رواية وحدك حبيبتي

محتويات المقالة

 

13- الزاهد

 

 

ساد الصمتُ بينهما طويلًا ، وإن كان ممدوح يرفع عينيه عن الطريق من وقت لآخر لينظر إليها ، فجأة راح يدندن بأبيات الشعر كتبها كمال وحفظها هو بلا وعي :

 

لولا يعاقبني الله من أجـــــــــلك

لجعلتكِ إلهة في الأرضِ وقدستك

معابدَ من نــور في عيني شيدتك

آهٍ …. حبيبتي بكل الحب أحببتك

 

أصابتها الكلمات باضطراب شديد فهتفت في محاولة لإخفاء انفعالاتها :

ـ من تلك التي أخبرتك بأن لك صوتًا يمكنك من الغناء ؟

ضحك وهو يلقي عليها نظرة سريعة قائلًا :

– ولماذا تجزمين بأنها امرأة ؟

– وهل يمتدحك غير النساء ؟

ابتسم قائلًا :

– ما دمتِ تصرين على هذا ، فقد أجمعن .. على أن صوتي يمنح الأغنية سحرًالا يمنحه سواي

ابتسمت في عصبية قائلة :

– يا لكَ من متعجرف ..!

عاد يضحك في مرح سرعان ما انتقل إليها ، توقف أمام إحدى الأستراحات المتناثرة على الطريق قائلًا :

ـ تعالي لنتناول شيئًا لا زالت الطريق أمامنا طويلة

بالقرب من الاستراحة كان هناك مركزًا لبيع مستلزمات الشاطئ، نهضت قائلة :

ـ سأذهب لشراء بعض الأشياء من هذا المركز

ـ  انتظري ، سآتي معك

ـ أخبرتك مرارًابأننى أستطيع الاعتناء بنفسي

نظر إليها بضيق قبل أن يخرج مبلغًا من المال قدمه لها قائلًا :

– هل يكفي هذا ؟

ـ لا أحتاج لنقودك ، معي الكثير ، ألم تر …..

قاطعها في حسم :

– ما دمتِ برفقتي فأنا المسئول عن احتياجاتك

 

عادت بعد وقت ليس بالقليل ، تحمل حقيبة بلاستيكية كبيرة ، نظرت إلى ممدوح الذي كان ينتظرها في السيارة وقد نفد صبره وابتسمت قائلة :

– آسفة ، لم أشعر أنني استغرقت كل هذا الوقت إلا عندما نظرت ف ساعتي

ـ آمل أن تكونيقد وجدتِ ما يستحق كل هذا الانتظار ، ماذا اشتريتِ ؟

وقبل أن تعترض كان يمسك بين يديه بالشيء الوحيد الذيرغبت في إخفائه عنه ، مايوه أزرق من قطعتين ، اشترته في لحظة مجنونة بعد أن لمحت في عيني البائع تلك الوقاحة التي تلمحها في عينيه عندما تراوده الرغبة فيها

ابتسم في تهكم وهو يرفعه أمام عينيها قائلًا :

– ما هذا ؟

جذبته منه بعنف قائلة :

– لا يحق لكَ أن تعبث بأشيائي

اتسعت ابتسامته :

– ألم نتفق أنني ذاهب في رحلة عمل ؟

صاحت بعصبية :

– ومن قال غير ذلك ؟

همس في مكر :

– لماذا تحاولين إغوائي إذًا ؟

تلعثمت في خجل قائلة :

– إغواؤك ، أنا ………

 

أطلق ضحكة طويلة عندما أشاحت بوجهها ساخطة ولم تجد كلمات لتكمل بها عبارتها . عاد للتوقف بعد قليل أمام متجر كبير لبيع المواد الغذائية ، نظر إليها قائلًا :

– هيا ، سننزل لشراء بعض المعلبات واللحوم

بادلته نظراته قائلة :

– يمكنك أن تتولى هذه المهمة بمفردك

ـ أريدك أن تعطيني رأيك في بعض الأشياء

ثم أردف في مكر :

– لقد أيقنت أن لك ذوقًا رائعًا بعد أن رأيت مشترياتك

 

وصلا أخيرًا إلى بوابة ضخمة ، وما إن رأى رجال الأمن ممدوح حتى أسرعوا لتحيته وفتح البوابة له ، فترجل الأخير من السيارة متجهًا إليهم بابتسامة واسعة ، لاحظت ليلى أن الرجال يحدقون فيها بعدم تصديق ، عاد ممدوح إلى السيارة فابتدرته قائلة :

ـ لماذا ينظر لي هؤلاء الرجال بهذا الشكل ، ماذا قلت لهم عني ؟

– أخبرتهم أنكِ زوجتي

قالت تستفزه :

– حتى الآن

 

تجاهل عبارتها ساخطًا واستمر يقود السيارة على امتداد مجموعة من الشاليهات الأنيقة ، تفصل بين الواحد والآخر مساحة شاسعة ، هتفت ليلى مستنكرة :

– لا تقل لي أن مستثمرك الفرنسي سيهدم هذه الشاليهات الرائعة !

ـ كلا بالطبع ، فهذه الشاليهات المنعزلة بالرغم من كونها قليلة العدد ، إلا أنها تأتي بعائد مادي كبير ، ما نريده هو إضافة بعض البنايات العملاقة التي تسمح بوجود أكبر عدد ممكن من المصيفين

توقف بالسيارة أمام أحد الشاليهات :

– ها هي محطتنا الأخيرة

وضع الحقائب على أرضية الردهة ثم نظر في ساعته قائلًا :

ـ أنا مضطر أن أتركك الآن ، لدي موعد هام مع المستثمر الفرنسي ، يمكنك أن تمارسي هوايتك حتى أعود وتعدي لنا بعض المأكولات ، إناحتجتِ شيئًا يمكنك الأتصال بالرقم المدون على الهاتف

ذهب وتركها تتفحص المكان حولها ، الردهة احتوت طقم مريح للجلوس بالأضافة إلى طاولة كبيرة وضع فوقها مجموعة من الأدوات التي يستخدمها ممدوح فى الرسم ، هناك غرفة للنوم ، حمدت ليلى الله على وجود سريرين منفصلين بها ، لن تضطر إلى مشاركته الفراش من جديد ، اغتسلت سريعًا واتجهت بعدها إلى المطبخ الذي كان مزودًا بما يلزمها من الأجهزة الكهربية ، وضعت الأطعمة التي أحضراها في الثلاجة وشرعت في إعداد وجبة خفيفة قبل عودة ممدوح ، ما كادت تنتهي منها حتى سمعت صوته يغلق الباب .

أقبل نحوها متهللًا:

ـ ها قد وجدت لي معجبين من الجنس الخشن حتى لا تغضبي

تطلعت إليه في فضول فتابع بحماس :

– المستثمر الفرنسي مسيو هنري فريدريك يكاد يكتب فيًّ الشعر إعجابًا

ناولته أطباق الطعام ليضعها على المائدة قائلة :

– حمدًا لله ، عليك إذًا أن تكون أهلًا لهذه الثقة

جلسا يتناولان طعامهما وما كاد ممدوح يضع قطعة من اللحم في فمه حتى أخرجها من جديد وهو ينظر إلى ليلى ساخطًا :

– بالله اخبريني ، ماذا كنتِ تفعلين في المطبخ كل هذا الوقت ؟

أسرعت تضع قطعة طعام في فمها وما لبثت أن ابتسمت في خجل قائلة :

-يحتاج لقليل من الملح

أكمل في تهكم :

-ملح فقط..!  وماذا عن مظهره الخارجي الذي يوحي بأنه احترق بينما نضجه لم يكتمل بعد

غمغمت ساخطة :

-قل ما شئت ، فأنا من منحتك الفرصة لتوبيخي

راح يقلد نبرتها قائلًا :

– أريدك أن تكون لي وحدي ، لا أريدك أن تعرف امرأة غيري ….

تطلعت إليه مبتسمة فأكمل ساخرًا:

– وها أنت قد جعلتني أشتاق إلى سعديه ، أين أنت يا سعديه ؟

نهرته قائلة :

– كفى أيها الشره ، لقد نلتُ ما يكفي من التوبيخ

هز رأسه وهو يتناول سماعة الهاتف ليطلب طعام من الكافيتريا وما إن أغلق الخط حتى تنهد قائلًا :

ـ ها قد مضى يومنا الأول بلا فائدة .

 

توالت الأيام يجر بعضها بعضًا وتحولت السعادة التي كانت تشعر بها وهي تراقبه يعمل إلى ضجر وضيق في ظل تلك اللامبالاة التي يبديها نحوها يومًا بعد يوم ، ماذا حدث له ؟  ألم يعد يراها ؟ هل ذهبت رغبته فيها للأبد ؟ هل ينوي تطليقها بالفعل بعد العودة من هذه الرحلة ؟ أتراه قد تحول إلى زاهد فجأة ..؟ أم أنه يشبع رغبته مع أخريات خلال تلك الساعات القليلة التي يمضيها بعيدًا عنها ؟!

 

لم ترفع عينيها عن وجهه وهو يتناول طعامه فابتسم قائلًادون أن ينظر إليها :

– أما زلتُ آكل كالأسد ؟

ابتسمت في خجل قائلة :

– ليس بعد ، هناك تحسن

– التحسن في طريقة طهوك أيتها الماكرة

ـ أهذا يعنيبأنك لم تعد تشتاق إلى سعدية ؟

 

هم أن يهتف .. أنا لم أعد أشتاق إلى امرأة سواكِ ، لكنه اكتفى بابتسامة حانية وجهها إليها قبل أن يغادر المائدة قائلًا:

ـ حمدًا لله ، كنتُ أتضور جوعًا

وجدت نفسها لا إراديًا تغادر المائدةوتذهب خلفه بالمنشفة ، نظر إليها وابتسم قائلًا :

ـ هذا إفراطًا في تدليلي

نظرتبعينيه قائلة :

-اعتبره شيئًا للذكرى فحسب

بادلها نظراتها ومسحة من ألم في عينيه فتابعت :

– هل نسيت أنك ستطلقني بعد أيام قليلة ؟

ـ إن كنتِ لا زلتِ تريدين الطلاق ؟

أبعدتوجهها عنه قائلة :

– نعم .. ما زلتُ أريد الطلاق

تركها قائلًا :

– وأنا سأفعل ما تريدينه

 

انهمك في عمله بينما استلقت على فراشها تحاول التحكم في أعصابها المنهارة ، فهو لم يعترض ، لم يخبرها بأنه لا يريد أن يطلقها ، لم يعتذر عن الماضي ويطلب منها البدء من جديد ، لا يهم أن يعتذر ، لماذا توقف عن ضمها إليه ؟  لماذا توقف عن تقبيلها كلما رآها كما كان يفعل ؟ هل أتى بها إلى هنا للقيام بدور الخادمة لا أكثر من هذا ؟ ألم تعد تروق له ؟

نهضت فجأة وتوجهت إلى المرآة تتأمل وجهها وقوامها الممشوق ، ما زالت ليلى التي يتهافت عليها الجميع ، أخبرها يومًا بأنها أجمل امرأة رآها ، ألم يعد يرى هذا الآن ؟ توجهت إلى الخزانة ، أخرجت المايوه الأزرق الذي كانت قد قررت ألا ترتديه ، سترى الآن إن كان قد تحول إلى زاهد بالفعل ؟

فليتهمها بأنها تريد إغواءه إن شاء ، فهي لم تعد تحتمل تجاهله لها

 

خرجت بعد قليل ، كان منكبًا على عمله ، لم يكلف نفسه عناء النظر إليها ، قالت ساخطة :

– سأذهب للنزهة

ـ حسنًا ، لا تتأخري

ـ هل تريد شيئًا قبل أن أذهب ؟

شيء ما في صوتها المضطرب جذب انتباهه ، رفع بصره إليها في نظرة خاطفة عاد بعدها إلى عمله قائلًا :

ـ كلا ، أشكرك

أسرعت تغادر الشاليه حتى لا يرى الدمع المتحجر في عينيها ، ما إن أغلقت الباب خلفها حتى ألقى بقلمه جانبًا وراح يراقبها من خلف النافذة الزجاجية هامسًا يحدث نفسه :

ـ مهلًا أيتها الطفلة المتوحشة التي سلبتنى عقلًا ظننتني حصنته من كل النساء

 

استمر طويلًا ينظر في حسد إلى ماء البحر الذياحتضن جسدها الجميل بدلًا منه ، أطلق تنهيدة طويلة ، سيخبرها .. سيخبرها بأنها حبه الأول والأخير..وبأنها من حولت الصخر بين ضلوعه إلى كتلة من المشاعر قادرة على الحب لدرجة الألم والعذاب .. سيخبرها بأنها الشوق الذي لا ينام ….

لكنه يحتاج أولًا إلى يقين ، يقين بأنها على استعداد للتضحية بكل شيءلأجله ، هل تخلت حقًا عن هذه التجربة اللعينة ؟ أم أنها ستعود لتكررها مع منحرف آخر بعد أن تتأكد من نجاحها معه ؟

لن يقر بحبه لها إلا إذا اعترفت بأنها تحبه كما هو ، تحبه بلا شروط ، بلا عقل ، نعم ، لابد أن تحبه بلا عقل ، حتى لا يأخذها عقلها منه يومًا ومعها قلبًا عنيدًا يعصاه للمرة الأولى في حياته ، عاد ينظر للبحر من جديد ، بل إليها ، لكنه لم يجدها ، أين ذهبت ، أين اختفت ؟

خرج مسرعًا إلى الشاطئ ليبحث عنها ، لم يجد لها أثرًا ، صرخ باسمها فى هستيريا من دون جدوى ، كانت قد وعدته بأن لا تبتعد عن الشاليه .. فأين ذهبت ؟

عاد إلى الشاليه ثم إلى الشاطئ من جديد يحمل منظاره المكبر ، جال به البحر ذهابًا وأيابًا حتى لمح طيفًا بعيدًا ، بعيدًا جدًا ، أهذه هي ؟ وإن كانت هي.. سيبتلعها البحر حتمًا قبل أن يصل إليها حيًا .

 

كانت ليلى قد استلقت بظهرها فوق سطح الماء شاردة ، غير مبالية بتياراته العالية وأمواجه العنيفة ، ما يعتمل في نفسها من صراع أكثر عنفًا وأشد قسوة من أي خطر آخر ، اختلطت دموعها بماء البحر ونحيبها بصراخ أمواجه ، تمايلت قليلًا لتجفف دموعها المنهمرة ، كادت تغرق ، أدركت فجأة عمق الكارثة التي تحيط بها ، امتدت عيناها في ذعر تبحث عن الشاطئ البعيد ، تخبطت بالماء كمن يطارد وحشًا لا قدرة لها به ، قاومت باستماتة ، فهى تجيد السباحة منذ الصغر .. فما الذى حدث الآن ؟

سكن ذراعاها فى استسلام واستعدت لتلفظ أنفاسها الأخيرة لولا رؤيتها لهذا القارب الذي يتجه نحوها مسرعًا، عادت تناضل من جديد ، رفعت يدها تلوح له في أمل ، ازداد البحر تشبثًا بها وجذبها إليهبإصرار وإلحاح ، غطتها أمواجه وكادت أن تبتلعها ، فجأة وجدت نفسها بين ذراعي ممدوح الذي قفز إلى الماء جزعًا قبل أن يقفز إليه أحد من حرس الشواطئ ، أسرع يلقي بها إليهم وقفز خلفها ، سألها في لهفة وهو يضمها إليه بقوة :

ـ ليلى ، هل أنت بخير ؟

استكانت بين ذراعيه وراحت تنتحب بعنف قبل أن تهز رأسها إيجابًا ، مسح شعرها فيحنان افتقدته طويلًا وهو يقبل جبهتها مرارًا هامسًا في لوعة :

– كيف انجرفت إلى هذا العمق أيتها المتهورة ؟

وصل بهما قارب النجاة إلى الشاطئ ، شكر ممدوح رجال حرس السواحل بينما قال كبيرهم له :

ـ حمدًا لله على سلامة زوجتك ..أرجو أن تتوخيا الحذر في المرة القادمة

 

شكرهم ممدوح على سرعة تلبيتهم لنداءه ووعدهم بأن يكون أكثر حرصًا ، انصرفوا وعاد ينظر إلى ليلى صامتًا قبل أن يحملها إلى الشاليه رغم اعتراضها ، حررها فوق أرضيته برفق قائلًا :

-اغتسلي وبدلي ثيابك ريثما أصنع لك مشروبًاساخنًايخفف من رعدتك

نزعت ليلى المايوه الأزرق وألقت به أرضًا في عنف ، فهو لم ينجح في جذب انتباه هذا المتحجر .. وإن كان قد جذب انتباه البحر إليها فكاد يبتلعها

مضت الأيام التالية هادئة ، لم تغادر ليلى خلالها الشاليه ، بل أصبحت تخشى النظرإلى البحر وأمواجه ، ظل عالقًا بذهنها ما حدث ذلك اليوم مخلفًا رهبة لم تستطع التخلص منها ، لكن الملل عاد يطاردها فنظرت إلى ممدوح قائلة :

– سأذهب للصيد

أجابها في حزم :

– كلا

ـ ماذا؟!

ـ لن تذهبي إلى أي مكان بدوني يا ليلى

ـ كف عن معاملتي كطفلة

ـ أثبتت التجارب أنك كذلك بالفعل

اتجهت للباب صارخة :

– سأذهب حيثما أشاء أيامنا معًا معدودة على أية حال ، لا تزعم الخوف عليَّ

جذبها بعنف قائلًا :

– كفى جنونًا ، كدت أن تستنفزي أرواحك السبعة ، كم مرة نجوت فيها من قبضة الموت حتى الآن ؟ ربما تلقين حتفك في المرة القادمة

صاحت كطفلة عنيدة :

– أتركني أموت إذًا ، لا شأن لك بي

هزها بعنف :

– إن كان لابد من موتك ، فسأفعل أنا هذا يا ليلى

صرخت في ألم :

– أتركنيأيها المتوحش

 

*****

 

أخفت وجهها في الوسائد عندما دلف ممدوح إلى الحجرة وأضاء مصابيحها ، ابتسم وهو يقترب منها قائلًا :

ـ لماذا تجلسين وحدك ما دمتِ مستيقظة ؟

ـ وهل سأتخلص من وحدتي عندما أخرج إلى الردهة ؟

ـ أما زلت غاضبة ؟

ـ لم آت معك إلى هنا لأنتقل من زنزانة لأخرى

قبل جبهتها قائلًا :

– امهليني أسبوعًا واحدًا حتى انتهي من عملي

نظرت إليه في لوعة قائلة :

– بعدها نعود إلى القرية لتطلقني ، أليس كذلك ؟

تفرس في قسماتها قائلًا :

– لن أفعل شيئًا لا تريدينه

 

تشبثت ليلى بالأيام القليلة المتبقيةلها معه ، ماذا تريد أكثر من هذا ، فهي تراه كل يوم ، تتناول طعامها معه ، تحدثه ويحدثها ، يقتطع بعضًا من وقته كل غروب ليذهب معها إلى الشاطئ في نزهة بريئة .. أقصى ما يفعله خلالها هو أن يحتضن كفها الصغير وهما يمشيان معًا فوق رماله ، إن كان كل هذا لا يكفيها ، فماذا ستفعل بعد أن يطلقها ؟ كيف ستحيا بدونه بعد أن صار لها الماء والهواء ؟

 

استيقظت من شرودها عندما فتح الباب ودخلإليها بابتسامة واسعة قائلًا :

ـ أخيرًا انتهت التصميمات على الورق وسيبدأ تنفيذها قريبًا

تصنعت ابتسامة قائلة :

– مبروك ، أنا سعيدة جدًا لأجلك

تفرس فيملامحها قائلاً :

– وجهك ينفي هذا تمامًا

ـ أشعر ببعض الصداع

نظر كلاهما للآخر ثم انفجرا يضحكان طويلًا قبل أن يسود بينهما صمت أطول قطعه ممدوح :

ـ سيقيم مسيو فريدريك حفلًا هذا المساء بمناسبة انتهاء التصميمات والبدء في تنفيذها

ـ وتريدني أن أكون معك ؟

ـ هذ أقل ما يمكن أن أقدمه لكِ بعد كل مجهوداتك معي

ـ لكنني لا أستطيع

حدق فيها بدهشة فتابعت :

– ليس لدي ما أرتديه لهذه المناسبة

زفر بضيق قائلًا :

– ليلى ، أنت تثيرين جنوني دائمًا

 

وقفا أمام إحدى نوافذ بيع الملابس الجاهزة ، أشار ممدوح إلى أحد الأثواب قائلًا :

– ما رأيك في هذا ؟

تأملت ليلى الثوب الذى أشار إليه ثم التفتت تحدق بوجهه في عتاب صامتة ، فهمس مبتسمًا :

ـ ماذا بكِ ، ألا يعجبك هذا الثوب ؟

تلعثمت قائلة :

– ألا ترى لونه ؟

ـ ماذا به ، ألا تحبين اللون الأبيض ؟

ـ تذكر أن هذا الحفل بمثابة حفل الوداع  بالنسبة لنا ، بعدها تطلقني ، ويذهب كل منا في طريقه

– أما زلت تريدين الطلاق ؟

أشاحت بوجهها قائلة :

– بلى ، ما زلتُ أريده

ـ دعيني إذًا التقط لكِ بعض الصور التذكارية بثوبك الأبيض هذا

ابتسمت بعصبية قائلة :

– تذكار..!

همس قائلًا :

– ألا تريدين تذكارًا أنت أيضًا ؟

تنهدت بمرارة قائلة :

– لست في حاجة إلى شيء يذكرني بك

– سأشتريه يا ليلى

هزت رأسها مستسلمة ، فليفعل ما يشاء ، وما الفرق في لون الثوب طالما أن المناسبة كما هي لم تتغير ، كل ما يشغله هو بعض الصور التذكارية ، يا له من متحجر القلب ..!

 

أخرج ممدوح دفتر شيكاته ليدفع ثمن الثوب ، لكن البائعة رفضت متعللة بأنهم لا يتعاملون إلا نقدًا ، حاولت ليلى دفع المبلغ ، لكنه نظر إليها محذرًا قبل أن يخرج مبلغًا قدمه إلى البائعة قائلًا :

ـ هذا المبلغ للحجز ، سأعود بعد قليل لأخذه

في السيارة اعترضت ليلى :

– لماذا لم تدعني أدفع أنا ، ماذا سأفعل بكل هذه النقود بحوزتي؟!

– أخبرتك مرارًا بأنني خلقتُ هكذا ولن أتغير أبدًا ، أطلقي عليًّ من الألقاب ما شئتِ

– ديكتاتور

تجاهل تعليقها قائلًا :

– سأذهب بكِ الآن إلى مصفف الشعر ، وسأعود إليك بعد قليل بالفستان الأبيض

تعمد الضغط على كلماته الأخيرة ،فهتفت أعماقها ساخطة :

ـ بالله كفى يا ممدوح ، لم أعد أحتمل المزيد

*****

أفسدت دموعها المنهمرة زينتها أكثر من مرة ، فحدق فيها مصفف الشعر صامتًا وإن كانت نظراته تحمل بعض العتاب ، غمغمت وهي تحاول التحكمبانفعالاتها :

– آسفة ، أعدك بأن هذا لن يتكرر مجددًا

انتهى الرجل من تجميلها وأطلق صيحة إعجاب قائلًا :

ـ رائعة ، ولكن تنقصك ابتسامة صغيرة

ابتسمت ليلى ابتسامة حزينة ، فهمس الرجل في تردد :

– ما الذي يرغمك على هذه الحياة ؟

اتسعت عيناها وهي ترمقه بنظرات متسائلة .. فأردف ناصحًا :

ـ جميعنا يعلم بعلاقات ممدوح الشائكة ، وامرأة مثلك ليست في حاجة إلى ………..

قاطعته في حدة :

– أنا زوجته

صاح الرجل مستنكرًا :

– ماذا ؟

 

وصل ممدوح واقترب يقبل جبهتها مبهورًا قبل أن يلتفت إلى الرجل قائلًا  :

– كنت واثقًا من مهارتك

ابتسم الرجل وهو ينظر إلى ليلى قائلًا :

– الفضل لله وليس لي

ثم أردف وهو يتفرس في وجهه بتمعن :

– زوجتك رائعة

ابتسم ممدوح قائلًا :

– أشكرك

ـ إنها زوجتك بالفعل إذًا.. لكنك كنت دائمًا متمسكًا بحريتك وضد فكرة الزواج ..!

ـ لقد قررت التضحية ، ألا تستحق ؟

نظر الرجل إلى ليلى بإعجاب وابتسم قائلًا :

– بلى تستحق ، تستحق جدًا.. تهنئتي القلبية لكما وأمنياتيبالتوفيق

 

نظر ممدوح إلى ليلى التي تحدق في الطريق شاردة وقال :

– ليلى ، تشردين كثيرًا هذه الأيام

التفتت إليه ، شعرت بالحزن وهي ترى هذا الكم من السعادة يغمره ، ترى .. أهو سعيد للانتهاء من أعماله أم للانتهاء منها ؟ هل يكرهها إلى الحد الذي يجعله يتوق للخلاص منها ؟ عجبًا.. فهي لم تصل حتى إلى مرتبة نجوى التي ظل برفقتها طيلة خمس سنوات متصلة ولم يملها بعد ..!  بالله لماذا يعشق المرأة الرخيصة ؟

يعشق ….!   ومن قال أنه يعشقها ؟ هذا الوغد المتحجر لا يعشق سوى نزواته العابرة فحسب

عاد يهتف ضجرًا :

– ليلى ، بالله كفي عن شرودك وابقي معي قليلًا

التفتت إليه ساهمة فتابع مبتسمًا :

– ألم يعد باستطاعتك تحملي الساعات القليلة المقبلة ؟

اتسعت عيناها قائلة :

– هل سنعود غدًا إلى القرية ؟

أجابها في لا مبالاة :

– سأفعل ما تريدينه أنتِ

صرخت فيه بغضب :

كف عن ترديد هذه العبارة ، لقد مللتها ، ماذا تريد أنت ؟

قال دون أن يلتفت إليها :

– أريدك معي للأبد

ضحكت في عصبية قائلة :

– هكذا ..!  أما زلتُ كما أنا أقربهن إلى قلبك ؟

تنهد صامتًا فتابعت :

– تريدني أن أكون أسدك وتفاحتك ؟

تعمقبعينيها قائلًا فى حزم :

– ليلى إن أردت البقاء معي.. فليكن ذلك بلا عقل وبلا شروط

إزدادت عصبيتها وصرخت مستنكرة :

– ليس عليًّ سوى أن أشكر الله لكون علاقتي بكَأصبحت شرعية في غفلة من الزمن ..!

غمغم بقسوة دون أن يلتفت إليها :

– نعم

عادت تصرخ :

– أنت واهم إذًا ، أنا أفضل الموت على حياة كهذه

 

ساد الصمت ، لم يعلق بشيء ، لم يعترض ، لماذا تنازل عن دميته ؟ هل باتَ على يقين من أنها كُسرت وإن ظهر للجميع غير ذلك ؟ كادت تجن لكنها لم تبكِ ، ربما جفت الدموع أو ربما ما تعانيه أكبر من أن يداويه الدمع ، توقف بالسيارة أمام قاعة حفلات كبيرة ، همت بالنزول لكنه استوقفها ، وضع يده فيجيب سترته وأخرج علبة صغيرة قدمها إليها ، نظرت إليه ساهمة دون أن تمد يدها لأخذها منه فغمغم :

ـ  هل ستظلين هكذا طويلًا

ـ ما هذا ؟

فتح العلبة ليطل منها خاتم أنيق من الألماس ، نظرت في عينيه قائلة :

– هدية وداع ؟

ابتسم بمرارة قائلًا :

– اعتبريه كما شئتِ

وجدت نفسها بلا وعي تقدم له إصبعها ، فوضعه فيه مبتسمًا وقبل جبهتها تلك القبلة التي أتقنها مؤخرًا ، انحدرت دموعها كاللهب فجففها هامسًا :

– هكذا تفسدين زينتك

غمغمت وهي تزيح يديه عنها :

– أنت متوحش كريه

 

وما إن عبرا باب الردهة الواسعة حتى تطلع الحضور إليهما في انبهار شعرت معه ليلى بالخجل ، قدمها ممدوح إلى مسيو فريدريك وزوجته الفرنسيةبابتسامة واسعةفرحبا بها فى حفاوة بالغة ، نظر فريدريك إلى ممدوح قائلًا في مرح :

ـ  يبدو أنك عبقري في كل شيء، أنا مندهش ، كيف أنجزت هذه التصميمات الرائعة وبجوارك حسناء مثلها ؟!

نظر ممدوح بعشق إلى ليلى التي ابتسمت وهي تشكر الرجل في عذوبة ، قبل أن يجذبها الأخير وهو ينظر لـ ممدوح قائلًا :

– هل يمكنني مشاركة عروسك هذه الرقصة ؟

 

تنافس بعده الرجال للرقص معها بلا توقف ، فاقترب منها وهو يراقص إحداهن هامسًا :

ـ مهلًا يا ليلى ، تماديتِ كثيرًا .. إذا راقصتِ أحدًا  بعده .. لن أطلقك أبدًا

 

استمرت في الرقص غير مبالية بتهديده ، بل بدت سعيدة أيضًا واتسعت ابتسامتها ، حانت تلك الرقصة التي لا تريد أن يشاركها فيها سواه ، وما إن نظرت إليه حتى وجدته مقبلًا نحوها وفي عينيه ابتسامة أجمل من تلك التى على شفتيه ، حررها  بلطف من مراقصها الذي غمز له مهنئًا

ضمها إليه هامسًا :

– يبدو أنكِ لا تريدين الطلاق ؟

دفنت رأسها في صدره مستسلمة ، نعم فهي لا تريد الطلاق ، لقد أدمنته ، تعلم يقينًا، مهما حاولت الإنكار بأنها لن تستطيع العيش بدونه بعد الآن . قبل شعرها في شغف هامسًا :

ـ هذه المرة لن أكتفي بالقبلات ومعسول الكلمات ، بل سوف أطالبك بحقوقي كاملة وبلا تمرد

ظلت صامتة ، فرفع رأسها إليه ، آلمه الدمع المتحجر بعينيها فغمغم معاتبًا :

ـ لماذا هذه الدموع الآن ، هل أنت نادمة ؟

ابتسمت في انفعال قائلة :

– لا عليك ، دعني أودع بها ما تبقى لي من كبرياء

ـ ومن قال أنني أريدك بلا كبرياء ؟

همست في عتاب :

– ممدوح  !

نظرإليها وهتف مستنكرًا :

– تجبرينني أحيانًا أن أتساءل ، كيف فعلت بلهاء مثلك بي كل هذا ؟

تفحصته صامتة فتابع معاتبًا :

– ليلى ، ألم تفهمي بعد ؟!

برقت عيناها وهو ينظر في عينيها قائلًا :

– هذا الحفل كان مقررًا أن يقام بعد انتهاء البناء وليس التصميمات

ـ ماذا تريدني أن أفهم من هذا ؟

تأملها في عصبية قائلًا :

– الفستان الأبيض ، ومصفف الشعر ، والخاتم الذي وضعته بإصبعك منذ قليل ، ولم تفهمي بعد ؟

هزت رأسها بعصبيةفتابع :

– هل صدقتِ أنني فعلت كل ذلك للحصول على بعض الصور التذكارية ؟ وهل أنا في حاجة إلى ما يذكرني بكِ وأنتِ تسكنين كل ذرة في دمي؟!

ارتجفت شفتاها في عدم تصديق :

– ممدوح ، ماذا تقول ؟!

ابتسم في مزيج من الحب والحنان والعتاب :

– ماذا أقول ؟!

هزت رأسها وهي تهتف في شك :

– ممدوح لا تحملني إلى السماء لتلقي بي أرضًا من جديد

هتف ساخطًا :

– يا إلهي ، إن كان لا عقل لكِ.. أفليس هناك قلب يخبرك ؟!

همست في لهفة :

– قلها إذًا

تأملها صامتًا ، فتابعت في مزيد من اللهفة :

– قل أحبك .. قلها صراحة

ـ وهل ستصدقين ما لم تشعري به ؟

ـ أحتاج إلى يقين

همس في لهجة حانية وهو يغوصبعينيها المتوهجتين :

– هل الحب يعني أن أبحث عنكِ في كل النساء وأراك في كل الوجوه ؟  هل يعني أن أحتضر بدلًا منكِ كل مرة تقتربين من الموت فيها ؟  هل يعني أن أتنازل عن كبرياء .. ما خلتنى أتنازل عنه يومًا بعد معرفتي بأمر رسالتك اللعينة التي جعلتني فيها فأرًا للتجارب ؟!  إن كان الحب يعني كل هذا فأنا أحبكِ يا ليلى

 

ظلت تحدق في وجهه طويلًا ، قبل أن تحتضن وجهها بكفيها وتهز رأسها غير مصدقة ، أزعجتها فجأة كل تلك العيون المحدقة بها ، فعادت تدفن رأسها في صدره خجلًاوسعادة ، لم تشعر بالموسيقى التي توقفت مرارًا تعلن عن انتهاء الرقصة ، ولا بـ ممدوح الذي كان يشير إليهم مبتسمًا للبدء في وصلة جديدة ..!

سقطت من سمائها عندما توقفت الموسيقى للمرة الرابعة فدوى بالقاعة مزيج من التصفيق والضحك ، كادت تموت خجلًا حتى شعر ممدوح بالشفقة عليها فهمس :

– أتودين الذهاب الآن ؟

هزت رأسها دون أن تستطيع النطق .. ودعا الحضور الذيراقبهما في إعجاب متمنيًا لهما السعادة ، وفيذروة سعادتهما لم يلحظا الشر الذي تجسد بهاتين العينين ولا الحسد الذي امتلأ به وجه هذا الرجل ، عينان تنذران بشر قادم

*****

 

هم ممدوح بوضع أحد شرائط الكاسيت في مسجل السيارة عندما اعترضت ليلى قائلة :

ـ كلا ، غنِ أنت

ابتسم قائلًا :

– لم يكن هذا رأيك من قبل

تصنعت البلاهة قائلة :

– أحقًا ، متى كان هذا ؟

نظر إليها واتسعت ابتسامته .. فتابعت هائمة وهي تلقي برأسها فوق كتفه :

ـ لقد ولدت منذ ساعات قليلة ، فلا تحدثنيعن أشياء حدثت قبلها

 

وصلا إلى الشاليه وأصر ممدوح على حملها حتى غرفة النوم ، وضعها على الأرض برفق قبل أن يضيء المصابيح لتجد عددًا من أثواب النوم الرائعة ، هتفت بسعادة :

– متى جئت بكل هذا ؟

ابتسم قائلًا :

– عند عودتي لإحضار ثوب الزفاف

برقت عيناها قائلة :

– لم تكن تنوي تطليقي إذًا !

ضحك قائلًا :

– كنت على يقين بأنك ستتراجعين عن طلب الطلاق

هتفت ساخطة :

– وماذا كنت ستفعل إذا لم أتراجع أيها المتعجرف ؟

تراقصت ابتسامة ماكرة على شفتيه هامسًا :

– كنت سأعتبرها ليلة وداع

اتسعت عيناها وهي تحدق في وجهه مستنكرة ، لكن غضبها سرعان ما تلاشى عندما ضمها إليه وراح يقبلها بشوق وشغف ، تحررت منه في نعومة هامسة :

ـ أي من هذه الأثواب تريدني أن أرتديه الليلة ؟

ابتسم وهو يتأملها :

– سترتدينهم كلهم ، لكننى أريدك الآن أن ترتدي المايوه الأزرق

هتفتمستنكرة :

– ماذا ؟

ثم أردفت وهي تلكمه في مرح :

– أيها المتوحش ، لقد تجاهلتني يومها حتى كدت ألقي حتفي حزنًا ويأسًا .

تصنع البلاهة قائلًا :

– متى كان هذا ؟

ابتسمت مستنكرة فأردف ضاحكًا :

ـ لقد ولدتُ منذ ساعات قليلة ، فلا تحدثينيعن أشياء حدثت قبلها

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

error: