رواية وحدك حبيبتي

محتويات المقالة

 

 

15- ثمن الشر

 

 

 

أخيرًا… وبعد محاولات مستميتة من قِبل الحاج سالم عاد ممدوح من فرنسا واتجه مباشرة إلى القرية ، ما إنرأته والدته حتى لطمت صدرها فيصدمة وجزع ، وجهه شاحب .. وزنه فقد منه الكثير .. عيناه امتلأت ببريق الجنون والغضب .. مرهقًا وكأنه لم يذق للنوم طعمًا منذ أمد بعيد

ضمته والدته إليها في لهفة ولوعة شعر معهما برغبة في البكاء ، زادت رغبته إلحاحًا بين ذراعي والده الذي هتف ساخطًا وهو يرى دموع زوجته المنهمرة :

– كفى يا امرأة ، من الحزن يولد الرجال يا ولدي

– حزني أنا سيقتلني يا أبي

جلس على الأريكة وأخرج علبة سجائره ، أشعل إحداها غير مبالٍ بوجود والده الذيقال مستنكرًا :

ـ أهذا ما تعلمته في فرنسا ؟!

نفث دخان سيجارته فيحرقة قائلًا :

– آسف يا أبي ، لكن أرجوك لست في حال تسمح بمعاتبني

تنهد والده بضيق قائلًا :

– حسنًا ، اذهب الآن لتستريح ، وغدًا سنذهب لتعيد ليلى

– ألم تصلها ورقة الطلاق ؟

ـ بلى وصلت ، لكنك يجب أن تعيدها إليك

ابتسم في سخرية قائلًا :

– أنت لا تدريبما فعلته

ـ بل أخبرتنا ليلى كل شيء

ـ وماذا قالت عن هذا القذر الذي رأيته عاريًا في غرفة نومي ؟

ـ أقسمت بأنها لا تعرف شيئًاعنه

ضرب كفًا بأخرى وصاح متهكمًا :

– أقسمت ..!  وهل صدقتها ؟

– نعم

ضحك ممدوح في هستيريا قائلًا :

– لا ألومك ، وكيف أفعل إن كنت أنا نفسي قد صدقتها ؟

أطلق آهة طويلة يملؤها الألم ثم ضغط على أسنانه قائلًا :

ـ  لست أدري ، كيف صدقت مخلوقة تتنفس كذبًا مثلها ؟!

ربت والده على كتفه قائلًا :

– الأمر الآن لم يعد متعلقًا بـ ليلى وحدها ، بل بطفلك أيضًا

هتف مصدومًا :

– ماذا ؟

ـ ليلى حامل يا ممدوح ، ليلى تحمل حفيدي الذي ……

قاطعه ممدوح في ريبة :

– كيف حدث هذا الحمل ؟

ـ كيف حدث هذا الحمل ..؟!ألست رجلًا ؟

تجاهل سخرية والده قائلًا :

– متى حدث هذا الحمل ؟

ـ علمت أنها في شهرها الثالث

ثم أردف وهو يحدق في وجهه :

– ألم تتحسن الأمور بينكما في الساحل الشمالي ؟

 

صمت شاردًا في تلك الأيام المعدودة التي أمضياها معًا في الساحل الشماليبعد صلحهما ، هل هذا الطفل له بالفعل؟ أم أنه لذلك الوغد الذي رآه معها في غرفة نومه ؟  أو ربمالغيرهما من يدري؟كلهن عاهرات ، ما كان يجب أن يسلم نفسه لامرأة أبدًا.. مهما تظاهرت بالبراءة والعفة

راح يضحك في هيستيريا جعلت والدته تنتحب وهي تضمه إلى صدرها وتهتف من بين دموعها :

ـ ماذا أصابك يا ولدي ؟

ربت ممدوح على ظهرها وقبل رأسها ثم صعدمترنحًا إلى غرفته متخبطًا فوق الدرج .. ما إن ابتعد حتى لطمت المرأة صدرها قائلة :

– ولدي سيجن يا حاج ، ولدي سيجن

نظر إليها الرجل في ألم وقبل أن يعلق فوجئ بـ ممدوح يهبط الدرج من جديد قائلًا :

ـ  دعنا نذهب ونحضرها الآن

صاح والده مستنكرًا :

– الوقت تأخر ، دعنا ننتظر للصباح

أجابه في حزم :

– كلا ، إذا لم نذهب الليلة فلن أذهب أبدًا ، بل سأعود إلى فرنسا في الصباح

غمغم والده وهو يحدق في وجهه :

–  يبدو أنك جننت بالفعل ..!

 

*****

 

كانت عقارب الساعة قد تخطت العاشرة مساء عندما وصل ممدوح ووالده إلى منزل فؤاد الذيشعر بالدهشة لرؤيتهمفي مثل هذا الوقت ، اجتمع رجال العائلة سريعًا واتفقوا جميعًا على عدم عودتها إليه ، خاصة فؤاد الذي اشتعل غضبًا وهو ينظرلذلك المتعجرف الذي جلس صامتًا واضعًا ساقًا فوق الأخرى وكأن الأمر لا يعنيه ، شعر برغبة عارمة في تحطيم وجهه الساخر وهو يتطلع إلى والدهالذي يجاهدليزيل سوء الفهم بينهم ويعيد المياه إلى مجاريها مجددًا

هتف فؤاد بصبر نافد  :

ـ آسف يا حاج سالم ، لكن هذه الزيجة كانت خطأ منذ البداية ولا يجب تكراره مرة أخرى

أخبرهم عمها الكبير بأن ليلى قد تمت خطبتها لولده صالح وسوف تزف إليه ما إن تنتهي شهور العدة

ابتسم الحاج سالم في هدوء قائلًا :

– هل نسيتم أن ليلى تحمل حفيدي الآن ؟

أجابه عمها في لامبالاة :

– بيننا وبينكم الشرع والقانون

هتف الحاج سالم مستنكرًا :

– الشرع والقانون ! الأمر لا يتعدى كونه مجرد سوء تفاهم يحدث بين أي زوجين ، وها نحن قد أتينا لنقدم اعتذار…….

قاطعه ممدوح في لهجة باردة كالثلج :

– مهلًا يا أبي ، لا يوجد ما يدعو إلى التوسل والاعتذار

استقرت أنظارهم فوق وجهه في غضب واستنكار ، لكنه أردف في لهجة أكثر استفزازًا :

ـ نحن لم نأت إلى هنا نطلب بكرًا للزواج ، بل أتينا لاستعادة زوجة سمعتها ملطخة بالخيانة ، كان يجب عليكم أن تنتهزوا الفرصة لا أن تتمادوا دلالًا

أمسك فؤاد بسترته في عنف صارخًا :

– أختي ليست خائنة ، ماضيك القذر هو ما يهيء لك ذلك

أزاحه ممدوح في عنف أشد قائلًا :

– أختك خائنة ، صدقت هذا أو لم تصدق

ضغط فؤاد على أسنانه قائلًا :

– مادمت مقتنعًا بخيانتها لهذا الحد ، لماذا تريد عودتها إليك ؟

أجابه ممدوح في لهجة أفزعته :

– بيننا حساب لم ينته بعد

نظر إليه فؤاد في قلق قائلًا :

– أختي لن تعود إليك

ابتسم ممدوح ساخرًا وقال في ثقة وهو ينهض من جلسته :

– سننتظر في السيارة لدقائق معدودة ، عليك أن تأتي بها إلينا حتى لا يفعل هذا رجال الشرطة غدًا ، ولا أظن بأنكم في حاجة إلى المزيد من الفضائح

نظر إليه فؤاد شاردًا بينما تابع وهو يتجه لباب الخروج  :

– هيا يا أبي

 

تطلع فؤاد حزينًا إلى ليلى التي ارتدت ملابسها وأعدت حقيبتها سريعًاقائلة :

– أنا مستعدة ، هيا بنا

ـ كلا ، لن تذهبي إليه يا ليلى

ـ اطمئن يا فؤاد ، لن يحدث شيء

ـ تقولين هذا لأنك لم تري النار المستعرة التي تطل من عينيه ومن حديثه

ـ سيعرف ممدوح عاجلًا أم آجلًا أنه كان مخطئًا في حقي

ـ أخشى أن يحدث لك مكروه حتى يحدث هذا

ـ لا يوجد مبرر لكل هذا القلق ، اطمئن يا أخي ، ممدوح يحبني

ـ هذا المتوحش لا يعرف الحب

تنهدت في لا مبالاة قائلة :

– هيا بنا قبل أن ينصرفا ، لا أريد أن أذهب إليه بصحبة رجال الشرطة ، سيؤثر هذا على عملي كثيرًا

 

ما إن أقبل فؤاد وليلى إلى السيارة حتى ترجل منها الحاج سالم للترحيب بها بينما اكتفى ممدوح الذي جلس متأهبًا خلف عجلة القيادة بنظرة سريعة ألقاها عليها ، نظرة سريعة لكنها كانت كافية لبث المزيد من الرعب في قلب فؤاد الذي أسرع إلى الرجل الكبير قائلًا :

– أختي أمانة في عنقك يا حاج سالم

ابتسم الرجل وهم أن يعلق ليطمئنه لكن ممدوح انطلق بالسيارة مسرعًا رغم اعتراض والده وصياحه

 

*****

 

جلسوا حول مائدة العشاء الذي أصرت والدته على تقديمه لهم ، لم ترفع ليلى عينيها عن طبقها خشية أن تواجها عيني ممدوح وما تقذفانه من نار موجهة إليها ، نظر الرجل إلى ولده الذي لم يتناول شيئًا من طبقه بل اكتفى بالتحديق في ليلى بنظرات نارية أصابتها بارتباك شديد وذعر عجزت عن إخفائه ، فهتف الرجل محاولًا التخفيف عنها :

– يجب أن تأكلي جيدًا يا ليلى ، فأنا بحاجة إلى حفيد قوي

ابتسمت ليلى في تردد فى حين قال ممدوح للمرة الأولى منذ رأته :

– مسكين أبي .. أليس كذلك ؟

أغمضت عينيها في ألم ولم تعلق بينما أردف في لهجة هيستيرية :

– شوقه إلى الحفيد يجعله يغض بصره عن أشياء كثيرة

نظرإليه والده مستنكرًا لكنه أكمل في قسوة ومرارة :

– تغاضى حتى عن الخيانة

نظر إليه والده ساخطًا قبل أنيقول بسرعة محاولًا الحد من الألم الذي كسى ملامحها

– يبدو أن ممدوح يشعر بالتعب بعد رحلته الطويلة ، لقد وصل للتو من فرنسا ولكنه أصر علىعودتك إليه  قبل أن يغمض له جفن

نظر إليه ممدوح في غضب قبل أن يقذف بالأطباق أرضًا ويغادر المائدة

 

*****

كان مستلقيًا فوق فراشه مغمض العينين وأنفاسه نار مستعرة حين دلفت ليلى إلى حجرته ومست ذراعه في رفق لكنه انتفض مذعورًا كمن مسته حية وصرخ فيها :

ـ اخرجي من هذه الحجرة ، وحذار أن تقربيها مرة أخرى

همست في ألم :

– ممدوح ، لماذا تعذب نفسك وتعذبني كل هذا العذاب ؟

ضغط على أسنانه قائلًا :

– كلانا يستحق العذاب ، أنت تستحقينه لأنك ساقطة ، وأنا أستحقه لأنني صدقتك

عز عليها أن تدافع عن نفسها أمامه فانهمرت دموعها وهي تهتف في لوعة :

ـ أنت تعلم جيدًا أنني لست ساقطة

ـ من قال هذا ؟ أنا لا أعلم عنك شيئًا أكثر مما تخبرينني أنت به ، ويومًا بعد آخر ينجلي خداعك وكذبك

ازدادت نحيبًا وهتفت معترضة :

– أنا لم أعرف رجلًا قبلك .. ولن أعرف بعدك

ـ إن بكيت دمًا هذه المرة .. هل تتوقعين أن أصدقك ؟

نهض وراح يدور حولها كأسد جريح قائلًا وكأنه يحدث نفسه :

– أنا من عرفت نساءً بعدد شعر رأسي ، أقلهن دهاءً يمكنها سحقك سحقًا ، أسقط كدلو في قبضة بلهاء مثلك ..! أنا من لقبونني بساحر النساء وزعيم الرجال ، أنسكب تحت قدميك فتعبرين فوقي !

برقت عيناها في يأس قائلة :

– حسنًا ، هب أنني أخطأت كما تقول ، لماذا لا تغفر لي وقد غفرت لك مرارًا ؟

صرخ فيها قائلًا :

ـ لأنك طعنتني في ظهري ، نعم .. كنتُ شيطانًا لكنني لم أرتدِ يومًا قناع الملائكة كما فعلتِ أنتِ ،  كنتُ ذئبًا ولكنني لم أدعِأبدًابأنني حمل وديع

 

أردف والنار في عينيه لا يمنعها من القفز إليها سوى حاجز من الدمع المتحجر بهما :

ـ حين أعلنت توبتي كنتُ صادقًا ، كنت قد حررت نفسي من شهواتي وسلوكي الهمجي حتى استحق التقرب من ملاك مثلك ..! أمضيت معك شهرًا كاملًا في الساحل الشمالي ، لم أحاول خلاله أن أقبلك رغم الشوق الذي كان يحرقني إليكِ,امتنعت عن معاشرتك وأنت تشاركينني الفراش ذاته في وقت كنت فيه وحشًا لا قلب له ..!

هل تعرفين لماذا ؟

هل تظنين أن جناحي حمامة مثلك هما ما منعا شيطانًا مثلي من الاقتراب منك ؟!

هل تظنين أنني كنت أخشى من بصاقك فوق وجهي ؟!

 

عجزت عيناه عن قمع كل هذا الدمع المتحجر فيهما فصفعها بقوة صارخًا :

ـ لقد قدستك أيتها العاهرة ، ويبدو أنه قد حان يوم قتلك

لم تؤلمها صفعته القوية بقدر ما تألمت لرؤية دموعه التي كانت تتوقع أن تسقط الجبال ولا تسقط أبدًا

اقتربت منه وهي لا تدري ماذا تفعل له ! حاولت أن تجفف دمعه لكنه أزاحها بعنف صارخًا :

ـ ويلك لو اقتربت مني مرة أخرى

همست في توسل :

– ممدوح .. أقسمت أنني بريئة فلم تصدقني.. اعترفت بذنب لم أفعله فلم ترحمني ، ماذا تريدني أن أفعل ؟

أجابها في جنون :

ـ لقد حرقت سترتي عندما شممت بها رائحة الخيانة.. فماذا أفعل أنا والخيانة متجسدة في أحشائك ؟

صرخت ثائرة :

– لماذا أعدتني إليك ما دمت تحملنيذنبًا لا تستطيع أن تغفره ؟

لمعت عيناه فيمزيد من الجنون قائلًا :

– لقد وعدتك أن أكون رجلك الوحيد يا ليلى ، ستبقين بقربي .. سنموت معًا كل يوم حتى نكفر عن هذا الحب

– ليس حبي بذنب لأكفر عنه ، الذنب في رأسك وحدك

اعتصر ذراعها غير مبال بكم الألم المرتسم على وجهها صارخًا :

ـ رأسي أناأم رأسك أنتِ الذي يدفعك للنيل من الرجال واحد تلو الآخر؟!

أدارها إليه في قسوة ليحدق في وجهها وأردف :

– هل انتهيت من رسالتك اللعينة تلك أم ليس بعد ؟ كم منحرفًا تريدينه حتى تكتمل تجربتك يا ليلى ؟ كم رجلًا عليك العبور فوق جثته حتى تحصلي على اللقب يا دكتورة ليلى

أجابته بأنفاس لاهثة ووجه شاحب :

– أنا لا أريد غيرك

تمعن فيها ثم قال في صوت حاول جاهدًا أن يخرج بلا انفعال :

– ماذا بكِ ؟

همست بصعوبة وهي تعض على شفتيها ألمًا :

– أشعر بأنني سأفارق الحياة

أشاح بوجهه قائلًا :

– هكذا ..!   بهذه السرعة !  حسابنا لم ينته بعد

تجاهلت القسوة التي أبداها قائلة :

– هل لي في أمنية .. ربما تكون الأخيرة ؟

التفت إليها في فضول.. فاندفعت تعانقه في حنين عجز عن مقاومته وهي تهمس بصوت بالكاد وصل مسامعه :

– دعني ألفظ أنفاسي بين ذراعيك

أزاحها أرضًا.. وراح يضرب رأسه بالحائط مرارًا حتى سال دمه وغمر وجهه صارخًا كالمجنون :

ـ اذهبي ، ابتعدي عني قبل أن أقتلك

تأوهت وهي تمسك أحشاءها ووجهها يتصبب عرقًا، تفرس فيها جزعًا ، انحنى محاولًا مساعدتها على النهوض من دون جدوى فغمغم في قلق :

– بماذا تشعرين ؟

ضغطت على أسنانها قائلة :

– مغص شديد

تطلع إليها في شك.. فابتسمتبوهن قائلة :

– مغص حقيقي هذه المرة

وجد نفسه بلا وعي يجثو على ركبتيه أمامها وما لبث أن حملها إلى فراشه هاتفًا :

– سأستدعي الطبيب

أمسكت بيده وهي تبتسم رغم ألم قائلة :

– كنت على يقين بأن حبك لي سوف يقهر غضبك الأعمى

تنهد وهو يحرر يده منها برفق قائلًا :

– إسعافك لا يعني بالضرورة أنني غفرتُ لكِ

قالت بأنفاس متقطعة :

– أما أنا ……. وطفلكالذي يموت ….. الآن حزنًا ….  فقد غفرنا لك

 

ما كادت تنهي عبارتها حتى غابت عن الوعي ، تنبه عندئذ إلى الدماء التي لطخت ملابسه ، ألقى بسماعة الهاتف جانبًا وأسرع إليها محاولًا إسعافها ، فوجئ بهذا الكم من الدماء التي تغطي فراشه ، همس باسمها في لوعة فلم تجب …

غمغم في توسل وهو يتفرس في وجهها الشاحب :

– بالله لا تستنفزي أرواحك السبعة ، وأعدك بأن أبتعد عن حياتك للأبد

 

تلفت حوله كغريق يبحث عمن ينقذه ، حملها بين ذراعيه وغادر المنزل مهرولًا غير مبال بهتاف والده ولا صراخ والدته اللذان أسرعا خلفه على عجل

 

كلما حانت منه التفاتة إلى تلك الغارقة في دمائها بالمقعد المجاور له ، كلما زاد من سرعة سيارته حتى بلغ حدًا جنونيًا يثير الفزع ، هناك خياران لا ثالث لهما ،إما أن ينجح في إسعافها أو يموتا الآن معًا

 

*****

 

لم تكن قد تجاوزت السادسة صباحًا ، إلا أن ردهة المستشفى الصغير كانت قد امتلأت عن أخرها بعشرات الزائرين الذين تدفقوا للاطمئنان عليها والتأكد من سلامتها ، تطلعت العيون كلها في لهفة إلى الطبيب الذي خرج للتو من غرفة العمليات فابتسم الأخير قائلًا :

ـ لقد فقدت كمية كبيرة من الدماء ، لكنها ستنجو بإذن الله

نظر إليه الحاج سالم في شبه توسل قائلًا :

– وماذا عن الطفل ، هل هو ….

قاطعه الطبيب في حزن :

– للأسف ، لم نتمكن من إنقاذه ، على أية حال حمدًا لله على نجاتها، والطفل يمكن تعويضه

 

أغمض سالم عينيه في ألم ، كم كان يتمنى أن ينجو هذا الطفل ويظل على قيد الحياة رغم كل ما حدث ، فهو يعلم علم اليقين بأنه لن يستطيع أن يرغم ممدوح على الزواج مرة أخرى مهما فعل ، كان هذا الطفل هو فرصته الوحيدة في الحصول على الحفيد الذيلطالما انتظره ، لماذا يعاقبه الله هكذا ؟!

لا يتذكر يومًا بأنه أخذ ما ليس له ، ربما كان عنيفًا ومستبدًا في أحيان كثيرة ، ربما كان يفتخر بقوة وجبروت ولده ويستغل صلابته في تهديد خصومه وبث الرعب في قلوبهم ، لكنه كافح وعانى طويلًا حتى تضاعفت ثروته التي ورثها عن أجداده ، لم يسرق أحدًا ولم يظلم أحدًا ، لمن سيذهب كل هذا الإرث ؟

 

نظر ممدوح إلى والده في رثاء وهو يلمح كل هذا الكم من الألم وخيبة الأمل فوق وجهه ، لكنه لن يستطيع أن يفعل شيئًا من أجله ، فهو يحتاج الآن لمن ينقذه

تنهد بضيق وأشاح بوجهه لتلتقي عيناه بعيني فؤاد فوجدهما على النقيض تمامًا ، كان وجهه قد امتلأ بالراحة وتنفس الصعداء ، ولمَ لا ..؟!

لكم يتمنى أن تتخلص أخته من هذه الزيجة بلا خيط ولو رفيع يذكرها بها أو بـ ممدوح ..!  هذا الوغد ، الذي يدعو الله أن ينجيه من رغبة ملحة تدعوه لقتله حتى يخلصها منه ، أطلق تنهيدة طويلة وهو يقترب منه محاولًا السيطرة على انفعالاته وثورته المشتعلة في أعماقه ، ظل كلاهما يحدق في الآخر زمنًا قبل أن يقول فؤاد :

ـ هل أنهيت حسابك معها ؟

– ماذا الذي تريده الآن ؟

– ما الذي تريده أنتَ منها أكثر من هذا ؟ لقد كدت أن تقتلها ..!  إن لم تكن قد قتلتها بالفعل ، فهذه المخلوقة الغريبة الميتة بقلب ينبض ، ليست هي أختي التي أعرفها ، وأين هذه البائسة المحطمة من ليلى القوية المليئة بالأمل ..؟!  اتركها فربما استطعت أن أعيد شيئًا منها …

كان ممدوح يستمع إليه صامتًا فأردف فيمزيد من العصبية :

– طلقها وابتعد عن طريقها للأبد ، يمكنني الآن أن أذهب إلى مركز الشرطة وأقدم بلاغًا ضدك أثبت فيه ما فعلته بها ، يمكنني أن ….

قاطعه ممدوح في حدة :

– إن كنتَ تظن أنني سأطلقها خوفًا من أحد فأنتَ مخطئ

ضاقت عينا فؤاد وهو يضغط على أسنانه قائلًا :

– لا تجبرني على فعل شيء لا أريده

غمغم ممدوح في لامبالاة :

– إن كنت تريد قتلي ، فدعني أخبرك بأنني ميت بالفعل

ـ ربما كنت محقًا هذه المرة ، فأنت لا قلب لك

همسبصوت بلغ فؤاد واضحًا :

– نعم لا قلب لي ، ما كدتُ أكتشفه حتى سلبتني أختك إياه ..!

 

تفرس فؤاد في ملامحه وأدرك للمرة الأولى ما يعانيه من عذاب ، كيف لم يلحظ من قبل كل هذا الحب الذي أفقده صوابه ، لقد نجحت ليلى بالفعل وجعلت منه قيسًا جديدًاكما أرادت ، لكن وبرغم كل هذا ،  يجب أن يبتعد عنها للأبد ، فربما كان حبه لها أكثر خطرًا من لا مبالاته بها

ربت ممدوح على كتفه قائلًا فى كلمات تقطر ألمًا :

– أختك ليلى طالق

هم بالانصراف عندما استوقفه فؤاد :

– هذا الطفل كان طفلك

ابتسم في تهكم قائلًا :

– ربما ، هذا لم يعد يهم الآن

ـ يهمني أنا أن تعلم بأن أختي ليست ساقطة

ـ كنت أود أن أكذب عيني وأصدقك ، ولكنني لا أستطيع

ـ لو تتخلص من بقايا الماضي ستصدقني

ضحك في عصبية قائلًا :

– ما أريد التخلص منه هو الآتي

نظر إليه فؤاد في شفقة لم يتخيل يومًا بأنه سيشعر بها نحوه بينما همس الأخير قبل أن يغادر المستشفى :

ـ أعتنِ بـ ليلى

 

*****

 

– ممدوح .. فكر مرة أخرى .. الحياة لا تتوقف بعد الطلاق ، يمكنك أن تبدأ من جديد

أجابه ممدوح وهو يخرج بعض الأوراق من درج مكتبه ويضعها في حقيبته

– انتهى كل شيء يا أشرف ، لن أعود إلى الإسكندرية مجددًا ، عندما تجد مشتري للشقة تخلص منها ، بأي ثمن ولا تفكر كثيرًا

– ممدوح .. بغض النظر عن كل ما حدث ، أنا على يقين من أن ليلى تحبك حبًا جمًا ، إذا طلبت منها العودة إليكَ لن تمانع أبدًا ، بل سوف ترحـ……..

– ليلى مجنونة .. وأنا أكثر منها جنونًا ، فراقنا لا مفر منه

احتضنه أشرف في لوعة وهتف به :

– أعرفك عنيد ومتحجر القلب ، مهما رجوتك لن تغير رأيك ، مهما أخبرتك عن الفراغ الذي ستتركه بيننا فلن تشعر به .. متى سترحل ؟

ربت ممدوح على ظهره وتصنع ابتسامة قائلًا:

– سأرحل غدًا

– هكذا .. بهذه السرعة .. من دون أن تودع بقية الرفاق  ..؟!

– سأودعهم بالطبع .. اخبرهم بأننى أدعوهم إلى تناول العشاء الليلة ، في المكان الذي يريدونه ، عندما تحددوا المكان أخبرني وسألحق بكم

لم يستطع أشرف أن يكبت انفعالاته أكثر من هذا ، انفجر باكيًا كالأطفال ، تأمله ممدوح وزفر بضيق قبل أن يشيح بوجهه عنه ويهتف مناديًا سكرتيرة مكتبه ، أقبلت سهام على عجل وما إن رأى عينيها المتورمتين حتى قال ساخطًا:

– ما بالكما ..؟   وكأنني ذاهب لقبري لا للساحل الشمالي ..!

ازداد الاثنان نحيبًا فغمغم في صبر نافد وهو يمد يده لـ سهام :

– هذا شيك بمبلغ صغير ، اعتبريه مكافأة نهاية الخدمة ، لقد تحدثت بشأنك مع المهندس الذي اشترى المكتب ونصحته بأن يحتفظ بكِ ، أخبرته بأنكِ سكرتيرة رائعة

غمغم يتصنع ابتسامة :

– لكن .. لا تدعيه ينعش حياتك الزوجية ، فالأمر صعب جدًا لزوجك ، بالمناسبة .. بلغيه سلامي

انهارت سهام وهي تهتف بأنفاس لاهثة :

– أي نقود تلك التي تعوضني عن إحساسي بك  ؟ وأي عمل سيطيب لي بعيد عنك ، تعلم جيدًا أنني لا أعمل من أجل المال بل من أجلك أنت ..؟!

ربت على كتفها مواسيًا ، يا الله .. لكم كان طائشًا.. همجيًا بالفعل كما اعتادت ليلى أن تصفه ..!  كيف استطاع أن يعذب كل من حوله ويؤلمهم حد البكاء ..؟!   لم يرحم ضعفًا لقلب ملكه ..!

عليه الآن أن يتجرع من كأس لطالما أشقى الأخرين به ولم يشفق أو يترفق ، سوف يتجرعه راضيًا عله يكفر عن بعضٍ من ذنوبٍ.. بقصد فعلها أو بلا قصد ، ربما استحق الغفران يومًا ومنحه الله فرصة أخرى …

 

*****

 

 

كثيرًا ما تكرر وجودهم معًا في هذا المكان وعلى ذات الطاولة ، ولكنهم في أحلك الضغوط والمواقف التي تعرضوا لها .. لم يسد بينهم ذلك الوجوم ، حتى البسمات المصطنعة غدت ثقيلة والتصقت بحلوقهم فلم تغادرها ، العبارات القليلة التي أفلحت في الهروب من أفواههم زادتهم إحباطًا وحزنًا فقرروا الصمت ، تدلل الصمت وتمادى في دلاله حتى قطعه نحيب كمال الذي لم تتحمل أعصابه الصمود أكثر من ذلك فأجهش في وصلة من البكاء العنيف المتصل ، لم يحاول أحد مواساته أو التخفيف عنه .. بل انتقلت العدوى تدريجيًا لتشمل الجميع حتى قال ممدوح بصوت مختنق :

– كان غباءً منيعندما قررت أن نجتمع اليوم معًا

قالت نجوى من بين تشنجاتها :

– هل كنت تريد أن تذهب بلا وداع ؟!  أما لقسوتك من حدود ؟!

– كلما نظرتُ إلى وجوهكم شعرت بأنني راحل بلا عودة ، كنت أتوقع سهرة مرحة كعهدنا دائمًا

غمغم عادل في لوعة :

– عهدنا انتهى برحيلك عنا ، لقد فرقت شملنا للأبد

– كف عن حديثك السخيف هذا ، سوف نلتقي هنا وفي الساحل الشمالي حيث أعمل ، سنقتنص كل الفرص المتاحة لنتواجد معًا ، الصداقة التي تربطنا أقوى من أن يقهرها الزمن

 

أمسكت نجوى بيديه وهمست في مزيج من الحزن والعتاب والغضب :

– وماذا عن حبنا ، ماذا عن حبي أنا لك ؟!  أعلم أنك لم تحبني كما أحببتك ، ولكن كيف هنت في قلبك لهذا الحد؟  كيف استطعت أن تتركني بعد سنوات أمضيناها معًا؟ ألا تذكر لي لحظة جميلة جمعتنا أوضحكة حلوة تبادلناها؟  كلماتك كانت مصطنعة ولكنني أحفظها كلها ..ألم تعلق كلمة مني في خاطرك ..؟! الأماكن التي زرناها معًا كيف سأراها وحدي بعد رحيلك ..؟!  كل العيون التي رأتنا معًا.. بماذا سأخبرها عندما تسألني عنك ؟!

 

– بالله كفى يا نجوى ، إن كنت لا أجيد البكاء فهذا لا يعني أبدًا أنني لا أتعذب وأعاني ما تعانوه ربما أضعافًا

 

أخرج من جيب سترته بعض الأوراق قدمها إليها قائلًا:

– هذا تنازل مني عن الشقة التي تشاركناها معًا ، وهذا شيك بمبلغ أظنه كافيًا لفترة طويلة ، أتمنى خلالها أن تبحثي عن عمل مناسب ، أنت جامعية وجميلة وذكية حد الدهاء ، لن تجدي صعوبة في الحصول على عمل جيد، أتمنى أيضًا أن تتوفقي إلى زوج يحبك ويعوضك سعادة عن كل ما سببته لكِ أنا من ألم

غمغمت ساخرة :

– ولماذا لا تزوجني أنت ..؟!   ابحث في جيبك الآخر ربما تجد لي زوجًا به ..!

– نجوى ..!

– آهٍ .. لو تدري كم أتألم ..!  لو تشعر بما أشعر ما كنت استنكرت لوعتي..!

– لا تحسبن أنني خرجت من مصابي بلا جراح ، إن كنتُ لا أذرف دمعًا فقلبي ينزف دمًا

هتفت به سميرة بلا مقدمات :

– أمن أجل امرأة خانتك تفعل بنفسك وبنا كل هذا ؟

نظر إليها في غضب ، ما لبث أن وجهه لـ أشرف ، لم يكن سواه يعلم بهذا الأمر ، وإن لم تكن ليلى هي من أخبرته .. ربما ما كان ليعلم أبدًا ، كبرياؤه هو الشيء الوحيد الذي تبقى له بعد أن هان كل شيء في عينيه

 

صرخ بها أشرف وكأنه ينفي التهمة التيالتصقت به :

– من أخبرك بهذا الأمر ؟

 

ارتبكت سميرة وحانت منها التفاتة إلى نجوى التي تبدل حزنها فجأة إلى خوف حاولت إخفاءه من دون جدوى ، لقد باحت سميرة في لحظة طائشة بما خططت له سابقًاونجحت في إخفائه حتى الآن ، كانت تأمل أن تسير خطتها كما أرادت .. فتتخلص من ليلى ومن ذلك الرجل أيضًا عندما يراهما ممدوح معًاويفاجأبخيانة زوجته ، كانت تعلم أن القانون سوف يبرئه لأنه فعل جريمته دفاعًا عن شرفه المغتصب ،حينها كان سيعود إليها ولن يفكر في الزواج مطلقًا بعدها ، لكن خطتها فشلت ، لم تكن تتوقع أبدًا أنيطلقها في صمت ويتكتم الأمر

ضاقت عينا ممدوح وومضتا فجأة وهو يوجه حديثه إلى سميرة من دون أن يرفع عينيه عن نجوى:

-أن لم يكن أشرف هو من أخبرك .. فلا شك أن نجوى لديها الكثير لتخبرنا به

غمغمت نجوى وقد فضحتها ملامحها :

– ماذا تعني ، وما شأني أنا بهذا الأمر ؟

تطاير الشرر من عينيه قائلًا :

– كيف دخل هذا الوغد إلى حجرة نومي ؟

– و ما أدراني أنا ؟ اسأل من كانت زوجتك ، هي من أدخلته

– أخبرتني ليلى بأنكِ زرتهاذلك اليوم المشئوم .. وأنك من أخبرتها بأمرعودتي من فرنسا ، جنوني يومها أعماني عن الوصول للحقيقة ..لكنني على يقين الآن بأنك من دبرت لكل هذا أيتها اللعينة

– ومن أين لي أن أعرف بأمر عودتك من فرنسا ؟ لا تحاول أن تبرئها وتتهمني بالمقابل

 

قال أشرف الذي كان على يقين من براءة ليلى .. وإن كان لم يستطع إثباتها في حينها

– لا شك في أن سميرة هي من أخبرتك ، كانت تقف بجواري وأنا أتسلم التلغراف الذي أرسله ممدوح

– يبدو أنكلاكما قد عقله ، لابد أن أذهب من هنا

ما كادت تنهض حتى وجدت قبضة ممدوح الحديدية حول عنقها تعتصره بقوة وهو يضغط على أسنانه قائلاً :

– ليس قبل أن تخبريني بالقصة كاملة ، منذ رأيت هذا المجرم وخططما معًا لجريمتكما الدنيئة .. وحتى أدخلته إلى حجرة نومي

فتحت فمها واتسعت عيناها وهى تلهث بأنفاس تكاد تتوقف :

– ممدوح .. سوف أختنق بالفعل ، لم أعد قادرة على التنفس

 

حاول رفاقه أن يخلصوها من قبضته ، لكنه هتف في هيستيريا أفزعتها وأفزعتهم :

– سوف أقتلك يا نجوى ، بسببك قتلت طفلي وكدت أقتل المرأة الوحيدة التي أحببتها، بسببك أهدرت أمال أبي حتى كاد يجن حزنًا على حفيد انتظره طويلًا وحرمته منه في لحظة طيش ، أنا وأنتِ نستحق الموت عن كل ما سببناه لهؤلاء الأبرياء من حزن وألم ….

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

error: