليق بيك وبينا، وعلى مزاجي أنا يارائد

فوقف “رائد” عن جلسته، وسلط عيناه في الفراغ وهو يقول :
– آسـف ياجدي، مش هتجوز غير البنت اللي اختارتها
– أنا هتـجوزها ياجدي

كان ذلك صوت “طارق” الذي اقتحم جلستهم فجأة.. التفتت العيون كلها عليه، ليعيد قوله مرة أخرى :
– أنا عايز أتـجوز بـرديس ياجـدي……………….

error: