رواية وحدك حبيبتي
11ـ حنين و ………
استيقظت ليلى من شرودها حين لكزتها نادية قائلة :
– ليلى ، ليلى .. دكتور عبد الرحمن يتحدث إليكِ
نظرت ليلى إلى دكتور عبد الرحمن الذي يتطلع إليها بضيق وقالت مرتبكة :
– آسفة ، لم أسمعك
تنهد قائلًابأسى :
– لو كانت المرة الأولى لالتمست لكِ الأعذار
حولت وجهها عنه صامتة فتابع في سخرية مريرة :
– على أية حال ، نحن مجبرون على التماس الأعذار لكِ ما دمتِ قد سقط في فخ هذا الشيط……
قاطعته في غضب :
– من فضلك ، لا تتحدث عنه هكذا ، تذكرأنه زوجي
تأملها طويلًا قبل أن يهتف في تهكم :
– يبدو أن تجربتك تسير في الاتجاه الذي توقعته أنا لها تمامًا
جذبت حقيبتها بعنف وأسرعت تغادر الغرفة غير مبالية بمحاولات نادية للتخفيف من حدة التوتر ، التفتت الأخيرة إلى دكتور عبد الرحمن وهمت أن تعترض لكنها وجدت الألم يكسو ملامحه وهو يغمغم بمرارة وحسرة :
– آهٍ يا ليلى ، خسارتك لن يعوضها أي مكسب آخر !
همت ليلى بصعود الدرج عندما وصل إلى مسامعها صوت حميها يناديها ، فاستدارت إليه وتصنعت ابتسامة باهتة ، لم تقنع الرجل الكبير الذي ربت على كتفها قائلًا :
– ماذا بكِ يا ابنتي ؟
عادت ابتسامتها الباهتة إلى شفتيها قائلة :
– أنا بخير
تعمق بعينيها قائلًا :
– ملامحك لا تقول هذا
تنهدت بضيق قائلة :
– ربما كان ضغط العمل .. لقد اقترب موعد الامتحانات ونحن نستعد لها
ـ امرأة تقدس العمل مثلك ، لا ظني أن متاعبه تؤرقها إلى حد الحزن يا ليلى
ـ بماذا تريدني أن أخبرك ؟
ـ ماذا حدث بينك وبين ممدوح ؟ لماذا لم يأتِ لرؤيتك منذ أكثر من عشرين يومًا ؟
صاحت في غضب :
– أنت تلقي باللوم عليَّ ، أليس كذلك ؟
ـ كلا يا ابنتي ، أنا أعلم أن ولدي ليس ملاكًا
صرخت قائلة :
– ولدك شيطان ، هل تعلم هذا ؟
ابتسم الرجل :
– منذ اللحظة الأولى التي رأيتك فيها يا ليلى ، أيقنت أنكِ المرأة الوحيدة التي تستطيع أن تغيره ، لذلك فعلت المستحيل لأتمم هذه الزيجة ، وما زال يقيني قائمًا.. لن يغير ممدوح سواكِ
هزت رأسها في يأس قائلة :
– أخشى أن أصيبك بالخيبة يا عمي ، ولكن….
انهمرت دموعهاوهي تكمل بصوت مختنق :
– أشعر بأنني أغرق في شر أقوى كثيرًا من كل خير داخلي ، أخشى أن أسقط معه بدلًا من أن أقيمه معي ، ما عدت اتحمل .. خارت مقاومتي .. فقدت كل أسلحتي وما عدت أعرفني ..!
ـ أين شجاعتك يا ليلى ..؟ كل ما عليك هو أن تقولي لا ، وأنا أعرف ولدي جيدًا
ـ لا هي المشكلة .. هي ما جعلته يغضب ويثور ويترك المنزل متوعدًا بعدم المجيء إليهإلا بعد أن أقول نعم
نظرت إليه مليًاوأردفت :
– هل أقول نعم ؟ وحتى إذا قلتها ، كم يومًا ، شهرًا ، عامًا ، كم سيمضى معي قبل أن يشعر بالملل والحاجة إلى تبديلي بأخرى
عاد الرجل يربت على كتفها قائلًا :
– الصبر يا ابنتي ، لقد وهب الله ممدوح كل شيء لكنه للأسف بدلًا من أن يشكره ، ترك نفسه أرضًا خصبة للشيطان يفعل به ما يشاء لأعوام عدة ، قاربت الثانية والثلاثين عامًا ، محال أن يتغير كل هذا في أيام قليلة
تطلع إليها ، يبحث في وجهها عما يؤكد صحة ما يقول قبل أن يردف :
ـ لا أريدك أن تقولي نعم ، لكن عندما تقولين لا ، فلتكن بلكنة النساء ، هل تفهمينني يا ليلى ؟
*****
كانت عقارب الساعة قد تخطت الثالثة صباحًا عندما جلس ممدوح في شرفة شقته بمنطقة العجمي ، مسترخيًا فوق أحد المقاعد ورافعًا ساقيه فوق آخر ، نفث دخان سيجارته في بطء وراح يتابعه ببصره محاولًا الفرار من هذه الأفكار الوحشية التي تطارده باستماتة ، أطلق تنهيدة طويلة حين تعلقت عيناه بالسماء في حنين عجز في السيطرة عليه ، القمر وجهها ، والليل ونجومه شعرها وبريقه ، ما أكثر النجوم .. وكل نجم يحمل رسالة منها إليه ، رسالة ترجوه أن يعود ، تأمره أن يعود ، تشده شدًا إليها ، غدًا …. هل يذهب إليها ؟ هل يقبل دعوتها ؟
ربما كبرياؤه الجريح هو ما يوهمه بتلك الدعوة ، ربما كانت نسجًا من أماني ، فهذا هو الأسبوع الثالث على التوالي.. أما زالت عنيدة ؟ أحقًالا تريد رؤيته ؟ هذه البلهاء التي جمعت كل الصفات معًا في مزج عجيب ، كل المتناقضات أتت عندها وتكاملت وتآخت ، ما أضعفها وما أقواها ! ما أرقها وما أقساها ! العقل والجنون ، الدين والدنيا ، كل الحب وكل البغض ……..
ما أرق النسيم وما أعنفه حين يتغلغل إلى العظام ، كيف تسللت هكذا حتى استوطنت جسده ؟!
لقد أمضى طيلة الأسبوعين الماضيين بين أحضان الراقصات وبائعات الهوى عبثًا، حاول التخلص من رغبته المتوحشة فيها من دون جدوى ، أيقن أن لا رغبة له في امرأة سواها ، لا امرأة يمكنها أن تشغله عنها ، قبلاتها البلهاء بكل نساء العالم ….
زفر بضيق وراح يغمغم ساخطًا :
– ما هذا الذي يحدث لي؟! ما هذه الأفكار الصبيانية التي تراودني في مرحلة ظننتها آمنة من السقوط في براثنهن ؟!
ربما الوضع لا يستحق كل هذا العناء ، ربما ليلى ليست أكثر من نزوة عابرة ، بل أنها كذلك بالفعل ، امرأة له فيها رغبة ما إن يشبعها حتى يتحرر من سطوتها عليه ، ويتخلص من هذه الأفكار المجنونة التي تملأ كيانه وتطارده ليل نهار ، سيذهب غدًا لرؤيتها ، بل لرؤية والديه ، سيهشم رأسها العنيد ويخرج منه كل الأفكار التيتثير جنونه ،سيرغمها على طاعته ، فهي المرأة الوحيدة التي يجب أن تطيعه بلا شروط فهي زوجته ، تعجب لامتنانه لهذا الأمر ، حمد الله لأنها زوجته حتى لا تستطيع الهرب منه ..!
يالسخرية القدر ..! ألم يطلب هو منها مرارًا أن تشكر الله الذي جعل علاقتها به شرعية ..!
دق رنين الهاتف ، تسارعت دقات قلبه فياستجابة أدهشته قبل أن تزيده سخطًا ، لا يعقل أن تكون هي ، لديها عمل في الصباح يمنعها من السهر المتأخر لهذا الوقت ،ربما كانت نجوى تتساءل عن سر تحوله عنها في الفترة الأخيرة ، ربما أشرف ، أو ربما عادل أو كمال أو …
ربما أي شخص آخر …… إلا هي ، في مثل هذا الوقت ؟!
توقف عن تساؤلاته عندما توقف جرس الهاتف عن الرنين ، شعر ببعض الضيق سرعان ما تخلص منه ، ليست هي ، لابد أنه شخص آخر ، تكفيه إذًا اللحظات القليلة التي أمضاها على رنينه في الخيال …
عاد الرنين من جديد فأمسك بالسماعة في مزيج من اللهفة والرجاء
تجسد إحساسه وهو يستمع إلىالصمت الذي ساد بينهما ، صمت أحلى من كل كلام يمكن أن يقال ……
قالت أخيرًا فيتردد :
– هل أزعجتك باتصالي في مثل هذا الوقت ؟
أغمض عينيه وهو يستمع إليها في حنين لم يحاول إنكاره ، لكنها ما كادت تنتهي من سؤالها حتى قال متعمدًا :
ـ يمكنك الاتصال متى شئتِ يا نجوى
صاحت غاضبة :
– قلت لك مرارًا لا تشبهني بتلك الساقطة
ضحك طويلًا قبل أن يقول :
– كيف صدقتِ أنني قد أخطئ في صوت نجوى على الأقل ؟!
هتفت في مزيد من العصبية :
– إن لم تكف عن ذكر اسمها سأغلق الخط
صاح في لهفة :
– مهلًا ، لن أفعل ، لكن لا تغلقي الخط
أردف هامسًا في شوق ظنت أنها تتخيله من شدة لهفتها إليه :
– هل اشتقت إليَّ أخيرًا ؟
أجابته في تلعثم :
– بل والدك هو من يشتاق إليك
همس في تهكم :
– لم يكن يضنيه هجري من قبل
ـ متى ستكف عن سخريتك ؟
ـ عندما تكفين أنتِ عن الكذب
ـ أنا لا أكذب
ـ ليتني أستطيع أن أرى عينيك الآن
هتفت بعصبية :
– لا تظن أنني اتصلت بك لأقدم فروض الولاء والطاعة
ـ ولماذا اتصلت إذًا ؟
ساد الصمت بينهما حتى غمغمت بصوت مختنق :
ـ حسنًا ، كنت أريد التأكد من كونك لا زلت على قيد الحياة
أغلقت بعدها الخط وانخرطت في بكاء طويل منعها من الاستجابة لرنين الهاتف المتواصل رغم يقينها بكونه هو الذي يحاول الاتصال بها ، ولماذا تجيب ؟ ما الذي يريد قوله ؟ لمَ يصر على إيلامها دائمًا وهي تحبه كل هذا الحب ؟ يا له من ظالم متوحش وكأنه ينتقم منها لأنها أحبته ، ترى هل تألم دكتور عبد الرحمن كل هذا الألم من أجلها ؟ كم كانت سادية وهيتتلذذ بآلامهم جميعًا..! لم تكن تدري حينها بقسوة ما تفعله بهم ، لكنها الآن .. الآن فقط ذاقت من الكأس التي سقتهم منها ، ويا لها من كأس..!
لم تكن الساعة قد تخطت الثامنة صباحًا عندما فوجئت والدة ممدوح به وهو يدخل إلى المنزل فهتف مبتسمًا :
– صباح الخير يا أمي
احتضنته والدته في سعادة وقبلته قائلة في بعض العتاب :
-ممدوح ، ما كل هذه الغيبة يا ولدي؟
ابتسم وهو يقبل جبهتها قائلًا :
– ضغط العمل
صاحت المرأة مستنكرة :
– ضغط العمل ..! وهل نسيت عروسك ؟! عندما ترى ما أصابها من حزن لن تغفر لنفسك أبدًا
ابتسم وهو يتجه للدرج :
– لكنها ستغفر
كان قد بلغ منتصف السلم عندما وصل لمسامعه صوت والدته قائلة :
– ليلى ليست بأعلى
ـ أين ذهبت ؟
ـ لقد ذهبت إلى الجامعة
ـ في هذا الوقت المبكر ؟!
ـ قالت أن لديها محاضرة في الثامنة
زفر بضيق وهو يهبط الدرج على مهل ، ربتت والدته على كتفه وابتسمت قائلة :
ـ اغتسل وتعالى لتتناول الفطور معي ريثما تأتي ، فهي لن تتأخر
برقت عيناه وهو يتجه للباب قائلًا :
– ريثما تعدين أنت المائدة ، سأكون قد أتيت بها
*****
انهمكت نادية في قراءة بعض الأوراق على مكتبها عندما ألقى عليها أحدهم التحية فرفعت رأسها نحوه لترد تحيته ، وما لبث القلم أن سقط من يدها وهي تحدق في وجهه بنظرات لم يستطع تفسيرها قبل أن تغمغممتلعثمة :
– صباح الخير
ثم أردفت بسرعة وهي تنهض عن كرسيها كمن يحاول الفرار :
– سأذهب لأحضر ليلى حالًا
أشار إليها بيده :
– مهلًا ، هل تعرفين من أنا ؟
ابتسمت بعصبية قائلة :
– بالطبع ، أنت ممد…. الأستاذ ممدوح سالم ، زوج ليلى
تفحص وجهها قائلًا :
– هل تقابلنا من قبل ؟
هزت رأسها نفيًا فأردف دون أن يرفع عينيه عن وجهها :
– وكيف عرفتني إذًا ؟
ابتسمت في حيرة ثم قالت مرتبكة :
– رأيت صورك المعلقة على الحائط في إحدى زياراتي لـ ليلى
ظل يحدق فيها بريبة فقالت بسرعة :
– سأذهب لأحضر ليلى
عاد يوقفها من جديد :
– لا أريد إزعاجِك ، أخبرينى فقط برقم القاعة و المبنى الذي توجد فيه وأنا سأجدها بنفسي
أخبرته بما يريده بأنفاس لاهثة وهي تتجنب بقدر المستطاع النظر إلى وجهه ، مما زاد من ريبته فيها ، ما إن شكرها وغادر الغرفة حتى ألقت بنفسها فوق كرسيها وتنهدت بعمق مطلقة لأفكارها العنان
وصل ممدوح إلى المبنى الذي أشارت إليه نادية وراح يرتقي درجاته القليلة بخطوات واسعة عندما استدار فجأة على صوت إحداهن تستوقفه :
– أنتَ …. نعم أنت أيها الوسيم
تطلع إليها مبتسمًا فتابعت :
– هل يمكنني مساعدتك ؟
اتسعت ابتسامة ممدوح قائلًا :
– أبحث عن ليلى ، دكتور ليلى فاضل
غمغمت الفتاة فى ساخطة :
– ليلى .. لماذا يسأل الرجال دائمًا عن ليلى ؟!
حدجها في تهكم ولم يعلق .. فأردفت :
– هل تعلم أن ليلى لا تهتم بشيء سوى العمل؟
ابتسم بثقة قائلًا :
ـ ربما أجبرها على الاهتمام بأشياء أخرى
ـ وهل تعلم أنها متزوجة ؟
ـ نعم أعلم هذا
ـ وهل تعلم أيضًا أن زوجها هو أكثر رجال المنصورة شراسة ووحشية ؟
ضاقت عيناه قائلًا :
– يا إلهي .. إلى هذا الحد ..!
أردفت المرأة في حماسة :
– بل أكثر من هذا ، ربما لو رآك معها لقتلك ، وقتلها هي أيضًا
تفحصها ممدوح وسألها مستنكرًا :
– هل أخبرتكم ليلى بهذا ؟
ـ ولماذا تخبرنا ؟ فهذا الرجل أشهر من نجوم السينما في بلدتنا ؟
شعر ممدوح ببعض الضيق وهم بالمغادرة عندما أردفت من جديد :
ـ لقد حذرناها جميعًا من الزواج منه لكنها كانت مصرة على إجراء التجربة حتى تحصل على الدكتوراة
غمغم في دهشة :
– تجربة ..؟!
ـ نعم من أجل الحصول على الدكتوراة
حاول ممدوح التحكم في انفعالاته :
– هل فسرتِ أكثر ؟
شعرت المرأة بالزهو لكونها نجحت في إثارة اهتمامه فهتفت :
– ألم تخبرك ليلى بأنها تزوجت بهذا المنحرف للحصول على الدكتوراة بطريقة واقعية لم يسبقها إليها أحد ؟
غمغم بصوت مختنق :
– وكيف هذا ؟
ـ ستحاول استغلال ما لها من سحر في إصلاحه وتهذيبه ، سوف تعيد تربيته من جديد ، كلنا في انتظار ما سيؤول إليه أمرها معه
عاد يسألها في مزيج من اللهفة والسخرية :
-تعيد تربيته من جديد ..!ألم تتفقوا على ما ستفعله بعد ذلك ؟
هزت كتفيها قائلة :
– لست أدري ، ربما تطلب الطلاق ، فزوجها كما أخبرتك منذ قليل ، رجل منحل أخلاقيًا، يسعى خلف شهواته كالحيوان البري ، لا ظني أن ليلى سوف تتحمله كثيرًا ، يدعى ممدوح سالم ، ربما سمعت عنه
تحول البريق الذي راقها في عينيه إلى نار متأججة أثارت فيها الفزع ، لكنها تصنعت اللامبالاة قائلة :
– تخيل أنني لم أتعرف بكَ حتى الآن
أجابها بصوت يشبه الرعد :
– ممدوح سالم
حدقت في وجهه وتراجعت للخلف مذعورة في نفس اللحظة التي أقبلت فيها ليلى وراحت تنظر إليهبسعادة هامسة :
– ممدوح ..!
نظر إليها قائلًا في حدة :
– سأنتظرك بالسيارة
قطبت حاجبيها في دهشة بينما نظرت إليها زميلتها وهي تبتعد في ارتباك قائلة :
ـ آسفة يا ليلى ، لم أكن أقصد ، لم أكن أقصد أبدًا، لم أكن أعرفه
شعرت ليلى بانقباضة، هناك كارثة مقبلة بلا شك ، كارثة تستطيع تحديدها بلا عناء ، يا ليتها تكون على خطأ ، ليت الأمر ليس على هذا القدر من الخطورة التي تتوقعها
قاد السيارة صامتًا ، متحاشيًا النظر إليها ، لم تنجح محاولاتها فيحثه على الحديث فاستسلمت للصمت هي أيضًا حتى توقفا عند المنزل ، استقبلتهما والدته مهللة :
– سأعد لكم الفطور حالًا
صعد الدرج على عجل وهو يدفع ليلى أمامه في عنف قائلًا :
– ليس الآن
نظرت المرأة إلى ليلى وقالت في قلق :
– ماذا حدث ؟
تابع دفعه لها غير مبال بوالدته وصياحها .. وما إن دلفا إلى حجرتهما حتى أغلق الباب خلفه بعنفوتطلع إليها في وحشية قائلًا :
– لماذا تزوجت مني ؟
لم يعد لديها أدنى شك في صحة ما استنتجته ، أشاحت بوجهها تبحث عما تقول ، لكنه لم يمهلها بل أدارها إليه في مزيد منالعنف صارخًا :
– تكلمي
غمغمت في ارتباك محاولة أن تبدو هادئة :
– لقد أخبرتك من قبل بأنه نوع من التحدي
هتف غاضبًا :
– تحدي ، أي نوع من التحدي تقصدين ؟
عادت تشيح بوجهها من جديد ، وعاد يجذبها بعنف أشد :
– هل أشبه فأر التجارب ؟
غمغمت بصوت مختنق :
– ممدوح ، بالله كفى
لكنه تابع في هستيريا :
– هل أبدو أحمق إلى الحد الذي أغراكِ لجعلي أضحوكة بين هؤلاء البلهاء الذين تعملين معهم
ـ لم أكن أعرفك في ذلك الحين
صفعها بقوة صارخًا :
– ولماذا تتزوجين رجلًا لا تعرفينه ؟
تحسست وجهها في ألم صارخة :
– يمكنك أن تطلقني الآن ، فأنت لم تخسر شيئًا بعد
اعتصر ذراعها قائلًا :
– إن كان هذا هو ما تحلمين به ، فأنصحك بأن تستيقظي
تحجر الدمع بعينيها وهو يتابع في قسوة :
– لقد دخلت إلى قفصي بإرادتك ،لكنك لن تخرجي منه إلا بإرادتي أنا ، وأقسم بأنك لن تخرجي منه سالمة يا ليلى
حاولت إزاحته ودموعها تنهمر صارخة :
– كف عن عنفك معي ، لا تعاملني وكأنني رجل مثلك
دفعها أرضًا، كادت رأسها أن تصطدم بالحائط فهتفت ساخطة :
ـ عندما أذهب إلى عملى غدًا ، سوف ……….
قاطعها في حسم :
– أنت لن تذهبي إلى عملك هذا مرة أخرى
صرخت مستنكرة :
– كلا .. أنا لن أسمح لك بحرماني من عملي ، سوف أذهب إليه ولو دفعت حياتي ثمنًا لهذا
جن جنونه قائلًا :
– حسنًا ، ادفعي بعضه الآن إذًا
وقبل أن تفهم ما يعنيه كان قد حطم وجهها بقبضته وألحق به من التشوهات ما يمنعها من عبور باب الغرفة
فصرخت وهي تنتحب في ألم :
– طلقني أيها المتوحش ، لن أبقى معك بعد الآن
– بل ستبقين، ستبقين حتى النهاية ، وأنا من سيحدد هذه النهاية ، سأروضك يا ليلى كما روضت غيرك ، وسأبقى رجلك الوحيد شئتِ أم أبيتِ ، سوف تعيشين كأقل امرأة أعرفها
غادرالغرفة صافعًا الباب خلفه ، تاركًا إياها تنتحب ، آلامها الجسدية فوق تحملها وآلامها النفسية أضعافًا ، لقد خسرت كل شيء ، كرامتها وعملها وقلبها أيضًا
******
شهقت نادية فى فزع وهى تحتضن ليلى قائلة :
– لقد أخبرتنى سناء عماحدث أمس ، فشعرت بالقلق وجئت للأطمئنان عليك ، خاصة بعد أن تغيبتِ اليوم عن العمل
حاولت ليلى التحكم في دموعها التي انهمرت رغمًا عنها قائلة بصوت مختنق :
– هل رأيت ما فعله بي هذا المتوحش ؟
ربتت نادية على كتفها في شفقة قائلة :
-اهدئى يا ليلى ، سوف تتحسن الأمور بإذن الله
هتفت في لوعة :
– تتحسن ..! لا أظن هذا ، فهي تزداد سوءًا يومًا بعد آخر ، لقد منعني من الذهاب للعمل ، يحاول تدميرى يا نادية
تنهدت نادية قائلة :
– رجل مثله يمتلك هذا الكم من الكبرياء ، لا شك أنه تلقى صدمة قاسية لدى معرفته بسبب زواجك منه ، وهذه الغبية سناء أخبرته الأمر بطريقة مهينة أكثر ، فهم منها بأننا جميعًا نتآمر ضده
ـ عملي هو آخر ما تبقى لي
ابتسمت نادية في أمل قائلة :
– سأحاول الحصول لكِ على إجازة بحجة التفرغ للدراسة
بادلتها ليلى الأمل :
– هل تظنين أن الأمر سينجح ؟
ـ سينجح بإذن الله ، لكن لا تخبرى ممدوح بذلك حتى تتحسن الأحوال بينكما ، أين هو الآن ؟
غمغمت ليلى بمرارة :
– منذ ذهابه ليلة أمس لم يعد حتى الآن
ـ ربما عاد إلى الإسكندرية
أجابتها شاردة :
– لا أظن هذا ، كان واضحًا أن انتقامه لم ينتهِ بعد
وبينما هما تتحدثان دلف ممدوح إلى المنزل ، خلع سترته وأمسك بها فوق كتفه وقد بدا الإرهاق واضحًا فوق وجهه وعينيه اللتين حدقتا بهما في عداء وضيق ، جلس قبالتهما دون أن يلقي عليهما التحية ، وجه حديثه إلى ليلى وهو ينفث دخان سيجارته قائلًا في خشونة :
-أريد كوبًا من الشاي
حانت التفاتة من ليلى إلى نادية قبل أن تطلق تنهيدة طويلة وتنادي سعدية لتعد له الشاي ، لكنه قاطعها آمرًا :
– لو أردته من سعدية لطلبته منها ، منذ الآن أنت خادمتي الوحيدة هنا
تطلعت إليه بضيقوهمت أن تعترض لولا نظرات نادية المتوسلة لها تناشدها أن تلبي ما طلبه منها ، ذهبت على مضض بينما ظل يحدق فى نادية طويلًا قبل أن ينفث دخان سيجارته قائلًا :
ـ تقابلنا من قبل .. أليس كذلك ؟
غمغمت في اضطراب دون أن تجرؤ على النظر إليه :
– نعم ،أمس عندما ……
– كلا ، لم أقصد أمس
رفعت بصرها إليه وما لبثت أن أبعدته سريعًا وراحت تتلفت حولها وكأنها تبحث عن معين قبل أن تهمس قائلة :
ـ كان هذا منذ زمن بعيد على أية حال
ـ أين اختفيتِ فجأة ؟
ـ فضلت الابتعاد خوفًا من التورط معك بعد أن أخبرتني صراحة بأنك لن تتزوج
تأملها في تهكم قائلًا :
– ظننتكِ انتحرتِ بعد القبلة الأولى
ابتلعت ريقها مستنكرة بينما أردف في لا مبالاة :
– هل تزوجتِ ؟
ـ نعم ، ولدي طفلان
ـ لقد تصرفتِ بحكمة إذًا ، أظن أن هذا من حسن حظك
تنهدت بضيق قائلة :
– نعم ، أظن هذا
ـ لماذا لم تنصحي صديقتك بالابتعاد عن طريقي مثلما فعلت أنتِ ؟
ـ لقد حاولت ، لقد حاولنا جميعًا ، لكنه القدر
هتف ساخطًا :
– القدر ..! القدر أم غرور صديقتك الذي لا حد له ؟
أقبلت ليلى تحمل الشاي ، حدق في وجهها قائلًا :
– ما هذا ؟
ـ الشاى الذي طلبته
ـ لقد طلبت قهوة
استدارت ليلى إلى نادية وكأنها تطلب شهادتها ، فتصنعت الأخيرة ابتسامة قائلة :
ـ لا تجعلا من هذا مشكلة ، يمكنني أنا إعدا ……….
قاطعها في حزم :
– كلا
تنهدت ليلى في ضيق وذهبت مستسلمة لإعداد القهوة ، وما إن ابتعدت حتى نظرت نادية إلى ممدوح قائلة :
– ليلى لا تستحق منك كل هذا
قال والشرر يتطاير من عينيه :
– ليلى … أنصحك بأن تنسي وجود امرأة بهذا الاسم
هتفت بجزع :
– ليلى تحبك
ـ أهذه خطتكم الجديدة ، كم عدد المشتركين فيها ؟
ـ لا تكن متعنتًا ، ربما أخطأت ليلى بالفعل ، ولكن كان هذا قبل أن تراك وتحبك
ـ بفرض أن ما تقولينه صحيحًا ، لماذا لم تخبرني الحقيقة قبل أن أعرفها بهذه الطريقة المهينة
ـ لقد كانت تخشى هذه اللحظة ، أقسم لك بأنها صرفت النظر عن الرسالة والدكتوراة ولم يعد يهمها سواك ،أنت حبها الأول والأخير
نظر إليها مليًا قبل أن يقول متهكمًا :
– هل تتوقعين مني أن أصدق هذا ؟
أقبلت ليلى تحمل القهوة وقدمتها له ساخطة :
– تفضل
نظر إليها بضيق ثم ينهض :
– ليس لي رغبة في تناول القهوة ، كل ما أحتاجه هو النوم
اتجه ليرتقي الدرج بينما ليلى تراودها رغبة مجنونة في قذفه بالفنجان الذيتحمله
استدار إليها فجأة :
ـ عليك إيقاظي في تمام السابعة حتى لا أتأخر عليها
ازدادت رغبتها جنونًا فألقت بالفنجان خلفه في عنف جعله يستدير إليهاويصفعها بقسوة غير مبال بوجود نادية التي أصابها الخجل أضعاف ما أصاب ليلى فأسرعت تغادر المنزل
******
مرت الأيام التالية كالجحيم ، وصلت قسوة ممدوح إلى حد لا يحتمل ، استنفدت كل الأعذار له ، كان يمضي يومه خارج المنزل ثم يعود فجرًا ليوقظها ساخطًا ويأمرها بخدمته حتى يخلد للنوم ، واليوم جاء كعادته وأيقظها لتعد له الشاي الذي يطلبه منها دائمًا ولا يشربه في النهاية ، وضعت الغلاية على النار ، قذفها بملابسه قائلًا :
ـ اغسلي هذه الملابس … الآن
حدقت بنظرات شاردة في الملابس التي لطختها مساحيق النساء وفاح منها عطرهن صارخًا وكأنه يوقظها من سباتها العميق ويفتح عينيها التي أغلقتهما طواعية ، انحنت وأمسكت بسترته ، في لحظة مجنونة قربتها من نيران الموقد المشتعلة وهي تغمغمبهيستيريا :
-هذه الملابس لن يطهرها الماء أبدًا
استدار إليها واتسعت عيناه في قلق وهو يتجه نحوها ، لكنها تابعت بنفس النبرة الهستيرية :
ـ لاتقترب أكثر من هذا ، وإلا أشعلت النار في نفسي
– تعقلي يا ليلى
ـ ومن أين لي بالعقل ، لقد سلبتني كل شيء ؟
ظل يراقبها متأهبًا وهي تنتحب :
– ماذا خسرت أنت ؟ بعضًا من كبريائك ؟ هل خدشت غرورك ؟ أنا خسرت كل شيء ولكنك ما زلتَ تتفنن في الانتقام مني ، إن كان جمالي هو ما يزيدك رغبة في إذلالي فأنا لا أريده ، سوف أجبرك على تطليقي كما أجبرتك على الزواج مني
همس دون أن يرفع عينيه عنها :
– كفى يا ليلى لقد اقتربت النار من يدك كثيرًا …. دعينا نبدأ من جديد
افقدتها دموعها القدرة على التمييز وهي تصرخ :
– بل دع النار تقترب مني، دعها تطهرني من توحدي مع فاسق مثلك ، دعها تحررني من ذنب لا غفران له ..!
أظلم الدمع عينيها فلم تعد ترى النار التي التهمت السترة وأتجهت نحوها عدوًا ، وبرغم أن يداه كانت الأقرب فلم تدعها تمسها ، إلا أنها ظلت تصرخ حتى فقدت الوعي ، أخبرهم الطبيب بأنها مصابة بانهيار عصبيحاد ، وبأنه سبب مباشر فيذلك ، عليه أن يبتعد حتى لا تزداد حالتها سوءًا
12ـ ولماذا أعيش ……. ؟
ـ أنت عبقري ، لقد أفقدت رسوماتك الرجل صوابه
هتف شوقي بهذه الكلمات في إعجابوهو يجلس قبالة ممدوح في مكتبه بالإسكندرية ، عاد يردد في حسرة لعله يستجيب لنصيحته هذه المرة :
– آهٍ … لو تبتعد عن النساء ، فهن الحاجز الرئيسي بينك وبين مستقبل رائع
نظر إليه ممدوح بضيق قائلًا :
– هات ما عندك بلا نصائح
هز شوقى رأسه ثم زفر بإحباط قائلًا :
– لقد أعجب الثري الفرنسي بتصميماتك إعجابًا شديدًا كما أخبرتك ، لذا فقد قرر أن يمنحك فرصة قلما تتاح لمهندس في مثل عمرك
تنهد ممدوح وهو ينظر إليه بصبر نافد فأردف :
– لقد وقع اختياره عليك لتصميم قرية سياحية كاملة في الساحل الشمالي
– وأنا قبلت
هتف شوقي مستنكرًا :
-بهذه البساطة ..!
قدم إليه ممدوح علبة سجائره قائلًا :
– عمولتك محفوظة
ـ أنا لا أتحدث عن هذا
ـ ماذا تريد إذًا ؟
ـ أعلم أنك لستَ في حاجة إلى المال ولكن ……
– متى سنبدأ العمل ؟
تأمله شوقي بدهشة وعاد يسأله :
– إن كان الحافز المادي لا يسعدك ، فماذا عن الحافز المعنوي ؟
نفث ممدوح دخان سيجارته صامتًا بينما تابع شوقي وهو يتفرس فيملامحه :
ـ لم أرك من قبل مهمومًا بهذا الشكل ، هل يتعلق الأمر بامرأة ؟
نظر إليه ممدوح وهم أن يعلق موبخًا عندما دق جرس التليفون فتناول سماعته وما إن سمع صوت محدثته على الطرف الآخر من الخط حتى أسرع كالبرق يغادر مكتبه غير مكترث لنداء شوقي الذى قارب الصراخ
*****
ـ ليلى تحتضر يا ولدي
ـ كيف بلغت هذا السوء دون أن أعلم ؟
ـ لقد امتنعت عن تناول الطعام منذ عشرة أيام ، واضطر الأطباء إلى تغذيتها بالمحاليل ، لكن هذا لم يعد يفلح الآن ، يقولون أن لا رغبة لها في الحياة
ـ لماذا لم تعلميني بهذا من قبل ؟ ألم تخبريني حتى أمس أنها بخير ؟
ـ كنت أعلم أنك تتعذب ولم أشأ أن أزيد عذابك
غمغم في مرارة :
– أتعذب ..! وما أدراكِ أنتِ بعذابي ، حتى هذه البلهاء الغبية التي تحاول قتل نفسها دون أن تدري بما تفعله بي، أنا ……..
لم يستطع أن يكمل عبارته ، نظر إلى أعلى الدرج في تردد وما لبث أن قال في حزم :
– سأصعد إليها ، لابد أن أتحدث معها ولا ظني أنها ستكون أسوأ حالًا مما هي عليه
فوجئت الممرضة التي تتولى رعاية ليلى بدخول ممدوح إلى الحجرة ، أغمض عينيه في ألم وهو يتطلعإلى وجهها الذي حاكى وجوه الموتى ، اقترب منها ، احتضن كفها الصغير وراح يقبله بدمع متحجر فى عينيه للمرة الأولى هامسًا باسمها في مزيج من اللوعة والرجاء
حاولت الممرضة أن تعترض لكنها هتفت فجأة وهي تتفحص ليلى التيحركت جفنيها للمرة الأولى منذ وقت طويل :
ـ يا إلهي ، وكأن روحها متعلقة بروحك
تطلعت ليلى إليه بنظرات زائغة قبل أن تبتعد بوجهها عنه في ألم ، تصنع ابتسامة قائلًا :
ـ لا أصدق أنكِ تريدين الموت
تحولت إليه وغمغمت بصوت واهن :
– ستصدق قريبًا
ـ لماذا تريدين الموت ؟
ـ ولماذا أعيش ؟
تنحنحت الممرضة قبل أن تغادر الغرفة قائلة :
ـ لابد أن أتصل بالطبيب ، هناك تطورات يجب أن أخبره بها
سحبت ليلى كفها من بين يديه قائلة :
– ما الذيأتى بك ؟
ـ لا أريدك أن تموتي
ـ لم تترك لي شيئًا أعيش لأجله
ـ هل كل هذا لأنني منعتك عن العمل ؟
ـ العمل ..! العمل فقط ؟
عادت الممرضة تحمل بعض المحاليل وحاولتإسعافها ولكن ليلى كانت ترفضها بإصرار ، لم تنجح المحاولات المستمينة التي قامت بها الممرضة بمعاونة ممدوح في إقناعها بالعدول عن قرارها المجنون بالانتحار ، هتف ممدوح أخيرًا في مزيج من الجزع والتوسل :
ـ كفاكِعنادًا ، ما تفعليه بنفسك ، ذنبًا لن يغتفر
ـ لا أريد سوى أن يغفر الله لي زواجي منك ، هو يعلم أنك قاتلي
ابتسم بمرارة قائلًا :
– حسنًا ، دعيني أبرئ نفسي إذًا ، أخبريني بما تريدينه وسوف أنفذه لكِ مهما بدا مستحيلًا
ـ طلقني
ـ ماذا ، أطلقك ؟
ـ لا ظني أنني طلبت المستحيل
ابتسم في عصبية :
– ألا يوجد حل آخر ؟
ـ الموت
ـ يا إلهي ، هل تكرهينني إلى هذا الحد ؟
أشاحت بوجهها صامتة فأردف في ألم :
– حسنًا ، أعدك بأن أنفذ رغبتك ما إن تستعيدي عافيتك
ـ هل تتوقع مني أن أصدقك ؟
ـ ألم تدركي بعد أن الصدق ربما كان حسنتي الوحيدة ؟
ـ اقسم بأنك ستطلقني
ـ اقسم برأس أبي أن أفعل كل ما تريديه
نظرت إليه في ريبة وعدم تصديق ، لكنها ما لبثت أن استسلمت للممرضة التي حقنتها بالمحاليل تمهيدًا لإطعامها فيما بعد
*****
أقبلت والدة ممدوح نحوه متهللة وهتفت في سعادة :
– حمدًا لله ، لقد بدأت ليلى تتعافى ، كانت ترفض مجرد النظر إلى الطعام لكنها ما إن رأتك حتى أقبلت عليه وتحسنت حالتها ، هل تعرف لماذا ؟
أجابها ساخرًا وهو يغادر الغرفة :
– لأنني وعدتها بالطلاق عندما تسترد صحتها
ضربت المرأة صدرها بعنف :
– طلاق ..!
تجاوزت عقارب الساعة الثانية عشر مساءً وليلى تجلس على الأريكة في الردهة الكبيرة منتظرة عودة ممدوح من الإسكندرية ، اتصل منذ الخامسة ظهرًا وأخبر والدته بأنه سيأتي هذا المساء ، علم بأنها غادرت الفراش أمس ، لابد أن يأتي لينفذ وعده لها ، لقد أقسم برأس والده ، ستتحررمن قبضته أخيرًا ، ستعود إلى حياتها السابقة وإلى عملها الذي تعشقه ، ستضحك وتلهو وتمرح بحياتها كما تشاء
فلماذا شعورها البغيض هذا ؟ لماذا الحزن يحتويها ؟ ربما لأنها خسرت تجربتها معه ، سوف تبحث عن أي عنوان آخر لرسالتها وتبدأ من جديد ، لكنها لن تكرر هذه التجربة أبدًا …..
انتفضت مذعورة عندما فوجئت به يحدق فيها وبلغ مسامعها صوته حانيًا :
ـ حمدًا لله على سلامتك
ابتلعت ريقها قائلة :
– أشكرك
أربكتها ابتسامته وبريق عينيه الذي لن تنساه أبدًا ، تظاهرت بالنظر إلى حقائبه وهي تجاهدللتحكم فيانفعالاتها قائلة :
ـ الفضل يعود إلى الوعد الذي قطعته لي
تأملها قليلًا قبل أن يقدم لها إحدىالحقيبتين اللتين عاد بهما من الإسكندرية ويحمل هوالأخرى متجهًا بها إلى الدرج قائلًا :
– برهني لي أولًا أنكِ تعافيتِ واحملي معي هذه الحقيبة إلى غرفتي
دخل إحدى الحجرات في الطابق الثاني واضطرت مرغمة أن تتبعه ، ألقت بالحقيبة أرضًا وهي تهتف به في صبر نافد :
– هل صدقت الآن ؟ هيا إذًا .. عليك أن تنفذ ما وعدتني به
تجاهل نبرتها الغاضبة قائلًا :
– ما رأيك في حجرتى ؟ كانت لي قبل الزواج ، وها أنا عدت إليها من جديد
تجاهلت بدورها عبارته قائلة في غضب أشد :
– لقد أقسمت برأس والدك
تأملها صامتًا وقالت عيناه لها الكثير لكنها لم تصدق ، عادت تهتف كطفلة :
– طلقني
أشاح بوجهه عنها قائلًا :
– سأفعل كل ماتريدين ، ولكن ليس الآن
جذبته ليواجهها صارخة :
– لقد خدعتني ، ها أنت تتملص من وعدك لي ، لقد أقسمت
أزاحت يديه عندما هم بوضعهما على كتفيها ، فابتسم قائلًا :
– اسمعيني جيدًا أيتها الشرسة ، لم يمض على زواجنا سوى شهور قليلة ، لم تتعد الخمسة أشهر بعد ، لمَ لا ننتظر قليلًا ؟
صرخت في انفعال :
– إن كنت تخشى على سمعتي يمكنك أن تطمئن
نظر إليها في مزيج من الغضب والقلق قائلًا :
– هل ستتزوجين ما إن تنتهي شهور العدة ؟
– أهذا ما تخشاه ؟
ظل يتفحصها صامتًا فتنهدت قائلة :
– اطمئن ، لقد زدتني بغضًا للرجال
ابتسم هامسًا :
– أيعني هذا أنك لن تتزوجي بعدي ؟
رفعت وجهها قائلة :
– أنا لم أقل هذا
قال في لهجة زادتها جنونًا :
– لا داعي للعجلة إذًا
همت أن تعترض ، لكنه أكمل بسرعة :
– يمكنك هنا أن تفعلي ما شئتِ ، يمكنك العودة إلى عملك ، ابحثي لكِ عن أي موضوع آخر واكملي رسالتك قبل أن تعلق أردف محذرًا :
– شرط أن يكون بعيدًا عني وبلا تهور
ـ ها قد بدأت شروطك قبل أن نبدأ
ـ لا تنسي أنكِ ما زلتِزوجتي
ـ هذا ما أريد أن أنساه وعليك أن تساعدني
أربكتها نظرة العتاب في عينيه فثارت كطفلة قائلة :
– طلقني … طلقني الآن
ـ إن لم تكفي عن جنونك هذا ، فلن أطلقك أبدًا ، لقد أخبرتك بأنك حرة وتستطيعين العودة إلى عملك ودراستك متى شئتِ ، ومن جهتي.. فأنا لن أحاول إزعاجك ، مدة إقامتي في المنزل سأبقىبهذه الغرفة ، وباستطاعتك أن تمتنعي عن رؤيتي إن شئتِ
ـ هل أفهم من هذا أنك لن تطلقني قريبًا ؟
زفر بضيق وهو يجلس خلف مكتبه ويمسك بقلمه قائلًا :
– سأسافرإلى الساحل الشمالي خلال أيام ، وسأبقى هناك لفترة طويلة إلى حد ما ، سوف أطلقك عندما أعود ، إن رغبتِ هذا ، أما الآن فاذهبي واتركيني لعملي
ـ هل تظن أنني سأتراجع عن موقفي ؟
ـ جربي ، ربما تروق لكِ الإقامة هنا عندما تتأكدين بأنني سأتركك وشأنك ، سيكون هذا أيسر كثيرًا من حياة المطلقة على أية حال .. إلا إذا كنتِ تخططين للزواج قريبًا..
ـ هل ستأتي للعمل هنا كثيرًا ؟
ـ أنا مجبر على هذا ، أمامي مشروع ضخم يحتاج إلى تفرغ تام بعيدًا عن ضجيج المدينة
ـ بعيدًا عن ضجيج المدينة أم بعيدًا عن نسائها ؟
ابتسم وهو ينظر إليها :
– لم يعد لكِ شان بهذا الآن
ـ لا تنسى أنك ما زلت زوجي
اتسعت ابتسامته حتى ملأت وجهه كله بينما أسرعت في خجل تغادر الغرفة ، في قلبها رقصة من سعادة تعجبت لكونها ما زالت تشعر بها
ألقت بالكتاب الذي تقرأه في ضجر ، عنفت نفسها على غضبها الذي لا مبرر له ، لقد وفى ممدوح بوعده ، ولم يحاول رؤيتها أو الأحتكاك بها طيلة فترة تواجدهبالمنزل والتي تجاوزت الأسبوع ، حتى وجباته كان يتناولها في حجرته التي اتخذها له حصنًا…….
أفاقت من شرودها على صوت حماتها تناديها ، تقدمت منها .. فابتسمت المرأة قائلة :
ـ لقد ذهبت سعدية لتطعم الطيور ، وأنا مشغولة في إعداد الطعام ، هل يمكنك أن تسدي لي خدمة ؟
ابتسمت ليلى قائلة :
– بالطبع ، فأنا في حاجة لعمل أي شيء يخرجني من هذا الملل
ـ هل أعددت كوبًا من الشاي وذهبتِ به إلى ممدوح ؟
نظرت إليها في تردد لكنها لم تجد سبيلًا للرفض أمام ابتسامة المرأة المشجعة ، ولمَ لا ؟ فهي في غاية الشوق لرؤيته ، لم يعد باستطاعتها أن تنكر هذا
طرقت باب الغرفة التي يشغلها برفق حتى سمعت صوته يدعوها للدخول ، كان منهمكًا في رسوماته فلم يكلف نفسه عناء النظر إليها ، ظلت تتأمله لحظات صامتة عندما قال فجأة :
– أتريدين شيئًا يا سعد……
لكنه ما إن وقع بصره عليها حتى برقت عيناه سعادة وهمس في حنين :
– ليلى …!
غمغمت في ارتباك :
– لقد أعددت لك الشاي ، سعدية تطعم الطيور ، ووالدتك مشغولة فلم …..
زادتها نظراته ارتباكًا فأسرعت لتغادر الغرفة عندما أمسك بها قائلًا في شبه رجاء :
ـ ألم تنتظري حتى أنتهى منه ؟
غمغمت دون أن تنظر إليه :
– لا أريد أن أعطلك عن عملك
ـ لحظات قليلة لن تضر ، بل ربما تكون حافزًا لي
هربت من النظر إليه بالنظر إلى لوحاته ، فابتسم قائلًا :
– ما رأيك ؟
ـ جيدة
ـ ما هي معلوماتك عن الرسومات الهندسية ؟
ـ لا شيء ، لكن خطوطك تبدو واثقة
– من بين أكثر من عشرين مكتب وشركة هندسية ، وقع الاختيار على مكتبي لتصميم قرية سياحية كبيرة في الساحل الشمالي
ابتسمت قائلة :
– تقول والدتك أنك كنت طالبًا متفوقًا
ـ جدًا
حدقت في وجهه ، يا لها من ثقة تصل حد العجرفة والغرور ، لكم تبغضها وتعشقها في آن واحد ..! غرقت في بحر عينيه قبل أنترتجف فجأة وكأنها استيقظت من حلم جميل قائلة :
ـ ألم تنتهِ بعد ؟
ناولها الكوب صامتًا فاتجهت بخطوات متعثرة إلى باب الغرفة حتى كادت تسقط ، وإن كانت قدماها لم تعد تقوى على حملها فهناك شيء ما حلق بها فوق السحاب
*****
أخذت نفسًا عميقًا بعد رغبة ملحة قادتها إلى غرفته دون وعي منها ، راحت تعبئ رئتيها من أنفاسه ورائحته التي تملأ الغرفة ، سافر منذ أربعة أيام إلى الإسكندرية ليتمم عمله الذي باتت تغار منه ، لم يحاول أن يحدثها تليفونيًا طيلة هذه المدة ، ولم تنجح قسوته في نزعه من قلبها وأفكارها
يا الله .. ألم يحن الوقت بعد لغفران هذا الذنب العظيم ؟ هل لها من الذنوب ما يغلق أمامها باب السماء ؟ ربما لكونها تدعوالله وتتمنى في الوقت ذاته أن لا يستجيب لها …….
ـ هل اشتقتِ إليًّ ؟
اتسعت عيناها ذعرًا ودهشة وهي تتمعن فى وجهه فضحك قائلًا :
ـ نعم .. هذا أنا بالفعل ولستُ حلمًا
أسرعت لتغادر الغرفة وقد احمرت وجنتاها خجلًا، لكنه أمسك بذراعها قائلًا :
ـ مهلًا ، ساعديني في إعداد حقائبي
ـ أين ستذهب ؟
ـ الساحل الشمالي
ـ متى ؟
ـ بعد ساعة
ـ ولماذا جئت إذًا ؟
ـ جئت لأودعك
ـ هل ستتغيب كثيرًا ؟
ـ شهر على الأقل
امتلأ وجهها مرارة ، فقال هامسًا :
– هل ستشتاقين لي ؟
ـ هل ستسافر بمفردك ؟
قال دون أن يرفع عينيه عن وجهها :
– ربما
جاهدت للتحكم في انفعالاتها :
– وربما الأخرى ؟
ابتسم قائلًا :
– ربما يرافقني أحد ، أيهما ترجحين ؟
أجابته ساخطة :
– ربما الثانية بالطبع ، امرأة أليس كذلك ؟!
عاد يبتسم قائلًا :
– بلى .. هو كذلك
صرخت في غضب :
– طلقني يا ممدوح
أجابها في لا مبالاة زادتها غضبًا :
– بعد عودتي
ـ كلا ، طلقني الآن قبل أن ترحل
ـ كفاك إلحاحًا لا جدوى منه ، لقد قلت كلمتي
همت أن تعترض فوضع يده على فمها قائلًا :
– سأنتظرك بالأسفل ، أمامك عشرة دقائق لإعداد حقيبتك ، بعدها سأعلم أنك لا تريدين المجيء معي
حدقتبوجهه ساخطة ، لقد كان يعنيها إذًا ، لماذا لم يخبرها بذلك منذ البداية ، هذا المزعج يتعمد إثارتها دائمًا ، تبًا له .. من يظن نفسه ؟!
نهض ممدوح ليودع والديه ، مضى أكثر من نصف ساعة ولم تظهر ليلى بعد ، يبدو أنها لا تريد مرافقته هتفت والدته :
– ألن تنتظر ليلى ؟ سوف أذهب لأ……
قاطعها في حزم :
– كلا ، سأذهب بمفردي
ما كاد يصل لباب المنزل حتى لمحها تهبط الدرج وفي يدها حقيبة سفر صغيرة ، نظر إليها في مزيج عجيب من السعادة والحزن معًا ، تهلل وجه والدتهوهتف والده مازحًا :
ـ عد لنا بالحفيد الذي وعدتني أن أراه بعد تسعة أشهر
تخضبت ليلى خجلاابينما غمغم ممدوح وهو يتأملها :
– إنه شهر عمل يا أبي وليس شهر عسل
قال والده في مكر :
– ظننت أن النساء هن عملك المفضل
ضحك ممدوح في حين ازدادت ليلى خجلًا واتجهت بخطوات واسعة لمغادرة المنزل ، عندما هتف حموها قائلًا :
– انتظري يا ليلى
اتجه إلى مكتبه ثم عاد بعد قليل ليضع في يدها مبلغًا كبيرًا من المال قائلًا :
ـ اشترِ ما شئتِ ، أريدك أن تستمتعي بوقتك بقدرِ طاقتك
حاولت ليلى الرفض متعللة بأن لديها من المال الكثير ، لكن الرجل كان أكثر عنادًا من ولده
*****