البارون .. “عندما يصبح واقعك هو جحيمك”
الجزء التانى
… عبرت بوابة مبنى المشفي نحو الداخل لأجد بهوا شاسع ذو أرضية من الجرانيت الأبيض تقف عليها فتاة شابة شقراء ذات جمال خلاب ترتدى الزي الخاص بأفراد النظافة تقوم بعملها من أعمال النظافة للأرضية بصحبة شاب قوى البنيان بائس الوجه يرتدى مثل زيها، وكانت الحوائط المحيطة بالبهو من نفس اللون الأبيض، يتدلى من السقف ثرايا كريستالية ضخمة والسقف نفسه مزين برسومات الأساطير الأغريقية ولا يخلو أحد أركانها من كاميرات المراقبة، يقع على يمينى ويساري مقاعد أنتظار من الجلد الأسود خاوية هى الأخرى فلا تواجد لأى أحد أخر بالبهو سوى عمال النظافة هؤلاء ومن الواضح قيامهم وتفانيهم فى عملهم على أكمل وجه فلا ذرة غبار واحدة توجد بالمكان والرائحة ذاكية تشعر النفس بالسعادة لا تدل أطلاقا على كائبة وجهة المبنى الخارجية، وبالأمام يتواجد مكتب الأستقبال تقبع من خلفه فتاة شقراء أخرى تقف تنظر لى بإبتسامة صامتة ؛ تقدمت نحوها بخطوات ثابتة، شابة لا تتعدى منتصف العشرينيات من العمر بيضاء البشرة شقراء الشعر ذات اعين زرقاء تضع مساحيق التجميل بشكل متناسق ولكن صارخ ترتدى بذلة أنثاوية سوداء اللون وتحمل رقعة بأسمها سيلين، أقتربت منها قائلا
- صباح الخير
= صباح النور يا دكتور أدهم !!
… للمرة الثانية شخص أخر يعرف أسمى دون سابق تعارف بيننا، كانت الدهشة بداخلى تختلط بالحيرة والتعجب وانا أنظر لها وهى تشير بيدها نحو ممر متواجد الى يسارى مستكملة
- دكتور عزت بأنتظار حضرتك أخر مكتب على اليمين
= شكرا
… لم أزد عن كلمة الشكر تلك وتوجهت نحو مكتب الطبيب عزت عبر ذلك الممر الذى أشارت أليه سيلين، كان الممر يحتوى على عدة مكاتب عن اليمين واليسار جميع أبوابها مغلقة وموضوع على بابها أشارة بأسم ادارة كل منهم فعن اليسار وجدت مكاتب أدارات شئون العاملين وأدارة الحسابات والخزينة، وعن اليمين وجدت أدارة المشتريات والمخازن والعلاقات العامة وبالنهاية مكتب الطبيب عزت يعتليه لافتة المدير العام وبنهاية الممر يتواجد كاميرتان أخرتان للمراقبة ؛ تعجبت قليلا من الأمر فلا وجود لمكتب سكرتارية ومكان مكتب المدير العام بوسط الأدارات بالدور السفلى غريب بالنسبة لى، ولكننى قررت أبقاء تساؤلاتى حبيسة عقلي فقط ؛ طرقت الباب بعض طرقات رتيبة بسيطة فجأنى صوته من الداخل قائلا
- أتفضل يا دكتور أدهم !! .. أدخل.
… ادرت مقبض الباب أفتحه وأدلف الى الداخل ؛ مكتب رتيب منظم له شرفة تطل على الحديقة الخلفية للمشفى حوائطه تتشح بأوراق الحائط بنى اللون ويتسم بالطراز الأنجليزى فى تصميم ديكوراته وأساسه المكتبى، مكتبة صغيرة تحتوى بعض المجلدات الطبية الخاصة بالطب النفسي وأبحاثه، وبعض مجلدات علم التشريح، وبعض الروايات وخزانة صغيرة مغلقة أسفلها تحتل الحائط الأيسر بجوار بعض اللوحات لدافنشي وسيفان قديمان معلقان بالحائط، وباب صغير بنهاية الحائط يصعب ملاحظته للوهلة الأولى، وعلى الجانب الأخر يوجد حامل معاطف خشبي معلق عليه معطف طبى بجواره خزانة بعرض الحائط متوسطة الطول تحمل بعض الشمعدنات الفضية والتحف الكريستالية بينما الحائط يحمل بعض الشهادات الدراسية والعلمية ولوحة كبيرة ولكنها مغطاة بالكامل بقطعة من القماش بطريقة تثير الفضول بقوة لمعرفة ما بتلك اللوحة، ويتوسط الغرفة مكتب خشبي من الطراز العتيق يعلوه بعض الأوراق الموضوعة بطريقة مرتبة وبعض أكسسورات المكاتب وتحفها وحاسب ألى وهاتف أرضي يجلس من خلفه الطبيب عزت رجلا بمنتصف الأربعينيات ذو شعرا أسود ناعم وكثيف، بشرة سمراء وجسد رياضي يحمل بوجهه أعين عسلية اللون حادة النظرات ينظر بهما نحوى وهو ينهض واقفا يمد يده لى ليصافحنى قائلا
- أهلا يا دكتور أدهم .. أنا دكتور عزت راشد .. أتفضل يا دكتور أستريح .. شكلك تعبان من المشوار
= أهلا بحضرتك يا دكتور .. هو مكنش متعب ولا حاجة هو بس دوخت شوية على مقدرت أوصل بس الحمدلله وصلت
- معلش يا دكتور بقي هى بس اول مرة كدة .. لكن بعد كدة هتلاقي المشوار سهل .. قولى تشرب ايه؟
= ياريت قهوة مظبوطة ومياه ساقعة بس لو أمكن يا دكتور.
- حلو نشرب اتنين مع بعض بقى
… كانت الأبتسامة الهادئة لا تفارق وجه عزت طوال حديثنا سويا قبل أن يلتقط سماعة الهاتف الأرضي و يضغط زر أتصال دخلى وانتظر لحظات قبل أن يقول
- أيوة يا هند .. لو سمحت أطلبلنا أتنين قهوة مظبوط ليا انا ودكتور أدهم عندى فى المكتب
… أغلق الهاتف وعاد ينظرى نحوى بأبتسامته الهادئة تلك قائلا
- ها يا دكتور مستعد للشغل معنا؟ !!
= شغل ايه يا دكتور؟ !! .. حضرتك مشرحتليش حاجة عن طبيعة العمل ولا أطلعت على أوراقي ولا فهمتنى حاجة .. حتى الأيميل اللى جالى من المستشفي من هنا كان مختصر ومفيهوش اى تفاصيل .. ومفيش أى حاجة على النت عن المكان هنا، وبعدين معلش سورى يعنى يا دكتور انا فى سؤال هيجننى .. ازاى كل اللى فى المستشفي هنا تقريبا عارفين انا مين وانا أول مرة أشوفهم؟ !! .. انا مبقتش فاهم حاجة من اللى بتحصل خالص !!.
… عقد عزت أصابع يديه أمام وجهه وهو ينظر لي بينما أمطره أنا بسيل الأسئلة ذلك كما لو كانت تخرج دون أرادة مني، وبعد أن أنتهيت أتسعت أبتسامته بطريقة مستفزة قائلا
- طب أهدأ بس يا دكتور .. وأنا هفهمك كل حاجة.
… لم يكد عزت ينهى جملته حتى وجدنا بعض الطرقات الرتيبة على باب المكتب قبل أن يفتح وتدلف الى المكتب سيدة ثلاثينية ممشوقة القوام وملامح أنثاوية طاغية تخطف الأنفاس ذات بشرة بيضاء وأعين سوداء ولكن شعرها المنسدل كان أشد سواد من عيناها ؛ كانت ترتدى قميص أنثوى ابيض اللون مزركش من المنتصف بالدانتيل الرمادى وتحمل رقعة بأسم هند من الأعلى و تنورة قصيرة تعلو الركبة ببعض إنشات قليلة بنفس لون الدانتيل من الأسفل مع حذاء أنثوى بكعب عالى جعل خطواتها متناسقة وهى تدلف الى المكتب تتوجه نحوي تمد يدها للمصافحة قائلة
- أهلا يا دكتور أدهم
= أهلا بيكي
… صافحتها وعدت الى مجلسي بينما دلف من خلفها شاب متوسط العمر وسيم الوجه مهندم المظهر بذلك الرداء البنى برقعة تحمل أسمه حامد ؛ دلف حامد من خلف هند يحمل قدحي القهوة وأكواب مياه مثلجة فتشير له هند بيدها دون أى كلمة منها ليضعها أمامى وأمام عزت ثم عاد ليقف خلفها بطريقة مهذبة ونظره لا يفارق أرض المكتب حتى قال عزت
- هند ورق دكتور أدهم وتسجليه عندك على أنه الدكتور المقيم فى المشفي وتعمليله عقد براتب 4000 دولار فى الشهر
= كام؟ !!!!
… كنت على وشك أرتشاف بعض القهوة ولكنها قد أنسكب القليل منها عندما خرج التساؤل منى بدهشة كمن أصابته صاعقة من فرط الذهول، فأنا لا أعى هل ما سمعته توا حقيقة أم خيال ؛ أبتسم عزت نحوى بثقة قائلا
- أيه يا دكتور شوية؟ .. خلاص ممكن نخليهم 5000 دولار بس صدقنى مقدرش أزود عن كدة
= تزود أيه؟ .. أنت بتتكلم جد؟!!
… أخرج عزت علبة سجائره من أحد أدراج مكتبه وتناول أحد السجائر منها ثم أشار بها لى فتناولت واحدة وقام هو بأشعالها لى قبل أن يشعل سيجاراته وهو يقول
- لا أعذرني بقى يا دكتور أنا فعلا مش هعرف أزود عن كدة مع أنى عارف أنك تستحق أكتر من كدة بكتير
= أنا؟ !!!
- يا دكتور ده أنت رسالة الدكتوراة بتاعتك وبحثك الأخير عملوا طفرة فى مجال الطب النفسي والعصبي
= أيوة هما كانوا كويسين فعلا بس مش للدرجة ديه يعنى .. وفى ناس كمان أعتبروهم جريمة فى حق المرضي وطلبوا بحرقهم
- دول جهلة مقدروش يشوفوا العبقرية فى أبحاثك
= الله المستعان يا دكتور وهو قادر يظهر الحق .. المهم !!
- سمعك يا دكتور .. ها عايز تسأل عن أيه؟
= واضح أنكم عارفين عنى كل حاجة
- ده أكيد يا دكتور .. محدش بيتعين هنا فى المستشفي غير لما احنا بنختاره بنفسنا بعد منستعلم عنه كويس اوى .. تقدر تقول كدة أن المستشفي هنا فيها فى كل قسم نخبة الناس اللى مختارنيهم بعناية كبيرة .. وتوضيح لنقطة بسيطة أنا النهاردة فى الميتينج عرضت صورة حضرتك على كل الموجودين فى المستشفي وأنا بقولهم أنك هتنضم لفريق عملنا وهو ده اللى كان مخلينهم عرفينك من غير سابق معرفة
= طيب تمام .. وانا موافق يا دكتور عزت أتمنى أستاذة هند ……!!
… كنت قد ألتفت نحو هند بينما أقول جملتى الأخيرة فتعجبت من بقاء حامد واقف بمكانه خلفها ولكن ما أخرسنى وجعل عقلي تضربه الحيرة كعاصفة هوجاء هى نظراته الخاطفة والخائفة نحوى وهو يهز رأسه على أستحياء هزات بسيطة بحركة النهى كما لو كان يحاول أن يثنينى عن قراري ؛ لاحظت هند صمتى المفاجئ ونظرتى المتحيرة نحو حامد من خلفها فأبتسمت بأمتعاض قبل أن تنظر نحو حامد من خلفها بنظرة تحمل كل معانى الغضب قائلة
- روح أنت يا حامد وأبعتلى حسن
= حاضر .. أمرك
… لم يكثر حامد فى الحديث عن ذلك وأنصرف مسرعا من فوره بينما نظرت هند نحو عزت الذي أشار أليها بنظرة رضا لم أعلم الى ماذا يرمى بها قبل أن يوجه نظره نحوى قائلا
- بعتذر يا دكتور .. كمل حضرتك كنت بتقول ياريت هند أيه؟ !!
= ها؟ !! .. أه معلش سرحت .. كنت بقول ياريت أستاذة هند تخلصلنا العقد عشان لو هنمضيه وحد بس يعرفنى مكان أقامتى فين عشان لو ألحق أرتاح شوية قبل الليل ما يجي وابدأ الشغل
… ضحك عزت قليلا للحظات قبل أن يعود لأبتسامته الهادئة وهو يقول
- الليل؟ !! .. لا يا دكتور واضح أن الامر اختلط عليك .. أحنا كلنا موجودين النهاردة فى الوقت ده عشان نستقبلك ونعرفك على المكان مش أكتر .. لكن فى الحقيقة يا دكتور أحنا كلنا شغلنا بليل وحضرتك اللى هتكون موجود بالنهار بعد كدة..!!