رواية إمبراطورية الملائكة بقلم/ياسمين عادل
<< إمبراطورية الملائكة >>
الفصل التاسع والثلاثين :-
كانت قيادته متهورة للغاية.. يعصف بسيارته يمينًا ويسارًا وهو يتفادى السيارات من أمامه، وقد نال من السباب المقظع ما ناله من الكثيرين بسبب تهوره الأهوج..
ومازالت “ناهد” تصرخ فيه بصرخات مدوية :
– عــــــاصــم، لو عايز تــموت مـوت لـوحدك.. وقف العربية ونـزلني
فجأر بصوت جهوري اخترق آذانها اختراقًا مؤلمًا :
– بقى دي عملة تعملها فينا يابابا؟!.. بتسيبنا من غير ولا مليم، أقــول إيه منك لله يابعيد، متجوزش عليك غير الرحمة
فعادت تصيح به مرة أخرى :
– كنت متوقع إيه يعني من أبوك !.. أنا برضو حسيت إن في حاجه هتطلع من تحت الأرض
انحرف عن مساره وبدأ يخفض سرعته تدريجيًا.. حتى توقفت السيارة نهائيًا، نظر للفراغ وعيناه متحجرتان.. ماذا سيفعل بعد الآن، لقد أصبح الأمر واقعًا لن يستطيع أحدهم تغيره.. فقط عليهم تقبله، فقـط.
……………………………………………………………………
لا تصدق تبدل حالته بهذا الشكل.. يقف الآن أمام النافذة والإبتسامة الشامتة متملكة من محياه، عقب ما طال هؤلاء الجشعيين الذي ينتمي لسلالتهم من صدمة حامية.
بقيت “رفيف” صامتة بدون أن تنبث كلمة واحدة.. يكفيها أن يكون جيدًا فقط، وبالرغم من التساؤلات الكثيرة التي تدور في ذهنها الآن، إلا إنها احتفظت بجميعها لنفسها.. حتى لا تكون تطفلية بأمور حساسة گهذه وفي هذا الوقت تحديدًا.
كانت “برديس” على النقيض تمامًا، رغم إنها سعدت لما حدث.. ولكنها فكرت قليلًا فيما سيطول العائلة من خراب محتوم.
أما “طارق” فقد سكنه الغضب والإمتعاض من فعلة جده المتوفي والذي كانت بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير.. نفخ متذمرًا وهو يرى هدوءها المثير للأعصاب وردد :
– مش عارف انتي مالك باردة كدا ليه؟
فقالت بفتور اختلج بصوتها :
– عشان دي فلوس جدو الله يرحمه وهو الوحيد اللي من حقه يتصرف فيها لوحده.. وبعدين ما سابلكوا شركات وماركة عالمية في سوق المكياچ تقدروا بيها تكسبوا أكتر ١٠٠ مرة.. عايزين إيه تاني ؟
ثم وقفت ومضت نحوه لتتابع :
– طارق، أوعى تكون زيهم Please
– يعني إيه ؟
أخفضت رأسها باختناق وهي تستطرد :
– يعني النهاردة حسيت إني بكرههم كلهم حتى دادي، بلاش تبقى شبههم.. أنا مش عايزة أخسرك
أشاح وجهه عنها، ولكنها أعادته لينظر إليها :
– إحنا ملناش دعوة بيهم، شوية وهينسوا كل دا.. ومش هيلاقوا غير الشركة تشغلهم
ثم أطبقت جفونها بتحسر ورددت :
– أنا كنت عايزة أقولك نمشي من هنا، انت قولتلي إن شقتك جاهزة عشان نتنقل فيها Right away “على الفور”
فأومأ رأسه بالإيجاب و:
– صح، الشقة جاهزة وكل حاجه جاهزة
– يبقى نمشي من هنا أنا مش هقدر أعيش وأنفاس جدو حواليا في كل مكان
استمع “طارق” لصوت والدته الآتي من الخارج وهي تناديه بصوتها الأشبه بالنواح :
– طــارق
زفرت “برديس” بضيق وهي تبتعد عنه و:
– روح شوف عمتو عايزة إيه، ماهي مش ممكن هتنام بعد الخبر اللي سمعته
انتقل “طارق” للخارج ليجدها تعقد رأسها بالإيشارب عقب أن هاجمها صداع عنيف يضرب بدماغها من كل الزوايا..
لم يطل الصمت، فقد بادرت هي :
– هتعمل إيه بعد اللي حصل مع البت دي؟
عقد حاجبيه بعدم فهم، ثم سحبها بعيدًا عن غرفته كي لا تستمع إليهم “برديس” فتسوء حالتها وغمغم ساخطًا عليها :
– هعمل إيه في إيه بالظبط؟ برديس مراتي ياماما
فقالت بدون أدنى تفكير :
– طلقها.. خلاص اللي فرض علينا الجوازة الشؤم دي راح
لم يصدق حتى إنها فكرت بذلك دون الإهتمام بولدها ومشاعره.. فأجاب جوابًا صدمها :
– رائد كان عنده حق لما رد عليكي النهاردة، أكيد موت جدي أثر على تفكيرك
فصاحت به :
– أحترم نفسك ياطارق انت بتكلم أمك!
– هو انتي خليتي فيها احترام!.. عايزة تخربي بيتي اللي لسه حتى متبناش عشان كرهك لعاصم وانا طز فيا وفي مشاعري!!.. هتحسي بيا أمتى ، هـه.. أمتى!
ثم ابتعد خطوات للخلف وهو يردد :
– أحسن حل إني أمشي من قدامك حالًا بدل ما تخسريني للأبد
………………………………………………………………….
كان جالسًا على طاولة أمام النيل مباشرة.. بلباسه الأسود الكئيب، وذقنه التي لم يتركها تنبت قط قد برزت على وجهه، ينظر بوجوم لحركة الموجة الساكنة على سطح متلألئ من المياه.. حتى انتبه لحضورها فـ وقف :
– أزيك ياندى ؟
صافحته بحرارة و:
– الحمد لله ياعادل كويسة
– اتفضلي استريحي
ثم جلس وهو يتأمل ثوبها الأسود.. فتنهد قبل أن يقول :
– مكنش ليه داعي تلبسي أسود عشان جاية تعزيني
فقامت بتغيير مسار الحديث وهي تقول :
– رفيف قالتلي إن بقالك ١٠ أيام مروحتش القصر من ساعة وفاة عمو الله يرحمه.. انت فين كل دا ياعادل؟
أعاد ظهره للخلف وهو يقول :
– قاعد مع أمي الفترة دي، مش طايق أدخل القصر وهو مش فيه
فأطرقت رأسها و :
– ربنا يرحمه
– تشربي إيه؟
فـ ابتسمت و:
– لأ ناكل أحسن
فقال بضيق لم يلاحظه هو على نفسه :
– ماليش نفس
– أنا هفتح نفسك ، عشان خاطري
فعاد ينظر النيل و:
– اللي تشوفيه
أمسكت بقائمة الطعام وراحت تختار منها، بينما ردد هو باستفاضة لا يعلم مصدرها :
– بابا وزع كل ثروته قبل ما يموت.. اللي محدش يعرفه غيري إن مكنش في سيولة أصلًا غير ٢ مليون وربع في البنوك، يعني كانوا هيقطعوا بعض على شوية فتافيت
أدمعت عيناه وهو يستطرد بتلقائية :
– بس هو عنده حق، حتى لو ساب ١٠٠ جنيه هيموتوا بعض عشانها
تألم قلبها كأنها ضربت عليه ضربة مبرحة لهذه الحالة التي وصل لها.. وسرعان ما أخرجت منديل ورقي من حقيبتها وراحت تمسح عيناه بعاطفة جمّة.. أطبق جفونه والتقطه منها، ثم ردد :
– آسف
فأجابت على الفور :
– أنا اللي بعتذر لك.. الظروف مخلياني مش قادرة أكون جمبك وسندك في أكتر وقت انت محتاج فيه لأيدي
أومأ رأسه بتفهم، وربت على كفها وهو يتابع :
– عارف، كفاية إنك معايا
ثم حمحم ليطرد هذه البحة الحزينة من صدره و:
– أنا هروح اغسل أيدي ووشي عقبال ما تطلبي الأكل
ثم نهض وتركها.. تابعته حتى اختفى، ثم رفعت بصرها للسماء وهي تقول :
– يارب انت العالم بحاله، هون عليه ياكريم يارب
…………………………………………………………………
زفرت “فريدة” وهي تترك حامل الطعام بين يدي “سعد” الواقف بجوارها.. ثم عادت تنظر لـ “ميسون” الراقدة في الفراش وقد تعلقت المحاليل بأوردتها تغذيها عقب انقطاعها عن الطعام لأيام.. وقالت بسأم :
– بقالك على الحال دا أكتر من ١٠ أيام حتى أوضتك مش سيباها لحظة، حرام عليكي ياميسون انتي كدا بتعترضي على قضاء ربنا
فردت بنبرة خالية من الحياة :
– عيزاني أسيب الأوضة واسيب فاروق لوحده ازاي يافريدة!.. ده ميقدرش يستغنى عني
– لا حول ولا قوة إلا بالله
أطبقت “ميسون” جفونها و:
– روحي انتي يافريدة انا كويسة طول ماانا لوحدي، وخدي الأكل دا معاكي.. أنا مش هاكل
فـ تدخل “عادل” الذي حضر للقصر توًا عقب غياب طال لأيام وبعد أن علم بسوء حالة “ميسون” وتدهورها :
– لأ هتاكلي ، عشان انا كمان مش هاكل غير معاكي
أدمعت عينا “ميسون” مع رؤيته و :
– عادل!.. أخس عليك ياعادل، كدا تغيب كل دا.. بعد ما كنت بتيجي كل يوم تطمن على أبوك وعليا، خلاص نسيتني بعد ما مات؟
جلس أمامها على طرف الفراش وهو يكتم دمعة تكاد تنسال من بين جفونه :
– مقدرش يامرات أبويا انساكي، أنا بس قعدت مع أمي كام يوم.. هي كمان راقدة في السرير من ساعتها
تناول “عادل” حامل الطعام من “سعد” و:
– من ساعة ما اتجوزتي الحج الله يرحمه وانتي بتقوليلي ياريتك كنت ابني.. أنا محسيتش بمعنى الكلمة دي غير النهاردة، لما عرفت اللي انتي عملاه في نفسك حسيت بمسؤلية على كتافي ناحيتك.. الله يرحمه كمان كان دايما يوصيني عليكي عشان عارف إن مالكيش غيره، ودا اللي جابني النهاردة
أشارت “فريدة” لـ “سعد” بعيناها كي يصطحبها للخارج تاركة إياهم بمفردهم .. فاستجاب “سعد” على الفور ودفعها للخارج وهو يسأل بفضول وبصوت منخفض :
– هي طنط مايسة معندهاش ولاد ليه ياماما فريدة؟
– أمر الله ياحبيبي
…………………………………………………………………….
كان مساءًا كئيبًا گمثل ما سبقه من الأيام الغابرة..
وقفت “ناهد” أمام درج القصر الكبير بالأعلى تنتظر صعوده عقب أن رأته وصل للتو..
كان يراها، ولكنه لم يعيرها انتباهًا ، مما أضطرها أن تمسك برسغه لتستوقفه وتردد بصوت منخفض :
– عاكف، لازم نتكلم
سحب ذراعه منها و:
– كلام إيه يامدام، خير!
– مش هينفع هنا
فرمقها باستهجان و:
– وانا مش فاضي أضيع وقتي معاكي
فقالت بإصرار شديد :
– وانا لازم أقولك اللي عايزة أقوله
وجذبته فجأة نحو الرواق المؤدي لغرفتها، بينما كانت “إيمان” خلف هذا الساتر الجداري تتلصص عليهما عقب أن لاحظت حالة “ناهد” الغير طبيعية..
أنغلق باب الغرفة عليهما، فخرجت “إيمان” من الزاوية وتمتمت :
– الله الله، كلام إيه ده بقى!
فكرت قليلًا وهي تحاول الإستنباط :
– مصيبة يكونوا بيدبروا حاجه ؟.. وطبعا أخويا الساذج الأهبل ميعرفش حاجه
ابتسمت بخبث وهي تستخدم هاتفها مرددة :
– بس أكيد هيعرف
دفعها “عاكف” برفق ومازال صوته منخفضًا وهو يردد :
– قولتلك مستحيل، مستحيل نرجع تاني لعلاقتنا.. أنا خلاص قرفت منها
ومازالت تثابر هي بعناد لتحظى به من جديد :
– حتى لو قولتلك إني هطلق من عاصم؟
وكأن الطُعم كان مُغريًا للحد الذي لم يستطع هو مقاومه.. تعلقت نظراته بها عقب هذه المفاجئة التي باغته به، بينما تابعت هي :
– خلاص هطلب من عاصم الطلاق وهجيلك ياعاكف.. مش دا اللي كنت عايزه؟
فكر تفكيرًا مضطربًا و:
– أيوة.. بـ بس!
اقتربت منه وحاوطت عنقهِ وهي تقول بصوتها المسموم الذي يصيبه بالتخدير المؤلم ما قبل السكون :
– أنا أولى بيك منها، أنا اللي بحبك ياعاكف.. كفاية تعاقبني وانا كل همي أسعدك
ازدرد ريقه محاولًا التغلب على رغبته الذكورية الشديدة فيها و:
– ناهد إحنا في القصر، خلينا نتكلم بعدين
– مش هقدر اصبر
وأنفاسها تلفح بشرته لتثير غرائزه أكثر وأكثر غير مدركة تبعات الأمر.. شعور الشبق كان رابضًا بداخلهما يحثهما على فعلة شنعاء هنا في هذا القصر الحزين الذي شهد وفاة “فاروق” منذ أيام فقط.
تسللت يداه تتحسسها بنشوة مفرطة، وهي تاركة حواسها كلها بين يديه عقب أن استولت على عقله وقلبه معًا.. ما كانوا غافلين عنه هو الصياد الذي ما أن رأى فريستهِ حتى تربص بها.. منتويًا صيدها مهما كلفهُ الأمر.
…………………………………………………………………..
كانت تنتظر كل لحظة بتشوق أكثر وأكثر.. والحماسة تشتعل بصدرها أكثر من ذي قبل.. حتى رأت “عاصم” يقترب وهو يتسائل بمضض :
– جيباني على ملى وشي ليه ياإيمان؟.. مش قولتلك عندي مشوار مهم؟
تعمقت النظر في عينيه قليلًا قبل أن ترد بـ :
– حتى لو كنا أخوات بالأسم بس، ميرضنيش أخويا يبقى لطخ
فـ اتسعت عيناه عن آخرهما وهو يسبّها علانية :
– مين دا اللي لطخ ياغراب البيت!.. هتتجنني على كبر ولا إيه ياإيمان؟
– أطلع لمراتك، شوفها بتعمل إيه ومستغفلاك ياعاصم
قبض على شعيراتها بإنفعال وهو يردد من بين أسنانه والغلّ يشع من نظراته :
– مالك ومال مراتي يا ****
دفعته وهي تُخلصّ شعرها من يده، رمقته باحتقار و :
– أنا هرد عليك لما تشوف بنفسك الفضيحة.. روح شوف بعنيك
دفعها گالثور الهائج من أمامه وصعد الدرج صعودًا سريعًا.. بينما حكّت هي رأسها بتألم و:
– ده انا هذلك ياعاصم، هفضحك في كل حتة بس لما قلبك يموت من اللي هتشوفه بعنيك
وقف أخيرًا أمام باب غرفته وأنفاسه تتسارع كأنه انتهى من معركة توًا.. وضع أصابعه على الباب ليفتحه، وداخله آلاف التساؤلات عما تقصد “إيمان” من مغزى حقير يُحقر منه ومن زوجته..
فتح الباب ببطء مريب رافضًا تصديق أفكار عقلهِ التي تترنح يمينًا ويسارًا بعقله، حتى رأى.
رأى زوجته تشارك رجـلًا غيره مضجعه، نفس المضجع الذي ينام هو عليه.. ينام به أخيهِ أبن أبيه مع زوجته مُنكبًا عليها غير شاعرين به حتى، وكأنه مات حيًا.. يتنفس، ولكنه مـيت الآن.
…………….