رواية الجرم الأكبر
———————الأنتظار! هو حالة شديدة القسوة على نفس من يترقب حدثًا ما يُثلج صدره، ويُحي دقات قلبه المتباطئة وكأنه يحتضر بغياب عزيز لديه .. هو قطعة من العذاب.. لقادم تجهل كل تفاصيله وتخافه، وتتسائل بأي كفة سترسوا؟
كيف ستكون طبيعة القرار المنتظر ؟ شقاء أم سعادة؟ لا تدري حسناء إلى متى ستنتظر عودته وعفوه عنها.. ولا تملك خيارًا سوى المكوث متضرعة على عتبة باب الرحمن تدعوا بإلحاح أن تصفوا القلوب مرة أخرى بينها وبينه!
قررت أخيرًا العودة لمنزل غسان، حتى إذا ما قرر أن يأتي إليها يجدها هناك، بمملكتهما الصغيرة..!ورغم ما تحمله من هم وحزن، أبتسمت وهي تربت على بطنها المنتفخ بحنان، داعية من الله حين يُولد طفلها بسلام، يكون سببًا بعودة الأمور گسابق عهدها..!. اتسعت ابتسامتها حين تذكرت فرحة كريم بعد علمه أنه سيرزق بأخٍ ثاني، فهذا ما علمته عندما زارت طبيبتها، وكم تمنت وجوده معها ومشاركته تلك اللحظة.. لكنها ستظل تلوم ذاتها بأخر الأمر، فلولا ما فعلت، لكانت تنعم الآن برعايته وحنانه وفرحته .. لكن لعله خير.. هي حسنة الظن بخالقها، أن القادم سيكون افضل!
______________________بعد أداء صلاتها الأولى خلف زوجها فارس، الذي كان إمامها، وصوته العذب يرتل الدعوات لهما سويًا.. وكم تفاجأت بإتقانه الدعاء بشكل يوحي أنه لا يفتقر ابدا في نشأته، بترسيخ حيز لا بأس به من الجانب الديني بطريقةٍ ما..!
ورغم مرور مايقرب من الخمسة ليال على زواجهما، وزوال الكثير من خجلها الفطري أمامه، إلا أنها الآن جالسة على طرف فراشها تفرك أصابعها بتوتر وقلق، والكثير من الأقاويل تتدفق لعقلها عن الليلة الأولى!
تْرى! ماذا سيحدث، كيف عليها التصرف بالظبط؟ لا تعلم أي شيء، وخجلت هي في الأساس أن تستفسر من أحدهم.. كم افتقدت وجود والدتها بشيء كهذا..!
_ سمورة! إيه مالك؟ بقالك شوية قاعدة بإسدال الصلاة، أحنا خلصنا صلاة على فكرة!
تمتمت ببعض التيه: هاااا… أه.. فعلا خلصنا، طب أروح احضرلك العشا.. وحاولت الهرب، فالتقط طرف ثوبها وجذبها إليه وهو يهتف: انتي ناسية إننا في فندق واي حاجة بنطلبها لحد هنا..!
صمتت وهي تنظر بعيدا عنه، ووجنتاها يكادا يحترقا خجلا وتوترًا.. فتفحصها عن قرب بتسلية وتمتم وأصابعه تجول على وجهها تتلمسه برفق:
تعرفي ياسمر أول حاجة لفتت نظري ليكي اما شوفتك في النادي؟!
جذب انتباهها وشتتها عن توترها، فرفعت عيناها إليه منتظرة جوابه، فاستقبل نظرتها بأخرى تفيض عشقًا أسرها، فحررها من قيد خجلها وراحت تطالعه بحب مماثل، فتمتم بصوت خافت، ومازالت عيناه تأسرها:
جمالك كان مختلف عن أي جمال صادفته، حزين بس مبهر، نعومة ملامحك خلتني اتمنيت المسك.. عنيكي كان فيها مزيج غريب، حنان، وحدة، حزن، قلق.. انا كل ده شوفته في نظرتك..وكل مرة كنت بشوفك كنت بحس إنك بتتزرعي جوايا أكتر، وشعوري ناحيتك بيكبر بسرعة غريبة..!
تجرعت ريقها ورمشت عيناها، وتأثيره يتدفق داخلها بسلاسة ونعومة، متذوقة أحاسيس جديدة.. لكن لذيذة، وذراعيه تحاصرها وتتملكها أكثر، مواصلا ونبرة صوته تنقلها لحدود عالم أخر:
ليا صديق أسمه جواد، حكالي مرة عن عشق الروح، وازاي حب واحدة من مجرد صورة.. وارتبط بيها من غير مايشوفها، وقتها بيني وبين نفسي حسيته بيبالغ، ويمكن ماصدقتوش بس طبعا ما اظهرتش ده قدامه! لكن دلوقت فهمته.. كل واحد في الدنيا له روح تخصه هو لوحده، وبيعرف صاحبها حتى من غير مايكون عرف أي معلومة ملموسة.. أنا بحبك أوي ياسمر.. أوعي تخافي مني! مش عايزك ترتعشي بين ايدي من الخوف.. لكن ارتجفي وانتي بتبادليني حبي! ولو عايزاني أ…………… ..
لم يُكمل، وهي تقاطعه بغتة بضمه إليها گ جواب، وربما قرار.. أنها بتلك اللحظة ستكون له.. ولن تهابه.. بل تريده مثله وأكثر!. وبهذا القرب منها والذي قابله بسخاء مشاعر تليق بها.. بدأ تلاحم أجسادهما وأرواحهما سويا.. متلحفين بعباءة عشقهما الحلال..!
______________________
في منزل مروان!
_ تعرفي ياملك.. مع إني كنت قلقان إن حسناء ترجع بيتها لوحدها وهي بحالتها دي، بس اما فكرت لقيت إن ده ممكن يبقى سبب لغسان يرجع أما يحس إنها لوحدها ومحتاجة له، خصوصا إنها في أيام حملها الأخيرة!
ملك: وانا رغم إني افتقدها معايا في البيت، بس ده لمصلحتها، وبردو أي ست مش بترتاح غير في بيتها، عشان كده ماضغطش عليها زيادة وسبتها براحتها..!
_ عندك حق لوكا.. وواصل: أنا عندي ليكي مفاجأة!
تسائلت بفضول: مفاجأة أيه ياحبيبي؟
_هتعرفي بكرة الصبح ياقلبي!
……………
باليوم التالي!
ملك بدهشة: هنروح الساحل بجد؟!
أجابها وهو يأخذ موضعه خلف عجلة القيادة: أيوة ياحبي، بقالنا كتير أوي مش سافرنا وغيرنا جو، حسناء خلاص في بيتها، ويامن مع ليلى وهتاخد بالها منه!
_ بس قلبي مش مطاوعني اسيب ابني يا مروان، كنا اخدناه معانا..!
_ ياملك يامن هيشغلك ومش هتاخدي راحتك، وانا عامل الرحلة. دي علشانك، وكلها 3 ايام بس اللي هنغيبهم، ولو مش متأكد إن ليلى هتحطه في عينيها ماكنتش انا هسيبه، بالعكس دي فرحت اوي وشكرتني.. متقلقيش وكل حاجة هتبقي بخير!
ثم همس لها بنبرة ذات مغزى: وبعدين وحشتني أيام شهر العسل أما كنا لوحدنا وعايز اعيدها، عندك مانع!
ابتسمت بحنان ورفعت كفه الحرة وقبلتها متمتمة: معنديش مانع طبعا، أنت كمان وحشتني ياميرو، وهدلعك في اليومين دول أحلى دلع!
بادلها هو الأخر تقبيل كفها الممسك بكفه، متلهفًا للغوص بجنتها بضعة أيام! ليجدد معها لحظات عشق اشتاقها وهما بعالمهما الخاص!
__________________________
في منزل ليلى!
( منورني ياحبيب قلبي انت.. ياريت بابا وماما سافروا من زمان عشان نقعد سوا ونلعب سوا.. مش انت كمان مبسوط مع عمتو ليلي يا يامن؟)
يداعبها الصغير ويبتسم لها وهي تحدثه، وراحت تطعمه وتلاطفه.. ثم شرد ذهنها بما حدث يوم زفاف سمر.. وكيف فاجأها والد غسان بعرض زواجه منها..
لم يُطرح في بالها قط أن تتلقى عرض زواج بتلك الطريقة.. وداخلها لا يريد خوض التجربة ثانيًا.. فلتبقى هكذا.. تحيا بهدوء، مالكة زمام أمرها.. ويكفي من حولها من أشخاص أصبحوا لديها گ عائلتها.. وليكن الرفض إجابة عرضه.. وبتلك النتيجة استقر عقلها..!
( أسفة استاذ حسن.. طلبك مرفوض.. معنديش أي نية اتجوز تاني!)
رسالة بعثتها لهاتف والد غسان ..الذي أستغل دهشتها حين عرض رغبته يوم زفاف سمر.. وأخذ هاتفها وسجل رقمه الخاص.. وأعلمها أنه ينتظر قرارها..!
__________________________
مر شهر العسل بين فارس وسمر گ الحلم الخاطف، وعادا لفيلتهما الخاصة منذ شهر أخر، ومعهم حاتم الذي سيقيم معهما..! وبينما فارس يستعد للذهاب لعمله، تمتم:
_بقولك أيه ياسمر.. أنا عايز اسحب أوراق حاتم من مدرسته واقدمله في مدرسة إياد..!
سمر وقد بدا ملامحها الرفض: ليه يا فارس؟
تمتم وهو يرتدي معطفه: من غير ليه ياسمر، ده قرار اتأخر اصلا ، المفروض كنت نقلته من بدري مدرسة إياد، هما بنفس السن، وأكيد هيندمجوا بسرعة سوا..!
فقالت : لأ يافارس مش موافقة.. أنا مش هقدر على مصاريف مدرسة إياد..!
رمقها بعتاب: على أساس إنك انتي اللي هتتكفلي بكده؟ هو انا مش راجل قدامك ياسمر؟!
ربتت على كفه هاتفة بلين: ده انت سيد الرجالة يافارس، بس انا مش عايزة حد يكون له فضل على اخويا.. مش عايزة عينه تتكسر ابدا قصاد حد لما يكبر.. وبعدين بلاش نلخبط حياته.. هو له مدرسته واصحابه وعالم اتعود عليه.. كفايه أوي طفرة التغير اللي حصلت وشتته بعد ما انتقل لبيئة مختلفة عنه.. خلى كل حاجة زي ما هي على الأقل في مدرسته يبقى مستقر..!
وواصلت: ومش انت ياحبيبي وافقت خلاص اكمل شغلي مع استاذ مروان زي ماكنت؟ خليني افضل متكفلة بيه بدون تغير وماتشلش انت همه .!
_ مين قال إني وافقت ترجعي شغلك مع مروان؟
رمقته بحيرة: يعني أيه يافارس.. انت مش قلت موافق اشتغل زي ماكنت؟
أجاب: أيوة وافقت لما اشتكيتي من الملل في غيابي وانا في شغلي.. ووافقت بس مش مع مروان! لو حابة تشتغلي رغم إنك مش محتاحة لكده، تمام معنديش مانع.. لكن هتشتغلي مع جوزك.. مش حد غريب!
_ بس انا بقى ليا مكانة هناك.. و……
قاطعها بحزم: سمر.. بلاش تجادلي في حاجة مفروغ منها.. شغلك معايا أنا وبس.. وحاتم هيتنقل مدرسة أياد.. أنا أصلا كلفت واحد من موظفيني، يسحب ورقه ويقدمله فعلا مع أياد..!
ولو خايفة الخبط حياته، فده مؤقت، وتغير لابد منه، حاتم خلاص مسؤل مني.. ولو خايفه في يوم تتكسر عينه قدامي.. يبقي معنديش رد غير الأيام لوحدها هتثبتلك إني مش بالصورة البشعة دي اللي عقلك مصورها ناحية حاتم!
أخذ حديثه اتجاه لم تقصده على الإطلاق، خاصتًا حين عبس وجهه وهم بالمغادرة، فتمسكت به هاتفة: طب اهدى بس انا مقصدتش حاجة، ولا انت في عيني بالصورة اللي وصفتها دي يافارس.. صحيح أحنا لسه في أول زواجنا.. لكن عرفت معدنك كويس، وبثق فيك والله، ومافيش مشكلة اشتغل معاك، أكيد مش هتمسك بشغلي مع استاذ مروان مادام ضد رغبتك.. لكن بخصوص حاتم فأنا بتكلم من منظور عام.. تكفلك بيا ده طبيعي لأني مراتك.. لكن إيه يجبرك تتكفل باخويا؟ مش عايزاه يكون عبء عليك لحظة.. انا طول عمري متكفلة بيه وعمري ما كليت ولا قصرت.. أنا عايزة احسسه أني لسه زي ما انا اخته وامه اللي هتفضل ترعاه..!
ابتسم وقبل جبينها مرددا: كل اللي قولتيه فاهمه وعلاكي بنظري.. لكن اللي قولته ده امر مسلم بيه.. وعايزك تبطلي الحساسية والقلق ده، بإذن الله حياتنا مش هيكون فيها مشاكل من الي انتي عاملة حسابها
وواصل وهو يحك أنفه بأنفها: وبطلي بقى رغي عطلتيني عن شغلي، واعملي حسابك تجهزي الليلة هنتعشى برة هسهرك سهرة حلوة اوي.. يعني هرجعلك بدري بإذن الله..!
ابتسمت ومنحته قبلة سريعة: ماشي ياقلبي هكون جاهزة ومنتظراك!
______________________
في منزل السيدة صفاء!
_ يعني هتشتغلي مع فارس ياسمورة؟
_ أيوة يامريم، لأنه مرضيش يخليني ارجع لشغلي عند استاذ مروان!
_ ده شيء متوقع من فارس.. ماكانش هيقبل تشتغلي عند حد غيره.. أخويا وعارفة دماغه!
تسائلت: ليه يعني؟
ابتسمت مجيبة: معقولة مش فاهمة ياسمورة؟ فارس غيور يابنتي، رغم إنك وضحتي كل حاجة، وإيه شكل علاقتك باستاذ مروان، لكن بردو بيغير! وكويس إنك كنتي مطيعة وريحتيه!
ابتسم سمر: وأنا عندي هدف في الدنيا غير سعادة فارس وراحته.. ده حتة من قلبي هو واخويا حاتم..!
ربتت عليكى كتفها برضا: ربنا. يهنيكم ياسمر!
وبعد أن بادلتها دعوتها بالمثل، تسائلت سمر: هو صحيح زوجك جاي الأسبوع الجاي؟
مريم بإيماءة تقطر سعادة: أيوة ياسمورة أخيرا.. ماتتصوريش ازاي طايرة من الفرحة برجوعه قريب، وإننا هنستقر مع ابننا بقى في بيتنا.. رغم إني مع ماما مرتاحة والله، بس آن الآوان استقر في بيتي المستقل!
_ عندك حق يامريم، طبيعي كنتي هتستقلي بحياتك.. بس كده مش هشوفك زي الاول!
_ مين قالك كده، هتواجد دايما، وبيتي مش بعيد عنك انا ائتارته في نفس المنطقة عشان اقدر اراعي ماما بردوا..!
_ طب الحمد لله. اصل على قد فرحتي عشانك ..على قد زعلي اني افتكرت مش هشوفك كتير.. وواصلت:
أنا معتبراكي أختي يامريم، وحتى ماما صفاء، بشكر ربنا على علاقتي بيها وأنها بقيت تعتبرني زيك.. ربنا عوضني انا واخويا بيكم!
احتضنتها مريم : أنا كمان كسبت اخت كان نفسي فيها من زمان.. ربنا يديم علينا التفاهم ويزيد المحبة.. ثم استطردت حديثها بحماس مفاجيء:
و يلا بقى تعالي يا استاذة نبتدي كورس الاكلات اللي طلبت اتعلمها منك.. عايزة اما يجي زوجي ابهره اني بقيت شاطرة في المطبخ، لأنه كان دايما يقولي نفسي انتي تطبخي كل الأصناف اللي بحبها.. اصل اختك فاشلة اوي في الموضوع ده!
ضحكت سمر: لا ده كان زمان.. بوجودي هخليكي تبهريه فعلا.. يلا بينا نبتدى! بس نطمن على ماما صفاء الأول، ويمكن تحب تشاركنا التجربة!
مريم: لالا أنسي.. صفاء هانم. مستحيل تمد إيدها الناعمة وتعمل حاجة، هي كفاية تتفرج علينا..!
يلا بقى بلاش نضيع الوقت أنا متحمسة للتجربة!
_______________________
في منزل حسناء!
العم حسن موبخًا : يعني لولا جيت معاكي للدكتورة ماكنتش عرفت إنك عندك انيميا؟ كده ياحسناء؟ مش وعدتيني تهتمي بنفسك وصحتك!
أجابته ببعض الوهن: هعمل أيه يا بابا، والله باخد كل علاجي اللي الدكتورة كتبته!
_ بس مش بتاكلي كويس ولا بتشربي لبن، وده اللي قالته الدكتورة..!
صمتت! فمن أين لها بشهية وهي تحيا تلك الظروف دون زوجها..!
ولأنه يدرك حالها ويقدر حزنها بدون غسان، فاكتفى بعتاب لا يخلو من حنانه، واطمأن بتناولها وحبة مناسبة أمامه، وغادرها عازمًا على التدخل لإنهاء تلك المهزلة والتجاهل من وحيده العنيد!
_________________
قوة الحب والتسامح!
( اتعلم ازاي تحب كل حاجة.. حب ربنا صح.. اعمل كل عباداتك بحب خالص لله..وأتقن صلاتك لأنك واقف قدام ربنا بتكلمه في اللحظة دي..اعتبر إن دي لحظتك الأخيرة.. اطلب منه كل حاجة بتتمناها وانت موقن من الإجابة.. وبعدين حب نفسك ونمي روحك وجسدك بشكل سليم لأنهم أمانة وهبه من ربنا.. حب كل اللي حواليك.. شيل من جواك الحقد والكره.. وسامح! وأول حد لازم تسامحه.. هو أنت! سامح نفسك عشان تعرف تعيش..طبطب عليها وقولها معلش يانفسي إنتي غلطتي بس اتعلمتي وانا مسامحك وهنسى أخطائك اللي أكيد كسبت منها تجارب علمتني ازاي احافظ على اللي جاي في حياتي..وبعدها سامح اللي بتحبهم مهما اذنبوا في حقك واغفر ليهم. عشان في يوم تلاقي اللي يغفرلك أخطائك! )
سكون تام يحوطه، و جسده ممد على فراشه باسترخاء شديد.. أجفانة مسدلة.. شفتيه مطبقة..يتنفس بانتظام وهدوء، وصوت الدكتور ” ابراهيم الفقي” يتدفق لخلايا عقله بتأثير ساحر على نفسه، والكلمات كأنها تعويذة تُلقى على روحه! وهاتف داخله يتسائل!
لما لا يسامح من أحب؟.لما لا يغفر لحسناء..!؟
نعم أخطأت وكذبت وخدعت!..لكن شعرت بالندم وحاولت إصلاح ما افسدته حتى لو بأخر لحظة.. وربما لهذا كافأها الله بنطفة بأحشائها من لقاءهما الأخير گ علامة لغفرانه ورضاه أنها ما ظلت على ضلالها معه.. ورفض ضميرها أن تستمر بخداعه أكثر.. لما لا يضع خطوتها الحميدة تلك بالحسبان؟.. لما لا يغفر وهو مازال في عشقها يذوب ويشتاق ويهفو لضمة واحدة تعيد له روحه الضائعة دونها؟. الحياة بكل أحوالها تمضي.. لما لا تمر أيامها بخير ويختار السعادة ويقاوم بقوة تعاسته ويهزم أسبابها داخله؟
تنهد ومازال يسترخي وعقله يرسم له صورة شديدة الروعة.. وهو يحمل طفله ويتأمله بحب وجواره حبيبته حسناء تطعمه مبتسمة وكريم يلاطفه ويداعب فمه والصغير يتجاوب ويضحك بصوت يكاد يسمعه الآن، وكأن خياله أضحى واقعًا ملموس!
تملكته تلك الروح بقوة وسيطرت عليه، فنهض بكل عزم لينال من سعادته عنوة.. سينسي ويغفر ويعيش ما يستحق من تلك الحياة.. ولأن السعادة قرار.. فقد عزم على اتخاذه، لينعم هو واسرته الصغيرة بقادم أحلى واجمل!
وقبل أن بتخذ أي خطوة، شق سكونه رنين الهاتف، فالتقطه وأجاب:
_ صباح الخير يابابا.. عامل ا………
قاطعه صوت والده الغاضب عبر الهاتف:
_ زودتها أوي ياغسان.. أنا سايبك براحتك كل ده وقلت تهدى مع نفسك وتستوعب اللي حصل عشان ترجع وانت متخلص من كل غضب جواك.. بس الوقت بيعدي ومراتك محتجالك جمبها يابني.. ماتضيعش منك لحظات وأيام مش هتتعوض تاني بينكم كفاية أوي اللي ضاع بعناد زاد عن حده! اغفر وسامح وصفي قلبك واستقبل السعادة اللي ربنا رزقك بيها، حرام عليك ابنك يجي على الدنيا وانت على نفس حالتك وعنادك.. ارجع لمراتك ياغسان.. لو عايزني ارضى عليك!..لأن لو فضلت متمسك بموقفك.. أنا مش مسامحك ولا راضي عنك!
تمتم غسان محاولا تهدئته: طب اهدى يا بابا، أنا….
قاطعه العم حسن ثانيًا: مافيش اهدى، في حاضر يا بابا.. وحالا تيجي على المستشفى (… .) اللي مراتك هتولد فيها.. ومش محتاج اقولك لو ماجتش هيحصل أيه؟
وانهى المكالمة.. وغسان بحالة. صمت ذاهلة! حسناء ستلد طفله اليوم؟ انتشل نفسه من ذهوله وأسرع بكل طاقته يرهدي شيء مناسب، متوجها حيث سعادته، واسرته، ومولوده القادم.. فلن يأتي الحياة إلا ويده تسبق الجميع وتحمله.. ويكون أول صوت يؤذن بأذنيه أول صلاة!
___________________
القلق ينهشه عليها هي وطفله، هل طال الوقت؟ أم هو ما يتخيل ذلك؟!
العم حسن: اهدى يابني ومتخافش، دي ولادة قيصرية يعني عملية ولازم تاخد وقتها.. اطمن وادعي تقوملك هي وابنك بالسلامة!
غسان: بس طولت اوي يا بابا ..انا خايف نفسي كنت ادخل معاهم بس رفضوا.. كنت عايزها تشوفني بس للأسف!
ربت أبيه على كتفه: هتولد بالسلامة وهتشوفك ياحبيبي جمبها وانت شايل عطية ربنا ليكم وساعتها الفرحة مش هتساعها، كله بآوان ربنا.. اقعد بس على رجلك وارتاح بدال ما انت رايح جاي كده!
وقبل أن يجيبه، صدح أجمل صوت يمكن أن يعبر لأذنيه، صوت بكاء ابنه.. فبكى قلبه قبل عيناه وهو يهتف لأبيه بصوت متقطع من شدة انفعاله:
_ بابا.. سامع.. ابني.. ابني اهو.. ابني بيعيط سامع؟ حسناء ولدت.. حسناء؟؟؟؟؟
التفت ليجد ممرضة مبتسمة تُطلل عليها هاتفة:
_ ألف مبروك ..جالكم ولد زي القمر..!
انحنى غسان وسجد شكرا لله وهو يبكي، ثم رفع وجهه للمرضة هاتفًا: ومراتي كويسة؟ طمنيني عليها
اجابت: زي الفل. بس لسه تحت تأثير المخدر بتاع العملية، ومع الوقت هتفوق وتكون زي الفل.. ألف مبروك مرة تانية!
همت بالرحيل، فأوقفها العم حسن وانقدها بعض النقود بسخاء گ مكافأة لقدوم حفيده الغالي!
————————–
بدأ وعيها يعود، تشعر بألم شديد في منطقة البطن، وشيء ما جاثم عليها ويحوطها ويشد جلدها، ورائحة أصابتها بالضيق، هي بالمشفى، نعم تذكرت الآن، أتت بعد أن هاجمتها آلام الولادة.. طفلي، أين هو لا أسمع صوته جواري، وغسان! ألم يأتي؟ هل سيظل غاضبًا؟؟؟ ليته يأتي وتراه، تشتاقه وتقسم انها تشم رائحته الآن!
_ حبيبتيي حسناء.. حمد لله على سلامتك يا قلبي!
هل تتوهم سماع صوته الآن؟ أم هو هذيان العقل والقلب الذي اشتاقه حد اللامعقول؟!
_ أفتحي عيونك وحشتني.. حسناء انا غسان ياحبيبتي.. انا جيت ..ومش هسيبك تاني ابدا وسامحتك من قلبي!
تجرعت القليل من ريقها، فالحلق جاف بشدة والعطش شديد، رمشت بعيناها لتستقبل الضوء ببطء، فتجلت صورة وجهه الحبيب مشرفٍ عليها يطالعها بحب كما عاهدته قديمًا..عاد غسان بنفس فيضان عشقه الذي يفيض الآن من حدقتيه.. سامحها ولن يتركها بعد الآن.. هل تبكي؟ ربما..! لا هي صدقًا تبكي.. بكاء فرحة.. غسان عاد إليها.. يحتضن كفها، يتتبع خيط دموعها بأصابعه ويجففه، يقبل عيناها ووجنتاها وترفرف شفتيه على شفتيها برفق.. وعلى ما يبدو لها.. هو أيضًا يبكي.. فقطرات دموعه سقطت على وجهها وامتزجت بدموعها هي الأخرى.. رفعت يدها الحرة من تقيد المُحقِن الوريدي، وجففت دموعه متمتمة بوهن:
_ يعني خلاص ياحبيبي سامحتني ومش هتسيبني تاني ابدا.. ؟!
هز رأسه: ابدا ابدا..!
فقالت: ولسه بتحبني ياغسان؟
أجاب: عمري مابطلت لحظة احبك.. ولا هبطل!
ضحكت ثم بكت وتمتمت: مش هعمل حاجة تزعلك تاني.. انا بحبك والله.. ومش هكون انانية تاني و… ..
اسكتها بكفه وهو يملس على شفتيها: أنسي دلوقت أي عتاب وكلام.. بعدين هنتكلم.. وواصل :
مش عايزة تشوفي ابننا.. ؟
هزت رأسها بفرحة: نفسي اشوفه، هو شبه مين فينا؟
هتف: لسه ما شوفتوش كويس.. كان جوة “الحضانه” وبعيد ..وملامحه مش ظاهرالي.. الممرضة هتجيبه دلوقت بعد ما يجهز والطبيب يفحصه..
_ وبابا حسن فين؟
_ هو وكريم فضلوا هناك عند “الحضانة”.. بيشوفوا من ورى الزجاج، وكريم فرحان اوي، وبابا كان بيعيط وعمال يقول للممرضة وهي بتلبسه هدومه ( بالراحة على الولد يامفترية)
ضحكت حسناء بضعف، وغسان يواصل:
وطبعا محدش سامعه بسبب الزجاج الحاجب بينهم!
ثم لثم كفها وقال بحنان: دلوقتي بقى نامي وانا معاكي اهو واول ما ابننا يجي هصحيكي!
ابتسمت وقالت وجفناها تنسدل بالفعل: طب هنسميه أيه ياحبيبي؟
_ أما تصحي وتبقي فايقة. هقولك.. نامي يلا واسمعي الكلام!
فتمتمت أخيرا: طب خليك جمبي.. أوعي تمشي!
وسقطت بنومتها وظل يطالعها مبتسما.. لقد عادت الحياة له بنفس بهجتها وفرحتها.. لن يترك شيء يسلب سعادتهم جميعا مرة أخرى.. سيكون خير حارس عليهم من أي شي يعكر صفو أيامهم القادمة!
_______________________