رواية إمبراطورية الملائكة بقلم/ياسمين عادل
<< إمبراطورية الملائكة >>
الفصل السابع والثلاثين :-
خرج “رائد” من المرحاض الملحق بغرفته عاريًا لا يستر جسده سوي منشفة عريضة حول خصرهِ..
حاملًا إياها وهي ترتدي معطف الإستحمام وتغطي رأسها بمنشفة وردية صغيرة..
كان يقطر مياه من كل أنحاء جسده عقب جلسة إستحمامية ساخنة حظيا بها سويًا، أحاطت بذراعيها رقبته وراحت تتأمل فيه بنظرات مُتيمة حتى انحنى وتركها برفق على الفراش.. ابتسم ابتسامة عريضة وهو قريب منها للحد الذي لا يسمح لها بالإبتعاد وهمس :
– مكنتش اعرف إني وحشتك أوي كدا زي ما كنتي وحشاني
أجفلت جفونها تغطي نظراتها من حضورهِ الذي يطغى على كُل حواسها وكيانها.. فـ قـبّل وجنتها قُبلة طالت للحظات حتى تستشعر نعومتها، ثم ابتعد ومضى نحو خزانتهِ.. ضم شفتيهِ سويًا وهو ينظر لملابسه وقال :
– أنتي مالكيش هدوم هنا.. هتلبسي إيه ؟
ضمت المعطف لصدرها وقد أحسن بنسمة هواء باردة أرعشتها.. ثم رددت :
– مش عارفه
ألتفت ينظر إليها، فـ انتبه لزجاج الشرفة المفتوح.. فـ اتجه نحوه بسرعة و :
– oops آسف ياحببتي نسيت والله
وبعد أن أحكم إغلاقه تقدم منها وجلس جوارها.. وضع كفه على ساقها العارية وسار عليه بلطف وهو يسأل :
– فين الكارت بتاعك وانا اجيبلك شنطة الهدوم هنا؟
عضت على شفتيها حالما تذكرت إنها تناسته.. ثم رددت :
– نسيته جوا الأوضة
تلوت شفتيه وهو يردد قاصدًا كلماته :
– طبعًا مكنتيش مركزة ، جاية تقفشيني وانا بخونك مش كدا!
لم تجيب، فـ نهض “رائد” من جوارها وانتقى ثيابًا تخصه لها.. ووضعها على الفراش وهو يردد :
– طب البسي دول وبكرة نتصرف
تأملت (التيشيرت) الخاص به، واتسعت عيناها قليلًا وهي تقول :
– بس دا كبير أوي عليا! يعني هبرد
أفسح الطريق من أمام خزانته وهو يردد بسخرية جليّة :
– إيه رأيك تيجي تنقي بالمرة!
ثم أستند بذراعيه على الفراش ليكون قريبـًا منها و :
– وبعدين تبردي ازاي وانا موجود!
وبيمناه أزاح غطاء رأسها ليكشف عن شعرها المبتل قائلًا بشغف ملأ نبرة صوته :
– النهاردة هتنامي حُضني ياأوركيدا
وأقبل على تقبيلها من جديد.. فلم يكن له اكتفاء منها عقب كُل هذا الحرمان الذي عايشه وهي قريبة منه لهذه الدرجة.. أطفأ نيرانه المتعطشة للمسة منها ، قُبلة من شفتيها.. عناق يخمد به ثورة صدره المشتاق لها..
وإن بقى هكذا حتى صبيحة اليوم التالي حتى لن يشبع منها.
……………………………………………………………………
لم يقوَ حتى على الإنتظار للصباح كي يفاتح والده.. فذهب له مساء الليلة.. كان “فاروق” يستمع لحديث ولده وهو في حالة سعيدة مما يستمع.. أخيرًا سيطمئن على آخر أبناءه، والذي لم يرغب يومًا في الزواج أو الحب..
لاحظ “عادل” ذلك في نظراتهِ، فـ اشتعلت حماسته أكثر وهو يتحدث عن مدى إعجابه بتلك الفتاه التي خطفت انتباهه ووجدانه وعقله.. كل شئ، حتى قلبه سلبتهُ.
– ها يابابا؟.. إيه رأيك ؟
فـ أعلن “فاروق” قبوله الفوري :
– طبعًا موافق ياعادل، ده انا استنيت اليوم اللي تاخد فيه الخطوة دي بفارغ الصبر.. الحمد لله إني عيشت وشفته
انتصب “فاروق” في جلسته على الفراش وسأله :
– تحب اكلم أبوها أمتى؟
– بكرة ياحج، مش عايز أضيع وقت
فضحك “فاروق” قبل أن يردد :
– ماشي، وانا موافق.. من الصبح هكلم عماد واحدد معاد نروح فيه نطلب بنته، مبروك ياعادل
ابتهج “عادل” بإبتسامة سعيدة و:
– الله يبارك فيك ياحج
وقف عن جلسته و :
– أنا هروح اتصل بـ رائد اشوف خلص ولا لسه
ثم خرج من الغرفة.. مضى في الرواق سعيدًا بهذا التقدم الذي أحرزهُ.. وداخله يتحدث :
– طالما مش عارف اوصلها بقالي يومين.. يبقى هروح جوا بيتها
حاول الإتصال بـ “رائد” متعجلًا.. ولكنه وجد الهاتف مغلقًا، فحاول الإتصال بـ “رفيف” علها تصلهم لبعضهم..
ولكن هاتفها مغلقًا أيضًا، فضاقت عيناه بإبتسامة خبيثة و :
– أحسن يكون اللي في بالي صح؟!.. ياريت والله يخلصونا من عنادهم
……………………………………………………………………..
هذا الصباح المُشمس الدافئ على غير العادة في فصول الشتاء، في غرفة “برديس” تحديدًا ..
حاولت كثيرًا أن تفلح في وضع الإطار بمكانه على الحائط دون مساعدة منه، ولكن في النهاية وصلت للقنوط..
كان “طارق” يراقبها وهو يقف بجوارها، وفي كل مرة تفشل بها كان يكتم ضحكة تكاد تنفجر من فمه.. حتى لاحظته، فـ رمته بنظرة مستنكرة و :
– بتضحك على إيه ياطارق؟.. دي اسمها Stuff (سخافة) على فكرة
بسط ذراعيه نحوها يلتقط منها الإطار الذي يحمل صورتهم سويًا، ثم قال :
– قولتلك مش هتعرفي، ابقي اسمعي الكلام يابيري
ثم مد يده يساعدها لتهبط عن المقعد الذي تعتليه :
– أنزلي وانا هعلقه
وصعد مكانها.. المثير للدهشة إنه نجح في وضعه بالمكان الصحيح من أول مرة، ثم نظر لها نظرة مستخفة و :
– شوفتي؟
بغيظ شديد هزت مقعده متعمدة إسقاطه و :
– إنت أكتر حد مستفز شوفته
– حاسبي يامجنونة هتوقعيني
وبالفعل سقط عن المقعد.. تأوه بتألم وهو يتحسس فقرات ظهره التي اصطدمت بالأرضية و :
– آآآآه، إيه الغـباوة دي
رمقته من زاوية عيناها و :
– تستاهل
كانت ملامحه تنم عن وجود ألم فظيع بظهره فعلًا.. حتى إنه أشعرها بالذنب حياله.. رقت تعابيرها وهي تسأله :
– طارق Are you okey? (هل انت بخير)
– لأ.. ضهري مش قادر أحركه، قوميني
مدت يدها له وهي تعتذر بندم :
– أنا آسفه والله، مكنتش عايزاك تتوجع آ….. آآي
جذبها فجأة لتنطرح أرضًا بجواره.. ثم نظر لها بشماتة قائلًا :
– عيب ياحببتي لما توقعي اللي أكبر منك كدا.. ماشي
ثم نهض واقفًا وكأن لم يكن به شيئًا.. نفض قميصه و :
– أنا نازل أفطر مع جدي، خليكي هنا بقى
وخرج.. حينما كانت هي تحت تأثير صدمتها، كيف لها أن تصدق خدعته.. والتي فعلها مسبقًا العديد من المرات عندما كانوا صغارًا، اعتدلت في جلستها ودفعت المقعد بقدمها وهي تقول :
– مبتعلمش من اللي بيحصلي أبدًا
…………………………………………………………………..
- الشرف ليا ياأستاذ عماد لما آخد بنت تانية من بناتك لابني.. إن شاء الله نكون عندكم بكرة بعد المغرب، مع ألف سلامة
أغلق “فاروق” هاتفه ونظر حيال ابنه الذي ينتظر على أحر من الجمر و :
– هنروح بكرة نتقدملها، ولو في نصيب نحدد الخطوبة أمتى كمان
أغرق “عادل” رأس والده تقبيلًا، وكأن العصافير تذقذق في صدره الآن من فرط السعادة :
– ربنا يخليك ليا ياحج، مش عارف أقولك إيه
تحرك في الوسط غير شاعرًا بنفسه.. يريد فعل شيئًا لا يدري ما هو، وأخيرًا وجده :
– أنا هروح أكلم ماما أقولها عشان تعمل حسابها
على مائدة الإفطار بمنزل “عماد”
بُهتت “ندى” بمجرد سماعها لما حدث وهي في غفلة.. حينما تدخلت “دريّة” بدورها :
– أنت عارف عادل عنده كام سنة ياعماد؟
فأجاب والرضا في وجهه :
– مش عارف، بس متأكد إنه أكبر من بنتك بأكتر من ١٠ سنين
ثم نظر حيال ابنته يسألها عن رأيها :
– إيه رأيك ياندى ؟
نظرت نحوها “دريّة” :
– ما تردي يابنتي؟.. أنا شيفاها جوازة العمر، على الأقل هتعيشي مرتاحة ومش هنتكلف كتير في جهازك
امتعض “عماد” لسماع رأيها وتفكيرها، ثم قال باعتراض :
– لو معندكيش كلمة حلوة اسكتي يادرية، أنا لو وافقت هوافق بعد موافقة ندى .. مش عشان فلوسه وإنه هيشيل عني جهازها، كدا كدا بنتي هتجهز أحسن جهاز
ثم ربت على كتفها وتابع :
– مش كدا ياحببتي؟
أطرقت رأسها باستحياء و :
– أكيد يابابا ، أنا كمان لو وافقت مش هوافق عشان حاجه غير أدبه وأخلاقه
فـ ابتسم وهو يتناول كوب الشاي :
– يعني موافقة؟
لم تجيبه، ثمة شعور غريب يعتريها الآن.. يختلجه حياء من والدها بالتأكيد، ولكن شعور آخر لا تدري ماهيته.. ظلت صامتة بعض الوقت، فانفرجت شفتي والدتها وهي تردد :
– سكتي يعني موافقة؟
– لأ.. آ أقصد هفكر واصلي استخارة
فبادر والدها :
– خدي وقتك يابنتي، هما جايين بكرة يطلبوكي مني.. وأنا هديهم الأجابة اللي تقوليها
نهضت “ندى” عن المائدة وهي تقول :
– ماشي يابابا، أنا هدخل البس عشان عندي محاضرة
ثم أسرعت الخطى نحو غرفتها وقلبها لا يتوقف عن النبض بسرعة.. أطرافها ترتعش من فرط الطاقة التي أصابتها، ولم تعد قادرة على السيطرة بأعصابها وأفكارها التي راحت تتخبط برأسها، عقب أن آمنت إنه يتهرب منها، الآن انقلبت كل الموازين وأصبح عريسًا سيتقدم لخطبتها رسميًا..
أسرعت نحو الدرج وأخرجت هاتفها، فتحته عقب أن أغلقته عدة أيام متتالية بسبب سوء مزاجها..
لتتوافد الرسائل النصية على هاتفها..
تفحصت رسائله على تطبيق الواتساب الشهير أولًا، فوجدت آخر رسالة تحمل :
( بكرة هشوفك ♥)
تسارعت ضرباتها، وراحت تضحك بسعادة لا منتهية.. فجأة رأت إنه فتح تطبيقه هو الآخر، والآن يكتب لها.. انتظرت ما سيرسله لها بتلهف شديد وكأنه يحدثها لأول مرة، لتجد رسالة أخرى :
( وحشتيني ووحشني الكلام معاكي أوي، كدا تغيبي عني! )
فكتبت له :
(افتكرتك سيبتني ومش هشوفك تاني)
(مقدرش، في كلام كتير أوي عايز أقوله بس مش هينفع هنا، أنا هكلمك أول مااوصل عشان سايق)
(طيب خلي بالك من نفسك)
(وانتي كمان)
أغلقت هاتفها وكأن الروح التي غابت عنها قد عادت من جديد.. تمددت بجسدها على الفراش بأريحية لأول مرة منذ أيام، ثم أطبقت جفونها لتترقرق دمعة منهما وهي تردد :
– الحمد لله يارب، الحمدلله
……………………………………………………………………
عقب أن تجهزت لقضاء نُزهه جميلة مع زوجها لأول مرة منذ زواجهما.. خرجت من المرحاض وهي تتسائل :
– هو انا هفضل معاك هنا، صح؟
فأجاب وهو يعقد رباط حذائه الرياضي الأبيض :
– أكيد ياحببتي ، أصلًا انا لغيت حجز أوضتك بعد ما جيبنا شنطتك منها
ثم وقف أمامها وداعب شعرها وهو يردد :
– أمال هتكوني فين لو مش جمبي ؟
فـ أشرق وجهها بابتسامة سعيدة جعلتهُ يُقبل رأسها أولًا :
– أوعديني تنسي كل حاجه، متفتكريش غير إني نفس الإنسان اللي حبتيه وحبك قبل الجواز وبس
كادت الإبتسامة تغرب عن وجهها.. ولكنه بادر قائلًا وهو يمسك بوجنتيها :
– لأ لأ لأ، أوعي الابتسامة تغيب عن وشك.. أنا ما صدقت الدنيا نورت في وشي، رفيف أنا بحبك.. بحبك وبس
عانقته وهي تستمع بشعور الأمان في أحضانه .. وشددت عليه ذراعيها وهي تنطق بصوت خفيض :
– أنا كمان بحبك أوي أوي يارائد
ابتعدت قليلًا، وأثناء النظر لعينيه قالت :
– أوعى تسيبني، لو حبيت غيري تبقى سبتني يارائد
فأمسك بأصابع يدها يُقبلها وهو يقول :
– مش هيحصل
شبك أصابعه بأصابعها وسحبها للخروج :
– يلا بينا
فـ احتضنت ذراعه بقوة وهي تسير بجواره، مكتفية بشعور السعادة التي عادت لحياتها المنطفئة من جديد.. كانت تهبط بخطى بطيئة كي لا ينتهي الطريق، حتى وصل بها للمطعم الذي سيتناولون به وجبة الغداء.. لتجد أمام عيناها “دينا”.
تلك التي أيقظت أنوثتها وأجحت غيرتها اليومان الماضيان، فـ عبست على الفور وتوقفت عن السير و :
– إيه اللي جاب أم رجلين طويلة دي هنا!
فـ ضحك “رائد” على تشبيهها و :
– تعالي بس عايز اعرفك على الراجل اللي معاها
وتقدما منهما.. ليقف هذا الوسيم الطويل الرفيع ويصافح “رائد” بحرارة :
– أزيك يارائد ؟
– الحمد لله ياوليد
ثم نظر بإتجاه “رفيف” و :
– أعرفك على وليد، جوز مدام دينا
” رفيف ” :
– آ.. أهلًا
– أهلًا ياهانم
لو ضربها أحدهم على رأسها لكان أهون من شعور الصدمة الذي تستشعره الآن.. بينما نهضت “دينا” لتصافحها بتودد :
– أزيك يارفيف ، أتفضلو معانا
فبادرت “رفيف” :
– لأ مش لازم نزعجكم ، إحنا هنقعد هناك
وأشارت لأحد الطاولات الفارغة، فـ ابتسمت “دينا” :
– طيب على راحتكم
وكل منهم إلى مكانه.. حمحمت “رفيف” وهي تُطرق رأسها بخجل، بينما بادر “رائد” بالإجابة عن التساؤلات التي تطيح بذهنها :
– دينا ووليد قصة حب عنيفة، اتجوزوا بعد ٥ سنين حُب.. على فكرة هي عارفه إننا كنا زعلانين مع بعض بس متعرفش السبب.. عشان كدا طبقت الخطة ٤٠١ عشان تحركك شوية
برقت عيناها بذهول :
– يعني كنت بتمثل عليا انت وهي؟!
فقال والضحك مسيطرًا عليه :
– الحقيقة آه ، بس الحمد لله كان وجهة نظرها صح وعرفت تمثل كويس
– أنت بتـ……..
وقطعت غضبها وصوتها مع حضور النادل :
– أتفضلو
وترك قائمة الطعام أمامهما.. وقبيل أن كلمة أخرى منها، أمسك بيدها وقال بصوت تسلل لأعماقها بسهولة :
– أنا كنت مستعد أعمل أي حاجه ترجعك ليا
وحتى لا تجيبه، وضع سبابته على شفتيها وتابع :
– ششش ، متفكريش غير فـ إنك معايا دلوقتي.. عشان خاطري
فـ أطبقت جفونها بإستسلام وهي تومئ رأسها بالإيجاب.. فتحت عيناها لتجده يرسل قُبلة طائرة لها.. فنظرت حولها بتحرج، أعاد الكرّة مرة أخرى، فأطرقت رأسها وهي تردد بخجل شديد :
– لو مبطلتش هقوم
– طب أختاري هتاكلي إيه
حاولت نزع يدها اليمنى من يده.. ولكنه رفض بشدة و :
– شوفي بأيدك الشمال، واختاريلي معاكي
فتحت قائمة الطعام تتفحصها وهي محط أنظاره التي لا تتركها أينما ذهبت.. تشعر بخيال بؤبؤي عيناه عليها، فيزيد تفتح الأزهار بالحديقة التي أينعها بقلبها..
وكأنه عهدهم الجديد.
……………………………………………………………………..
منذ وقت وهي تراقب ما يحدث من حركة مُريبة بحديقة القصر.. تقف أمام الدرابزون وهي عاقدة ذراعيها ، بينما كان “عاصم” يقوم بتبديل ثيابه عقب عودته المبكرة من الخارج.. ودخل عليها بعد ذلك :
– ناهد، خلينا ننزل قبل ما بابا يطلبنا
– هو أبوك ناوي على إيه ياعاصم.. وإيه اللي بيحصل تحت دا؟
اقترب منها ونظر للأسفل ، فوجد الخدم يعدّون جلسة بالحديقة.. وكأن الجد قد اعتزم على اجتماع عائلي بينهما في أجواء الحديقة الخضراء.
الفاكهة الكثيرة بأشكالها الصيفية والشتوية والحلوى والمشروبات الباردة والساخنة، وبعض النقانق والتسالي والفول السوداني المقرمش بأنواعه وذرة الفشار الطازج.. بجانب قوالب الكعك الطازج المتعدد الأنواع بين السادة والمضاف إليه صوص الشيكولاته وآخر بالبرتقال وهكذا..
عقد “عاصم” حاجبيه بإندهاش لما يرى ، ثم ردد :
– مش فاهم، هو قال هنتجمع كلنا ويكلم معانا.. بس دلوقتي مبقتش فاهم حاجه خالص
تأففت “ناهد” بانزعاج وهي تدلف للداخل و :
– أما ننزل ونشوف، يمكن عازم حد ولا حاجه
وحينما هبط “عاصم” كان الكل بالفعل قد بدأ يحضر.. سأل “عاكف” الخادمة “زهرة” :
– في حد جاي يازهرة؟
– لأ ياعاصم بيه، البيه الكبير بيبلغكم تستريحوا هنا وهو نازل يقعد معاكم
أقبلت “فريدة” بمقعدها الذي يدفعه “سعد”.. وما أن رأى “سعد” كل هذا تحمس داخله تحمسًا طفوليًا بحكم سنه، وردد بتلقائية :
– الله، أول مرة أشوف تربيزة عليها كل دا
فـ ابتسمت “فريدة” :
– شكلها هتكون سهرة حلوة ياسعد.. ياريت رائد كان موجود
رمت “إيمان” نظرة متبرمة على هذا الصغير الذي يشاركهم جلوسهم مؤخرًا، ثم رددت :
– هو الولد دا هيقعد معانا هنا كمان ولا إيه؟
أحست “فريدة” ببضع كلمات سامة ستخرج الآن من فمها المسموم .. فنظرت لزوجها الذي كان يتناول المقرمشات و :
– عاكف، ينفع أطلب منك حاجه
فـ دنى منها على الفور مستعدًا لتلبية رغبتها :
– أنتي تؤمري يافيري؟
– أبعد أختك إيمان عني وعن أي حد يخصني
فـ رفع “عاكف” بصره نحو “إيمان” التي كادت تتحدث لولا حضور “ميسون” :
– أقعدوا ياجماعة، فاروق جاي أهو
مازالت نظرات “عاكف” الحانقة على أخته و :
– بعدين لينا كلام ياإيمان
بدأ كل منهم يأخذ مكانه.. فلاحظ “فاروق” تشتتهم الواضح وهو يدنو منهم بخطى بطيئة مستندًا على عصاه، وأشار لهم قائلًا :
– كل اتنين يقعدوا مع بعض، يعني عاكف جمب مراته وعاصم جمب مراته، سيبوا مكانين لبرديس وطارق عشان جايين ورايا.. وعادل قرب من القصر
ثم نظر لـ “سعد” :
– تعالى انت جمبي ياسعد
فـ أسرع الصبي “سعد” نحوه وهو يتابع :
– أقعد على شمالي.. وميسون هتقعد على اليمين، مفيش حد ناقصنا غير رائد، أنا كلمته من شوية واطمنت عليه هو ومراته وقالي هيرجعوا آخر الأسبوع
ابتسمت “فريدة” بارتياح عقب سماعها لذلك.. بينما جلس “فاروق” على مقعده المترأس لطاولة كبيرة مستديرة ومن حوله مقاعد متقاربة :
– أمشي انتي وكل الخدم يازهرة، ومتنسيش تطلعي أكل الحراسة برا
– حاضر يابيه
حضر “طارق” وزوجته.. وحالة الإندهاش مسيطرة عليهم أيضًا، فلم ينتظر الجد سؤالهم :
– أقعدوا جمب بعض ياطارق، دي سهرة سمر
فسأل “عاصم” بإستغراب :
– يعني إيه يابابا ؟
– يعني لو ربنا طول في عمري هنتلم كل أسبوع ونقعد القاعدة دي، هنسهر مع بعض ونتكلم مع بعض من غير خناق ولا زعيق ولا أي حاجه خالص
ارتفع حاجبي “ناهد” بعدم تصديق لما ترى، ولم تمنع تعقيبها السخيف على ما يحدث :
– جت متأخرة شوية ياعمي
فلكزها “عاصم” وعيناه تقدحان بنذير وتوعد :
– ناهـد؟
– سيبها ياعاصم، هي قالت الصح
– مساء الخير ياجماعة
قالها “عادل” وهو يجلس معهم، فقال “فاروق” :
– جيت في وقتك ياعادل
نظر للجميع قبيل أن يبدأ الحديث معهم، ثم قال والمرارة تغرو حلقهِ :
– أنا عارف إني ربيت ٤ أخوات بيكرهوا بعض، وبدل ما تكون الإمبراطورية اللي عملتها كلها محبة وسند لبعض.. كانت كلها حقد وكره
فتدخل “عادل”:
– إيه بس اللي بتقوله دا يابابا ؟
– كل واحد منكم من أم شكل، عارف إني ظلمتكم وظلمت أمهاتكم.. بس انا حاولت سنين أصلح الظلم دا، صدقوني ياولاد
فأجاب “عاكف” بتزييف وهو ينظر لأخوته :
– ليه كدا ياحج، مااحنا كويسين اهو ومع بعض على الحلوة والمرة.. انت بس اللي متهيألك
فابتسم “فاروق” بسخرية شديدة :
– قدامي بس، عشان انا معاكم.. لو انا ميت كنتوا قطعتوا في بعض.. وجودي اللي مخليكم زي الملايكة وانتوا قاعدين قدامي دلوقتي، إنما قلوبكم ما يعلم بيها غير الله
كانت “فريدة” منتوية على الصمت وعدم التدخل، ولكنها تحدثت بالأخير :
– ليه ياعمي بتقول كدا دلوقتي؟
فقال بصدق تجلى في عيناه الدامعتان :
– عشان انا ماشي يابنتي، هروح في أي وقت للي خلقني.. وخايف يسألني عن ولادي ومعرفش أرد، هقول إيه لوجه كريم يافريدة؟
لم يجب أحد منهم، فتابع هو :
– أنا هسيبكم في أمانة الله، وكل اللي بتمناه إنكم تنسوا كل حاجه فاتت.. وتبدأو مع بعض صفحات بيضا مفيهاش حاجه تلوثها
كان بصر “عاصم” يتجول من حين لآخر لأخوته.. خصيصًا “عاكف”، لا يدري لماذا هو بالتحديد الذي يشعر تجاهه بكل هذا البغض.. ولكنه هكذا ، تنهد “عاصم” وهو يخفض نظراته ، بينما كان “فاروق” يتابع حديثـًا طويلًا اختزنه من أجل اليوم.. وأخيرًا انتهى، فـ ابتسم وهو ينظر للمائدة و :
– كلوا ياولاد، كل واحد هيلاقي اللي بيحبه هنا على التربيزة دي.. ووزعوا على بعض، اللي عارف التاني بيحب إيه يقدمه ليه
ألتقط “طارق” حفنة من الفستق، وبدأ بتقشيره لزوجته.. ناولها بفمها وهو يبتسم قائلًا :
– والله انا حبيت جدي في آخر فترة أكتر
تناولت من يده وهي تردد :
– لسه فاكر إني بحب الفسدق؟
– ودي تتنسي يافسدقتي
أمسك “عاكف” بطبق فارغ.. ووضع به ثمرتين من التفاح الأحمر، ثم بدأ بتقطيعه شرائح.. ومد يده بها لزوجته :
– انتي بتحبي التفاح يافريدة، كلي
أخذتها من يده وتناولتها مدعية السعادة، ثم ناولته قطعة من كعك البرتقال وهي تردد :
– وانت بتحب كيك البرتقال، كل دي
نظر “عاصم” للأصناف العديدة وهو يحاول استذكار ما الذي تُفضله زوجته.. ولكنه فشل ، فرمته “ناهد” بنظرة ممتعضة وقالت ساخرة :
– هات السوداني ياعاصم، بما إنك مش فاكر إني مش بحب غير السوداني بفكرك بنفسي
وضعت “ميسون” طبق من الرمان أمام “عادل” و :
– مفيش غير عادل اللي مش لاقي حد يفتكره ، بس انا مش بنساه
تحمس “عادل” كثيرًا و :
– أحلى مرات أب دي ولا إيه؟
حمحمت “برديس” وهي تنظر للفول السوداني و :
– طارق، أنت بتحبه بالملح ولا سادة
فـ ابتسم وهو يجيب :
– مش بحبه خالص ، انا عايز اشرب عصير أحسن
فـ نهضت عن جلستها وأعدت كأس له.. وجلست وهو يدللها بكلمات من الغزل الصريح، فضحكت بصوت مرتفع.. ليضع هو ذراعه على كتفها مستمتعًا بهذا الجو العائلي الذي أضفاه الجد لأول مرة على العائلة..
وبينما هما كذلك، كانوا محط أنظار “إيمان”.. التي لم تكن راضية عن إيًا مما يحدث، رمقتها “ناهد” بنظرة حانقة وهي تستشعر كرهها البيّن لابنتها “برديس”.. فقامت بوضع كأس عصير بارد أمامها وهي تقول :
– خدي ياإيمان، أشربي ياحببتي عشان صدرك يبرد.. أصل طارق مش مركز دلوقتي خليه مع مراته
تناول “فاروق” بعض المقرمشات من يد زوجته التي كانت مهتمة به أكثر.. بينما اهتم هو لأمر “سعد”، الذي أحس بأجواء لم ينعم بالعيش فيها، حيث وضع أمامه طبق ممتلئ بأنواع شتى من الفاكهة وكان يتناول منها بغزارة.
أحس “فاروق” بوخزة حادة تقتحم قلبه المريض، ولكنها واجهتها بابتسامة.. ستر شعورهِ ذاك حتى زال عنه، فـ تنهد براحة وهو يتابع لهوهم وسمرهم لأول مرة منذ ميلاد هذه الإمبراطورية الضخمة، مما جعله يشعر ببعض من الراحة..
مالت “ميسون” عليه تسأله :
– فاروق، أجيبلك الدوا بتاعك؟
أومأ برأسه رافضًا و:
– أنا بقيت أحسن من أي وقت عدى.. خليكي مكانك
ثم تابع مراقبة ما يحدث برضا شديد، قد يكون تأخر.. وقد يكون الوقت قد فاته، ولكنه مع ذلك حاول طوال الفترة الماضية أن يُقرب بينهم بتواجدهم في قصر واحد وتزويج أبنائهم لينتج نسل جديد في العائلة يزيد من ترابطهم.. هل نجح أم لا، لا يدري.. ولكنه مرتاحًا الآن أكثر من أي وقت مضى.
ثقلت عليه رأسه وكأن جسده لا يقوَ على حملها.. نظر في وجوههم المرسخة في ذاكرتهِ، والأنفاس تخرج من صدره رويدًا رويدًا.. حتى انحنت رأسه على صدره بهدوء، وجفونه أنطبقت.. وجميعهم في لهو وسهو، كلٌ في تفكيره وحياته ونفسه، لم يشعرون حتى بـ عزرائيل الذي حام فوقهم.. حتى لم يستشعروا أنفاس الموت التي طوقت جلستهم العائلية، وكأن الوعي غاب عنهم للحظات.
………………………………………………………………..
رفعت “رفيف” الغطاء عن الفراش ثم استلقت بجواره.. تحديدًا بين أحضانهِ ، جعلته ينتشي بسعادة مفرطة وهو ينطق عابثًا معها :
– سبحان مُغير الأحوال، من يومين بس كنتي بتلعني اليوم اللي اتجوزنا فيه.. دلوقتي مبقتيش تنامي بعيد عن حضني
كادت تبتعد لتواجه نظراته بشراستها.. ولكنها وجدت ذراعيه يطبقان عليها بأحكام وقد فرت ضحكة مستمتعة من صدره :
– خلاص خلاص متتعصبيش أوي كدا
فباحت له بما يكيل به صدرها :
– كنت بقرب منك بخاف.. خلتني أعيش متهددة، إنما دلوقتي
وبترت عبارتها.. فسألها بتشوق :
– كملي.. دلوقتي إيه ؟!
– دلوقتي أمان
خطفها بحركة مباغتة لتكون أسفله وهو يردد بمكر :
– انتي عايزة النور في حاجه!
كركرت وهي ترى ذراعه تتسحب لأغلاق الأباجورة المجاورة منها ثم تمتم بخفوت :
– عايز أقولك على حاجه مهمة جدًا بس في الضلمة
أصدر هاتفه رنينًا مصحوب باهتزازه.. فتجاهله وهو يردد :
– ولا كأني سامع، أساسًا مش فاضيين دلوقتي
وتركه بعدم اهتمام مشددًا تركيزه معها فقط.. وإن انقلبت الدنيا لا يكترث الآن…………..