رواية إمبراطورية الملائكة بقلم/ياسمين عادل

<< إمبراطورية المـلائكة >>

الفـصل العـاشـر :-

هبّت “ميسون” من مجلسها عقب أن أبلغتها “زهور” بهوية الضيف الذي يزور قصرهم في هذه الساعة، وسألت غير مصدقة ما وقع على مسامعها :
– بتـقولي مــين ؟!

حمحمت “زهور” وهي تعيد عبارتها مرة أخرى :
– مدام شهيرة والدة عادل بيه ياهانم، ومصممة تشوف البيه الكبير

فكان جواب “فاروق” مباشر وصريح :
– خليها تطلع يازهور

استدارت “ميسون” بجسدها فجأة وهي ترمق زوجها العجوز بنظرات ساخطة، ثم اختجت قائلة :
– تطلع فين يافاروق؟.. هنا، في أوضة نومي!!
– وأوضتي انا كمان ياميسون، انتي ناسية اني مقدرش اتحرك بعد ما خدت الحقنة!

فـ تابعت “ميسون” بتبرم وهي تحيد أنظارها عنه :
– وتطلع هنا ليه أصلا؟ ما تبقى تيجي الصبح

زفر “فاروق” بنفاذ صبر، وقال :
– روحي نفذي اللي قولتلك عليه يازهور

برحت “زهور” مكانها، في حين رفع “فاروق” الغطاء عن جسده وسحب عكازه ليتكئ عليه وخو يعتدل، بادرت “ميسون” بمساعدته وهي تردد بلهجة حانقة :
– انت تعبان حرام تجهد نفسك، مش لسه قايل إنك مبتقدرش تتحرك بعد الحقنة!

تهاون “فاروق” في هذا الألم الذي يصاحب قلبه من حين لآخر وضغط على حاله لينهض.. ساندته هي وأحاطت ظهره ليقف، وهنا قرع الباب وولجت منه “شهيرة”.. تلك السيدة التي تجاوزت الخمس وخمسين من عمرها ولكنها ما زالت شبابًا.. وتتمتع بحيوية وطاقة وإشراقه لا يمتلكها الأصغر منها عمرًا.. وقفت بهيبتها وأناقتها المعهودة تلك، وسط ثوبها الأحمر الذي زاد من بياض بشرتها، وخصلات شعرها الأسود الفاحم الذي عقدته وجمعته ليبقى زينة رأسها.. تحمل حقيبتها البيضاء ذات الماركة المعروفة وترتدي حذاءًا يرفع من قامتها القصيرة إلى حد ما.. ابتسمت بإشراقه، فزقزق قلب “فاروق” وهو يطالعها أثناء قولها الرقيق الناعم :
– سلامتك يافاروق ، أنا جيت اطمن عليك لما عرفت من عادل اللي حصل

شددت “ميسون” ذراعها عليه تسنده وهي ترد عليها بفظاظة :
– شكرًا، تعبتي نفسك

لم تعيرها “شهيرة” حتى نظرة مهتمة.. وشخصت أنظارها على هذا العجوز الذي قضت معهُ أكثر من عشرون عامًا قبيل أن ينفصلا.. تقدمت منه بخطى حسيسة وقالت :
– عايزاك في موضوع مهم يافاروق، موضوع مستعجل مش هينفع انتظر فيه كتير

ثم نظرت لزوجته الأخرى وكأنها تلمح بشئ ما :
– ياريت نكون على انفراد

مازال “فاروق” مستمتعًا بالنظر إلى طلتها التي لم تتغير أو تقل بل زاد رونقها.. ثم نظر حيال زوجته، وقبل أن يتحدث بادرت “ميسون” :
– مقدرش أسيبه لوحده، تقدري تكلمي قدامي براحتك

فـ بادر “فاروق” :
– معلش ياميسون، سيبينا لوحدنا شوية
– بس آ…..
– معلش، دقايق مش أكتر

تطلعت “ميسون” لكلاهما بنظرات مستشيطة، تكاد أذنيها تطرد دخان من فرط غضبها وغيرتها التي تأكل منها الآن.. ولكنها أدعّت الهدوء وهي تنسحب من بينهم رغمًا عنها، وأغلقت الباب من خلفها.
نظرت “شهيرة” حولها بتفحص لتقول بإستياء:
– الأوضة بقت وحشة أوي بعد ما اتغير الديكور والألوان بتاعتها

شعر “فاروق” بشئ مريب من زيارتها تلك، فهي لم تراه أو تحتك به منذ انفصالهما من سنوات طويلة.. فسألها مباشرة وهو يتمسك برأس عكازه جيدًا :
– خير ياشهيرة، موضوع إيه دا اللي يخليكي تيجي لحد هنا في ساعة زي دي!

فكانت صريحة مباشرة وهي تقول :
– مفيش مواضيع، انا كنت عايزة أمشي مراتك من قدامي

تقدمت منه.. تأبطت ذراعه تمسكه جيدًا، وجذبته وهي تقول :
– تعالى أقعد وارتاح الأول

اجتذبته نحو الأريكة برفق، وهو مستكين للغاية لها.. حتى جلسا على مقربة من بعض، فـ عاد “فاروق” ينظر إليها بدقة.. مخترقًا عقلها الداهي الذي لطالما اعترف بقدرته الفائقة وذكاءه العالي، وقال :
– شهـيرة، قولي اللي جـواكي وجاية عشانه.. من غير لفّ ودوران.

كانت ثابتة گالصخر الذي لا يأبه بالرياح العاتية.. ابتسمت من زاوية شفتيها بخبث امتزج بالنعومة………….

……………………………………………………………
كانت تتحدث إليه عبر تطبيق المحادثات الشهير “واتساب”.. أكثر من ساعتين متواصلتين في المحادثة، وأخيرًا أغلق عقب أن ألحت عليه يتركها لتنام..
ترك هاتفه جانبًا وهو يبتسم، لتقع عيناه على سيارة “طارق” التي توسطت الممر.. ثم ترجل عنها ليخطو نحوه.. التفت “رائد” كي يدخل، ولكنه استوقفه قائلا بسخافة شديدة لم تروق لـ “رائد” :
– استنى ياعريس، رايح فين؟

توقف “رائد” وهو يزفر بإنزعاج جلي.. ثم استدار ليردد :
– أهلًا ياطارق، خير اللهم اجعله خير شايفك مبتسم على غير العادة.. في حاجة؟

وقف “طارق” أمامه بشموخ وهو يعيد كلمته :
– مفيش ياعريس، جاي أقولك إني موجود في اجتماع المندوبين اللي جايين من بولندا

فقال “رائد” بغير اكتراث :
– أبقى نسق مع أميرة، هي هتقولك تعمل إيه
– وليه متقولش انت ياابن خالي؟

نظر “رائد” لساعة يده قبل أن يحيد عن مجرى الموضوع قائلًا :
– في حاجة تانية غير اجتماعي مع الوكيل الجديد؟
– آه، مـبروك.. سمعت إنك هتعتزل الملاعب وتتجوز

تفهم “رائد” إلام يرمي.. فـ ابتسم بفتور وقال :
– أعتزلت آه، عقبالك.. تصبح على خير

ثم تركه وانصرف.. بينما رفع “طارق” نظراته عاليًا، ليتفاجئ بجميلته “برديس” تتطلع على حوارهم من شرفتها.. ولكنها سرعان من دخلت غرفتها وأغلقت الأنوار، فـ أجفل نظراته وردد :
– الصــبر حلو، واديني صابر

……………………………………………………………

سئمت “فريدة” تلك الرقدة على مقعدها، وذلك الفيلم السينمائي السخيف الذي تتابعه منذ وقت.. أغلقت التلفاز عبر جهاز التحكم، ثم دفعت مقعدها نحو الخزانة.. بقيت ثابتة تنظر إليها، ثم امتدت بجسدها لتفتحها وتجذب الحقيبة الجلدية الصغيرة منها.. أسندتها على فخذيها وراحت تتفحص محتوياتها التي تمثل كنزًا نفيسًا لها.. بعض الصور الفوتوغرافية التي تبقت لها من هذا الفقيد الغالي، فلذة كبدها.. ضحكت وهي تراه يركض أمامها ثم يسقط ويستغيث بها.. وتبع ضحكتها بكاءًا مريرًا، لم تنسى يومًا أن تتذكره قبيل نومها، عله يزورها في حلمها ..
استمعت لطرقات تعرفها على بابها، فـ دست ما أخرجته وهي تكفكف دموعها.. ليدخل ولدها الأكبر “رائد”، يلحظ هذه الحقيبة التي يحفظ شكلها عن ظهر قلب، فـ عبست ملامحه وهو يسأل :
– مفيش فايدة يعني؟.. لازم تنكدي على نفسك كل يوم !

تقدم منها والتقط هذه الحقيبة ليضعها بمكانها.. ثم أغلق الخزانة وقاد المقعد المتحرك نحو الفراش وهي ما زالت صامتة، جلس على طرف الفراش وبقيت هي أمامه.. ينظر إليها بعتاب وهو يردد :
– ممكن تبطلي عياط!

تمالكت “فريدة” نفسها وسيطرت على أعصابها التي تلفت مؤخرًا، ثم قالت بلهجة متماسكة :
– أنا عيزاك تتجوز في أقرب وقت يارائد، لما تقابل عم رفيف عرفه إننا متكفلين بكل حاجة.. مش محتاجين ننتظر أكتر

لم يتعرف بعد على نواياها، ولكن إصرارها كان سببًا جعله يستفهم بتعجب :
– مكنتش اعرف إنك هتصممي على الجوازة بعد ما تشوفي رفيف!

فـ ابتسمت بوداعة وتابعت :
– أنا حبتها، وشايفة إنها هتقدر تقف جمبك وتساندك.. وتقدر ترجعك عن أي طريق ممكن تمشي فيه

تشنج “رائد” واحتدت نظراته وهو يقف عن جلسته بإنفعال، ثم صح بغير رضا :
– أنا مش شيطان عشان تقوليلي كدا!

فقالت وهي تقصد المعنى :
– انت ابن الشيطان، عشان كدا انا بـ احميك يارائد

ضاقت نظرات “رائد” وهو يتمتم بصوت مسموع :
– أكيد هييجي يوم واعرف إيه اللي مخبياه طول السنين دي

أجفلت “فريدة” نظراتها لتخبئ ما يظهر فيهما من أسرار تحملت مشاقها طوال سنوات.. في حين كان تفكير “رائد” في اتجاه آخر، في والده.. الذي أصبح عقبة جديدة أمامه.

……………………………………………………………
كانت “دريّة” تجلس بأريحية على الأريكة، عندما كانت “رفيف” تأكل المكان جيئة وذهابًا في عمل دؤوب لتجهيز الشقة التي ستستقبل “رائد” في الغد.. كانت متحمسة ونشيطة للغاية، مما أجج مشاعر الحقد لدى “دريّة” أكثر.. في هذه اللحظة تحديدًا، تحضر “ندى” وقد بدا عليها الإرهاق، أغلقت الباب.. فـ سممت “دريّة” أذنيها بقولها الغليظ :
– طبعًا جاية هلكانة من سهر امبارح.. ماانتي لو بتسمعي كلام أمك مكنتيش تيجي تعبانة كدا

زفرت “ندى” بضيق بيّن :
– ماشي ياماما، انا مش قادرة أدخل معاكي في جدال دلوقتي

لاحظت “ندى” نظافة المكان ورائحته العطرة، فتسائلت على الفور :
– فين رفيف؟

فأجابت على مضض :
– جوا بتنضف أوضتها، يلا ياختي اجري عليها.. ما هو دا اللي باخده منك

لم تصدر أية رد فعل، بل انتقلت للداخل وهي تردد بحماسة :
– فيفي، بصي كدا

أخرجت “ندى” حقيبة بلاستيكية صغيرة من حقيبتها وناولتها إياها وهي تقول :
– أنا ملقيتش حاجة تليق بالمناسبة دي غير البلوزة السوارية دي

التقطتها “رفيف” بتحفز وتفحصتها لتجد كنزة لبنية رقيقة، طرزت بالخرزات البيضاء الصغيرة على صدرها.. وفي خلفيتها مثلث شفاف يظهر الظهر.. ضيقة لتبرز شكل الجسم، وأكمامها تصل لنصف العضد تقريبًا.. تأملتها “رفيف” بسعادة جلية وهي تردف بـ :
– زؤك حلو أوي يادودي، قوليلي الفلوس اللي اديتهالك كفت؟
– أه طبعًا
لاحظت “رفيف” إنقطاع بطاقة السعر.. فعلمت بفطنتها إن ابنه عمها الغالية قد أضافت من مالها الخاص لابتياع هذه الكنزة، ذمتّ شفتيها بإحتجاج و :
– طب ليه قطعتي السعر؟.. مش قولتلك مـ….

قاطعتها “ندى” بعناق عميق وهي تقول بسعادة :
– فيفي انا عيزاكي تبقي أجمل بنت بكرة، متفكريش في حاجة تانية والنبي.. انا فرحانة جدًا جدًا

شددت “رفيف” ذراعيها عليها، ثم ابتعدت لتقول :
– ربنا يخليكي ليا، تخيلي مروة عرفت ومفكرتش حتى تقولي مبروك!

فـ خلقت “ندى” الدوافع كعادتها :
– معلش، هي بقالها فترة مش مظبوطة.. ومن ساعة شغلها الجديد وهي حالها متبدل، متزعليش

أومأت “رفيف” رأسها وهي تقول متصنعة التجاهل :
– عادي انا اتعودت على تجاهلها ليا، من ساعة ما رجعت من بـرا بعد موت بابا وعيشت معاكم هنا وهي بتعتبرني مش موجودة أصلًا، بس عادي

انتبهت “رفيف” لأنها لم تفرغ بعد، فـ تركت كنزتها الجديدة وهي تقول :
– أنا هروح اكمل اللي ورايا، عشان بعدها هنزل اشوف المحل، بقالي يومين مفتحتش

……………………………………………………………
كان متعجرفًا في مشيته، رافعًا رأسه بشموخ وكأنه انتصر توًا في معركة حربية.. سائرًا بإتجاه غرفة “رائد”.. فتح الباب بدون أن تنبس” أميرة” كلمة واحدة، فهو والده والأحق بالدخول في أي وقت.. ليجده “رائد” أمامه فجأة :
– أهلا يابابا، كنت مستنيك

اقترب منه “عاكف” وهو يقول بنبرة محفزة :
– أنا مبسوط من المكان اللي جدك حطك فيه يارائد، عشان كدا عايزك تركز معايا في اللي جاي أقوله

قطب “رائد” جبينه بإستفهام :
– عايز تقول إيه؟

جلس “عاكف” أمامه، وأخفض نبرة صوته :
– انت الوحيد اللي يقدر ياخد من بابا توكيل رسمي بحرية التصرف.. وكل حاجة تبقى في إيدنا

شبك “رائد” أصابعه وهو يتابع :

  • وبعدين يابابا، كمل

لمعت عيون “عاكف” ببريق الطمع وهو يستطرد :
– ساعتها إحنا اللي هنحكم، قبل ما طارق يعملها ويسبقك.. ولا عاصم يفاجئنا بلعبة من بتوعه

كان “رائد” هادئًا حد الإستفزاز، وكأنه يعلم مازكان يختفي في نفس والده.. سحب شهيقًا عميقًا لصدره وقال وهو يغير مجرى الحديث :
– أنا بكرة رايح أتقدم لرفيف، وهتفق مع عمها الجواز يكون خلال ٤ شهور أو ٥ بالكتير أوي

احتقن وجه “عاكف” بإمتعاض شديد، وانقلبت نظراته إنقلابًا مخيفًا وهو ينطق :
– أنت ازاي تتجاهل كلامي وتجيب سيرة البت المفعوصة دي قدامي

وكأنه لمس المنطقة المحظورة، المنطقة التي لا مساس بها.. ليواجه فوهة البركان الذي سيندلع الآن، أطاح “رائد” بقدح القهوة الساخنة أقصى اليسار ليفزع والده ويحدق فيه فجأة.. ثم ضرب على سطح المكتب بإنفعال وهو ينهض ليردف بصوت جأش صارم بـ :
– اللي بتكلم عنها دي كلها كام شهر وهتكون مراتي، واللي يمسها بكلمة هدهسه من غير ما اراعي أي صلة بيني وبينه

وقف “عاكف” عن جلسته ليصيح فيه بغضب أعماه :
– انت أكيد اتجننت، ازاي تكلم أبوك كدا؟
– أسمع للآخر

انتصب “رائد” في وقفته وتابع حديثه الحاد بحزم :
– أنا مش هخون الأمانة اللي سبهالي جدي

ثم لمح تلميحًا صريحًا عما علم به مسبقًا :
– والفلوس اللي سحبتها وتم تأييدها في كشف مصروفات الشركة بالكذب لازم ترجع.. وإلا جدي هيزعل أوي لما يعرف

تحول وجه “عاكف” لوجه مرتبك عقب أن فسر له “رائد” بكشف حيلته.. بينما تابع “رائد” بثقة بالغة :
– وياريت ترجعهم بسرعة، قبل ما عمي يكتشف.. وساعتها هيحط صباعك تحت ضرسه

سحب “رائد” هاتفه وانتقل للخروج أثناء التحدث:
– عندي اجتماع دلوقتي، نتقابل بالليل في القصر تكون شوفت صرفه الفلوس اللي اخدتها

واستمع “عاكف” لصوت إغلاق الباب المفاجئ.. نظر
أمامه للفراغ، وهمس :
– بقى كدا يارائد!.. بتقف في وشي؟، ماشي.. ماشي يارائد

…………………………………………………………..

خرجت “ناهد” من غرفة “فاروق” وهي تنظر حولها بترقب.. ثم همست بحنق شديد :
– الراجل العجوز صحته بتتحسن ولا باين عليه هيموت!.. وبعدين!؟ هنفضل احنا محبوسين هنا في القصر دا مستنين السر الإلهي يطلع؟؟.. دا الموضوع طوّل أوي

لمحت ابنتها تقترب منها، فـ صمتت وهي تراقب خطواتها حتى أصبحت قبالتها.. ثم سألت :
– بتعملي إيه هنا يابيري دلوقتي؟

فكان وجهها يابسًا لا حياة فيه وهي تجيب بـ :
– جاية اطمن على جدو، عن أذنك ياماما

دلفت “برديس” لغرفة الجد.. بينما تابعت “ناهد” غمغمتها الساخطة :
– أطمني ياحببتي، جدك زي القطط بسبع أرواح

رافقته جلسته على الفراش، ضمها الجد لأحضانه بعطف وهو يقول :
– مالك يابرديس؟.. على فكرة لو رجعتي في كلامك بخصوص الجواز انا هعملك اللي انتي عوزاه

هزت رأسها بالسلب و :
– لأ ياجدو أنا لسه عند كلامي.. بس جيت أقولك حاجة
– قولي ياحببتي

تجاوزت “برديس” تلك الوخزة المؤلمة التي تؤلم قلبها.. وسألت وكأن عيونها متحجرة :
– انا عرفت إن رائد راح يطلب البنت اللي بيحبها النهاردة.. صح؟

فأكد الجد ذلك الحديث :
– صح، بس بتسألي ليه؟

كابدت العناء لكي تنطق بما يرفضه قلبها وعقلها معًا.. واستجمعت شتاتها وهي تقول :
– أنا عايزة فرحي يكون قبل فرح رائد

تعجب “فاروق” من رغبتها تلك.. رمقها بنظرات غريبة، وتطلع لعيناها الحزينة التي تخفي فيها أنين قلبها، ولكنه عجز عن تصور الحب الذي تكنّهُ “برديس” لـ “رائد”، والذي تسبب في رغبتها بالزواج وإعلان زفافهما قبله..
في النهاية ستتحقق رغبته هو، وسيزوج ثلاثتهم عمّا قريب.. بدون أن ينظر بـ رويّة، هل ظلم أحدهم.. أم عدل بينهم.
……………………………………………………………

كانت أسعد لياليها على الإطلاق.. وقفت “رفيف” من خلف الستارة، تنظر بإختلاس لغرفة الجلوس التي يجلس فيها حبيبها الوحيد.. تحاول رؤيته ولكنها لا تستطيع، متأنقة بثوبها الجديد، وقد وضعت من مساحيق التجميل القليل بعد إلحاح من “ندى”.. قلبها يدق بتسارع، وأعصابها مرتعشة لا تستطيع التحكم فيها، يداها باردتان گالثلج.. وداخلها قلقًا يمازجه سعادة برائحة الأيام المبهجة القادمة.. تقدمت منها” ندى” لتقول :

  • ماما بتصب العصير وهتجيبه عشان تدخلي بيه

فقالت “رفيف” بتوتر :
– ربنا يستر، قلقانة أوي

وضعت “دريّة” ملعقة كاملة من الملح في كأس العصير الخاص بـ “رائد” بدلًا من أن تُحليه بالسكر.. وابتسمت بمكر وهي تتخيل ما سيحدث من بعد ذلك.. وضعت الكأس على الحامل وخرجت به وهي.. لتقترب منها “رفيف” وتلتقطه منها :
– أمسكيه كويس أحسن توقعيه وتبهدلي الدنيا
– حاضر

تعجبت “ندى” من كونه كأس واحد فقط، وسألت :
– مش عاملة ٢ عشان بابا ليه ياماما؟

فأجابت بإجابة مقنعة :
– أبوكي عنده السكر ومش ناقصين يعلى عليه ويتعب.. يلا خلصي يارفيف

انتصبت “رفيف” في وقفتها، وكأنها جسم آلي.. ثم توجهت ببطء نحو غرفة الجلوس، عبرت الأعتاب ورجفتها تتزايد.. حتى ارتعش الحامل المعدني وكأنه سيسقط منها، نهض “رائد” عن جلسته ليطالعها بشغف تراقص في عينيه الزرقاوتين.. وسرعان ما التقطه منها وهي يبتسم على توترها، وضعه على الطاولة وصافحها وهو يطبق على أصابعها لا يرغب بتركهما.. ثم انتبه لوجود “عماد” فـ حمحم وهو يعاود الجلوس، ليبادر “عماد” بدوره :
– أقعدي يارفيف عايز أسألك عن حاجة

ثم أشار نحو “رائد” وتابع والإبتسامة تزين مبسمه :
– رائد عايز الفرح يكون بعد أربع شهور من دلوقتي
ما زالت نظراتها مسلطة على الأرضية بخجل شديد لتجيب بصوت يكاد يرفض الخروج من فمه :
– اللي تشوفه ياعمي

ابتسم “رائد” ابتسامة واسعة وقد خطر بمخيلته مشهدًا رومانسيًا مثيرًا معها أجج مشاعره التي تتوق لها.. بينما أشار “عماد” نحو المشروب و :
– طب اشرب يابني واحنا بنكمل كلام

التقط “رائد” الكأس وتجرع أول رشفة منه.. لاحظ الطعم قبل ابتلاعه.. لذلك لم يظهر شيئًا، وتابع ارتشافه كله حتى أنهاه كي لا يكتشف أحدًا هذا الموقف الذي سقط ضحيته، جف حلقه وأصبح يشتهي المياه أكثر من أي شئ.. ولكنه تحامل على نفسه وحافظ على ثباته ليكون أكثر هدوءًا، ثم تابع :

  • جدي هييجي يتعرف على حضرتك بعد يومين، ونعلن الخطوبة بالمرة.. إيه رأيك

تعجب “عماد” من رغبته في التعجل ولكنه لم يعترض :
– مع إني شايف الموضوع ماشي بسرعة، بس على بركة اللّه

حك “رائد” عنقه وهو يطلب :
– ممكن كوباية ميا

وقف “عماد” على الفور وهو يلبي طلب الضيف :
– بس كدا، ثانية واحدة

وخرج مسرعًا ليحضر طلبه.. بينما كانت “ندى” تراقبهما والسعادة تتقافز من ناظريها، حتى طلب منها والدها كوب من المياه الباردة.. فأسرعت لتجلبه..

وهنا استمع الجميع لصوت جرس الباب، تقدمت “دريّة” لتفتح، فوجدت “مروة”.. دلفت وهي تسأل بعدم اهتمام :
– هو عريس الغفلة لسه هنا ولا مشي؟

فهمست “درية” :
– لسه هنا، أسكتي يابت يامروة.. دا شكله أبهه أوي، انا لسه مشوفتش وشه، بس وهو داخل تحسي إن ليه هيبة كدا مش قليل

تنهدت “مروة” بضيق وقد حضر “رائد” لمخيلتها في هذه اللحظة.. ثم قالت وهي تشرع للدخول إلى غرفتها :
– أنا هدخل ارتاح شوية، ماليش نفس اشوف حد

وخطت نحو الرواق الذي يؤدي للغرف.. ولكنها توقفت فجأة، صوت ضحكة رنانة ضربت آذانها الآن.. رغم وجود أكثر من صوت إلا إنها تستطيع تميز صوته من مئات الأصوات.. تهدجت أنفاس “مروة” ودققت سمعها لتلتقط صوته، تركت حقيبتها أرضًا وركضت نحو الغرفة التي تجمعهم.. اقتربت أكثر، فتبين لها صدق حدسها، إنه صوته لا محالة.. نظرت خلسة من هذه الفتحة الصغيرة، فوجدته جالسًا موليها ظهره، دققت نظرها جيدًا، لتتأكد ظنونها.. هذا العريس الذي حضر خاطبًا أختها هو ذاك الذي أحبتهُ وباع حُبها بأبخس الأثمان.. اتسعت عيناها بعدم تصديق وهي تراه يتحدث ويضحك وينظر لأختها نظراته الوالهة.. أعتصر الألم قلبها وترقرقت عبرة حارقة على صدغها، وضغطت على قبضتها المتكورة بإنفعال حتى أصابت بطن كفها بأظافرها الطويلة.. وفجأة……………………..

error: