رواية إمبراطورية الملائكة بقلم/ياسمين عادل

<< إمبراطورية الملائكة >>

الفصل الخامس والعشرين :-

اتسع محجري عيناها وهي عالقة على بحور عينيه.. ودفعتهُ دفعًا عنيفًا لا فائدة منه، ثم هتفت بتذمر :
– فــرح إيـه اللي بتكلم عليه انت مصدق نفسك!؟

لم يفلتها إطلاقًا، بل أحكم ذراعيه عليها وهو يتابع :
– لأ مصدق قلبي

فقالت بسخرية متمكنة من نبرتها :
– طب حاسب أحلامك تطلعك فوق السحاب.. أحسن تقع وتكسر رقبتك
– كفاية عند يارفيف، عيونك مليانة بحُبي وانا عارف قد إيه بتتعذبي زيي.. ليه عايزة تقفليها في وشنا

وأخيرًا حررها لتبتعد خطوتين، وقد بدا جديًا في حديثه.. فـ أشاحت بنظراتها بعيدًا وهي تنطق بـ :
– انت اللي قفلتها، لما نسيت إني في حياتك.. أنا كدا بديك فرصة تعيش براحتك وتعرف اللي عايز تعرفهم

فـ لمست فى إجابتهِ صدقًا حقيقيًا :
– أنا مش عايز غيرك.. إنما انتي ما صدقتي تمسكي عليا غلطة

حملقت فيه بذهول و :
– أنا!!.. على أساس إني بتلكك مثلًا

ابتعد عنها وسار نحو مكتبه، ثم ردد :
– أسألي نفسك، أنا كل دا بسعى عشان احافظ على علاقتنا اللي مبقتش مجرد علاقة.. انتي مراتي شرعًا وقانونًا و لو عايزك تبقي في بيتي هعملها، لكن مقدرش أغصبك على دا، وكلي أمل تفتكري حاجه حلوة بينا تشفعلي عندك.. أنا مش هسيبك يارفيف

ثم جلس على مقعده وهو يتابع آخر كلماتهِ :
– أنا هسيبك تفكري للمرة الأخيرة يارفيف، نفسي تحددي بنفسك المكان والمعاد اللي هيشهد على أسعد يوم في حياتي

تركته وغادرت، وقد جعلتها كلماتهِ تتخبط يمينًا ويسارًا.. عادت لمتجرها الصغير وعقلها مسلوبًا منها، هل ستستطيع حقًا مصافحة ألمها وتغفر له خطيئته الأولى لها.. أم سيكون قلبها حجرًا صوان لا حركة فيه ولا حياة ؟

……………………..……………………..………….

تلقائيًا وبسرعة أوقف سيارتهِ جانبًا.. ولحسن الحظ إنه كان يسير بجوار الرصيف وليس بمنتصف الطريق.. ركض مهرولًا بهلع نحوها وقد تجمع حولها المارّة معتقدين أنها قد وافت المنيّة..
دفع “طارق” جميعهم وهو يصيح بضراوة :
– وســـعـــوا ، أوعــوا

انحنى عليها واجتذبها من أيدي أحد الذين يتفحصونها لتكون بين أحضانه وهو ينادي عليها بتلهف شديد :
– بـرديس، ردي عليا ياحبيبتي

فسأله أحد الواقفين:
– حضرتك تعرفها ياأستاذ ؟

كانت مستكينة للغاية ورأسها ينزف نزيفًا بلا توقف.. نظر لدمائها التي لطخت يداه بفزع.. ثم شرع بحملها بعجلة حتى يسرع بإسعافها، ولكن استوقفه أحدهم :
– انت رايح فين؟

فجأر بصوته عاليًا :
– أنا جــوزها

فرمقه الآخر بإرتياب وهو يتسائل :
– واحنا نضمن منين إنك مش خاطفها وهي هربت منك!

لم يكترث بحديثه، بل ركض بها صوب سيارته وطلب معاونة أحدهم في فتح الباب حتى يضعها بالخلف.. ثم صفق الباب بإنفعال وأخرج هاتفه.. لمسه لتنفتح الشاشة، ثم أشهره أمام عيني الرجل.. فإذ بصورتهما ليلة الزفاف تنير شاشة الهاتف، ثم صاح فيه :
– أبقى بص قدامك كويس!.. دا منظر واحد خاطف واحدة ؟

ثم التفت حول السيارة.. استقلها بعجالة ومضى بها گالبرق، ينظر لها عبر المرآه من حين لآخر، ثم غمغم بضيق شديد :
– ليه عملتي كدا؟؟.. أنتي مش بس متهورة، دا انتي فيكي عرق متخلف والله ، ربنا يستر

……………………..……………………..………….

دثرته جيدًا بالغطاء الناعم.. ثم اعتدلت في وقفتها ورددت بجدية تناسبت مع الموقف الذي حُشرت فيه :
– أنا وصيت زهور تاخد بالها منك يا فاروق ، مش هتخليك محتاج أي حاجه

متفهمًا مقصدها، ولكنه تصنّع الجهل به :
– طول ماانتي جمبي مش محتاج خدامين في حاجه ياميسون

فأجابت وقد أصاب الإختناق صوتها :
– أنا مش هكون جمبك الفترة الجاية ، هروح أرتاح في بيتي شوية.. متهيألي دا من حقي بعد ما فضلت طول الفترة اللي فاتت جمبك

نفخ “فاروق” زفيرًا متعبًا، أعقبه بـ :
– حقك تاخدي موقف، بس أقسم لك مفيش بيني وبين شهيرة أي حاجه.. ولا هيكون

تذكرت كيف كان تفضيله لها عليها، فـ شعرت بهوانها عليه.. لا تتساوى الكفتين ، فهي لم ولن تقلل من شأنه يومًا كما افتعل هو اليوم.. عقدت “ميسون” ذراعيها أمام صدرها بإنزعاج ، ثم رددت :
– انت حتى معملتش ليا اعتبار وخرجتني برا.. رغم إني انا مراتك وانا سرك، مش هي
– مش هتحصل تاني، أوعدك

جاورته جلسته، وقبل أن تتحدث بادر هو :
– عارف عايزه تقولي إيه، وفي الوقت المناسب هتفهمي كل حاجه.. بس انا عايز حاجه تاني
– حاجة إيه؟

فقال بصوت اشتهى الطعام :
– شوربة، نفسي في شوربة من اللي بتعمليهالي.. وجمبها سلطة خضرا وشوية رز بالخلطة، وعليها بقى حتتين لحمة مشوية

ارتفع حاجبيها بإستغراب و :
– بس الدكتور كاتبلك أكل معين عشان يقوي عضلة القلب

تقلصت ملامحه بإشمئزاز و :
– لأ مش عايز الأكل اللي مكتوب دا.. كله مسلوق وملهوش طعم، نفسي في لحمة مشوية ياميسون.. أكل المستشفيات بوظ معدتي

فكرت قليلًا ، ثم رددت :
– طب سيبني أفكر.. ولو مش هيضرك هعمله

……………………..……………………..………….

انتهت الممرضة من قياس ضغط الدم والسكري، فـ رفعت رأسها للطبيب ورددت :
– الضغط طبيعي يافندم ، ٨٠ على ١٢٠

كان الطبيب منشغلًا بتضميد رأسها المصابة بجرح غائر.. وعندما انتهى وقف عن جلسته وهو يردد :
– حضرتك قولتلي بقا حصل إيه ؟

فأجاب “طارق” على مضض وهو يتأملها :
– حصل بينا سوء تفاهم وهي رمت نفسها من العربية

ارتفع حاجبي الطبيب غير مصدقًا، معتقدًا إنه قد يكون قذف بها بنفسه وليس العكس.. ولكنه لم يبدي شكوكه تلك وهو يردد :
– عمومًا المدام بخير ، إحنا عالجنا جرح راسها وربطنا دراعها برباط ضاغط عشان الإلتواء اللي حصلها

دوّن الطبيب بعض الأدوية و الدهانات المسكنة للكدمات :
– هكتبلك شوية مسكنات ومراهم عشان الكدمات والخدوش اللي في جسمها.. وياريت لو تتغذي كويس عشان وزنها ضعيف

انتزع الطبيب الوصفة العلاجية وناوله إياها :
– هي تقدر تمشي دلوقتي، بس يستحسن تستنى لما الدوخه اللي عندها تروح.. عن أذنكم

خرج والممرضة تتبعه.. فـ اقترب “طارق” من فراشها.. أطبقت جفونها هربًا ممل سيقول، ولكنه لم يصمت :
– مبسوطة باللي عملتيه!.. كنتي عايزة توصلي لإيه بتصرفك الغبي دا ؟؟

فأجابت بصوت منخفض امتزج بحشرجه خفيفة :
– عايزة ابعد، أبـعـد أطول مسافة
– و…..

ولجت “ناهد” مهرولة وهي تهتف :
– بنتي ، برديس.. حصلك إيه ياحببتي ؟

وراحت تضمها بحنان لصدرها، بينما تسائل “عاصم” :
– أزاي دا حصل ياطارق

فـ انفجر “طارق” بصياح گالمجنون :
– أسأل بنتك ياخالي، أسألها.. أنا ماشي

برح الغرفة وقد أصابته عصبية مفرطة.. في حين أنها واصلت بكائها بين أحضان والدتها ، لا تدري هل بسبب آلام جسدها التي بدأت تشعر بها.. أم لألم أعظم بروحها ، ما كان بيد “ناهد” سوى مواصلة المسح على جسدها ورأسها برفق.. علها تهدأ.
……………………..……………………..……………

وقفت سيارة “عادل” أمام متجر “رفيف” للزهور.. آتيًا للتحدث معها حول علاقتها بـ “رائد”، هو يعي جيدًا كم أن الجليد قد جمد علاقتهما وحجرّها.. ويريد لهذان القلبان أن ينبضا لبعضهما من جديد.
أغلق سترتهِ القاتمة وهو يدلف للداخل، ليتفاجأ بهذه الجميلة الصغيرة تقف بجوار الزهور.. راقبها بإستمتاع قبيل أن يحمحم :
– أحم، مساء الخير

انتبهت لهذا الصوت الذي جعلها تلتفت تلقائيًا، لمحة خاطفة جعلتها تبتسم فجأة وهي تجيبه :
– مساء النور

دنى منها وهو يسأل :
– أزيك عامله إيه ؟
– الحمد لله، وانت!
-كويس

تحرجت من نظراته المثبتة عليها والتي تصيب بشرتها بالسخونة ، فـ أحادت بصرها وهي تبادر :
– آآ.. رفيف زمانها جاية

ثم أشارت نحو الزاوية المجهزة لإستقبال الضيوف :
– أتفضل جوا

فأشار لها لـ تستبقه :
– أنتي الأول

سارت أمامه بعجلة، مستحية من السير في مقدمته، ثم جلست وهو في مقابلتها.. وبدون مقدمات سألها :
– انتي بتدرسي إيه ؟
– أنا تانية كلية دار العلوم.. وانت؟

فـ ضحك ضحكة صغيرة قبيل أن يردد :
– أنا مخلص دراسة من زمان للأسف

فضحكت أيضًا :
– لأ أقصد درست إيه ؟

فأجاب بتواضع :
– أنا معايا دكتوراه في العلوم الإنسانية

انبهرت حين ذكر درجة تعليمه المبهرة ، واتسعت عيناها بدون قصد :
– بجد ؟!

لاحظ حالتها مما أثار حبوره، ثم أردف :
– بجد، وكنت معيد في جامعة القاهرة لكن محبتش الموضوع، عشان كدا اتجهت لشغل والدي خصوصًا لما صحته بدأت تتدهور

منذ بداية جلسته معها.. يثيره شعرها المنسدل براحة كبيرة على كتفيها، مما دفعه لقول ذلك بدون إعتناء بالحدود :
– بعد كدا متلميش شعرك، شكله كدا حلو أوي عليكي ومديكي سنّك الحقيقي

لا أراديًا تحسست شعرها وقد طغى عليها السعادة وانصاعت لرغبته على الفور :
– حاضر

هذه الكلمة السحرية التي لها مفعولًا مذهلًا حين تقع على مسامع الرجال.. يشعر وأنكِ أنثاه وحده دون شريك، هكذا استشعر “عادل” من كلمتها الغير متكلفة ولكنها أصابت نفسه بشعور ممتع وسعيد، أجبرته أن يراها بمنظور مختلف متجاهلًا ما يقف بينهما من فارق عُمري.. فماذا سيعنيهِ عقب هذا الشعور الخالد الذي ترعرع بين ضلوعه أتجاهها، وقف عقلهِ أمامه ولكنه دعسه وعبر.. ليبقى هو وقلبهِ معها، وكـفى.

……………………..……………………..………….

انفتحت البوابات على مصرعيها لإستقبال سيارة “عادل” الوافدة للقصر.. أوقف “عادل” محرك سيارته، ثم اعتدل في جلسته ليكون في مواجهة “رفيف” الجالسة بجواره وهتف :
– مش محتاج افكرك يارفيف إن الحج لسه تعبان ومش بيتحمل الأخبار الوحشة

أومأت “رفيف” رأسها بتفهم رغم إحتجاجها على هذه الزيارة المفاجئة :
– مع إني مش عارفه ليه جدي طلب يشوفني بس حاضر، هحاول

ترجل “عادل” ووقف منتظرًا إياها، ضمت “رفيف” أصابع يديها بتردد وهي تنظر لهيئة القصر الخارجية.. ثم سارت بخطى بطيئة تتمنى لو لا تصل إلى أعتابهِ.
استقبلتهم الخادمة ،وقد كانت “فريدة” على علم بحضورها فتأهبت لهذا اللقاء المُنتظر أيضًا.. كانت بمقعدها المتحرك أمام الدرج، وما أن رأتها ابتسمت بإرتياح وهي تردد :
– أخيرًا وصلتوا، أنا كنت مستنياكوا من بدري

تقدمت منها “رفيف” وانحنت تُقبلها :
– أزيك ياماما فريدة
– الحمد لله بخير

ثم نظرت “فريدة” بإتجاه “عادل” :
– أطلع انت شوف عمي ياعادل، وانا هطلع معاها
– ماشي.. عن أذنكم

وتركهن منفردتين.. شملتها “فريدة” بنظرة دقيقة قبل أن تردد :
– أنا عارفه إن انتي ورائد متخانقين بقالكم فترة.. بس مهما كان اللي حصل، مش منطقي أبدًا توصلوها للطلاق

بُهتت “رفيف” عند معرفة علم “فريدة” بكل شئ.. وشحب وجهها قليلًا، حينما تابعت “فريدة” :
– لما شوفتك من أول مرة قولت هي دي، هي دي اللي تستحق ابني وهتبقى جمبه وفي ضهره.. بناء بيت وأسرة مش سهل يارفيف، وطبيعي جدًا يقابلنا ضغوط وصعوبات و……

قاطعتها “رفيف” بهذا الصوت المتحشرح والذي شارف على البكاء :
– أي حاجه تهون ياماما ، إلا الخيانة

تجهم وجه “فريدة” مع سماع هذه الكلمة التي عاشت بين أحضانها سنوات عديدة تعاني مرارة شعورها.. الآن قد أصبح الأب والأبن على وتيرة واحدة تقريبًا، مصابون بداء النسوة.. لم تطل”فريدة” الصمت رغم صدمتها، وحاولت أن تبقي على “رفيف” قدر ما تستطيع :
– عندك حق، بس في ناس في حياتنا يستاهلو نتنازل عشانهم.. المهم يكون الحد دا يستاهل

أجفلت “رفيف” جفونها متألمة من التفكير فيما حدث.. ورددت :
– في حجات مبنقدرش نسامح فيها، لازم الطرف التاني يحس بالألم.. وإن اللي عمله يستحق إننا نفارق

ابتسمت “فريدة” وهي تربت على كفها، ثم هتفت :
– وممكن تعاقبه ونحسسه بالذنب وإحنا جمبه ، طول مااحنا قدامه ومش طايلنا.. الوجع بيكون أشد

لم تفهم “رفيف” مقصدها تحديدًا، قطبت جبينها بعدم فهم و :
– مش فاهمة

فـ أجابت بمكر لا يناسبها :
– يعني حقك تربيه وانتي على ذمته.. مش دايمًا الفراق هو الحل

تعلقت نظرات “رفيف” الشاردة بها، فما تقوله جيدًا بنسبة كبيرة.. ولكن هل تتحمل هي قربه الشديد منها!.. أم ستخضع له مع أول ليلة بينهما ؟..

تأفف “فاروق” بإنزعاج وهو يسأل :
– هي فين ياعادل! كل ده بتطلع
– معلش ياحج ، ماانا قولتلك إنها طالعة مع فريدة

قرعات على الباب لتفتحه “ميسون” وتستقبلهن بإبتسامة صافية.. صافحت “رفيف” بحرارة و :
– أهلًا ياحببتي ، أدخلي

ودلفت من خلفها “رفيف” بمقعدها.. تقدمت من فراش الجد وصافحته بتملق وهي تهتف :
– حمدالله على سلامتك ياجدي، نورت بيتك
– انتي اللي نورتى ياحببتي، أقعدي.. انا عايزك في موضوع مهم

جلست بجواره، في حين وجه “عادل” نظراتهِ المتحيرة نحو “فريدة” التي تبسمت بتفاؤل وكأنهأ تبث في نفسه الهدوء..
حاول “فاروق” الإنتصاب في جلستهِ وهو يسألها :
– نويتوا تعملوا الفرح أمتى يابنتي ؟

ترددت “رفيف” وهي تفكر في حديث “فريدة” الذي أثار اهتمامها بشكل كبير.. ولكنه كان مقنعًا لها ، انتظرت “فريدة” الجواب على أحرّ من الجمر وقد كان صمت “رفيف” مقلقًا لها..
قطع “فاروق” هذا الصمت بإعادة السؤال :
– ها يابنتي!!؟.. انتي مكسوفة مني ولا إيه ؟

فـ اتسع ثغر “ميسون”وهي تبارد بـ :
– متكسفهاش، مش شايف وشها أحمر ازاي يافاروق

أحنت “رفيف” بصرها للأسفل وهي تقول بصوت منخفض :
– اللي تشوفه ياجدي

فـ زفر “عادل” زفيرًا مرتاحًا وهو يهتف :
– على بركة اللّه.

كبحت “رفيف” صوت عقلها الباطن الذي استمعت له توًا و :
– أنا هعرف إزاي آخد حقي منك ، ماشي يارائد!!

error: