رواية وحدك حبيبتي

محتويات المقالة

2ـ المنحرف

 

 

 

فى أحد الملاهى الليلية بالإسكندرية ، جلست مجموعة من الشباب تضم أربعة رجال وامرأتين ، ظهر الغضب جليًا على وجه أحدهم وهو يدخن سيجارته في شراهة وعصبية ، لم تنجح كل المحاولات الخليعة التي تقوم بها الراقصة لاسترضاءه ، كانت ترقص له وحده وكأنهالا ترى في الملهى سواه ، اقتربتبميوعة وسحبت السيجارة من فمه لتلقي بها مع العشرات غيرها في منفضة السجائر وهي تغمز له غير مبالية بالمحيطين بها ولا بنظراتهم إليها ، ابتعدت عنه قليلًا دون أن تكف عن النظر إليه والابتسام له حتى انتهت الرقصة ، صفق الحاضرون واختفت الراقصة فأطلق الشاب تنهيدة طويلة وهو يتجرع الكأس التي أمامه دفعة واحدة

التفت إليه أشرف .. أحد رفاقه :

ـ بالله كفى أيها الزعيم ، أكثر من أسبوع مضى حتى الآن وأنت على هذه الحال.. أنا لا أرى ما يستحق كل هذا الضيق

هتفت إحدى المرأتين وتدعى نجوى :

– والده يريد أن يرغمه على الزواج من قروية بلهاء ، وأنت لا ترى ما يدعو للضيق ..!

ـ وما الجديد في هذا ، وهل هي المرة الأولى التي يفعلها ؟

وابتسم آخر يدعى عادل :

– نحن نعرفه منذ سنوات طويلة ، منذ جاء إلى الإسكندرية ، لم تمر زيارة لوالده من دون عروس تنتظره

غمغم ممدوح بضيق :

– هذه المرة تختلف ، هناك إصرار غير عادي من قبل والدي ، بل ووالدتي أيضًا

قال أشرف مازحًا :

– ألم تقل من قبل أن والدك خطب لك كل بنات القرية ، من أين جاءت هذه العروس ؟

ضحك كمال :

– ربما لم تكن قد أكملت الثانية عشر بعد

غمغم عادل مستنكرًا :

– الثانية عشر ، هل سيزوجك والدك من طفلة..؟!

ضحك أشرف قائلًا :

– هذا أفضل ، ستكون زوجة وحفيدة فى آن واحد ، فالرجل يتوق جدًا إلى حفيد

بادله عادل الضحك قائلًا :

– والدك رجل حكيم ، يضرب عصفورين بحجر واحد

تأملهم ممدوح بضيق قبل أن ينهض ليغادر الطاولة ، أمسك به أشرف :

ـ مهلاً أيها الزعيم ، نحن نحاول الترفيه عنك ليس أكثر

هتف مستنكرًا :

– بهذه الطريقة !

قال كمال الذي أمسك به هو أيضًا :

– طريقتنا عادية ، ولكن غضبك هو ما فوق العادي

أشعل له أشرف سيجارة قائلًا وهو يدسها في فمه :

– اجلس ودعنا نناقش الأمر بطريقة ترضيك

جلس ممدوح على مضض ، وسادت بينهم فترة من الصمت حتى عاد أشرف يقول :

ـ لا عليك ، سيغضب والدك قليلًا كعادته فى كل مرة ، وتمتنع أنت عن زيارة القرية حتى تتصل والدتك وترجوك بدموع العين أن تعود لزيارتهما من جديد ، وكأن شيئًالم يكن ، أليس هذا ما يحدث دائمًا ؟

أجابه ممدوح وهو ينفث دخان سيجارته في بطء :

– أنا أعرف والدي جيدًا ، هذه المرة مختلفة عن المرات السابقة ، لم أره من قبل ثائرًا لهذا الحد

أطلق تنهيدة طويلة وأردف متهكمًا :

– بغض النظر عن العبارات الكثيرة التي وبخني بها وتهديده بحرماني من الميراث كما حرمته من الحفيد الذي ينتظره ، فقد هدد والدتي بالطلاق .. إذا حاولت الاتصال بي أو أرسلت لي جنيهًا واحدًا بعد اليوم

غمغم أشرف مستنكرًا :

– يا إلهي ، الطلاق .. هل وصل الأمر إلى هذا الحد ؟!

ربت عادل على كتفه قائلًا :

– إن كان المال هو ما يشغلك ، فاعتبر ما لنا لك ، وما في جيوبنا في جيبك

ابتسم ممدوح بمرارة قائلًا :

– أشكركم ، ما معي الآن يكفيني لوقت ليس بالقليل ، ربما أضطر فيما بعد للاهتمام بالمكتب ، لكنني لن أسمح لأحد ، وإن كان أبي ذاته ، بأن يرغمني على فعل شيء لا أريده

ـ ولكنك لم تذهب للمكتب منذ شهرين على الأقل

ـ ربما حان الوقت لذهابي إليه

مالت نجوى على كتفه قائلة :

– ممدوح ، إن كان لابد أن تتزوج ، فلماذا لا تتزوجني؟  نحن نعرف بعضنا البعض منذ خمسة أعوام

ابتسم في تهكم قائلًا :

– ربما هذا ما يخشاه أبي

ـ ماذا تعني ؟

ـ أبي أيضًا يعلم أننا نعرف بعضنا البعض منذ خمسة أعوام

ـ وماذا في ذلك ؟

ـ نجوى ، لا تجبريني لأكون أكثر قسوة

سقطت دمعة من عينيها الجميلتين وهي تغمغم بصوت مختنق :

– لا ظنيأن هناك ما هو أكثر قسوة من هذا

ابتسم كمال وهو يحاول أن يهدئ من روعها قائلًا :

ـ مهلًا يا نجوى ، ربما ليس هذا بالوقت المناسب ، فهو يهرب من عروس وأنت تحدثينه عن أخرى

تنهدت وقالت ساخرة :

-أخبرني حين يأتي الوقت المناسب

قطع حديثهم اقتراب إحدى الفتيات منهم ، انحنت لتهمس في أذن ممدوح غير مبالية بنظرات نجوى النارية التي تطلقها نحوها ، انصرفت الفتاةفالتفت ممدوح إلى أشرف :

ـ أنا مضطر لترككم الآن

ابتسم أشرف هامسًا :

– يبدو أنك وجدت دواءً لأحزانك

بادله ابتسامته قائلًا :

– شيء كهذا

صاحت نجوى بعصبية :

– هذه الفتاة اللعينة أرسلتها الراقصة ، أليس كذلك ؟

أجابها في لامبالاة :

– بلى ، هو كذلك

نهضت غاضبة لتغادر الطاولة ، تبعها عادل وأشرف بينما نظرت إليه سميرة في ضيق قائلة :

ـ لست أدري ما الذي يجبرها على تحمل وحش مثلك ؟

اقترب منها وهمس ساخرًا :

– وحش أقوى اسمه الحب

جذبها كمال قائلًا :

– هيا يا سميرة ، كل ما نملك أن نفعله ، هو أن ندعو له بالسقوط في قبضة هذا الوحش

ضحك ممدوح لامباليًا وهو يتجه إلى غرفة الراقصة وكأن شيئًا لم يكن

 

*****

 

جلس فؤاد في غرفة مكتبه يراجع بعض الحسابات الخاصة بأعماله التي قام بها مؤخرًا عندما طرقت ليلى بابه تحمل له كوبًا من الشاي ، تهلل وجهه قائلًا  :

ـ يا لسعادتي..!   دكتورة ليلى بنفسها تحمل الشاي إليًّ

ـ ومن لي أغلى منك يا أخي الحبيب

ـ أشكرك يا حبيبتي

توقع بعدها أن تنصرف ، لكنها جلست على كرسي قريب من مكتبه منحنية الرأس

رفع بصره إليها يسألها :

  • أهناك شيء يا ليلى ؟
  • نعم ، أريد التحدث معك

طوى أوراقه جانبًا ، ونظر إليها في اهتمام :

  • حسنًا ، كلي آذان صاغية

قالت في ارتباك حاولت أن تخفيه :

  • أريدك أن تخبر الحاج سالم بأنني قبلت الزواج من ولده

نهض عن كرسيه :

  • ماذا ؟!  لابد وأنك جننت .. ألم ننته من هذا الأمرسابقًا ؟

أبعدت وجهها عنه صامتة فتابع في غضب :

  • اسمعينى جيدًا يا ليلى .. أفضل أن تمضي عمرك كله بلا زواج .. على أن ترتبطي بـ حيوان مثل ممدوح سالم هذا

غمغمت دون أن تجرؤ على النظر إليه :

  • اسمعني أنت يا فؤاد ، فأنا لم أعد طفلة صغيرة ، كما أنني لست إحدى فتيات هذه القرية اللواتي لا هم لهن سوى الزواج والإنجاب ، أنا أستطيع أن أحدد ما أريده جيدًا

اتجه إليها وهزها بعنفمستنكرًا :

  • وهل ممدوح سالم هو ما تريدينه ؟ ثقافتك العلمية لا تعني أنك أصبحت خبيرة في شئون الحياة ، لن أسمح لك بدخول هذا الجحيم أبدًا

غمغمت في عناد :

-ربما هوليس سيئًا بالقدر الذي تتخيله

صرخ فيها :

– بل هو أسوأ مما أتخيل .. ما أعرفه عنه يكفيني لأعلن أنه شيطان .. وما خفي كان أعظم بلا شك !

هز يديه في حيرة قبل أن يعض على شفتيه قائلًا :

– هل ستصدقيننى إن قلت لك بأنني أشعر بالخجل عندما يأتي ذكره في جلسة ما ؟

عاد يحدق في وجهها قائلًا في تردد :

– ماذا أقول لكِ؟  هل أخبرك بأنه أرغم والده .. الحاج سالم الذي يهابه الجميع .. أرغمه على أن يوفر حجرات في منزله لاستقبال رفاقه وعشيقاته اللواتي لا تخلو زيارة  لوالده منهن .. إحداهن ترافقه منذ سنوات طويلة ، ويقولون أنها جميلة أيضًا ، كلهن جميلات يا ليلى

نظر إليها قبل أن يردف :

– اسألي أهل القرية لماذا يخفون بناتهم وزوجاتهم أثناء زياراته لها ، اسألي عنه كل راقصات المنصورة والإسكندرية .. يكفيأن تذكر المرأة اسمه لتغدو مطمعًا للرجال جميعًا

ضمها إليه في حنان وأردف :

– لن تحتملي يا ليلى ، صدقيني لن تحتملي

ظلت صامتة فعاد يصرخ في دهشة :

– لماذا هذا الوقح هو من قبلتِ الزواج منه دونًا عن سائر الرجال الذين تقدموا لخطبتك ؟  رجال أقلهم شأنًا.. أفضل منه ملايين المرات .. ما الذي جذبك إليه وأنت لم تريه بعد ؟

غمغمت بصوت مرتبك :

– إنه مهندس وثري و ………..

ـ وماذا أيضًا ؟ ويسحر ناقصات العقل بوسامته وعضلاته المفتولة

ـ إذا استطعت أن أغيره سيكون …….

ـ لن تستطيعي ، لن تستطيعي أبدًا  ،  بل أنت من سوف تتغيرين ، ستتبدلين تمامًا ، ستغدين مسخًا لا حول له ولا قوة .. سيضمك إلى قفص الحريم الذي حاربت طويلًا كي لا تدخليه

صرخت في عناد قائلة :

– كلا .. كلا

ـ بل نعم .. وألف نعم

قالت في إصرار :

– سأرغمه أن لا يرى فى الكون امرأة غيري ، سيحبني وحدي ، سأجعل منه قيسًا جديدًا

هتف ساخرًا :

– وكيف ستفعلين هذا ..؟  بأن تقدمي نفسك هدية له .. وهكذا بلا ثمن ..!

هزها بعنف قبل أن يردف يائسًا :

– أفيقي يا ليلى .. بزواجك من هذا القذر ستغدين ملكه .. سيتوجب عليك طاعته .. وسيصبح المجتمع كله ضدك في حال عصيانك له

ـ تقاليدكم اللعينة هي ما يفرض عليَّ هذه الطريقة للتقرب منه ، أنا لا أملك حيلة أخرى ، مجرد محاولة رؤيته خارج نطاق الزواج سيثير زوبعة من الأقاويل لن تنتهي أبدًا

حدق فيها وهو يضرب كفًا بأخرى قائلًا :

– يا إلهي ، ماذا حدث لكِ؟  ما هذا الذي تقولينه ؟ أين عقلك الراجح ؟!

صمت قليلًا وعاد يصرخ مستنكرًا :

ـ  إن كنت تتحدثين وكأنك عاهرة قبل أن تريه ، فماذا ستفعلين بعد رؤيته ؟!

همت أن تعلق ، لكنه أزاحها بعنف لتصطدم بباب الحجرة قائلًا :

ـ أذهبي  ، أذهبي من أمامي

 

******

 

كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا ، عندما استيقظ ممدوح غاضبًا تتملكه رغبة عارمة في تحطيم الهاتف الذي لم يكف عن الرنين المتواصل منذ ما يقرب الساعة محاولًا تجاهله من دون جدوى ، كانت سكرتيرة مكتبه ، سهام ، تدعوه للحضور لأمر عاجل

وضع السماعة وغمغم ساخطًا وهو يتثاءب في كسل :

– يبدو أنه لا مفر من بعض العمل ، ما معي من مال كاد أن ينفد

 

ابتسامة واسعة ارتسمت على شفتيه عندما بلغ مسامعه ضحكة سهام المدوية فغمغم يحدث نفسه :

ـ  كان الله في عونك يا شوقي

شوقي هو أحد العملاء الذين يأتون إلى مكتبه ببعض المشروعات لوضع التصميمات الهندسية لها ، وكم أقسم قبلًا بأنه لن يأتى إلى مكتبه مرة أخرى ..! ، خاصة في المرة الأخيرة ، بعد أن انتظره ثلاث ساعات كاملة ضاعت بلا فائدة ، لكن ممدوح كان واثقًا بأن دلال سهام ومواهبها الخاصة ، والتي تمثل شروطًاأساسية للعمل معه ، سترغم شوقي على العودة إلى مكتبه من جديد

دلف إلى مكتبه قائلًا :

– أهلًا شوقي ، كيف حالك ؟

ـ ها أنت أخيرًا ، لولا إلحاح مدام سهام ما عدت إلى هنا أبدًا

ضحك ممدوح وهو ينظر إلى سهام :

– لولا ثقتي في قدراتها ما سمحت لها بالعمل معي

جلس خلف مكتبه وأردف :

– حسنًا أنها المرة الرابعة التي تأتي فيها إلى مكتبي لأمر هام ، هات ما عندك

جلس شوقي على المقعد المواجه له قائلًا :

– هناك رجل فرنسي على درجة كبيرة من الثراء ، يريد عمل تصميم مبتكر لفيلا في الساحل الشمالي

تابع وهو يقدم له أحد الملفات :

– ستجد في هذا الملف كل ما تحتاجه من معلومات ، المهم هو أن هذا التصميم يجب أن يكون عندي بعد ثلاثة أيام على الأكثر

تطلع إليه ممدوح في تهكم قائلًا :

– ثلاثة أيام !

ـ منذ أسبوعين وأنا آتي إلى هنا عبثًا ، أنت من لا يأتي إلى المكتب ،  الخطأ ليس خطأي ، لماذا لا ……

أشار له ممدوح بيده كي يصمت قائلًا :

– كفى ، دع  لي عقلي إن أردت تصميمًا جيدًا

نهض شوقي لينصرف قائلًا :

– حسنًا أيها العبقري ، أراك بعد ثلاثة أيام

ما أن ذهب شوقي حتى دلفت سهام إلى مكتبه وهي تبتسم قائلة :

ـ أخيرًا أنت هنا ، كاد الشوق يقتلني إليكَ

ضمها إليه قائلًا :

– سلامتك من القتل يا جميلتي ، اطمئني ، ربما أضطر قريبًا إلى نقل إقامتي لهذا المكتب

همستبسعادة وهي تقبله :

– أحقًا ما تقول ؟

هز رأسه إيجابًا وهو يطبع فوق شفتيها قبلة طويلة ، تركها بعدها قائلًا:

– والآن .. اليَّ بفنجان من القهوة

 

اقتربت عقارب الساعة من الخامسة عصرًا عندما رفع ممدوح رأسه عن أوراقه ملقيًا بالقلم الذي بين يديه فوق مكتبه ، قالت سهام وهي تحمل إليه صينية فوقها بعض السندوتشات وكوبًا من المياه الغازية :

ـ بقدر ما أعشق حماسك للعمل بقدر ما أبغضه أحيانًا

تناول أحد السندوتشات وهو يبتسم قائلًا :

– كم الساعة الآن ؟

ـ تجاوزت الخامسة

ـ ألا تنصرفين في الثالثة ؟

ـ لقد اتصلت بزوجي وأخبرته أن لدي عمل إضافي ، هل مللت وجودي ؟

ـ أخشى أن يتسبب وجودك معي في شجار بينكما كالعادة

أحاطت عنقه بذراعيها قائلة :

– لا عليك ، الشجار ينعش الحياة الزوجية

عانقها فيعنف قائلًا :

-هكذا ..!  امضي معي الليلة هنا إذًا ، ودعيني أساهم في إنعاش حياتك الزوجية

ضحكت في دلال قائلة :

– شرط أن تلقي بملف شوقي هذا جانبًا ، ولا تدع العمل يأخذك مني

قال مبتسمًا :

– اطمئني ، لقد انتهيت منه

هتفتبدهشة :

– انتهيت من التصميم بهذه السرعة ؟

ـ نعم ، وهو ممتاز أيضًا

ـ أنت عبقري يا حبيبي

شعرت بالسخط عندما رن جرس الهاتف فابتعد عنها وتناول سماعته مبتسمًا ، وما لبثت ملامحه أن تبدلت وهو يستمع إلى محدثهبقلق ، سألته بلهفة وهو يضع السماعة :

– ماذا حدث ؟

أجابها ساخرًا وهو يرتدي سترته :

ـ عفوًا سهام ، يبدو أنه ليس مقدرًا لحياتك الزوجية أن تنتعش اليوم ، والدي مريض جدًا ، ويجب أن أسافر إلى المنصورة حالًا

استدار إليها قبل أن يغلق الباب خلفه قائلًا :

– اتصلي بـ شوقي وسلميه التصميم ، ثم اتصلي بـ أشرف واخبريه أن يلحق بي إلى هناك

 

*****

 

تعلقت عينا والدة ممدوح به وهو يذرع الردهة  ذهابًا وإيابًا بغضب قبل أن يتحركفي عصبية نحو الغرفة التي يرقد فيها والده .. أمسك بمقبض الباب وما كاد يتحرك في يده حتى ابتعد عنه وعاد يهتفبوالدته :

– لماذا لم تتصلي بي من قبل ، لماذا أهدرت كل هذا الوقت حتى ساءت حالته ؟

ـ أنت تعلم أن والدك كان يمنعني ، وكنت أخشى أن أغضبه

غمغم ساخطًا :

– هذا المستبد ، ثم يعود ويسألني من أين أتيت بالعناد والقلب المتحجر ؟!

 

مضى الوقت كالسلحفاة، أقبل أشرف الذي ما إن رأى ممدوح حتى احتضنه وهو يهتف :

ـ ممدوح ، ماذا حدث ؟

أجابه ممدوح في قلق بلغ ذروته :

– يبدو أن الأمر لا يبشر بالخير يا أشرف ، منذ الصباح وفريق من الأطباء معه بالداخل ، ولم يخرج أحدهم حتى الآن ليهدئ من روعنا

ـ ولماذا لم تدخل أنت إليه ؟

ـ أخشى أن يراني فتزداد حالته سوءًا

ـ دعني أجرب أنا إذًا

طرق أشرف الباب طرقًا خفيفًا وما أن دلف إلى الداخل حتى صدمته كل تلك الأجهزة والأدوية والمحاليل التي جعلت الغرفة وكأنها إحدى غرف العناية المركزة في مستشفى كبير ، إزداد قلقًا وهو يتأمل هذا الفريق المكون من خمسة أطباء ، أحاطوا بالسرير حيثرقد عليه الحاج سالم بلا حراك ، التفت أحد الأطباء إلى أشرف ما إن رآه قائلًا :

– هل أنت ولده ؟  هل أنت ممدوح ؟

غمغم أشرف وهو ينظر إلى ممدوح الذي دلف توًا إلى الغرفة وراح يتطلعإلى والده في جزع :

–  هذا هو ممدوح

وجه الطبيب اهتمامه إلى ممدوح قائلًا :

– في اللحظات القليلة التي يفيق فيها من غيبوبته لا يكف عن ترديد اسمك

غمغم ممدوح دون أن يرفع عينيه عن والده :

-ماذا أصابه ؟

– كلنا ندعو الله من أجله ، وإن كان هذا يتوقف على معاونتك لنا

التفت ممدوح إليه فى تساؤل فجذبه الطبيب إلى الخارج قائلًا :

ـ ما فهمته من الكلمات القليلة التي يتفوه بها والدك من حين لآخر ، بأنكالسبب المباشر في مرضه

ظل ممدوح يراقبه صامتًا فأردف :

– لماذا لا تريد أن تتزوج وتنجب له الحفيد الذي ينتظره ؟

حدق فيه ممدوح مستنكرًا قبل أن يغمغم في نبرة تهكمية لا تخلو من الضيق :

ـ يبدو أن حياتيالخاصة قد أصبحت محور اهتمام الجميع في هذه القرية

قال الطبيب في حرج :

– آسف لم أقصد المضايقة ، كنت أعتبرها نصيحة عفوية من أخ لأخيه ، على أية حال ، فبرغم حبي الشديد للحاج سالم ، لا أظن بأنني أحبه أكثر منك

عاد الطبيب إلى الحجرة التي يرقد بها مريضه .. اقتربت والدة ممدوح منه وهى تبكي في توسل قائلة :

–  بالله لا تقتل والدك يا ممدوح ، نفذ ما يريده منك لأجلي ، إن كنت تحبني حقًا

زفر بضيق قائلًا :

– لماذا يضع هذا الرجل حياتي مقابلًا لحياته ..؟

قبلته والدته قائلة :

– والدك يحبك يا ممدوح ، فهو لم يذق طعمًا للنوم والراحة منذ أكثر من شهرين ، منذ تركتنا غاضبًا في المرة الأخيرة

أقبل أشرف نحوهما قائلًا :

– لقد بدأ يستعيد وعيه

تبعاه إلى حيث يرقد الحاج سالم الذيراح يتأوه في ألم وضعف .. وما إن وقع بصره على ممدوح حتى صاح فيعصبية :

ـ ما الذي أتى بك إلى هنا ، اخرجوه خارجًا لا أريد أن أراه بعد اليوم

استدار ممدوح ليغادر الغرفة ولكن أشرف أمسك به وقال مبتسمًا :

ـ ممدوح ولدك يا حاج والظفر لا يخرج من اللحم أبدًا

صاح الرجل في ثورة رغم معارضة الأطباء :

– ليس لي أبناء ، سوف أتبرع بكل أموالي للجمعيات الخيرية ، لن أترك له جنيهًا واحدًا

لم يستطع ممدوح التحكم في أنفعالاته فبادله عصبيته :

– لم آت إلى هنا طلبًا لأموالك

ـ اذهب وحاول استعادة الأموال التي بذرتها تحت أقدام الراقصات ، لا أريد رؤيتك مرة أخرى ، لا تدخل بيتي مرة أخرى

اندفع ممدوح كالسهم خارجًا ولم تفلح المحاولات المستميتة التي قام بها أشرف والأطباء في إقناعه بالعدول عن الذهاب ، لكنه ما كاد يخطو خارج المنزل حتى بلغ مسامعه صراخ والدته المتواصل فاستدار عائدًا ليرى والده قد رقد ساكنًا من جديد والأطباء من حوله يحاولون إسعافه ، لم يلتفت إليه أحد سوى والدته ونظراتها المتوسلة ، ربت على ظهرها صامتًا بينما تسمرت عيناه على وجه والده حتى تحرك جفناالأخير وفتح عينيه فى بطء ، تنفست والدته الصعداء وهي تتمتم بالحمد والشكرلله ، انحنى ممدوح يقبل يده ولكن والده جذبها منه وأشاح بوجهه بعيدًا عنه

أسرعت المرأة تقول :

ـ اطمئن يا حاج ، ممدوح سيفعل كل ما تريده ، لقد جاء ليخبرك بهذا لكنك لم تمنحه الفرصة

نظرممدوح إلى والدته غاضبًا لكنها أردفت وهى ترمقه فياستعطاف :

– أليس كذلك يا ممدوح ؟

نظر الرجل إلى ولده وهمس بضعف :

– أحقًا يا ممدوح ؟  هل ستتزوج العروس التي اخترتها لك وتنجب لي الحفيد الذي طالما انتظرته ؟

نظر أشرف إلى ممدوح الذيصمت متجاهلًا كل العيون المسلطة فوقه فيرجاء، قالليحثه على الموافقة :

ـ طبعًا يا حاج ، ومن هذا الذي يستطيع أن يخالف لك أمرًا ، خاصة ممدوح فهو يحبك حبًا كبيرًا

نظر ممدوح إلى صديقه ثم إلى والده الذيتطلع إليه في لهفة وهز رأسه إيجابًا ، كاد الرجل أن يقفز من فراشه فرحًا لولا أن أحد الأطباء نهره :

– مهلًا يا حاج حتى يكتمل شفاؤك

تهلل وجه الرجل قائلًا :

– لقد شفيت

ثم أردف وهو يمد يده إلى ممدوح:

– سآخذ ولدي ونذهب لبيت العروس في الحال

تنهد ممدوح قائلًا :

– انتظر أولًا حتى يتمم الله الشفاء ، وبعدها نناقش أمر هذا الزواج

نظر إليه الرجل في ريبة وعاد وجهه للتجهم فابتسم أشرف قائلًا :

ـ ممدوح يقصد ترتيبات الزواج يا حاج

ـ انتظر أنت يا أشرف ، أريد أن أسمع هذا الكلام من ولدي

عادت العيون كلها لتحدق في ممدوح فزفر بضيق قائلًا :

ـ أشرف يقول ما أريد قوله يا أبي

نهض الرجل ليغادر فراشه قائلًا :

– هيا بنا إذًا ، يكفي ما أهدرناه من وقت زاد على الشهرين حتى الآن

لكن أحد الأطباء اقترب منه ليعيده إلى فراشه وهو يغمز له بعينيه قائلًا :

ـ ليس الآن يا حاج ، يجب أن تستريح في الفراش أسبوع على الأقل ، أي انفعال قد يتسبب لك في انتكاسة ربما يكون لها مضاعفات خطيرة

تنهد ممدوح في مرارة قائلًا :

– استرح الآن يا أبي ، لن تفسد العروس إذا انتظرت أسبوعًا آخر

هتف والده في يقين :

– حين تراها ستكون لهفتك أكبر من لهفتي

 

*****

تناول ممدوح بعضًا من طعامه مرغمًا تحت الإلحاح الشديد من قبل أشرف ،جاءت والدته تحمل الشاي وعلى شفتيها ابتسامة واسعة وهي تهتف :

ـ كنت أتمنى أن أقدم لكماالشربات بدلًا من الشاي ، ولكن لا بأس سأفعلها قريبًا بإذن الله

نظر إليها ممدوح بضيق جعلها تلكزه بمرح قائلة :

– عندما ترى عروسك سوف تشكرنا

غمغم ساخرًا :

– أستطيع أن أتخيلها دون أن أراها

نظرت إليه فأردفبمرارة :

– بلهاء بضفيرة أو اثنتين ، وربما منكوشة الشعر أيضًا ، تعد الأيام والليالي لنلعب سويًا لعبة العروس والعريس

ضحك أشرف بينما صاحت والدته في عتاب :

– ما هذا الذي تقوله ؟  أهذا ما تعرفه عن أبيك ؟

حاول أشرف تصنع الهدوء قائلًا :

– صفيها أنت لنا يا خالتي

انشرحت المرأة قائلة :

– أنها طول وعرض و……

قاطعها ممدوح في مزيد من التهكم :

– طول وعرض ، يبدو أنها تصلح للحرب لا الزواج

عاد أشرف يضحك قائلًا :

– في أي مدرسة هي ؟

ابتسمت المرأةبفخر قائلة :

– في كلية الحقوق

التفت أشرف إلى ممدوح في جدية :

– هذا رائع بالفعل يا ممدوح

نظر إليه ممدوح واستمر يرتشف الشاى في لامبالاة ، فالتفت أشرف إلى المرأة وسألها :

ـ في أيسنة هي ؟

-إنها ليست تلميذة ، بل دكتورة في الجامعة

بصق ممدوح الشاي من فمه لينتثر رذاذه فوق ملابسهم قبل أن يصرخ مستنكرًا :

ـ ماذا؟  هل اكتشف الحاج سالم أخيرًا بأنك فشلتِ في تربيتي فبحث لي عن مربية أخرى ؟!

نظرت إليه والدته في دهشة ، لكنه تابع ثائرًا :

ـ هذه العانس ربما تصلح له ، لكنها لا تصلح لي أبدًا

صمتت والدته مستنكرة ،حاول أشرف تهدئته بلا جدوى بل عاد يصرخ فيها :

ـ أي حفيد هذا الذي ينتظره من امرأة بلغت سن اليأس ؟!

قال أشرف :

– انتظر يا ممدوح ، لابد وأن هناك خطأ ما

صاح غاضبًا :

– قلبي يحدثني بأن هذه المرأة لديها دستة من الأحفاد الجاهزة لتلبية رغبة أبي

صاحت والدته :

– كفى يا ممدوح ، هذه الفتاة لم تتزوج من قبل ، برغم كل الخطاب الذين تقدموا لخطبتها منذ ظهورها في القرية

غمغم ساخرًا :

– ظهورها ..!   هل هبطت فجأة من السماء ، أم انشقت الأرض عنها ؟

نهضت والدته وزفرت بضيق قائلة :

– قل ما شئت ما دمت لم ترها بعد

 

 

 

 

 

 

 

 

 

error: