عصفورة تحدت صقر /للكاتبه فاطمه رزق
دفع جلال معتز بقوة أسقطته أرضًا، ثم جثى على ركبته ليمسك به من تلابيبه ويوقفه على قدميه وهو يقول صارًا على أسنانه :
-أنا مخدتهاش عشان أحسرك عليها يا غبي، أنا خدتها عشان حبتها بجد ! وإنت، .. وإنت قتلتها !
نظر له معتز بسخط و دفعه بقوة ليبعده عنه ثم …
معتز بنبرة حادة :
-أنا مقتلتهاش، دي كانت حادثة، وأنا إتعذبت على فراقها أكتر منك ! وإنت لما إتجوزتها كنت عارف إني بحبها
-مش ذنبي لو حبيت نفس اللي إنت حبتها وهي إختارتني أنا…
لم يكن الصغير بالخارج يفهم شيئًا من ذاك الحديث الغريب عن الورث أو ما شابه، في حين أنه كان يعلم أن والده قد تزوج بأخرى قبل أمه، فلم تكن تلك معلومة جديدة فقد إعتاد على سمعها من والدته ووالده عند إحتدام شجارٍ بينهما،
لكنه حين وجد من يضرب والده وضع يده على فمه في ذعر، وبدأ يرتجف وإرتعدت أواصله… فدونًا عن أي أحد هو يكره ذلك الـ”معتز” كثيرًا، ويشعر بالخوف من مجرد لقياه، فوجهه يوحي بالشر دومًا…
لذلك شعر حقًا بالرعب حين وجدهما يتشاجران ..
إكتفى هو بمشاهدة المشادة بالداخل، في صمت مع بعض الشهقات، والإرتجافات التي تلي أي ضربة يتلقاها أحدهم..
-صح مراتك ماتت بس قدرت تتجوز بعدها وتجيب ولد وعايش حياتك بفلوسنا !
قالها معتز بحقد جلي في نبرة صوته ..
فنطق الأخير محذرًا بغضب :
-وإنت مالك ؟ إبعد عننا مش عاوز أشوف وشك هنا تاني إنت سامع، يلا غور من وشي
ضحك هو ساخرًا لوهلة وبدون أي أثرٍ للمرح أردف يستوعده وهو يرفع إصبعه مشيرًا إلى أخيه بـ :
-أسبوع … أسبوع واحد بس عيش وإتهنى فيه إنت وعيلتك، وبعدها هدمركم كلكم إنت سامع يا جلال، هدمركم كلكم …
ثم إندفع خارج الغرفة في حين جرى صهيب مبتعدًا حين رآه يقترب من الباب
……………
وبالعودة إلى الحاضر …
زفر صهيب بغضب ناتج عن كل تلك الذكريات الأليمة ….
وبسرعة شديدة إنتصب واقفًا من وردد بهدوء غريب :
-كان نفسي أنتقم منكم كلكم بإديا الإتنين دول..
ركل الكرسي الذي أمامه فوقع قبل أن يردف هو بغضب بـ :
-كلكم إتنجدتم مني، كلكم مجرمين
………………….
ظلت جويرية جالسة بجانب فيروز التي لم يغمض لها جفن وظلت تنظر إلى الفراغ بدون أن تدع للأحرف ملجأ من شفتيها ..
وكانت هي جالسة متألمة لحالتها، فقد كان يَشِّقُ عليها أن ترَ ابنة خالتها على تلك الحال..
وبرغم صلابة أعينها وجمودها المعتاد إلا أن قلبها كان يتمزق أشلاءًا..
-يا ريتني كنت قوية زيك !
قالتها الأخيرة الممدة عابسة بوجوم.. بعد أن سالت تلك القطرات من أعينها..
قطرات مالحة تلك أم دماء تحترق !
نظرت لها جويرية بشجن وردت عليها شاردة :
-برغم كل حاجة حصلتلك إنتي لسا برضوه أحسن !
دمعت أعينها أكثر وهي تقول بحزن :
-هو أنا أستحق ده كله !
كادت أن تجيب جويرية، لكنها سبقتها بالقول بعد أن جلست فجأة :
-أكيد أنا غلطت في حاجة عشان .. آآآ
وضعت جويرية يدها على فمها لتمنعها من المتابعة، ثم وبنبرة هادئة سألتها بـ :
-إنتي مجنونة ! إنتي ليه بتقولي كدة ؟
هدرت بها الأخرى بعنف بعد أن نزعت يدها عن فمها بـ :
-عشان إحنا دايمًا بس إللي بنتلام وبنتحاسب ! ، دلوقتي بعد كل اللي حصل دة عارفة الناس هتقول عليا إيه ؟ طب … طب عارفة قرايبي حتى هيفكروا بإيه ؟
لم تجيبها جويرية وتركتها تفرغ كل شحنات الحزن فالألم والقهر بداخلها – لربما تركتها لتستريح – أو لأنها لم تجد ما تجيبها به !
تابعت الأخرى بصوت أقل احتدادًا وقد سعلت عدة مرات بعد تلك النوبة الهيستيرية بـ :
-انا بكره حياتي، وبكره يوم ما روحت الشركة دي … بس كنت مضطرة أفضل والله كنت مضطرة !
نكست جويرية رأسها في حزن ولم تحرك ساكنًا، بل حانت نظراتها كثيرًا عن ذي قبل… فقد شعرت أن الزمان يستدير ويرجع لتلك النقطة التي بدأ منها عذابها..
شعرت أنها قد وقعت في نفس الهوة السوداء من جديد..
أهذا هو الشعور بالعجز !
حين تقف عاجزة أمام نفس المشهد مرتين..
وعنوة تحررت عبرة واحدة .. فقط واحدة من عينها، فلم تشعر بها إلا حين وجدتها تسقط على يدها الموضوعة على السرير أمامها..
وبسرعة مسحتها ، وبددت أي أثر من للبكاء قبل أن تنظر للجالسة بجانبها تنعي حظها…
لم تكن فيروز قد صمتت بل إزدادت عبراتها سقوطًا، ونبرتها شجنًا و تابعت ببكاء قائلة :
-كنت مضطرية والله إن أفضل أشتغل هناك عشان أجيب الدوا لامي .. أنا غلط في إيه !
لم تنتبه وهي تكمل للجالسة بجانبها والتي تتمالك نفسها بصعوبة شديدة، ومع ذلك لم تقاطعها.. وإنما تركتها تشكوا لها بثها لتريح صدرها ولو قليلًا…
فتابعت هي بنبرة تحمل الكثير من الأسى والألم بـ :
-أنا كنت خلاص هحضر حاجتي عشان امشي قام خدني غدر ! و أخد شرفي من غير إحساس، من غير قلب !
إستمرت الدموع تتساقط من عينيها وكأنها أمطار قد فاضت كرمًا ..
شعرت جويرية أن أنفاسها قد باتت تُعد.. ولم تستطع أن تسيطر على شعور الإختناق الذي أصابها فجأة ..
فوقفت وإبتعدت عنها قليلًا ووقف في شرفة غرفتها علها تهدأ قليلًا…
………..
وعلى الجانب الآخر…
وعلى الحائط في الجانب الآخر…
إستندت رأس براء وجلس ليستمع لما يحدث بالداخل، ليس تنصطًا بل ترقبًا.. وقلقًا ليس فقط على فيروز بل هو خائف حقًا على جويرية !
لقد توقع ما حدث لفيروز حين رآها بذلك الحال.. وتمنى لو يستطع أن يخفيها أولًا عن ناظري جويرية.
لا أحد ..
بالفعل لا أحد.. يستطيع أن يشعر بها كما هو.
فقد قضوا جميع مراحل حياتهم سويًا وإن لم يكن تحت سقف واحد لكنه يشعور بها، وبما يختلج في صدرها، ويرى بعيناه الشفافتين تمزُق قلبها..
وإن كانت أقوى فهي تتظاهر، وإن بالشجاعة إتصفت هربًا من الجبن !
لكن الآن هو قلق عليها حقًا ..
لم يستمع حتى لصوتها لمرة واحدة ليطمئن من نبرته عليها..
فكل ما هي فيه الآن يتوقف على لحظات كتلك..!
هو واثق أن الأمر لن يمر ببساطة عليها ..
لن يمر بكل تلك البساطة أبدًا عليها !
صدم رأسه في الحائط خلفه عدة مرات وهو يردف بخيبة أمل بـ :
-هي ملحقتش تخف .. ملحقتش تنسى، أنا شايف الوجع ساكنها طب بعد كدة هتعمل إيه لما يتكرر نفس اللي حصل تاني، بس في حد مختلف !
……..
إستطاعت جويرية أخيرًا وبصعوبة إستجماع بعض القوة لتعود إليها، وتجلس بجانبها
لتقول بهدوء وهي تنظر لصديقتها المنتحبة بعد أن أمسكت ذراعها اليمنى :
-هشششش خلاص الكلام اللي إنتي بتقوليه ده ملوش أي صحة !
نظرت في عينيها مباشرة بعد أن هدأت قليلًا وتابعت بـ :
-أنا عاوزة واحد بس يتكلم عليكي كلمة وإنتي هتشوفي أنا هعمل فيه إيه .. حياتك موقفتش هنا إنتي سامعاني !
هزت الأخرى رأسها بعد أن نكستها في أسفٍ فرفعتها جويرية لتقابل عينيها بحفاوة المشاعر الحانية قبل أن تشتعل مباشرة بلهيب الغضب وهي تقول :
-لأ حياتك لسة زي ما هي ! مفيش حيوان هيقدر يأثر عليها…
صمتت قليلًا لتتابع تعابيرها الذابلة المعبرة عن التناقد في عقلها مع كل كلامها فزادت نبرتها إصرارًا وإقناعًا وهي تقول :
-أنا بأكدلك إن محدش هيتنفس بكلمة عليكي ! بس عشان خطري ما .. ماتستسلميش !
عارفة إنتي حاسة بإيه دلوقتي وقد إيه الموضوع صعب بس إنتي لازم بدل ما تعيطي على اللي فات تفكري هتوصليه للعذاب إزاي، هتدفعيه التمن إزاي مش تفضلي مسالمة !
نظرت لها فيروز بعد أن إنتبهت لها بكل حواسها، لكن ظهرت بعض أمارات التشاؤم على محياها وهي تهتف بـ :
-هـه مستحيــل يتعاقب !
-واللي يحققلك المستحيل !
قالتها هي بثبات متصلبة العين، برغم بعض الأسى الظاهر داخلها لمن دقق النظر .. وليس لأي مدقق…
بل للمحترفين فقط..
ولكن على الأقل إستطاعت أن تعطيها بعض الأمل ولو كان بنسبة ضئيلة إلا أنه موجود .. وإستطاعت هي أن تره في عينيها بعد تلك الكلمات الجادة، الجامدة، الثابتة،..
صمتا سويًا ينظر كل منهما للآخر بحزن وألم.
لكن جويرية قطعت ذاك الصمت وقد لمعت عيناها ببريق عحيب فجأة بـ :
-عاوزة تتخلصي من كل اللي إنتي فيه !
ثم قامت من على الفراش وتوجهت نحو خزانة ملابسها، وأخرجت إسدالان ومن ثم توجهت نحو الناظرة إليها بإستعجاب قبل أن تردف بنبرة شبه طبيعية بـ :
-نصلي
مدت يدها لها بإحداهما فأمسكته الأخرى بين نظرات حائرة وغائمة بين دموع مآقيها.
ثم تابعت جويرية قولها بإبتسامة شاحبة :
-الصلاة هتريحك، وأنا لسا ماصلتش العشاء لحد الوقت، إنتي صلي وأنا هصلي
أجابتها فيروز بصوت متقطع بـ :
-بس أنا مش.. مش متوضية !
عبثت جويرية بشعرها بحنان وهي تقول بهدوء :
-ولا أنا حتى تعالي نطلع نتوضي !
أومأت الأخرى رأسها مرتين وهي تنزل من على السرير فساندتها جويرية ليخرجا…
لكن جويرية كانت واثقة من وجوده في الخارج لذا جعلت نبرتها أعلى قليلًا وهي تقول :
-يلا نطلع يا فيروز…!!!
…….
جلس الأخير في الجانب المقابل يستمع إلى نبرات صوتها … لم يرَ مثلها قط !
نبرة باردة برغم دفئها !
متفائلة برغم شجنها !
هادئة برغم حزنها، غضبها، ألمها،… كيف لها أن تفعل !
وتتظاهر بالقوة في أوج العاصفة !
وبنبرة إصرار قال هو :
-القضية دي بتاعتي !
لكن فجأة سمع صوتها وكأنها تحذره بخروجهما وبسرعة ذهب إلى الغرفة المجاورة ‘أغلق عليه الباب ..
وبعد دقائق…
وحين تأكد من دخولهما الغرفة خرج ثانية لكنه جلس بجانب النافذة تلك المرة يراقب المارة في الطريق بوجوم شديد..
بعد مرور بعض الدقائق الطوال خرجت جويرية من غرفتها وأغلقت الباب بعدها بحذر.
قبل أن تنتبه للجالس بجانب النافذة..
أولته ظهرها وهي تتقدم عدة خطوات لتصل للنافذة الأكبر في بيتهم ..
وبنبرة تُؤَدَة أردفت بـ :
-روح نام ومتقلقش
بمجرد أن رآها وهي تخرج وقف بسرعة وإقترب منها حتى وقف امامها.
فتحركت تتجنبه ثم وقفت أمام النافذة ووضعت يدها على السور…
فلمحها بنظرات حزينة ثم جاورها في وقفتها و…
بهدوء قال :
-هي عاملة إيه !
لم تنظر له فهي تعلم أنه سيكشف نظراتها الملتاعة، فأجابته بنبرة خفيضة بـ :
-شبه سوفانا بالظبط،
صمتت قليلًا قبل أن تتابع بإصرار قائلة :
-بس.. بس أنا مش هسيبها تواجه نفس المصير
تنهد الأخير بأسى قبل أن يقول لها بنبرة تحمل الثقة بـ :
-وأنا واثقة إنك هتقدري تساعديها وتقفي جنبها زي ما وقفتي مع سوفانا وأكتر كمان !
أومأت جويرية رأسها ولم تعقب، وظلت تنظر على المُشاة بدون أدنى تركيز..
وحين طال صمتها، وأدرك هو
أنها لن تتحدث، قال ناظرًا لها :
-لحد امتَ !
بروية أجابته متهكمة وهي تبتسم بـ :
-إنت بنفسك شايف، حتى الزمن مش عاوز ينسيني !
غاص هو في أعماق أعماق صوتها الذي يبدوا للوهلة الأولى مجرد صوت بنبرة تهكم عادية، لكنه أدرك ما تشعر به، فكم من نبرة تظهر الفرح على خلاف ما تبدوا !
نظر لها بثبات محاولًا إخفاء حزنه عليها عنها فهي لا تحتمل المزيد !
ثم وبنبرة مشجعة يحاول بها إستدراجها للكلام أردف بـ :
-هتفضلي عايشة كدة كتير !
-زي ما إنت شايف !
مسد على شعرها بحنو فلم تبعده.. وإنما نظرت له بسيل من المشاعر المتضاربة..
حينها فقط علم هو أنها لم تعد كسابقها، بل هناك خطأ ما بها، فتاة شفافة ليس للجميع بل له بحكم الوقت الذي كانوا يقضونه سويًا
لكنه الآن ولأول مرة لا يفهمها تمامًا
نظرات عتاب مطلية ببعض الغضب وسكب عليها الحزن فالأسى ..
وبعض من المشاعر الأخرى التي لا يفهمها لأول مرة !
-هتعملي إيه الوقت !
أجابته دون تردد بـ :
-هعاقبه
إبتسم لها بعد أن أمسك يدها الموضوعة على حافة النافذة وقال :
-وأنا معاكي
تنهدت لتخرج بعض من الإختناق الذي تشعر به خارجها، وبنبرة ساكنة أردفت بـ :
-طيب
-صدقيني كل حاجة هتتغير وتبقى احسن
قالها برجاء وهو يربت على يديها برفق ..
فنظرت له بحزن وهي تحاول البقاء على القدر المعهود من القوة..
هو واثق من أنها لن تبكي امامه وستحاولة جاهدة البقاء بكل قوتها، فهي شخصية غير إعتيادية تكره الضعف حتى أمام نفسها !
تكره الشعور بالعجز ولا تحب أن تكون محط للأنظار..
لذلك فتلك الفتاة إذا أردت يومًا أن تخفف عنها، أعطها إهتمامًا من كل قلبك بدون أن تطلب أو تشير وبعد أن تستمد القوة منك أوهمها أنك الأضعف لا هي، أوهمها أنك أنت من إحتجت لذلك فحتى إن لم تصدقك ستقدرك كثيرًا.
لذلك وبدون حتى أن يفكر سحبها من يدها ليضمها إليه بقوة، فإلم يفعل هو فلن تبادر وإن كانت تموت حاجة إلى من يحتوي آلامها، بل ستفضل أن تبقى بشعورها على أن تبادر هي، ولكن لربما حقًا تلك هي المرة الأولى في حياتها التي لا تقاومه فيها حين يضمها أو حتى يحاول !
أإلى ذاك الحد من اليأس وصلت هي !
من يعرف تلك الفتاة يكاد يقسم على كتاب الله أنها كعالم مليء بالأسرار المدفونة، أو كشفرة سرية لم يحلها أحد بعد حتى هو..
تركته يضمها ففي النهاية هي تحتاج لذلك، تحتاج دفئًا، تحتاج حبًا وإهتمامًا حقيقيًا…
براء هو ما تحتاج إليه الآن..
فمن أفضل منه إذا ذُكر الحنان !
……………………..
وبعد يوم قد حمل الكثير من المشاعر المتضاربة، وإنقضى يستزفهم واحدًا تلو الآخر..
جاء يوم جديد بشمس جديدة .. وفي الحقيقة حتى الشمس توارت خلف السحب الغائمة الكثيفة، يومٌ ممطر !
هاك يبدو !
وما أسوء المطر بالنسبة له !
أسرع بسيارته حاملًا شحنة من الغضب في بكرة الصبح و الآن فقط يدري مصدرها.
البارحة… ذلك اليوم الغبي – لقد أدرك أنه – قد أفرغ جيبه من كل المخدرات التي كان يتعاطاها !
فبعد الصدام الذي دار بينه وبين صديقه لم يتحمل ذلك الضغط وظل يستهلك كل ما معه منها..
وفي الصباح فقط أدرك بعض الأمور التي كان يجهلها .. مثل موت والدي زوجته.
وتذكر الكثير مما فعله أمس !
لربما هو يتخيل أنه قدم ورقة إستقالته واعتدى على فيروز !
مستحيل هو يتخيل فقط…
لن يصل تهوره إلى تلك الدرجة مستحيل !
الآن كل ما يريده هو أن يؤكد لنفسه أنها ليست إلا مجرد أوهام…
أسرع أكثر بسيارته، يكاد يجزم أنه يسمع سباب الناس حوله له فقد كاد يدعس سيدة عجوز إلا أنه إنحرف قبل أن تُدعس بعدة سانتيميترات …
ودعس بالفعل ذيل قطة في الطريق فلم يرها هو إلا حين فات الأوان على تجنبها…
وفي النهاية وأخيرًا وصل وبدون حوادث !
صفق باب السيارة بإهمال بعد أن ترجل منها، وجعل يسرع إلى مدخل الشركة، ومنه استقل المصعد ليصل به بعدها إلى مكتبه ..
إكفهر وجهه وحمل ألوان الطيف عدا البنفسجي فقد توقف عند الأزرق ! ، حينما وجد ورقة دون عليها إسمه مصحوبًا ببعض الكلمات مفادها “الإستقالة”
إنحنى بجزعه وأمسك بتلك الورقة وأخذ يضقق بها وقد إنفلتت من لسانه كلمة :
-لأ .. مـ.. مش معقول !
قطع الورقة بيده إلى أشلاء وظل ينظر لمكتبها لبرهة..
وبسرعة خطر على باله مكتبه فأسرع إليه وحين ولوج صعق …
وتأكدت شكوكه حين نظر إليه خاصة حين رآى حجابها المرمي بإهمال بإحدى الأركان، وعلى الأريكة المجاورة لمكتبه وجد بعض قطرات الدم المتجلطة من البارحة !
وبعض الخدوش عليها فقد كانت الأريكة سوداءً من الجلد فظهرت تلك الخدش جلية عليها ..
وظل يراقب المكان حوله لفترة، تارة هنا وأخرى هناك..
تمثال مرمي بإحدى الزوايا ..
ودماء تناثرت على الأرض القريبة من مكتبه، وقد شعر بالضيق حين خمن مصدرها…
خدشٌ على ظهر يده لم يلاحظه إلا الآن !
زفر بحنق من نفسه ومن كل شيء ومِن مَن كان السبب وراء كل شيء.
-أنا لازم أتصرف حالًا، لو صهيب عرف هروح في داهية !
وبدون أن يفكر أكثر أخذ يمحوا آثار جريمته .. فذاك الأهم الآن فهو لا يدري كيف سيتعامل صهيب مع الموقف !
…………….
إستيقظت فيروز صباحًا في ميعادها المعتاد للعمل إلا أن اليوم مختلف تمامًا…
لا عمل، بل تذكرت نكبة الأمس بمجرد إستفاقتها، تذكرت ما ألم بها البارحة..
أنى لرجلٍ أن يفهم وجع إمرأة أغتيلت حية ! وكيف له أن يحس بألمها…
فقط عليهم أن يمهدوا أسباب الوجع والدمار لهم… ثم يرمقوهم بأبشع نظرات الإحتقار متناسين ما فعلوهم هم من قبل ويتناسون كل منكر إرتكبوه في حقهم !
كانت تفكر هي بتلك الطريقة.. وحاولت ألا تبكي لكن الدموع غدرت بها، وتنافست تتسابق.
فتنهدت بحزن ونظرت بجانبها ولكن لم تجد أحدًا، فنزلت من على السرير تتباطأ في مشيتها، لتخرج من الغرفة
ولما كانت قدماها لا تقويان على حملها جيدًا كانت تترنح.
لكن في النهاية إستطاعت الخروج من الغرفة وظلت تنظر حولها فلم تجد أحدًا..
لا جويرية ولا أحد، لم تهتم كثيرًا فشاغلها الأكبر الآن أن تصل إلى الحمام القريب البعيد ..
مدت يدها إلى عينها لتمسح دمعة أخرى خانتها قبل أن تدلف إلى الحمام أخيرًا…
وحين خرجت كانت يداها ووجهها برأسها وقدماها مببللتان بالماء، وبالرغم من الشحوب العميق الظاهر على وجهها.. وحُمرة عينها وتبلور مآقيها بالدموع الحبيسة..
حاولت الثبات والإتزان، لقد كانت كلمات جويرية البسيطة المقنعة تدور بعقلها كلما قررت الإستسلام، أن لا تنكسي رأسك مهما حدث فليس ذنبك إن إعتدى عليك ذاك الحيوان !
ربما هي تعلم أن والدتها قد تتخلى عنها أو تتبرأ منها إن علمت الأمر،
وهي على يقين العلم أن لا ناصر لها من أقاربها، والآن من ذا الذي يرضى بمثلها، فتاة إنتهك عرضها بلا شفقة أو رحمة في الإتيان !
لكن كلمات صديقتها كانت كالبلسم الشافي، فحتى إن لم تقتنع تمامًا فهي على الأقل معها ولن تتخلى عنها.
دارت برأسها عدة مرات باحثة عن شيء ما، وحين عثرت على ضآلتها إقتربت من أحد المقاعد وإنحنت بحذر لتحضره..
لقد كان إسدالًا للصلاة قد هُذب مؤخرًا، فأمسكت به ونظرت إليه لثوان قليلة قبل أن تبدأ في إرتدائه..
حين إتخذت القبلة وكبرت لتبدأ بالصلاة بانت بعينيها الدموع، مع أول آية تقرأها فاضت مآقيها بالعبرات.
مع ذكر “الرحمن الرحيم” إنهار تماسكها تمامًا – بدأت تقرأ بعدها من منتصف سورة يوسف التي حفظتها عن ظهر قلب من شدة حبها لها، ولقد شعرت فجأة بأن الله معها، يسمعها ويخاطبها، فإذا يئست وجدته ينادي ” وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ” وإذا شعرت بعجزها ينادي “إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ” وإذا بكت تألمًا وقهرًا وجدته ينادي “إنَّهُ هُوَ اَلعَلِيمُ اَلحَكِيمُ”
لماذا شعرت حينها بتلك المسافة الكبيرة جدًا بينها وبين خالقها، بل لماذا شعرت أن كل ما حدث لها تستحقه بكل ذاك الإبتعاد، فجأة شعرت وكأن الدموع لا تواكب ماحدث لها، بل ندمًا.. ندمًا على ذاك البعد، متى كانت آخر مرة تصلي فيها ؟!
بل متى شعرت بالإشتياق إلى الصلاة وتلاوة قرآن باريها !
حياة ليس فيها ذكر، ليس فيها عبادة ماذا تنتظر… أن تُفتَّح أبواب السماء لتُتقبَّل دعاويها !
وحين ركعت في خشوع زاد التضرع لربها، وتناسيت من هي حين سجدت…
ظلت تناجي ربها، وإزداد صوت شهقاتها فبكائها ونحيبها لثواني، ليست قلائل بل ما أطولها من ثواني.
وكأنها لم ترد رفع رأسها، بل لم ترد الرجوع إلى تلك الدنيا، ولأول مرة في حياتها تستشعر تلك اللذة في العبادة..
لأنها وببساطة قد خرجت من قلبها، فاروحها وفؤادها… عبادة صادقة تخلوا من الكسل.
ولماذا كلما زادت في الخشوع تشعر بتقصيرها، نسيت فجأة آلامها، وأحزانها وتذكرت مولاها..
لما نتناسى دومًا السبب الرئيسي الذي جئنا لأجله، أليست عبادة ربنا !
أليس الإنصراف عن كل ملذات الحياة الفانية الواهية !
لم تدرِ هي إلى متى ظلت تصلي، لكنها تعلمت… أيان يأتيها الألم تهرع للصلاة………………..