رواية وحدك حبيبتي

محتويات المقالة

 

8 ـ لا …تيقظ ممدوح من نومه وتلفت حوله في ضيق ، أين ليلى ؟ ولماذا لم توقظه كعادتها مؤخرًا ؟ تذكر شجارهما العنيف ليلة أمس ، نهض ليبحث عنها لكنها لم تكن بالغرفة ، اغتسل وبدل ملابسه لكنها لم تظهر أيضًا، هتف ينادي سعدية ، وما ا ماذا تفعل هناك ؟

ـ تساعده في إعداد حقيبته لأنه سيسافر غدًا

تنهد بضيق قائلًا :

– سيدتك ليلى أيتها الغبية

ـ سيدتي ليلى في المطبخ

صاح في دهشة واستنكار :

– المطبخ ؟!  ماذا تفعل في المطبخ ؟

ـ لقد أصرت على أن تشرف بنفسها على إعداد الطعام

هتف ساخرًا :

– هكذا ، اخبريها إذًا أن تعد لي كوبًا من الشاي

عادت سعدية بعد قليل تحمل كوبًا من الشاي قدمته إلى ممدوح قائلة :

ـ لقد صنعته سيدتي بنفسها وطلبت مني أن آتى به إليك

نظر إليها بضيق :

– اشربيه إذًا يا سعدية ، أو أعطه لسيدتك لتشربه

 

******

 

نفث ممدوح دخان سيجارته في بطء وهو يفكر في تلك العنيدة ، التي لم ير وجهها لأربعة أيام متتالية ، كانت تحرص على النوم قبل أن يعود ، وتستيقظ وهو نائم ، منعه كبرياؤه من أن يوقظها مرارًا ، حتى عندما داهمته الشكوك في لحظة مجنونة بأنها ربما ليست هي تلك المختبئة تحت الأغطية ، لابد أن يتركها حتى تتعلم كيف تخضع له ، لقد دللها كثيرًا  ، كثيرًا جدًا ، أكثر مما ينبغى . من تظن نفسها ؟ ما الذي تريده أكثر من هذا ..؟ هل صدقت بالفعل ذلك التحدي الأحمق ؟

سأله كمال فجأة :

– كيف حال عروسك الجميلة ؟

قبل أن يستوعب ممدوح سؤاله ، كانت نجوى تحدق في كمال قائلة :

– جميلة .. هل رأيتها ؟

أجابها كمال في بلاهة :

– كلا ، لكن ممدوح يصفها بأنها فينوس

انتقل بصرها إلى ممدوح الذي زفر بضيق وهو ينظر إلى كمال ساخطًا :

– دعك من هذاالأبله

لكنها مالت عليه في دلال :

– ممدوح ، هل هي أجمل مني ؟

أحاطها بذراعه :

– ألم تلحظي بعد أنني أمضي الوقت كله معك أنتِ ؟

 

تنهدت نجوى ووضعت رأسها فوق صدره صامتة ، عاودتها تلك الرغبة الملحة فيرؤية غريمتها ، ترى أهي جميلة بالفعل ؟ أم أن هذا الأبله يبالغ كما يقول ممدوح وإن كان لم ينكر قوله بعد ؟ هل بالفعل قال عنها ممدوح أنها فينوس ؟ حتى وإن كانت جميلة ، فما أكثر الجميلات في حياته …!!  لكنه في النهاية يتركهن جميعًا من أجلها

قطع أفكارها أشرف الذى ابتسم هامسًا :

ـ نجوى ، أين ذهبتِ ؟

تنهدت قائلة :

– ما زلت هنا … في هذه القرية البغيضة

زفر عادل بصبر نافد :

– بدلنا ملابسنا منذ أكثر من ساعة ، ماذا ننتظر للذهاب ؟

أجابه ممدوح بهدوء :

– كان الطقس سيئًا

ـ وها هو الآن أصبح جيدًا ، فما الذي يمنعنا ؟

ـ انتظر حتى ينتهي حمدان من تنظيف السيارات

هز كمال رأسه في أسى:

– كنت أتمنى أن نلحق بالغروب بين الحقول . لقد كنت واهمًا حين تخيلت أنني سأكتب كل يوم قصيدة في أحضان هذا الريف الرائع

التفت إليه عادل وقال ساخطًا :

– فكرتك الغبية هي التي حشرتنا في هذه الملابس لمدة ساعة كاملة

صاح به كمال :

– وما أدراك أنت بجمال الطبيعة ، يكفيك جمال النساء

ضحكت سميرة قائلة :

– بخصوص الجمال ، تعالي يا نجوى نصلح زينتنا التي أفسدها الانتظار

علق كمال :

– لست أدري ما جدوى كل هذه المساحيق ؟

صاحت به سميرة :

– ليس هذا من شأنك ، فدعه لمن يفهم فيه ، اهتم أنت بجمال الطبيعة

ابتسم قائلًا :

– لماذا يسمح الرجل للمرأة بوضع هذا الكم من المساحيق لتتجمل ، ثم يعود فيتشاجر عندما يبدي رجل آخر إعجابه بها

ضحكت نجوى قائلة :

– لأن الرجل يحب دائمًا أن يمتلك ما لا يمتلكه الآخرون ،  فيحسدونه عليه أيها الرومانسي

ثم نظرت إلى ممدوح في دلال وأردفت :

– أليس كذلك يا حبيبي ؟

ابتسم ممدوح وقبلها قائلًا :

– بلى يا جميلتي ، المهم هو أن يجيد الدفاع عنها إذا لزم الأمر

نظر كمال إلى نجوى قائلًا في خبث :

– أنا شخصيًا أخاف الحسد ، فكلما حسدني الآخرون على شيء فقدته

استدارت إليه وقالت ساخطة :

– لا أظن أن لديك ما يحسدك عليه الآخرون

ابتسم ممدوح قائلًا :

– ربما عقله ..!

قبل أن يعلق كمال بشيء أقبل حمدان قائلًا :

-السيارات جاهزة يا سيدي

 

*****

 

النسيم العليل في الخارج لفح وجوههم ، وحمل شعر النساء بعيدًا فأسرعت سميرة إلى السيارة لتحتمي بها وتبعتها نجوى خوفًا على تسريحتها الأنيقة من أيدي النسيم الشرسة . رفع كمال رأسه إلى السماء قائلًا في أسف :

ـ ها قد بدأت الشمس في الرحيل ، يا له من منظ……

قطع عبارته فجأة وغمغم مشدوهًا :

– يا إلهي …. ما هذا ؟

التفت إليه الجميعبفضول فعاد يهمس مسحورًا :

– انظروا إلى هذه الحورية التي سقطت مع المطر

كانت ليلى تقف في شرفة حجرتها ترتدي ثوبًا أبيض فضفاضًا وقد رفعت عنقها العاجي إلى السماء تتأمل غروب الشمس وكأنها تتعبد فيها ، انعكس شعاع الشمس الراحل على وجهها وكأنه يقبلها قبلة الوداع قبل أن يعكسه وجهها المضيءمن جديد فيعود للشمس سعيدًامرضيًا .. شعرها المنسدل الذي حمله النسيم وراح يداعبه بعنف .. بدا كشلال من ليل طويل أرسله ليمهد قدومه

غمغم عادل مبهورًا :

-إنها المرة الأولى في حياتى التي أرى فيها هذا الغزل العجيب بين الشمس والقمر

بادله كمال لهجته الحالمة :

– لست أدري أيهما أجمل شمس الغروب أم هذه الشمس التي أشرقت في شرفتك يا ممدوح؟!

التفت أشرف إلى ممدوح وكأنه تذكره وهتف في نبرة ما زالت الصدمة تشوبها :

ـ من هذه يا ممدوح ؟ لا تقل لي أنها…..

تنهد ممدوح :

-هيا بنا

حدق فيه أشرف لحظات قبل أن يقول وكأنه لم يسمعه :

– من لي بلوح وفرشاة ، فأنا لن أرحل من هنا قبل أن أسجل هذه المناجاة الصامتة بين القمر والشمس

همس عادل الذي لم يرفع عينيه عنها :

– يبدو أنها تحملها رسالة إلى السماء التي سقطت منها

وغمغم كمال كمن وجد كنزًا أضناه البحث عنه كثيرًا :

– الآن فقط يمكنني أن أكتب القصيدة التيلطالما حلمت بها ، بل يمكنني أن أكتب ديوانًاكاملًا

صرخ فيهم ممدوح ثائرًا :

– ما هذا الهراء ؟ هل فقدتم عقولكم ؟

وكأن صراخه أيقظها من شرودها ، فحدقت في وجوههم لحظة ما لبثت بعدها أن اختفت . زفر ممدوح في ضيق بينما خفضوا رؤوسهم في بطء وعادوا للتحديق فيه دفعة واحدة فقال فينبرة تجمع بين الغضب واللامبالاة :

– هل يمكننا الذهاب الآن ؟

أمسك أشرف بذراعه :

– ليس قبل أن تخبرنا كيف تحررت من سحر هذه الأسطورة في أسبوع واحد ؟

ابتسم ممدوح ساخرًا :

– لا تنس أننى الزعيم

ثم غمغم بصوت يقطر مرارة :

– لديها من العناد ما يحرر الأموات وليس المسحورين فقط

وصل ممدوح إلى السيارة في نفس اللحظة التي نزلت فيها نجوى منها وما إن رأته حتى هتفت مستنكرة :

ـ ماذا حدث ، لماذا تأخرتم كل هذا الوقت ؟

أجابها كمال وهو  يفتح باب السيارة استعدادًا للركوب معهم :

– أيتها المسكينة لقد فاتك نصف عمرك

حدقت فيه فأكمل غير مبالي بنظرات ممدوح المصوبة نحوه :

– آه ٍ … لو رأيت الشمس المشرقة

ابتسمت في دهشة قائلة :

– الشمس المشرقة ، الآن ..؟!

دفعه ممدوح إلى السيارة الأخرى قائلًا :

– يمكنك الذهاب مع أشرف ، أريد أن أكون بمفردي مع نجوى

شعرت نجوى بسعادة أعمتها عن السبب الذي دفعه للقيام بهذا التصرف ، بل وتجاهلت شروده الدائم طيلة السهرة مكتفية بكلماته المعسولة التي يمن بها عليها من حين لآخر .

 

*****

 

كانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة صباحًا ، حين وصل إلى مسامع ليلى صوت محرك سيارته ، فأسرعت تطفئ أنوار الغرفة ، وتتلصص النظر من خلف شيش النافذة ، أغمضت عينيها في ألم حين ضم نجوى إلى صدره وطبع على شفتيها قبلة طويلة ، وبالرغم من يقينها بأن هذه القبلة ربما تكون أقل ما يحدث بينهما إلا أنها لم تستطع التحمل ، انهمرت دموعها وثارت انفعالاتها في شكل بات معه من المستحيل أن تتصنع النوم فأسرعت تغادر الغرفة قبل أن يصل إليها ، لم تجد سوى المطبخ لتلجأ إليه ، راحت تنتحب في صمت بينما أعماقها تصرخ في ثورة

شهقت بفزع عندما مس كتفيها فجأة قائلًا فى تهكم :

ـ لن يمضي وقت طويل حتى تنعمين برائحة البصل

هتفت في عنف :

– ما الذي أتى بك إلى هنا ؟

احتضن وجههاهامسًا :

– الشوق يا ليلى

– ابتعد عني حتى لا أصرخ فيستيقظ كل من في البيت

جذبها من ذراعها واتجه بها إلى غرفتهما :

– اصرخي كما شئت ، لكن ليس هنا ، فأنا لا أحب أن يستيقظ الجميع ليرونني في المطبخ

ما إن أغلق الباب خلفه حتى صرخت بعصبية :

– لن أمكث معك في حجرة واحدة بعد الآن

قال وهو يلقي بسترته جانبًا  :

– تتحدثين دائمًا وكأن الخيار لكِ..!

صاحت غاضبة :

– ماذا تريد مني ؟ لا ظني أن تلك الساقطة تبخل عليك بشيء

ضحك قائلًا :

– كنت أعلم أنك ترقبيننا

أبعدت وجهها الذي تخضب احمرارًا بينما أردف مبتسمًا :

– ما زلتِ صغيرة جدًا في عالم أنا الزعيم فيه يا ليلى ، كان يجب أن تطفئي النور قبل ذلك بوقت كاف

طغى استنكارها على خجلها قائلة :

– لم أقابل في حياتي رجل مثلك

ضمها ونظر في عينيها قائلًا  :

– بل قولي أنكِ لم تقابلي رجالًا من قبل

حاولت التخلص منه صارخة :

– إن كنت تقصد الآدميين ، فقد قابلت الكثيرين منهم ، أما إذا كنت تقصد الوحوش أمثالك فلم أفطن إلى وجودهم إلا عندما قابلتك أيها المتوحش

عاد يهمس :

– من لا يشعرك بأنوثتك الطاغية ، لا يستحق أن يكون رجلًا

لكمته وهي تحاول أن تدفعه عنها قائلة :

-أمثالك هم من لا يستحقوا أن يكونوا من البشر

ارتعدت حين ضمها إليه بقوة وقبل شفتيهابنهم لم تستطع حياله أن تفعل شيئًا ، وما إن لانت قبضته حولها حتى غمغمت بصوت متحشرج :

ـ لست أدري كيف تنقل شفتيك من امرأة لأخرى بهذه السهولة ؟

ـ لقبلاتك مذاق آخر

ـ  وكأنك تستطيع التذوق أيها الغريزي

ـ لسانك أكثر قسوة من جمالك

ـ تخلص منه إذًا وأبتعد عني

ـ ربما كان قطعه حل أيسر

ـ كيف تدعي الرجولة وأنت تجبرني دائمًا على فعل مالا أريد..!

ـ كفي عن ادعائك بأنك لا تريدينني

ـ أنا لا أطيقك إن كنت تجهل ذلك

ـ دائمًا تقولين هذا ، وأجد لجسدك رأي آخر .. وأكتشف أن شوقك لي يفوق شوقي إليكِ أضعافًا

ـ حسنًا ، ما دمت تتوهم هذا ، اتركنى أعانيمن شوقي إليك ، ابتعد عني

ـ سأمنحك نصرًا آخر أيتها المغامرة الصغيرة ، وأعترف بأنني لا أستطيع

 

وعادت في الصباح لتختفي من جديد قبل أن يستيقظ من نومه ، وأدرك هذا فتمتم في حنق :

ـ حسنًا يا ليلى ، سنرى إلى أين يحملك رأسك العنيد هذا ؟!

 

*****

 

أطلقت نجوى زفرة ارتياح طويلة وهي تهتف في سعادة :

– أخيرًا ، سنرحل غدًا إلى الإسكندرية

حاول ممدوح أن يخفي ضيقه قائلًا :

– أين تريدون الذهاب اليوم ؟

أجابت نجوى بسرعة :

– أنا لا أريد الخروج اليوم

نظر إليها في تساؤل فأردفت :

– أريد أن أركب الخيل ، نحن لم نقم بذلك منذ وقت طويل

بادلها أشرف رغبتها قائلًا :

– فكرة جيدة ، ما دمنا سنسافر غدًا ، لا داعي لمغادرة المنزل اليوم

تنهد ممدوح وهو ينهض قائلًا :

– حسنًا ، سأذهب لأبدل ملابسي ، بدلوا ملابسكم ريثما أعود

 

صعد الدرج مسرعًا ورغبة ملحة تغمره وتملأه شوقًا لرؤية هذه العنيدة التي كادت أن تفقده صوابه ، دلف إلى حجرته في لهفة حاول إخفاءها ، وتبدلت بخيبة أمل قوية عندما تبين له عدم وجودها بالحجرة ، ازدادت رغبته في رؤيتها إلحاحًا ، ترى هل تعلم أنه سيرحل غدًا ، هل تشعر بما يشعر به من ضيق أقرب إلى الحزن .. أم أن فراقه يسعدها كما تدعي..؟ هذه الحمقاء تستحق القتل ، كيف وهو الزعيم الذي لا يقهر كما يقولون عنه ..؟   كيف سمح لبلهاء مثلها أن تفعل به كل هذا ؟ كيف وصل الأمر إلى هذا الحد في غفلة منه..؟  أين صلابته التيلطالما تغزلوا فيها ؟

هز رأسه مستنكرًا .. كيف يداهمه كل هذا الشوق لرؤية المرأة الوحيدة التي يمتلكها شرعًا ، أخرج الملابس التي يريدها وألقى بها فوق الفراش متذمرًا، لم يستطع مقاومة هذه الرغبة التي عادت تلح عليه مجددًا ، سيطلب من سعدية أن تأمرها بالحضور إليه وإن لم تطعه سيقتلها ، فهي ملك له شاءت أم أبت ، عليها أن تدرك ذلك جيدًا .

اتجه إلى الباب لينفذ ما اعتزم عليه ، لكنه ما كاد يضع يده على مقبضه حتى عاد أدراجه من جديد . لن يتنازل ويذهب إليها أبدًا ، على الأقل ليس بهذا الشكل المهين ، عندما ينتهون من ركوب الخيل  سيكون الوقت ما زال مبكرًا ، سيتعلل بأنه يريد النوم حتى يستطيع القيادة في اليوم التالي ، ربما لن يصدقوه ، وربما يسخرون منه بطريقتهم المعتادة ، وربما تثور نجوى وتعترض ، لكن كل هذا لا يهم ، المهم هو أن يراها ، إن تصنعت النوم سوف يوقظها ، فليدع اليوم كبرياءه جانبًا ، ليوم واحد فقط ، فشوقه إليها لم يشعر بمثله من قبل ، فهو يشتاق حتى إلى لسانها السليط ، هي أيضًا تشتاق إليه فهو على يقين من هذا ، لكن عنادها هو ما يحجبها عنه ، زفر بقوة وهو يلقي بالقميص الذي يرتديه جانبًا حين بلغ مسامعه هذا الصوت فامتلأ حنينًا أخفاه سريعًا وهي تحدق في وجهه ، يبدو أن وجوده في الحجرة كان مفاجأة لها كما له ، أشاحت بوجهها عنه حتى لا يرى حنينها الذي لا تجيد إخفائه كما يفعل

قال بعد فترة من الصمت :

– هل انتهيتِ من أعمالك في المطبخ ؟

ظلت صامتة فاقترب منها في بطء ووضع يديه على كتفيها قائلًا :

– لماذا تفضلين دور الخادمة يا ليلى ؟

أجابته دون أن تستدير إليه :

– دور الخادمة أفضل من أدوار كثيرة لا أحب القيام بها

ارتعدت حين قبل كتفها العاريهامسًا :

– سأرحل غدًا

ـ أعلم

ـ ألن تقولي شيئًا ؟

ـ وداعًا

ـ وداعًا …! تتحدثين وكأنك لا تريدين رؤيتي مرة أخرى

ـ إن كانت رؤيتك تسبب لي كل هذا الألم .. أفضل أن لا أراك أبدًا

ـ و ماذا ستفعلين بعد ذهابي ؟

ـ ما كنت أفعله قبل أن أراك

ـ ما الذي كنتِ تفعلينه قبل أن تريني  ؟

ـ سأذهب إلى عملي ، فهو عشقي الوحيد

ـ حتى الآن ؟!

ـ ماذا تعني ؟

ـ إن كان عملك هو عشقك الوحيد كما تقولين فأنا لن أسمح لكِ بالعمل

استدارت إليه في حدة سقطت معها المنشفة من فوق شعرها المبلل لكنها لم تبالِ فقد كان خوفها على عملها أكبر من أي شعور آخر .. صاحت به كنمرة شرسة تعرض وليدها للخطر :

ـ العمل كان من أهم شروطي لقبولي الزواج منك

قال فى تهكم واستنكار :

– شروطك ..!

أجابته في عصبية :

– نعم شروطي أيها المتعجرف ، سل والديك إن كنت لا تصدقني

ضرب كفًا بأخرى وهو يهتف :

– أي زمن هذا ؟ أنتِ تضعين شروطًا لقبولك الزواج مني؟!

جذبها إليه بعنف وأردف متعجرفًا :

– امرأة غيرك ، كان يجب أن تشكر الله نهارًا وليلًا على ما أخذته مني حتى الآن

أزاحته وهتفت ساخرة :

– أخذته منك !

ـ ألا يكفيك كونك زوجتي ؟

نظرت إليه وصمتت مستنكرة.. فابتسم وهو يغوص في عينيها :

ـ ولا كونك أقربهن إلى قلبي ؟

صاحت فيه غاضبة :

– هل ستكف عن غرورك إذا أخبرتك أن الشيء الوحيد الذي فعلته وندمت عليه كل الندم هو زواجي منك..؟

قبلها في لهفة هامسًا :

– كفى دلالًا يا ليلى

عجزت في التخلص من ذراعيه فراحت تلكمه بغضب قائلة :

– دلالًا … لماذا لا تصدق أنني لا أطيقك ؟

قال في ثقة زادتها غضبًا :

– لأنك كاذبة يا ساحرتي

حاول تقبيلها من جديد لكنها أشاحت بوجهها بعيدًا وهي تصرخ :

– كلا ، لقد أقسمت بأن لا أدعك تلمسني مرة أخرى

– أقسمتِ..! ما أكثر ذنوبك ..!

– ذنبي الوحيد هو زواجي من متوحش مثلك

تأملها في شغف قائلًا :

– وجمالك هذا .. ألا تعتبرينه ذنبًا؟! بل هو أعظم ذنوبك ، جمالك هو الذنب الذي لن أغفره لك أبدًا

حدقت في عينيه بعينين تتراقص النار فيهما ، قذفه لهيبهما وزاده اشتعالًا فراح يهتف فى نبرة أكثر ولعًا :

ـ وكيف أغفره وقد أغراك بإغواء رجل مثلي ، لقد عبرت منطقة محرمة يا جميلتي ، وعليكِ أنتِ وحدك تحمل ما تفعلينه بي

في جنون راح يبثها بعضًا من ناره المشتعلة حتى انهمرت دموعها وهي تلكمه بعنفلتبعده عنها بلا جدوى، هتفت يائسة عندماشعرت وكأنها غزال يصارع أسدًا جائعًا:

 ـ اقتلني إذًا وخذ ما تريده من جثتي أيها الغريزي المتوحش

ابتسم فى شراسة وهي يزيدها قربًا :

– أخشى أن أفعل هذا يومًا

خمدت مقاومتها وانهارت قواها فاتسعت ابتسامته هامسًا :

– هل أيقنت أخيرًا أن العنف لن يجدي معي ؟

استجمع جنونها ما تبقى لها من قوة فبصقت فوق وجهه وهي تصرخ بأنفاس لاهثة :

ـ ربما أقنعك هذا بأنني لا أتدلل أيها المنحل

تحولت رغبته المجنونة فيها إلى رغبة أكثر جنونًا في الانتقام لكبريائه ، انهال عليها صفعًا ولكمًا حتى كادت أن تلفظ أنفاسها الأخيرة صارخًا فيها :

ـ أيتها البلهاء الغبية ، من تظنين نفسك ؟  إلى أي مدى تتوقعين أن أحتملك ؟ اعلمي أنك لستِأكثر من امرأة من مئات يزحفن خلفي ، وستبقين هكذا للأبد ، سأبقى أنا رجلك الوحيد ، وسترضخين لهذا شئتِ أم أبيتِ

 

ذهب ليغسل وجهه وعاد وهو يجففه بعنف كاد يسلخ معه جلده وكأن بصاقها قد عبر تحته ..!  ألقى بالمنشفة أرضًا ، اقترب منها وما زال الغضب يكسو وجهه ، كانت ترتعد كالمحمومة عاجزة عن الصراخ .. نظر إلىوجهها الذي اختفت ملامحه تحت سيل من الدماء ، راودته رغبة في إسعافها ، لكنه بدل من ذلك انحنى ليجذب شعرها في مزيد من العنف وضغط على أسنانه قائلًا :

ـ سأروضك يا ليلى مهما كلفني الأمر ، سأجبرك على طاعتي ولو اضطررت إلى تكسير رأسك العنيد هذا .

 

تأوهت فيضعف عندما تركها بجفاء وأسرع ليبدل ملابسه ويغادر الغرفة دون أن يلتفت إليها ، داهمها شعور مريع بأنها ستفارق الحياة قبل أن يأتي أحد لنجدتها ، لن تكتمل رسالتها أبدًا مع هذا المتوحش ، فلتذهب الدكتوراة للجحيم ، لقد تسرعت في هذه الزيجة .. أخطأت .. أجرمت .. لكن هذا العقاب فاق كل ذنوبها ، كثيرًا ما سمعت وقرأت عن النهايات المأساوية لمعظم الجميلات على مدى التاريخ ، فهل كن بقدر حماقتها ؟  هل فعلن ما فعلته من تهور وطيش ؟ أهذه نهايتها هي أيضًا؟ ماذا ستكتب جرائد الغد عنها ؟ هل سيثأر لها القضاء ويحكم بإعدامه على ما فعله بها ..لربما ينجو بفعلته مستغلًا ما له من نفوذ ؟ وماذا سيفعل فؤاد ..؟  هل سيتركه طليقًا ..؟  لعله سيقتله ويشرد أسرته ؟  وماذا عن أساتذتها وزملائها وطلابها ؟ هل سيترحمون عليها ويقدرون ما قامت بها في لحظة مجنونة ظنت فيها أنها تضحي من أجل العلم ؟

لا تدري كم دهرًا مضى قبل أن تدخل سعدية إلى الغرفة ، وما إن رأتها الفتاة حتى صرخت في فزع ، واندفعت تهلل في صدمة وهي تنظر إلى ليلى التي سكنت عن الحركة ..

همت بمغادرة الغرفة قائلة :

– سأستدعي أحدًا لنجدتك وأعود حالًا

حركت ليلى أهدابها فيتوسل ، وارتجفت شفتاها فاقتربت الفتاة منها حتى كادت تلتصق بوجهها لتستمعبصعوبة إلى صوتها الواهن :

-لا أريد أن يعرف أحد ما أنا فيه ، أرجوكِ يا سعدية

ربتت الفتاة على كفها في إشفاق قائلة :

– اطمئني يا سيدتي .. لن أخبر أحدًا

لم يمض وقت طويل حتى عادت الفتاة بصحبة حماتها وانهمكتا في محاولة مستميتة لتضميد جراحها بعد أن أصرت على عدم استدعاء الطبيب خوفًا من انتشار الخبر ، تمكنتا أخيرًا من وضعها في الفراش بحالة مستقرة ، مسحت حماتها شعرها بحنان هامسة :

– هل تشعرين بتحسن الآن ؟

عادت دموعها تنهمر رغمًا عنها ، قبلت المرأة جبهتها قائلة :

– لا تغضبي يا ابنتي.. حقك عندي

أغمضت ليلى عينيها صامتة ، فتنهدت المرأة فى مرارة وأردفت :

-ممدوح سقطمن فوق ظهر الحصان

– حمداً لله كوني وجدت من يدافع عني ؟

– هل أنت شامتة فيه يا ليلى ؟

-كاد أن يقتلني ولم يحاول حتى إسعافي

– يقول رفاقه أنه كان شاردًا  كل الوقت وهذا ما جعله يسقط من فوق ظهر الحصان الذي اعتاد أن يركبه منذ نعومة أظافره

تنهدت ليلى فى ألم بينما تابعت المرأة لتخفف عنها :

-أنا على يقين من أنه كان مشغولًا بكِ..لو لم يكن مهتمًا لأمرك ما كان طلب من سعدية أن تترك العجين وتذهب إليك على عجل .

قالت سعدية مؤيدة :

-أقسم بالله يا سيدتي .. بأنني لم أرى سيدي ممدوح مهتمًا وقلقًابهذا الشكل من قبل .. كان يدفعني دفعًا إليكِ .. لم يكن باستطاعته أن ينتظر حتى أغسل يدي من العجين ..!

قالت والدته :

-صدقيني يا ليلى .. ممدوح مهتم بكِ .. بدأ يحبك بالفعل .. أنا أدرىبولدي .. لكنه هكذا دائمًا لا يحب الاعتراف بضعفه أبدًا

 

*****

 

دلف الطبيب إلى الغرفة التي يرقد فيها ممدوح ومن حوله رفاقه في قلق ، تحول انتباههم إلى الطبيب بالرغم منهم بعد ما أظهره من تصرفات مريبة وهو يتلفت حوله وكأنه طفل تائه يبحث عن  والديه في أرجاء منزلهمبل وفي ملامحهم أيضًا، حدق في وجوههم جميعًا حتى استقرت عيناه أخيرًا على وجه ممدوح الذي نظر إلى أشرف في مزيج من القلق والألم هامسًا :

– من أين أتيتم بهذا الطبيب ؟

نظر أشرف إلى الطبيب في دهشة قائلًا :

– لست أدري ، كمال هو الذي …….

قاطعه ممدوح في قلق أعنف :

– كمال … !! ألم تجد سوى كمال ليأتي لي بالطبيب ؟  لقد أتى بطبيب أكثر منه جنونًا

اقترب الطبيب من ممدوح قائلًا :

ـ مبروك

ابتسم أشرف مرغمًا بينما تفرس ممدوح في وجهه مليًا قبل أن يغمغم في تهكم :

ـ هل تقدمون التهنئة في المصائب أيضًا ؟

ارتبك الطبيب الشاب وهو يضبط نظارته الطبية :

-علمت أنك تزوجت حديثًا لهذا ….

قاطعه ممدوح ساخطًا :

– لهذا بدأت البركات تتوالى عليَّ

ابتسم الطبيب قبل أن يصاب بحالة لم يستطع ممدوح أن يفسرها فعاد ينظر إلى أشرف هامسًا :

ـ أخشى أن أمضي بقية عمري بعاهة مستديمة ، هذا الأحمق يثير قلقي بالفعل

ـ العجيب أن كمال يقول أنه أكثر الأطباء مهارة في القرية كلها

غمغم ممدوح وهو يكاد يقفز من فراشه عندما بدأ الطبيب يفتح حقيبته :

– اللعنة عليك يا كمال ، وعلى اللحظة السوداء التي قررنا فيها ضمك إلى رفقتنا

استسلم مرغمًاعندما اقترب منه الطبيب لفحص إصابته حتى انتهى أخيرًا في مهارة أدهشتهم من لف ساق ممدوح بالجبس قائلًا :

– إصابتك ليست خطيرة ، لكن يجب أن تبقى في الجبس لمدة شهر ولا تتحرك إلا للضرورة

هتف ممدوح مستنكرًا :

– شهر..! كيف سأحتمل هذا ؟

ابتسم الطبيب وهو يجيبه في هدوء :

-أحمد الله لأن إصابتك أسفل الركبة وإلا كا….

قطع حديثه فجأة وهو يستدير إلى الباب في حدة أثارت ريبتهم من جديد عندما دلفت والدة ممدوح إلى الحجرة قائلة :

ـ مرحبًا دكتور مسعود ، كيف حال ممدوح الآن ؟

ـ اطمئنى ، سيكون بخير ، أنا مضطر للذهاب الآن لكنني سأمر غدًا لرؤيته

غادر الغرفة فأشارعادل إلى أشرف :

– رافقه إلى الباب لئلا يخرج من النافذة ويتسبب لنا في كارثة

ربتت المرأة على جبهة وحيدها في حنان فقبل يدها قائلًا :

– اطمئنى .. أنا بخير

سألتها نجوى في مكر :

– أين العروس يا خالتي ، لماذا لم تأتِ لتطمئن على سلامته ؟

نظرت إليها المرأة في ضيق قائلة :

– العروس مشاعرها مرهفة جدًا ، لن تستطيع رؤيته في هذه الحالة ، ستأتي عندما يتعافى قليلًا

قالت نجوى في تهكم :

– إلى هذا الحد ؟! كنت أظن أن القرويات أكثر صلابة

حولت المرأة عينيها إلى ممدوح في عتاب لم يفهمه سواه ، فأشاح بوجهه وزفر بضيق قائلًا :

ـ هل سمحتم بإخلاء الغرفة ، أنا متعب وأحتاج إلى النوم

 

******

جلست ليلى فى حجرتها ساهمة عندما أقبلت حماتها نحوها وقالت مبتسمة :

ـ كيف حالك اليوم يا ليلى ؟

ـ بخير ، أشكرك

ترددت المرأة قائلة :

– ألم يحن الوقت لرؤية ممدوح بعد ؟

أحنت ليلى وجهها صامتة فأردفت المرأة في رجاء :

– اغفري له من أجلي يا ليلى ، حالته سيئة جدًا .. فهو لم يعتد الرقاد لهذه المدة الطويلة

قالت ليلى في هدوء لا يخلو من السخط :

– أنا أيضًا لم أعتد التغيب عن عملي، لقد أجبرني على أخذ إجازه لعدم قدرتي على الذهاب إليه بوجه مشوه  كهدية زواج حذرني منه الجميع

نظرت إليها المرأة وابتسمت قائلة :

-لكنك شفيت الآن وأصبحت أجمل من ذي قبل

ـ لكن نفسي ما زالت مريضة ، لن أنسى له ما فعله بي ما حييت

تنهدت المرأة في يأس قائلة :

– لن أضغط عليك كثيرًا يا ليلى ، أنت أكثر عنادًا منه .. جئت لأخبرك أن الطبيب سوف ينزع الجبس عن ساقه بعد غد .. وكم أتمنى أن تكوني بجواره بدلًا من تلك العقرب المدعوة نجوى

 

******

 

انتهى دكتور مسعود من جمع أدواته ووضعها في حقيبته ثم نظر إلى ممدوح قائلًا :

– حمدًا لله على سلامتك ، الآن تستطيع أن تفعل ما تريد ، ولكن عليك توخي الحذر

شكره ممدوح الذي اعترف بقدراته الطبية الرائعة ، وإن كان سلوكه الغريب ما زال يثير ريبته في كثير من الأحيان ، هم بمغادرة الغرفة حين دلفت إليها ليلى وقالت في عذوبة :

– صباح الخير

سقطت الحقيبة من يده ، وتبعثرت محتوياتها في الغرفة وهو يهمس باسمها في حنين لم تخطئه أذن ممدوح ، ابتسمت وانحنت معه تجمع محتويات الحقيبة التي تبعثرت أرضًا ، عيناه لم تفارق وجهها في شغف

هتف ممدوح غاضبًا :

– ليلى ..

رفعت وجهها إليه فتابع بضيق :

– أريد كوبًا من الماء

وبالرغم من أن الكوب كان ممتلئًا بجوار سريره فقد اقتربت منه وناولته له فغمرها بنظرة طويلة قبل أن يلتفت إلى دكتور مسعود ، الذى بدا له وكأنه يراه للمرة الأولى حين هتف مرتبكًا :

ـ سآتى غدًا للاطمئنان عليك يا ممدوح

أجابه ممدوح في لهجة باردة :

– لا داعي لأن تتعب نفسك أكثر من هذا ، لقد أصبحت بخير الآن

تجاهل مسعود عبارته قائلًا في سعادة :

– لا عليك ، دعنا نرد القليل من كرم والدك

هم ممدوح بالاعتراض لكن مسعود قال فجأة موجهًا حديثه إلى ليلى :

– هل لي بدقيقة من وقتك يا سيدتي ، أريد التحدث معكِ في بعض الأمور التي تتعلق بصحة زوجك

 

وقبل أن يستوعب أحد منهم ما يحدث كانت ليلى تغادر الغرفة بصحبته ، ساد جو من الوجوم المطبق قطعه عادل مستنكرًا :

– هل هي دائمًا هكذا تظهر فجأة و تختفي فجأة ؟

تطلعإليه ممدوح في غضبضاعفه أشرف عندما قال متهكمًا :

– كنت أظن أن هذا الطبيب أحمق ، لم يخطر بباليمطلقًا أن يكون ……..

لم يستطع أن يكمل عبارته عندما أغلق ممدوح عينيه في ألم ، بينما علقت سميرة وهي تنظر إلى نجوى التي بدت وكأنها غابت عن الوجود :

– يبدو أن هناك علاقة حميمة بين هذا الطبيب و ……..

صمتت قليلًا ثم أردفت تتصنع الجهل :

– ما اسمها ؟

أجابها كمال حالمًا :

– اسمها ليلى

صاحت نجوى في نبرة تملؤها الغيرة :

– ليلى ..!!  يا له من اسم قروي بشع

اعترض كمال :

– بل هو اسم مأخوذ من الأساطير وقصص الحب الخالدة ، اسم غاية في الرومانسية ، ألم تسمعي عن قيس و ليـ……..

قطع عبارته وهو يحدق في ليلى التي عادت إلى الغرفةوأخذت تراقبه وهو يتحدث عنها وعلى شفتيها ابتسامة رائعة ، نهض واقفًاببطء دون أن يرفع عينيه عن وجهها وهو يغمغم في بلاهة :

– أنا كمال

تحولت ابتسامتها إلى ضحكة رنانة رقصت على أنغامها قلوبهم بينما صاح ممدوح غاضبًا :

– أين كنتِ ؟

ابتسمت بمكر :

– ألم يكن كل شيء أمام ناظريك ؟

نظر إليها محذرًا فتابعت في لامبالاة :

– كان مسعود ، أقصد دكتور مسعود .. يحدثني عن بعض الاحتياطات التي يجب مراعاتها من أجل سلامتك يا حبيبي

ضغط على أسنانه قائلًا :

– إلى أين ذهبتما ؟

أجابته فياستفزاز :

– حتى الحديقة فقط

– الحديقة ..!  تتحدثان عن صحتي في الحديقة ..!

علقت نجوى في تهكم :

– يبدو أن حالتك عويصة جدًا

استدارت ليلى وتطلعت إليها بشيء من اللامبالاة  بينما عقلها يحفظ ملامحها عن ظهر قلب ، بادلتها نجوى نظراتها في عداء عجزت عن إخفائه .. تجاهلتها وهمت بمغادرة الغرفة عندما هتف فيها ممدوح محذرًا :

– ليلى ، عندما يأتي هذا الطبيب غدًا ، لا أريدك أن تغادري غرفتك حتى ينصرف ، هل هذا واضح أم أكرره ثانية ؟

ابتسمت بهدوء مصطنع قائلة :

ـ أمرك حبيبي ، المهم هو أن لا تثور هكذا ، لقد كانت هذه هي أولى نصائح مسعود

تركته يحترق غيظًا واتجهت للباب حين وقف عادل فجأة وأمسك بذراعها قائلًا :

ـ كلا ،  لن تذهبي

حدقت في وجهه بدهشة فأردف كمن استيقظ من غيبوبة :

– أنتِ لم تجلسي معنا بعد

ابتسمت في دلال قائلة :

– غدًا يا ….

أسرع يقول :

– عادل ، اسمى عادل

اتسعت ابتسامتها قائلة :

– غدًا يا عادل ربما تتاح لنا الفرصة

ما إن ذهبت حتى صاح بهم ممدوح في ضيق :

ـ عندما ترونها غدًا ، أرجو أن تحتفظوا بعقولكم أيها الحمقى

تنقلتعيناه بينهم وهو يضيف ساخطًا :

– فهى ليست في حاجة إلى المزيد من التدليل

ابتسم أشرف وهو يتأمله ثم ما لبثت ابتسامته أن تحولت إلى ضحكة كبيرة ، شاركه فيها الجميع عدا نجوى ، راحوا ينظرون إليه في شماتة ، كان واضحًا أنها كادت تفقده عقله

*****

 

لم يرفع ممدوح عينيه عن وجه الدكتور مسعود الذياستمر يجري على ساقه فحوصات لا حصر لها في محاولة يائسة لرؤية ليلى من جديد .. أخيرًا قرر أن يذهب فنظر إلى ممدوح قائلًا :

– غدًا سأجري الفحص الأخـ …..

قاطعه ممدوح فيغيظ :

– غدًا لن أكون بالمنزل

سأله في لهفة أقرب إلى البلاهة :

– أين ستذهب ؟

حدق فيه ممدوح صامتًا مما أصابه ببعض الحرج فغمغم :

-لا بأس .. فقط حاول أن لا تجهد نفسك أكثر من اللازم

ما إن غادر الغرفة حتى تنهد ممدوح بصبر نافد :

– هذا الأبله لا يطاق

ابتسم أشرف بمكر :

-أعذره يا ممدوح ، يبدو متيم حد الجنون

حدجه ممدوح بنظرة غاضبة قبل أن ينادي سعديةويسألها عن ليلى فأجابته قائلة :

ـ لا أدري يا سيدي ربما في الحديقة

ضاقت عيناه قائلًا :

– ماذا ؟

نهض من فراشه فجأة وهو يصرخ باسمها كالمجنون ، حاول أشرف أن يهدئ من روعه لكنه هتف ثائرًا :

ـ سأقتلها هذه المرة يا أشرف

تحرك بلا وعيغيرمبال بتحذيرات الطبيب ، اصطدمت ساقه المصابة في ذروة انفعاله بباب الغرفة فاتجه إلى أحد الكراسيمتألمًا بينما التفوا حوله بقلق ،  وجدها تهبط الدرج مسرعة وتتجه إليه في لهفة قائلة :

ـ ممدوح ماذا حدث ؟

– أين كنتِ ؟

ـ كنت نائمة ، ما الذي يزعجك إلى هذا الحد ؟

تنبه فجأة إلى قميصها العاري ، وإلى العيون التي تجمعت فوق جسدها وانقسمت ما بين حالمة وحاسدة فنهرها :

– اذهبي وبدلي ملابسك

تلفتت حولها وتخضب وجهها خجلًافأسرعت تغادر إلى حجرتها ، عادت بعد قليل مرتدية ثوبًا أحمر اللون ينسجم مع عينيها الناريتين ، تبارى كل من كمال وعادل للترحيب بها غير مبالين بتحذيرات ممدوح لهما ، لكنها نظرت إلى المقعد المجاور لـ ممدوح وتصنعت الأدب قائلة :

– هل يمكنني الجلوس بجوار زوجي ؟

حدقت نجوى في وجهها بشراسة لكنها لم تجد مفرًا من ترك مقعدها لها ، التفتت إلى ممدوح الذي كان يراقبها صامتًا وابتسمت قائلة :

– كيف حالك اليوم يا حبيبي ؟

أجابها في اقتضاب :

– بخير

ثم عاد ليقترب منها هامسًا :

– لم أكن أعلم أن التمثيل أيضًا أحد مواهبك التي لا تنتهي

ابتسمت وهي تزداد اقترابًا منه هامسة :

– أنت لم تر شيئًا من مواهبي بعد

همس :

– حذار من الجنون يا ليلى ، لن تتكرر المعجزات وتبقين على قيد الحياة في كل مرة

 

ضحكت في ميوعة وكأنه يغازلها ، وامتنع في صعوبة من أن يصفعها ، حانت منها التفاتة إلى أشرف الذي كان يحدق فيها مصدومًا فابتسمت :

– أنت أشرف ، أليس كذلك ؟

هز رأسه إيجابًا وكأنه فقد النطق ، فاتسعت ابتسامتها قائلة :

ـ أريد أن أشكرك على ذوقك الرفيع في تصميم غرفتي

ابتسم في انفعال قائلًا :

– لو كنت أعلم أن من ستشغلها على هذا القدر من الجمال لبذلت المزيد من الجهد

– يبدو أن لك ذوقًا رفيعًا في كل شيء

التفت أشرف لا إراديًا إلى ممدوح الذي تعلقت عيناهبوجهها محاولًا التكهن بما تدبره في رأسها العنيدالذي تراوده رغبة مجنونة بتكسيره حتى يستطيع الكشفعن مكنونه ، اقترب منها كمال وراح ينشدها إحدى قصائده التيأخبرها بأنه كتبها خصيصًا من أجلها ، ولدهشته وجد ممدوح نفسه وللمرة الأولى مرغمًا على التوحد مع كمال حين قال :

لو لا يعاقبني الله من أجــــــــــلك

لجعلتكِ إلهة في الأرض وقدستك

معابدَ من نـــورِ في عينيَّ شيدتك

آه ٍ … حبيبتي بكل الحبِ أحببتك

وما إن أنهى كمال قصيدته حتى دوى في الحجرة تصفيق لم يعهده منهم ،صيحات الإعجاب والاستحسان  جعلت وجهه يتخضب احمرارًا.. في محاولة لتخفيف شدة توتره أشار إلى أشرف قائلًا :

ـ أشرف أيضًا يجيد الرسم ، ويتمنى أن يرسم لك صورة يتنبأ بأنها ستكون أفضل لوحاته

نظرت ليلى إلى أشرف وابتسمت قائلة :

-يسعدني الأمر بالطبع

استدار أشرف إلى ممدوح الذي كان يحدق فيهم بنظرات نارية جعلت أشرف يقول في قلق :

ـ ينقصنا إذًا موافقة الزعيم

التفتت ليلى إلى ممدوح وما إن تلاقت عيونهما حتى أيقنت أنه لن ينتظر طويلًا حتى يقتلها ، فكرت بمغادرة الغرفة لولا اقتراب عادل الذي انهمك معها في حديث طويل شاركهما فيه كمال عن كثب بينما اكتفى أشرف بالمداخلة من حين لآخر حتى تلاشت الرهبة بينهم فراحوا يضحكون بمرح وكأنهم يعرفون بعضهم البعض منذ زمن .

تنهدت نجوى بضيق قائلة :

– سأذهب للجلوسبالحديقة ، فالجو هنا لم يعد يحتمل

ضمد ممدوح جراحاتها دفعة واحدة حين قال :

– انتظري سآتي معك

ابتسمت نجوى في سعادة بينما نظرت ليلى إليه في غضب لم تستطع إنكاره ، أما هو فقد تنهد بارتياح بعد أن كاد يجن وهو يفقد ثقته بنفسه للمرة الأولى في حياته …

 

لم يمض وقت طويل حتى أقبل رفاقه الثلاثة للانضمام إليهما في الحديقة فقالت نجوى بلهجة تهكمية لا تخلو من الغيرة :

– هل انتهيتم من وصلة الغزل السخيفة ؟

ابتسم أشرف وهو ينظر إلى ممدوح :

– ما إن ذهب الزعيم حتى تبدل الوضع تمامًا

تراقصت ابتسامة رضا على وجه ممدوح بينما نهضت نجوى وهي ترمقهم بغيظ قائلة :

–  سأذهب كي أستعد للسهرة

هتف أشرف مستنكرًا :

-بهذه السرعة ، لمَ لا تنتظر حتى تأخذ كفايتك من الراحة؟

أجابه ساخطًا :

-لقد مللت الراحة

ابتعدت نجوى فنظر أشرف إلى ممدوح وسأله :

– وماذا عن ليلى ؟

تفحصه ممدوح صامتًا فتابع :

– هل ستأتي معنا ؟

ازداد فيه تحديقًا ، فهتف أشرف مستنكرًا :

– لا تنظر إليًّ هكذا ، كلنا على يقين من أنها لا تريد سواك

أطلق ممدوح تنهيدة ارتياح فأردف أشرف :

– لا تقل أنك كنت تجهل هذا ..!

ـ كيف أجهله وهذه البلهاء لا تجيد إخفاء مشاعرها !

ـ ولماذا يأكلك القلق إذًا ؟

ـ كان من أجلكم وليس من أجلها

ابتسم أشرف :

– كادت أن تفقدك عقلك أليس كذلك ؟

نظر إليه صامتًا ، فاتسعت ابتسامة أشرف :

– عندما حدثتنا عنها ، لم أكن أتخيل أبدًا أنها على هذا القدر من الجمال ، لقد ظننتها فتاة حمقاء تجرب اللعب مع الكبار كما أخبرتنا ، دون أن أدرى أن لديها ما يمكنها من اللعب بجدارة ، حتى أمام ممدوح سالم

اقترب بوجهه منه قائلًا في عناد :

– لم تولد بعد هذه المرأة التي تتحدث عنها

ـ ماذا تسمي ما أنت فيه إذًا ؟

زفر ممدوح بضيق وغمغم شاردًا :

-ليلى ليست أكثر من امرأة تريد أن تمتلكني كالعادة ، ربما لديها من المقومات ما يفوقهن ، لكنها في النهاية ستسلم للأمر الواقع وترضخ لما أريده أنا .. ربما الأمر في حاجة إلى بعض الوقت

ـ هل وجود نجوى هو ما سبب المشكلة بينكما ؟

نظر إليه صامتًا فتابع :

-لمَ لا تستخدم الحيلة ؟ فليس من الحكمة أن تجتمع العشيقة والعروس معًا، على الأقل بهذه السرعة

اسود وجه ممدوح وهتف متذمرًا :

– أنا لن أصل أبدًا إلى الحد الذي يجعلني أكذب من أجل امرأة

– تكذب ..!  منذ متى وأنت تعتبر هذا كذبًا ؟

ـ ماذا تعني ؟

ابتسم أشرف وهو يتأمله قائلًا :

– أخشى أن تصل إلى الحد الذي تخشى فيه أن تخدعها حتى بينك وبين نفسك

– كفى هراءً

 

*****

 

صرخت ليلى فيوجه سعدية بغيظ :

ـ اذهبي واخبري سيدك .. من يريد شيئًا عليه أن يأتي ليأخذه بنفسه

نظرت إليها الفتاة في تردد وكأنها تحذرها.. فعادت لتصرخ فيها :

– اذهبي ونفذي ما أمرتك به

ذهبت الفتاة ساخطة، وجدت نفسها تتحسس وجهها في ذعر ، يا له من ديكتاتور متوحش ، كيف يريدها أن تختار له ملابسه ليتنزه بها بصحبة امرأة أخرى..؟   فليأت ويقتلها إن شاء ، لن تفعل هذا أبدًا ، لكنها لا تريده أن يأتى إلى الغرفة ، فهى لا تريد رؤيته ، أسرعت إلى الخزانة وأخرجت منها أول ما وقع عليه بصرها ، اتجهت فى عصبية إلى الباب ، ستطلب من سعدية أن تلقي بها في وجهه ..

ما كادت تفتح الباب حتى وجدته فشهقت مذعورة ، أبعدت وجهها سريعًا حتى لا يرى اضطرابها وهى تلقي بين يديه بما تحمله قائلة :

– كنت سأرسلها لك مع سعدية ، لكن يبدو أنك متلهفًا جدًا لهذه النزهة

قال بعد فترة من التحديق فيها :

– عجبًا ، لقد أخبرتني سعدية شيئًا آخر

القت عليه نظرة سريعة عادت بعدها لتشيح بوجهها عنه من جديد فابتسم بمكر قائلًا :

-على أية حال أنا لم أصدقها ، كنت على يقين من أنكِ لست حمقاء إلى الحد الذي يغريك بعصياني مرة أخرى

انفجر ضاحكًاعندما التفتت إليه في ثورة قائلة :

– تبًا لك أيها المتغطرس ، من تظن ذاتك ؟ كيف تريدني أن …..

اختنق صوتها فلم تكمل عبارتها ، تأملها قائلًا :

– هل تأتي معي ؟

قالت بسرعة :

– معك وحدك

ابتسم في تهكم ، فتابعت بانفعال :

– لا تنس أنني ما زلت في شهر العسل

هتف في مزيج من السخرية والاستنكار :

– عسل ، أين هذا العسل  ؟!أنا فيأسوأ فترات حياتي

انهمرت دموعها التي حجزتها طويلًا فتنهد قائلًا :

– حسنًا.. لا تغضبي .. لا بأس من يوم سيء آخر

بدت كالطفلة وهي تحدق في وجهه بغضب والدمع ما زال يتلألأ في عينيها ، ابتسم وهو يمسح وجنتيها بأصابعه :

– استعدي غدًا سنذهب في نزهة ، بمفردنا أيتها الجشعة

اتسعت ابتسامته وهو يراقب سعادتها التي تحاول إخفاءها ، سادت فترة من الصمت أشعلت الجو بينهما .. أحنت وجهها وعضت على شفتيها في ارتباك .. توقعت في حنين أن يقبلها ولكنه لم يفعل بلاتجه لتبديل ملابسه التي ما كاد يمعن النظر فيها حتى هتف مستنكرًا :

– يا إلهي ، كيف استطعت جمع كل هذه المتناقضات دفعة واحدة ؟!

أطلقت ليلى ضحكة مستنكرة وهي تحدق بدورها في الملابس التي أخرجتها بنفسها للتو من الخزانة ، كأنها تراها للمرة الأولى ،كان محقًا في صدمته ، البدلة كحلية اللون ، الحذاء بني ، ورابطة العنق بلون ثالث لا يمت لهما بصلة ..

هز رأسه استنكارًا وابتسم في مكر قائلًا :

– حمدًا لله أنك لم ترسليها مع سعدية ، ولو أن ذلك حرم نجوى من متعة كبيرة

 

أصابها ذكرغريمتها بالضيق وكذلك باستفزاز خفي ، فأسرعت إلى الخزانة وأخرجت منها أجمل ما فيها وأكثره تناغمًا ، تأملت ابتسامته الواسعة التي زادتها غضبًا وحنينًا أنكرته حتى على نفسها وهي تهمس ساخطة :

– هل رأيت حماقة أكثر مما أنا فيها ، أفعل كل هذا لتتنزه مع غيري؟!

تمادت جنونًا وراحت تساعده في ارتداء ملابسه ، تفرس في ملامحها صامتًا .. همست فجأة :

– هل تفعل نجوى هذا ؟

ابتسم دون أن يرفع عينيه عن وجهها قائلًا :

– ليس دائمًا

تأوهبألم عندما جذبت ربطة العنق بقوة كادت معها أن تخنقه ، قبل أن تبتعد عنهساخطة  :

ـ يا لها من صديقة !

ابتسم وهو يدلك عنقه :

– الغيرة ممتعة ، ولكن ليس لهذا الحد

هتفت غاضبة :

– ماذا تعني ؟

ابتسممتسليًاوهو يصفف شعره أمام المرآة قبل أن يقول مودعًا :

– شكرًاعلى المساعدة ، أتمنى لكِ أحلامًا سعيدة

ضحك بمرح عندما غمغمت فيغيظ بلغ مسامعه :

– وأنا أتمنى لك نزهة تجعلك أسوأ حالًا مني

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

error: